
«قمر أحمر».. مونودراما عراقية تبوح بوجع المدينة والإنسان
العرض المستوحى من رواية للكاتب جمال حيدر، حمل توقيع المخرج علي عادل السعيدي، وإعداد جميل الرجة، وشارك في تشكيل هويته البصرية والسمعية كل من عصام جواد (سينوغرافيا)، حسين جميل (موسيقى)، وأسامة خضر (إدارة المسرحية)، فيما تولّت الممثلة كاثرين هاشم تقديم الشخصية الوحيدة في العمل، عبر أداء استثنائي تنقلت فيه بين عوالم متشظية وصراعات داخلية وخارجية.
شخصية واحدة… أرواح متعددة
اعتمدت الرؤية الإخراجية للعرض على تشظية الشخصية المونودرامية إلى أجزاء تمثل حالات إنسانية مختلفة، تنبثق جميعها من الجسد والروح نفسها. فالشخصية تبدأ بالغناء باللهجة الشعبية العراقية لتقترب من جمهورها، وتعلن منذ البداية أنها «روح هائمة، بلا بداية أو نهاية»، حاملةً شجنًا كثيفًا تحمله من مدينة إلى أخرى، ومن جرح إلى جرح.
في إطار زمني لا يتجاوز الأربعين دقيقة، انتقلت كاثرين هاشم بين ست حالات متمايزة: الشاعر الذي ينشد في الطرقات، المجنون الذي ينطق حكمة، الأم المفجوعة بشهيدها، بائع الكتب المهمّش، ثم المدينة/ المرأة التي تخاطب المارّين وتلخّص وجع الجميع في صوتها.
وفي ذروة العرض، وعبر توظيف مؤثرات سمعية وبصرية عالية الكثافة، يستحضر العرض انفجار الكرادة عام 2016، الذي خلّف أكثر من ثلاثمئة شهيد، ليتحوّل القمر -الثيمة المركزية في العمل- إلى اللون الأحمر، وتسيطر مشاهد النار والخراب والدموع على الخشبة، بينما تقول الشخصية: «أراه في كل زاوية مظلمة، في كل دمعة، في قمرنا الأحمر».
أداء حسي متقن
تألقت كاثرين هاشم في تجسيد الانتقالات النفسية والصوتية والجسدية بين الشخصيات، مستخدمةً أدواتها التمثيلية بكفاءة لافتة. من الهمس المرتجف إلى البكاء، ومن الغناء الشعبي إلى الخطابة العالية، أظهرت قدرة على التأثير العاطفي، وتحقيق التماهي مع المتلقي. حتى في مشهد بائع الكتب، تميزت بخفة الحركة وتغيير الأزياء السريع، وبقدرتها على الإيهام المسرحي التام.
مشهد ثابت ودلالات متغيرة
رغم أن الخلفية المنظرية بقيت ثابتة طوال العرض، فإن استخدامها الرمزي كان محوريًا، خاصة في تفعيل المصطبة كموقع مركزي لكل التحولات: من مكان للجلوس إلى تابوت، إلى منضدة بيع كتب. كذلك كان لمرايا الحبال، والورد الأحمر، ومصباح الهاتف المحمول، دلالات رمزية متعددة في تكوين الحالة البصرية.
عرض لا يُنسى
«قمر أحمر» عرض مونودرامي نجح في تحويل التجربة المحلية إلى خطاب إنساني عالمي، وهو ما أكّده إدراج ترجمات إنجليزية في المشهد الأخير من العمل، بهدف «تدويل القضية».
في النهاية، لا يمكن إلا التساؤل: من هي هذه الشخصية التي خاطبتنا طوال العرض بـ«أيها المارّون»؟ والإجابة الأقرب هي: ليست امرأة فقط، بل هي المدينة بأكملها، الوطن، الإنسان.
