
«الخط المحقق».. الحرف يتحدث بوقار
لطالما نال الخط العربي مكانة سامية في سجل الحضارة الإسلامية؛ حيث ارتقى إلى مصافّ الفنون الرفيعة، مشكلاً مدرسةً جماليةً فريدة تجسدت فيها روعةُ التشكيل ورقّةُ الإبداع، فما إن تخط أنامل الخطاط الحرف بريشتها حتى تُولد لوحةٌ تنبض بالحياة، تحكي قصةَ كل حرف بتكوينه الهندسي المحكم، الذي يخضع لقوانين رياضية دقيقة تنظم حركة السطور.
لوحات الخط العربي تقدّم لنا ملاذاً بصرياً وروحياً، يستعيد فيه المتأمل شيئاً من الصفاء والخشوع، الحروف فيها تبنى بدقة وإتقان، مع لمسات جمالية تخطف الألباب، ومن بين هذه اللوحات، تضيء لوحة الخطاط الكويتي جاسم معراج، التي يكتب فيها قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ البقرة: 186، بأسلوب الخط المحقق الدقيق، باعتبارها لوحة فنية يجتمع فيها جلال الخط وروحانية المعنى.
*تكوين
جاء اختيار معراج لخط المحقق الذي ارتبط تاريخياً بكتابة المصاحف، خصوصاً في عصر الدولة العثمانية، لما له من خصائص جمعت بين الهيبة والدقة والاتران؛ حيث يكتب بحروف طويلة متأنية، وأشكاله الهندسية لا تحتمل الارتجال أو العفوية، ومنها اكتسب هذا الخط اسمه بسبب وضوح حروفه، وعدم وجود أي موضع تردد أو شك في قراءته، ليتناسب بشكل مميز مع كتابة آية تتعلق بالقرب الإلهي بخط ينتمي إلى تقاليد الوقار.
الآية الكريمة مكتوبة بشكل يشعر المتأمل بروح الكلمات؛ حيث امتداد كلمة «أجيب» بشكل أفقي واسع يعطي إحساساً فعلياً بالاحتواء والتلبية، وكأن الحرف يتقدم إلينا، أو يدعونا للاقتراب، هذه التفاصيل الصغيرة في شكل الحرف وطريقة كتابته، تقول الكثيرعن ذكاء الخطاط وحسه الداخلي في التعامل مع المعنى، يحول الخط إلى لحظة شعورية، في تكوين بصري يدعو للسكينة.
رغم أن خط المحقق معروف بدقته، إلا أن هذه اللوحة لا تبدو معقدة أو صعبة القراءة، على العكس، هناك بساطة ووضوح في التكوين، وكأن الخطاط أراد أن يقرّب المعنى للقارئ تماماً كما تقرب الآية العلاقة بين الإنسان وربه.
جاءت المعالجة الدقيقة لسمك الحروف، في بداية الآية وخاتمتها، بخط أسود حالك في توزيع بصري متوازن، لها وزن بصري، ولهذا فإن تنفيذ كلمة مثل «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي» يتطلب مهارة فائقة في ضبط الفروقات في السماكة، من دون إخلال بميزان الخط، فالناظر لا يتلقى المعنى دفعة واحدة، بل يمكث فيه، يدور في رحابه.
اللوحة لا تكتفي بنقل المعنى القرآني، بل تبرزه في الفضاء البصري، فالآية الكريمة في أصلها، تأتي جواباً على استفهام عميق، «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي»، فتكون الإجابة من الله مباشرة دون وساطة، فَإِنِّي قَرِيب، هذه الاستجابة الحميمة، تترجم في اللوحة إلى تقارب بين الحروف، وتماسك بنيوي، وسكينة في امتداد الحبر؛ لتعطي حركة داخلية متناغمة تؤدي إلى طمأنينة واستقرار.