«قمر أحمر» ليس عرضًا مسرحيًا عابرًا، بل صرخة بصرية ووجدانية، ينبغي أن تُعرض وتُعاد. فمثل هذه العروض لا تصنع جمهورًا فحسب، بل تصنع ذاكرة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


رؤيا نيوز
منذ 11 ساعات
- رؤيا نيوز
الرواشدة: عدد المشاركين والزوار لمهرجان جرش فاق التوقعات
قال وزير الثقافة مصطفى الرواشدة إنّ اعداد المشاركين والزوار لمهرجان جرش للثقافة والفنون بدورته الـ39 فاق التوقعات. وأكد الرواشدة في بيان ختاميّ بعد إطفاء شعلة المهرجان امس السبت إنّ المهرجان حقق نجاحًا مهمًّا، واتسمت هذه الدورة بزيادة عدد المشاركين والزوار بسبب تبسيط إجراءات الدخول التي جرت بسلاسة من خلال تطوير طريقة تسويق البطاقات، والدخول إلى المدرجات. وبين أنّ الدورة تميزت بمشاركة عالمية واسعة وكبيرة للفرق الفنية التي قدّمت إبداعاتها على الساحة الرئيسة، مؤكدًا أنّ المهرجان يعبّر في برنامجيه الثقافي والفني، عن اهتمام جلالة الملك بقطاع الثقافة والفنون، ويؤكّد قيم الدولة الأردنية في أهمية هذا القطاع، وأوضح الوزير أنّ الدورة تميزت بمشاركة أردنية كبيرة في البرنامجين الفني والثقافي، والذي لم يقتصر في فعالياته على المدينة الأثرية، بل امتد إلى ست محافظات، بتنوع الفقرات المقدمة. وكان الجديد في المهرجان احتضانه لمهرجان المونودراما، وندوات حول جماليات المكان، وذاكرته، وسمبوزيوم الرسم والحروفية، والمؤتمرات العلمية التي أقامتها الجمعية الفلسفية، وبرنامج 'قامات جرشية' الذي تناول سيرة عدد من الشخصيات السياسية والثقافية في محافظة جرش. وتمّ التركيز خلال برنامج المهرجان على الصناعات الثقافية/ التمكين، بمشاركة الشباب في برنامج (بشاير)، وتمكين المرأة من خلال مساحات تسويق الأعمال التقليدية والشعبية والحرفية في شارع الأعمدة. وبلغ عدد الفنانين والمثقفين والحرفيين والتشكيليين والمسرحيين المشاركين في المهرجان نحو (2050) مشاركًا من (36) دولة، من الأردن والدول العربية والأجنبية. وبلغت الفعاليات نحو (420) فعالية، كما بلغ عدد العاملين في الموقع لخدمة البنى التحتية والتنظيمية والفنية نحو 1350 عاملًا، وعدد الفنانين نحو 2000 فنان ومثقف. وتاليًا نص البيان الختامي كاملًا: في ختام الدورة التاسعة والثلاثين لمهرجان جرش للثقافة والفنون، نرفع إلى مقام حضرة صاحب الجلالة الهاشمية، الملك عبدالله الثاني حفظه الله ورعاه، أسمى آيات الشكر والعرفان، لرعايته السامية للمهرجان، الذي حملت دورته هذا العام شعار 'هنا الأردن.. ومجده مستمر'. وإذ يعبّر المهرجان، في برنامجيه الثقافي والفني، عن اهتمام جلالة الملك بقطاع الثقافة والفنون، ويؤكّد قيم الدولة الأردنية في أهمية هذا القطاع، والصورة الحضارية لبلدنا من خلال مشاركة ضيوف الأردن والفرق المحلية والعربية والأجنبية وتوسيع مدى التبادل الثقافي مع الدول الشقيقة والصديقة…؛ فإنّها لمناسبةٌ عزيزة أن نشكر كلّ من أسهم في إنجاح هذه الدورة المميزة والاستثنائية من دورات