اختيار اللون الذهبي لكتابة الآية يحمل رسالة جمالية رمزية، اللون الذهبي يوحي بالصفاء والنور، بشيء من القدسية، بينما اللون الأسود للكلمات والنقاط وبعض التشكيل، يدعم فيه هذا التناغم اللوني من الحوار الداخلي بين الناظر واللوحة، مضيفاً ثباتاً وأرضية متقنة تتماهى مع المعنى القرآني.
أبدع الخطاط في إعطاء كل حرف هيئته التي تتلون بين الوصل والانفصال، كأنه يتأنق بحلة جديدة في كل موضع يحلّ به، مبتدئاً أو وسيطاً أو خاتماً، هذه المرونة التشكيلية المدعومة بجماليات بصرية مميزة، هي التي منحت الخط العربي تلك الروح الساحرة، فجعلته تحفة تثير الدهشة وتستحق التأمل، كلمحة من إعجاز حضاري تجسد بين دفتي التاريخ.
إضاءة
ولد جاسم معراج عام 1982، حاصل على درجة البكالوريوس في الهندسة الكيميائية جامعة الكويت عام 2005، ماجستير في الفنون الإسلامية تخصص فن الخط العربي عام 2013 من كلية الفنون والعمارة الإسلامية –الأردن، تتلمذ في بدايته على الخطاط وليد الفرهود، ثم استكمل دراسته في الخط على يد الخطاط داود بكتاش وحسن جلبي منذ عام 2002م، كما أخذ فلسفة الفن الإسلامي عن الشيخ سلمان الداود الصباح، حصل على الإجازة في خطي (الثلث – النسخ) من حسن جلبي وداود بكتاش سنة 2007، وهو عضو مؤسس في مركز الكويت للفنون الإسلامية، حصل على العديد من الجوائز في عدة مسابقات دولية، كما شارك في كثير من المعارض الفنية في مختلف الدول، مثل الكويت والسعودية والإمارات وكندا وهنغاريا و تركيا، أقام معرضاً ثنائياً بعنوان «الفواتح والخواتيم» مع الخطاط أيمن حسن في مقر جمعية الخطاطين الإماراتيين لفن الخط العربي – الشارقة 2019.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة الخليج
منذ 4 ساعات
- صحيفة الخليج
«الديواني الجلي».. الخشوع لغة الحرف
الشارقة: رضا السميحيين يعتبر الخط العربي أحد شواهد تجليات الجمال البصري، يحمل في طياته روح الحضارة وعمق التاريخ، رغم صخب أدوات التصميم الحديثة وسرعتها، تبقى قلوب الخطاطين المعاصرين تهفو إلى الكلاسيكيات في الخط العربي، حيث تختزل الروح في كل حرف، وينسج الإبداع بأنامل تحمل تراثاً عريقاً، لذلك نراهم يعودون إلى مدارس الخط العثماني والمملوكي والفارسي، يستلهمون منها الجمال الأصيل، ويحيون فناً لا يخضع لقوانين السرعة والآلة. أما من ناحية قراءة اللوحة الخطية، فقد تجاوزت جماليتها، فك التشابك الحروفي أو تذوق جمال الخط فحسب، لتصبح العلاقة بين الشكل والمضمون نافذة جديدة لفهم العمل الفني الخطي، فالشكل الذي تقدم به اللوحة يحيلنا إلى عوالم متخيلة في التكوين البنائي، ويُفتح به الباب على مصراعيه لتأويلات مشهدية لا تنتهي، ولدخول إلى عقل الخطاط وروحه، والذي يخط لوحة تحكي روح الماضي بلغة الحاضر. *تكوين في هذا السياق الفني، تأتي لوحة الخطاط عقبة الخيرات تجسيداً لجماليات الحرف والمعنى، والتي خط فيها العبارة «استغفر الله»، مبدعاً في طريقة كتابتها وأسلوب بنائها، لتستحضر فعل الاستغفار في حد ذاته، وتتجاوز فيها الموهبة حالة التجسيد البصري لكلمات مألوفة، مترجمة بلغة الحبر واللون، تتحول فيها الحروف إلى لحظات خشوع، والنقاط إلى دعوات من القلب. جاء اختيار الخطاط في لوحته خط «الديواني الجلي»، المعروف بأنه خط التماوج والسيولة من حيث اعتماده على استدارة الحروف وتداخلها، كما أنه يتميز بكثرة علامات الزخرفة التي تملأ ما بين الحروف، وهو بذلك خط زخرفي بالأساس، وقد ولد هذا الخط في بيئة القصور السلطانية، لكنه تجاوز الأسوار ليصبح لغة للرقة والعذوبة المدهشة، وفي هذه اللوحة يوظف عقبة الخيرات خصائص هذا الخط بإبداع مميز ينم عن تمكن ومهارة. يبدأ التكوين الشكلي من دائرة مغلقة، في إحالة رمزية إلى الاكتمال، أو ربما إلى النفس التي تتقلب بين الذنب والتوبة داخل دائرة الحياة، تنتشر الحروف في عين الدائرة، كأنها حالات من الشك واليقين في حالة انجذاب، كل منها يتبع الآخر، دون تصادم أو فوضى، تتماوج الحروف بتناغم شديد، وتتماسك كما تتماسك قطرات المطر على صفحة ورق. كان الجزء الأكثر بروزاً في التكوين هو «حرف الألف» في مطلع الكلمتين اللتين تتألف منهما اللوحة، وحيث ارتفع عمودياً إلى الأعلى، بجذعين طويلين مستقيمين، يعطي فيه هذا الارتفاع بعداً روحانياً قوياً، يوحي بالسمو والتطلع، وكأن هذه الكلمة تحديداً تخرج من الدائرة لتصعد إلى مراتب الجلالة، في تصعيد بصري بحرف خاشع. اعتمدت اللوحة على ألوان محدودة، ما يمنحها هدوءاً بصرياً يناسب المعنى المتأمل لعبارة «استغفر الله»، حيث الخلفية بلون عاجي ناعم، تسمح للنص بأن يبرز بوضوح، أما الحروف فهي بخط أسود غني، ينقل الجدية والوقار، ويعكس الثقل المعنوي للكلمة، ولكن الحضور الأكثر دهشة يأتي من النقاط الحمراء، وهي أربع صغيرة موزعة بشكل مدروس داخل الدائرة، كاسراً رتابة التدرج اللوني الأحادي، لتخلق نقاط توتر لوني محكوم، تشكل فيها النقاط في سياقها الديني والتي يمكن تأويلها كرمز للانتباه والتوقف الخاشع، أو حتى كنبضات قلب تتلو الاستغفار باللسان. توزيع هذه النقاط الأربع يحقق توازناً لونياً دقيقاً، لا يطغى على النص، لكنه يشد العين ويوقظ الروح، وهو استخدام ذكي يعزز التركيز البصري والمعنوي، أما التوزيع الزخرفي بالنقاط وعلامات الترقيم فكان حاضراً بكثافة غير فوضوية، تتوزع فيها النقاط كما تتوزع النجوم في سماء ليلية، تخدم النص من حيث إيقاعه وتشكيله، وتمنحه أيضاً حالة إيمانية صامتة، تحولت فيه النقطة إلى أداة لإحداث التوازن البصري داخل التجويف المعماري للنص. ما يجعل هذه اللوحة مميزة جمالياً، هو أنها لا تنفصل عن معناها، فالاستغفار، وهو فعل بين العبد وربه، يترجمه الخطاط إلى شكل دائري مغلق، وكأن الذنب والتوبة يدوران في دائرة واحدة، لا يكسرها إلا تصعيد اسم الجلالة إلى أعلى، في مزيج من التكوين المتقن، والاختيار اللوني الرصين، والتوازن البصري الذي يشبه في دقته توازناً داخلياً يطلب بالاستغفار. ولد الخطاط عقبة الخيرات،عام 1968، ودرس الخط العربي على يد أيمن حسن، شارك عدة مرات في مسابقة الكويت لفن الخط العربي، و في عدة معارض لمركز الكويت للفنون الإسلامية، كما شارك في العديد من معارض الخط العربي، ومنها المعرض الافتراضي للخط العربي.