المهرجان الذي يُعدّ عنوانًا وطنيًّا عربيًّا وعالميًّا، وقارب على الأربعين عامًا من عمره، وسيظلّ موئلًا لكل الإبداعات الفنية والثقافية على الدوام. لقد نهضت هذه الدورة من دورات المهرجان بالرسالة والأهداف، وكانت فرصةً كبيرةً ومساحةً مهمةً من مساحات الوعي والحوار والتنوير؛ خصوصًا وقد ترسخت الصورة الزاهية لهذا المهرجان. لقد كانت انطلاقة المهرجان بحجم الطموح وتوجيهات صاحب الجلالة حفظه الله بإيلاء قطاع الثقافة والفنون الأهمية التي يستحق، واهتمام دولة رئيس الوزراء د.جعفر حسان بترجمة هذه الرؤى الملكيّة في كتاب التكليف السامي، والمتعلقة بتوسيع قاعدة المهرجانات والندوات والفعاليات ذات العلاقة. وشهدت الدورة حضورًا كبيرا لكلّ الهيئات الثقافية الشريكة مع المهرجان، منها: نقابة الفنانين الأردنيين، رابطة الكتاب الأردنيين، اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين، الجمعية الفلسفية الأردنية، رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين، ومؤسسة شومان. كما شهدت الدورة حضور المجتمع المحلي لمحافظة جرش، والجامعات الأردنية، والعديد من المؤسسات والمبدعين، والجمعيات الثقافية والفنية؛ مما رسّخ البرنامج الثقافي والفني للمهرجان، وعزّز من حضوره في العديد من الملتقيات والندوات والمؤتمرات التي قرأت مواضيع فكرية وفنية ذات علاقة بالواقع الذي تعيشه المنطقة والإقليم والعالم؛ ما يجعل من كل هذا النتاج أرشيفًا مهمًّا يضاف إلى خزانة الأدب والثقافة والفكر الثمينة التي يتمتع بها أردننا ويحمل من خلالها مشعل وبوصلة الوعي إلى العالم؛ فالشكر موصول لكلّ هذه الجهات على ما قدّمت من جهدٍ جاد ومخلص في إنجاح فعاليات المهرجان. وباختتام هذه الدورة، فلا بدّ من إزجاء الشكر لكلّ الوزارات والمؤسسات والهيئات الثقافية والسفارات العربية والأجنبية التي أسهمت في إنجاح هذه الدورة. كما نقدم الشكر لجيشنا العربي المصطفوي، درع الوطن وسياجه وحامي مكتسباته الثقافية والتاريخية، والشكر لأجهزتنا الأمنية التي كانت صمام الأمن والأمان والعين الساهرة لبثّ الطمأنينة من خلال أداء واجباتهم باحتراف ومهنية وانتماء، وبكل حضارية التعامل مع الضيوف والزوار. كما نشكر أبناء مدينة جرش، ومحافظها، ومجتمعها المحلي، وبلديتها، ومؤسساتها وهيئاتها الثقافية والشبابية، وجميعهم كانوا بمستوى المسؤولية الوطنية في استقبال ضيوف جرش والأردن؛ بما عرف عن بلدنا من حفاوة الاستقبال وبشاشة الترحيب. والشكر لسفارات الدول الشقيقة والصديقة التي عرّفت بتراثها وثقافتها ورسالتها الوطنية في المهرجان، كما لا ننسى شكر الفنانين والكتاب والمثقفين الذين قدموا خلاصة فكرهم ومقترحاتهم الجمالية في النصوص الكتابية والبصرية والموسيقية والحرفية؛ وقد عبّروا عن روح المكان الجرشي الأردني في تنوعه ومساحته التي كانت أرضيةً ثريةً ومتميزةً في الحوارات والتثاقف بين المشاركين. ولا يفوتنا أن نشكر مؤسساتنا الوطنية من القطاع الخاص، كما نشكر الناقل الرسمي/ الملكية الأردنية، ووزارة السياحة والآثار.. وهيئة تنشيط السياحة، ودائرة الآثار العامة. ولا يسعني إلا أن أعبّر عن شكري للجنة العليا ولإدارة المهرجان، والعاملين في المواقع، واللجان الذين بذلوا جهدهم لإبراز صورة الأردن المضياف، والشكر الموصول أيضًا لمؤسساتنا الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة، الشركاء الاستراتيجيين الذين حملوا رسالة الأردن وخطابه، ولوسائل الإعلام العربية والأجنبية الذين نقلوا صورة المهرجان بمهنية عالية. لقد حقق المهرجان نجاحًا مهمًّا، واتسمت هذه الدورة بزيادة عدد المشاركين والزوار والحضور الكبير الذي فاق التوقعات، بسبب تبسيط إجراءات الدخول التي جرت بسلاسة من خلال تطوير طريقة تسويق البطاقات، والدخول إلى المدرجات. وتميزت هذه الدورة بمشاركة عالمية واسعة وكبيرة للفرق الفنية التي قدّمت إبداعاتها على الساحة الرئيسة. كما تميزت بمشاركة أردنية كبيرة في البرنامجين الفني والثقافي، والذي لم يقتصر في فعالياته على المدينة الأثرية، بل امتد إلى ست محافظات، بتنوع الفقرات المقدمة. وكان الجديد في المهرجان احتضانه لمهرجان المونودراما، وندوات حول جماليات المكان، وذاكرته، وسمبوزيوم الرسم والحروفية، والمؤتمرات العلمية التي أقامتها الجمعية الفلسفية، وبرنامج 'قامات جرشية' الذي تناول سيرة عدد من الشخصيات السياسية والثقافية في محافظة جرش. وتمّ التركيز خلال برنامج المهرجان على الصناعات الثقافية/ التمكين، بمشاركة الشباب في برنامج (بشاير)، وتمكين المرأة من خلال مساحات تسويق الأعمال التقليدية والشعبية والحرفية في شارع الأعمدة. وبلغ عدد الفنانين والمثقفين والحرفيين والتشكيليين والمسرحيين المشاركين في المهرجان نحو (2050) مشاركًا من (36) دولة، من الأردن والدول العربية والأجنبية. وبلغت الفعاليات نحو (420) فعالية، كما بلغ عدد العاملين في الموقع لخدمة البنى التحتية والتنظيمية والفنية نحو 1350 عاملًا، وعدد الفنانين نحو 2000 فنان ومثقف.


الرأي
منذ 12 ساعات
- الرأي
من ثمار جرش... النهر لن يفصلني عنك
جئت في اللحظة المناسبة يا رمضان الرواشدة، لترمي في وجوهنا تعويذتك (النهر لن يفصلني عنك)، علها تخفف من شعورنا بالأثم أو تمسح شيئاً من الألم والنزف الداخلي من مشهد غزة. أردت أن تقول إن النهر سيبقى ولن يكون فاصلة، بل سيكون وصلاً، فقد سبق الوصل الماء وسبقت الجغرافيا التاريخ وعانقت مؤاب الكنعاني. أي مغامرة هذه يا رمضان الرواشدة؟ وانت تتابع الحكاية كلها منذ البداية لتحشرها في النص وتعيد تقديمها لتغني الوحدان الذي تسمر وجمد كيف استطعت أن تصنع لنفسك مساحة في الزحام وتفرغها من المزايدين والمناقصين لتسمح لهواء فلسطين ان يتنفسه الأردنييون صافيا فيكون وصفة وحدتهم وشوقهم والتفافهم حول قيادتهم. اخذتهم الى المسرح الى المعلم، لتخاطب جمهورك، واصبحت مهمتك صعبة لأنها مهمة أن تأتي بالمسرح من الغياب ومهمة أن تضع على خشبته مضموناً يبرر الاستدعاء وقد نجحت. فقد دبت