صحيفة الخليج
منذ 13 ساعات
- صحيفة الخليج
«الكوفي المملوكي».. دهشة الحرف تغزو العين
الشارقة: رضا السميحيين لايزال الخط العربي يحتفظ بمكانة خاصة في عالم الفنون، بفضل تنوع أنماطه وثراء سماته التي تجعله فناً قائماً بذاته، قادراً على تجديد حيويته عبر العصور، لكل خط حكاية فنية مميزة، وكل نمط له بصمته الفريدة التي تمنح الخطاطين مساحات واسعة للإبداع والابتكار، ليقدموا أعمالاً تحمل روح العصر دون أن تفقد أصالتها التراثية. من بين هؤلاء المبدعين، يبرز الخطاط صلاح عبدالخالق، الذي اختار أن يبرز ثراء الخط العربي من خلال التركيز على نمط «الخط الكوفي»، ليكشف لنا عن أسرار الجمال الكامن في هذا القلم، الذي تميز بمرونته الفنية القادرة على استيعاب روح هذا الخط، ليقدم من خلاله أعمالاً متميزة تخرق المألوف، وتتجاوز الشكل التقليدي الى آفاق جديدة في الإبهار البصري. صلاح عبدالخالق في لوحاته، لا يكتفي عبدالخالق بإتقان الحرف، بل يتحول إلى مصمم ومبتكر، يختزل جماليات الكوفي في تشكيلات تلامس الحداثة دون أن تفقد هويتها التراثية، كما تظهر لوحته التي خطها بأحد الأنواع الصعبة في الخط الكوفي وهو «الكوفي المملوكي»، لتدلل على براعته في تحويل الحروف الى لوحات تشكيلية تدهش المتلقين، وتؤكد أن الخط العربي فن لا ينضب، يظل فيه الخط العربي شاهداً على عبقرية الإرث الحضاري مع قدرته على تجديد نفسه، حاملاً رسالة الجمال والإبداع من الماضي إلى الحاضر والمستقبل. في اللوحة التي بين أيدينا والتي خط فيها الفنان صلاح عبدالخالق، الآية الكريمة ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)- سورة التوبة (51)، في تركيب بصري مدهش يحاكي فيه نافذة معمارية إسلامية تقليدية، في رمزية لطيفة تحيل إلى النوافذ الروحية التي تفتح لنا مفاهيم أسمى من خلال الإيمان والتسليم، وبخط مميز بالأسلوب الهندسي، جاءت خطوطه مستقيمة، وزواياه حادة، مع تصميمات زخرفية متميزة، في تكوين تميز بحرفية عالية حيث تتداخل الحروف بطريقة متوازنة، نحتت الكلمات بشكل فني متداخل لتعطي لكل حرف تنسيقاً خاصاً بطريقة دقيقة داخل مساحة فنية متناغمة. يعتبر الخط الكوفي المملوكي واحداً من أبرز تجليات الفن الإسلامي، حيث يجمع بين الصرامة الهندسية والروحانية العميقة. وعندما يستخدم هذا الخط في كتابة آيات قرانية فإن العمل الفني يتحول إلى لوحة تحمل أبعاداً جمالية ودينية وثقافية، كما يتيح للتصميم أن يكون معبراً عن القوة والاتساع، ما يتناسب مع مضمون الآية الكريمة التي تتحدث عن التسليم بقضاء الله. جاءت كلمة «لنا» في الأعلى داخل تشكل زخرفي من استطالات الأحرف، في إشارة مميزة تتوسط التصميم تماماً، لتجذب العين مباشرة اليها، ما يضفي عمقاً رمزياً للتأكيد على الفردية والوجود في دائرة الإيمان واليقين، مع توازن رائع في اللوحة بين الحروف والكلمات، فكل جزء من الخط يتناغم مع الآخر دون ازدحام، تضفي فيه الأبعاد الهندسية التي تظهر في الحروف وداخل الزخرفة انسجاماً