الحياة في مسرح المدينة، وها هي جرش في مهرجانها تمنحك فرصة لا بد من جعلها مستمرة ونقطة انطلاق. لقد أضاء الرواشدة مساحة كافية لتصبح تربة المسرح خصبة وأن يتواصل عطاؤه، لقد عشنا سنوات تصحر مسرحي.. لسنوات عجاف غاب المسرح عنا، ولما أنكرناه بالصمت عنه والالتفات لغيره، فقدنا شيئاً من التعليم والاعتبار والمتعة. رمضان الرواشدة في مسرحيته "النهر لن يفصلني عنك" يختصر كل الحكايا التي إختنقت وفقدت صوتها ولم يأت أحد لنجدتها، حين أصر على ان يبقى النهر متصلاً ويبقى الحبل السري مع جسد فلسطين غير منقطع، وأصر على ذلك وأبدع في حين تشتت الآخرون وذهبوا للصراخ والملاومة والمناقصة، فهم لم يورثونا الاّ المزيد من العطش والألم والفقدان والخسارة. مساهمة الرواشدة في "النهر لن يفصلني عنك" قوية وسهلة والذين جندهم لتجسيد الفكرة على المسرح، كانوا مبدعين حقاً، ليسوا اسماء طنانة في عالم المسرح، ولكنهم مبدعون حقاً استطاعوا أن يحملوا سنوات المعاناة وأن يقدموها باسم كل المحبين الأردنيين لفلسطين. كان منذر خليل مبدعاً، وهو رمز أردني باسل للجندي الأردني، صبر وصمد، وكانت أريج دبابنة، بحضورها البهي المبهج ونادين خوري، وهي تغوص في المشهد وقادرة على الاختراق وذات حضور دافق كان المسرح بسيطاً، ولكنه عميق بمكونات غير معقدة من موسيقى وإضاءة ومؤثرات صوتية وملابس. لقد اجتمعت المكونات لتضع هذا المضمون الواصل المؤثر والمحبب على اسئلة عالقة باجابات فياضة حتى وإن لم تحضر اسئلتها. استمتعنا بالمسرحية، وقد كان المدرج مليئاً بالحضور، ونطالب بادامته عرضها علّها تكون البدايات الجديدة التي تستقطب أخوات لها للحضور الى الخشبة بثقة واحتراف. نحتفي بمثل هذا الفن الذي يخرجنا من مرحلة "الدبق" والاستهلاك والولولة والشتم والنكوص والجحود الى مرحلة التواصل والعطاء. نعم لقد تطور النص المقدم بتغليف مسرحي وإخراجي مناسب، وظف اللحظة القائمة، وفتح رزنامة الأحداث التي لا يستطيع أحد تجاوزها. نعم يستطيع الفن أن يأخذنا من حالة الهذيان ومن الرطانة واعادتنا للبوصلة حتى لا نتوه، فالطريق الى فلسطين هكذا، والأردنيون رضعوا حبها مع حليب أمهاتهم ولم يعرفوا العقوق، ففلسطين نبض أردني حتى لو نقلوا القلب جهة اليمين، فسيبقى ينبض وعلى الآخرين تحديد الموقع. أي مغامرة هذه يا رمضان الرواشدة؟ وانت تشتري الحكاية كلها منذ البداية لتحشوها في النص وتعيد تقديمها لتغني للوجدان الذي تسمر وجمد كيف استطعت أن تصنع لنفسك مساحة في الزحام وتفرغها من المزايدين والمناقصين لتسمح لهواء فلسطين يتنفسه الأردنييون سأولاً، فيكون وصفة وحدتهم وشوقهم والتفافهم حول قيادتهم. اخذتهم الى المسرح الى المعلم، لتخاطب جمهورك، واصبحت مهمتك صعبة لأنها مهمة أن تأتي بالمسرح من الغياب ملهمة أن تضع على خشبته مضموناً يبرر استدعاء وقد نجحت. فقد دبت الحياة في مسرح المدينة، وها هي جرش في مهرجانها تمنحك فرصة لا بد من جعلها مستمرة ونقطة انطلاق. لقد أضاء الرواشدة مساحة كافية لتصبح تربة