بين العناصر المختلفة. التوازن الدقيق في الحروف المرسومة، يتجلى من خلال تكرار بعض العناصر بشكل متناظر لخلق انسجام بصري، أحاط النص إطار لضبط التكوين الحروفي مع التشكيلات النجمية والأرابيسك، ما يضفي طابعاً فخماً على اللوحة، مع تحديد دقيق لأماكن الحروف والفراغات، كما نلاحظ أن حروف مثل«الألف» و«اللام»، مرسومة بخطوط مستقيمة وامتدادات طويلة، ما يعطيها هيبةً وجلالاً، تتشابك فيه الحروف مع بعضها بطريقة هندسية وإيقاع بصري متناغم. الزخرفة الهندسية في الجزء العلوي احتوت على زخارف مستوحاة من التراث الإسلامي، ما يبرز السمة الجمالية للخط العربي ويعكس الانسجام الكلي بين الفن والدين، واستخدام اللون الأسود جاء معبراً عن الصلابة والاستقرار، بينما اللون الذهبي لكلمة «لنا» يضيف طابعاً روحانياً مميزاً، بتدرجات لونية لتعطي إحساساً بعمق المعنى في البؤرة النورانية المنبعثة من التشكيل، تجعل المشاهد للوحة أمام تحفية فنية حقيقية. ولد صلاح عبدالخالق عام 1963، عمل مصمم ديكور تاريخي بالتليفزيون المصري، وهو مصمم وخطاط بصحيفة الجمهورية منذ 1992، كما أنه عضو لجنة توثيق وتصنيف مقتنيات متحف الإسكندرية للخط العربي، وعضو لجنة الخط العربي بوزارة التربية والتعليم، ساهم في اكتشاف الكثير من المواهب الشابة من فناني الخط العربي، وحصل على 8 جوائز دولية في الخط الكوفي.


صحيفة الخليج
منذ 2 أيام
- صحيفة الخليج
«الخط المحقق».. الحرف يتحدث بوقار
لطالما نال الخط العربي مكانة سامية في سجل الحضارة الإسلامية؛ حيث ارتقى إلى مصافّ الفنون الرفيعة، مشكلاً مدرسةً جماليةً فريدة تجسدت فيها روعةُ التشكيل ورقّةُ الإبداع، فما إن تخط أنامل الخطاط الحرف بريشتها حتى تُولد لوحةٌ تنبض بالحياة، تحكي قصةَ كل حرف بتكوينه الهندسي المحكم، الذي يخضع لقوانين رياضية دقيقة تنظم حركة السطور. لوحات الخط العربي تقدّم لنا ملاذاً بصرياً وروحياً، يستعيد فيه المتأمل شيئاً من الصفاء والخشوع، الحروف فيها تبنى بدقة وإتقان، مع لمسات جمالية تخطف الألباب، ومن بين هذه اللوحات، تضيء لوحة الخطاط الكويتي جاسم معراج، التي يكتب فيها قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ البقرة: 186، بأسلوب الخط المحقق الدقيق، باعتبارها لوحة فنية يجتمع فيها جلال الخط وروحانية المعنى. *تكوين جاء اختيار معراج لخط المحقق الذي ارتبط تاريخياً بكتابة المصاحف، خصوصاً في عصر الدولة العثمانية، لما له من خصائص جمعت بين الهيبة والدقة والاتران؛ حيث يكتب بحروف طويلة متأنية، وأشكاله الهندسية لا تحتمل الارتجال أو العفوية، ومنها اكتسب هذا الخط اسمه بسبب وضوح حروفه، وعدم وجود أي موضع تردد أو شك في قراءته، ليتناسب بشكل مميز مع كتابة آية تتعلق بالقرب الإلهي بخط ينتمي إلى تقاليد الوقار. الآية الكريمة مكتوبة بشكل يشعر المتأمل بروح الكلمات؛ حيث امتداد كلمة «أجيب» بشكل أفقي واسع يعطي إحساساً فعلياً بالاحتواء والتلبية، وكأن الحرف يتقدم إلينا، أو يدعونا للاقتراب، هذه التفاصيل الصغيرة في شكل الحرف وطريقة كتابته، تقول الكثيرعن ذكاء الخطاط وحسه الداخلي في التعامل مع المعنى، يحول الخط إلى لحظة شعورية، في تكوين بصري يدعو للسكينة. رغم أن خط المحقق معروف بدقته، إلا أن هذه اللوحة لا تبدو معقدة أو صعبة القراءة، على العكس، هناك بساطة ووضوح في التكوين، وكأن الخطاط أراد أن يقرّب المعنى للقارئ تماماً كما تقرب الآية العلاقة بين الإنسان وربه. جاءت المعالجة الدقيقة لسمك الحروف، في بداية الآية وخاتمتها، بخط أسود حالك في توزيع بصري متوازن، لها وزن بصري، ولهذا فإن تنفيذ كلمة مثل «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي» يتطلب مهارة فائقة في ضبط الفروقات في السماكة، من دون إخلال بميزان الخط، فالناظر لا يتلقى المعنى دفعة واحدة، بل يمكث فيه، يدور في رحابه. اللوحة لا تكتفي بنقل المعنى القرآني، بل تبرزه في الفضاء البصري، فالآية الكريمة في أصلها، تأتي جواباً على استفهام عميق، «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي»، فتكون الإجابة من الله مباشرة دون وساطة، فَإِنِّي قَرِيب، هذه الاستجابة الحميمة، تترجم في اللوحة إلى تقارب بين الحروف، وتماسك بنيوي، وسكينة في امتداد الحبر؛ لتعطي حركة داخلية متناغمة تؤدي إلى طمأنينة واستقرار. اختيار اللون الذهبي لكتابة الآية يحمل رسالة جمالية رمزية، اللون الذهبي يوحي بالصفاء والنور، بشيء من القدسية، بينما اللون الأسود للكلمات والنقاط وبعض التشكيل، يدعم فيه هذا التناغم اللوني من الحوار الداخلي بين الناظر واللوحة، مضيفاً ثباتاً وأرضية متقنة تتماهى مع المعنى القرآني. أبدع الخطاط في إعطاء كل حرف هيئته التي تتلون بين الوصل والانفصال، كأنه يتأنق بحلة جديدة في كل موضع يحلّ به، مبتدئاً أو وسيطاً أو خاتماً، هذه المرونة التشكيلية المدعومة بجماليات بصرية مميزة، هي التي منحت الخط العربي تلك الروح الساحرة، فجعلته تحفة تثير الدهشة وتستحق التأمل، كلمحة من إعجاز حضاري تجسد بين دفتي التاريخ. إضاءة ولد جاسم معراج عام 1982، حاصل على درجة البكالوريوس في الهندسة الكيميائية جامعة الكويت عام 2005، ماجستير في الفنون الإسلامية تخصص فن الخط العربي عام 2013 من كلية الفنون والعمارة الإسلامية –الأردن، تتلمذ في بدايته على الخطاط وليد الفرهود، ثم استكمل دراسته في الخط على يد الخطاط داود بكتاش وحسن جلبي منذ عام 2002م، كما أخذ فلسفة الفن الإسلامي عن الشيخ سلمان الداود الصباح، حصل على الإجازة في خطي (الثلث – النسخ) من حسن جلبي وداود بكتاش سنة 2007، وهو عضو مؤسس في مركز الكويت للفنون الإسلامية، حصل على العديد من الجوائز في عدة مسابقات دولية، كما شارك في كثير من المعارض الفنية في مختلف الدول، مثل الكويت والسعودية والإمارات وكندا وهنغاريا و تركيا، أقام معرضاً ثنائياً بعنوان «الفواتح والخواتيم» مع الخطاط أيمن حسن في مقر جمعية الخطاطين الإماراتيين لفن الخط العربي – الشارقة 2019.