المسرح خصبة وأن يتواصل عطاؤه، لقد عشنا سنوات.. وتصحر، لسنوات عجاف غاب المسرح عنا، ولما أنكرناه بالصمت عنه والالتفات لغيره، فقدنا شيئاً من التعليم والاعتبار والمتعة. رمضان الرواشدة في مسرحيته "النهر لن يفصلني عنك" يختصر كل الحكايا التي اختنقت وفقدت صوتها ولم يأت أحد لنجدتها، حين أصر على ان يبقى النهر متصلاً ويبقى الحبل السري مع جسد فلسطين غير منقطع، وأصر على ذلك وأبدع في حين تشتت الآخرون وذهبوا للصراخ والملاومة والمناقصة، فهم لم يورثونا الاّ المزيد من العطش والألم والفقدان والخسارة. مساهمة الرواشدة في "النهر لن يفصلني عنك" قوية وسهلة والذين جندهم لتجسيد القارة على المسرح، كانوا مبدعين حقاً، ليسوا اسماء طنانة في عالم المسرح، ولكنهم مبدعون حقاً استطاعوا أن يحملوا سنوات المعاناة وأن يقدموها باسم كل المحبين الأردنيين لفلسطين. كان منذر خليل مبدعاً، وهو رمزاً أردنياً باسل للجندي الأردني، صبر وصمد، وكانت أريج دبابنة، بحضورها البهي ونادين خوري، تغوص في المشهد وقادرة على الاختراق وذات حضور دافق. كان المسرح بسيطاً، ولكنه عميقاً بمكونات غير معقدة من موسيقى وإضاءة ومؤثرات صوتية وملابس. لقد اجتمعت المكونات لتضع هذا المضمون الواصل المؤثر والمحبب على اسئلة عالقة باجابات فياضة حتى وإن لم يحضر اسئلتها. استمتعنا بالمسرحية، وقد كان المدرج مليئاً بالحضور، ونطالب بادامته وعرضها علّها تكون البدايات الجديدة التي تستقطب أخوات لها للحضور الى الخشبة بثقة واحتراف. نحتفي بمثل هذا الفن الذي يخرجنا من مرحلة "الدبق" والاستهلال والولولة والشتم والنكوص والجحود الى مرحلة التواصل والعطاء. نعم لقد تطور النص المقدم بتغليف مسرحي وإخراجي مناسب، وظفه اللحظة القائمة، وفتح رزنامة الأحداث التي لا يستطيع أحد تجاوزها. نعم يستطيع الفن أن يأخذنا من حالة الهذيان ومن الرطانة واعادتنا للبوصلة حتى لا نتوه، فالطريق الى فلسطين هكذا، والأردنيون رضعوا حبها مع حليب أمهاتهم ولم يعرفوا العقوق، ففلسطين نبض أردني حتى لو نقلوا القلب جهة اليمين، فسيبقى ينبض وعلى الآخرين تحديد الموقع. أبارك لصديقي المبدع رمان، فقد رسم دائرة لمن يريد ان يرى فلسطين عن طريق الأدب والابداع وحدد ملامح كيف يكون الأردني، أردنياً انساناً محباً لوطنه ومسح الغشاوة عن عيون الذين أرادوا استبدال اللغة بالرطانة والجملة المفيدة باللغو وذهبوا الى السفسطة وجنس الملائكة. هذه المسرحية لا بد أن تدخل الى مدارسنا وتنير وجدان طلابنا، فصاحب النص اردني وطني مخلص مؤتمن على ما يكتب ويقول، وقد استطاع أن يخرج بروايته وروايات اخرى طاهرة بيضاء تتحدث مع الناس بلسان مبين دون ان يخشى في ذلك مزايدين أو مناقصين، وبعد ما ابتلينا به، حين يكون الوطن بحاجة الى العطاء والصبر والهدوء. وما دام "النهر لن يفصلني عنك" فإن طريق الذهاب اليها سيبقى سالكاً وهذه خريطة طريق للوصول رأيناها على المسرح.


الرأي
منذ 12 ساعات
- الرأي
زياد الرحباني... " الصعلكة الراقية " !!
كنت اتمنى ان التقيه واجرى معه حوارا صحفيا ليس من اجل الحصول على تصريحات ومواقف مثيرة وجدلية، فهو حالة جدلية بحد ذاته، ولكن لاسجل في سجلي المهني كصحافي وكاتب اني التقيت به وحاورته واستمتعت بفن محاورته، فالحوار مع زياد الرحباني يحتاج لمهارات خاصة تتجاوز طرح الاسئلة وانتظار الاجابات، ومنذ اعلان وفاته تابعت العديد من اللقاءات التى اجريت معه وكنت في الاغلب اشفق على محاوريه الذين كانوا يقفون عاجزين عن فهم اجوبته او مستسلمين لما يطلقه من كلام عميق مغلف بالسخرية القاتلة او تنتابهم حالة من الدهشة والتسمر امام معلومات وتصريحات صادمة جريئة لا يقوى على النطق بها او سردها الا شخصية واثقة من نفسها لديها فائض من الثورية تمكنها من "الطخطخة" في كل الاتجاهات. لتلك الاسباب اخترت عنوان هذا المقال كتوطئة لرسم صورة قلمية عن زياد الشنفرى او عروة بن الورد "اللبناني"، فالصعاليك في زمن ما قبل الاسلام كانوا "نوابغ" وشعراء لا مثيل لهم في زمن كانت فيه اللغة العربية هي قوة العرب الاساسية التى ميزتهم عن بقية الامم ولذلك تحدانا الله باللغة العربية منزلا اعجازه "القران" على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. لا اعلم ان كنت اضيف شيئا جديدا عن زياد الرحباني وعبقريته في هذا المقال ام لا؟، فهو بحاجة لدراسة معمعقة، فزياد الرحباني الذي عاش 69 عاما، خرج من هذه الحياة منتصرا رغم حجم الالم الذي اختاره هو لنفسه في تحد للذات قل نظيره، نجح في هذا التحدي بانتاج حالة من "الصعلكة الراقية" بلا ابتذال او رخص او همجية او ابتزاز كما هو حال بعض النخب الفنية والصحافية في عالمنا، كان مؤمنا بالانسان وكرامته فاختار العيش بين الناس والبسطاء وعمل على الانغماس بهمومهم، وهو امر لم يفتعله زياد الرحباني بل مارسه بمنتهى التلقائية والعفوية، ولذلك وعندما نستمع للالحان التى لحنها والكلمات التى كتبها سنجدها كلها جاءت من الواقع ومن حياة الناس ومعاناتهم، لم يكن زياد يجيد تنميق الكلام او العيش المترف رغم ما تمتع به من حضور فني وموسيقى وشعري، ولهذا فقد كان زياد الرحباني هو زياد الرحباني وليس ابن فيروز او عاصى الرحباني، عاش ومات وهو يتكئ على ابداعه وفنه وقلمه، واعتقد وانا لست ناقدا فنيا او موسيقيا ان المقطوعة التى عزفها زياد الرحباني على مسرح البيكاديلي عام 1975 في بدايات الحرب الاهلية اللبنانية كمقدمة لمسرحية "ميس الريم" يجب ان تصنف كمقطوعة عالمية تضاهي مقطوعات موزارت وبيتهوفن "وانصح القارئ الكريم بالاستماع اليها. يغادر زياد الرحباني الحياة وفي رصيده الفني – الانساني 100 اغنية مغناة وكان نصيب الاسد منها لوالدته "الايقونة" فيروز الذي لم يكن يناديها الا باسمها "فيروز"، و11 مسرحية شارك فيها اما تمثيلا او تاليفا او اخراجا وتوزعت بين السخرية "المحزنة" والسياسية الناقدة او الاجتماعية التى تفجر الم الناس وقضاياهم. اهم ما يميز "صعلكة زياد الراقية" انه لم يسع الى المال كهدف او حتى الشهرة، احب حريته وحرية الناس، ومات وهو يعرف مرضه ورفض العلاج رغم توفر المتبرع المالي والمتبرع "بالكبد" وذلك لانه كان مؤمنا بالله وقدره. كانت لحظة وفاة زياد الرحباني اشبه بانفجار قنبلة منسية من حروب قديمة، انفجرت في وجوهنا جميعا لتقول لنا انتبهوا كم هو حجم الفقد وبشاعته، وان بساطة وتواضع زياد الرحباني في كل شيء لا تعني الاعتياد على غيابه او تقبل هذا الغياب، فهناك نجم قد افل، وهناك فراغ قادم قاتل قد يفترس ما تبقى في قلوبنا من تحد وحب للحياة كان زياد احد مباهجها. التقط الكثيرون لحظة وداع زياد ليكونوا داخل ذلك المشهد "الدرامي" الذي جمع الحزن الحقيقي ببعض الدمع المصطنع بدافع الظهور الفاضح للبعض، ونجح زياد وهو في تابوته في ان يكشف لنا الصادق من الكاذب وكانه يقول لنا مازالت اواصل مهمتي. كان نجاح زياد الثوري يتمثل في (الفشل في مجاملة الطبقة السياسية، والفشل في الانخراط في مجتمع كاذب ومنافق، اما الفشل الاهم والاخطر كان في علاقته مع المرأة) وهذه واحدة من سمات العباقرة.