
ثقافة : حسين السيد يكتب: أحمد شوقى بقلم زكى مبارك
نافذة على العالم - انشغل زكى مبارك كثيرا بأحمد شوقى وبأشعاره، وكتب عنه مقالات عدة نشرت فى العديد من المجلات، وقامت "كريمة" ابنة الدكتور زكى مبارك بجمع هذه المقالات من المجلات والكتب، وأخرجتها على صورة كتاب؛ لأن موضوعها واحد هو أحمد شوقى، وظهر الكتاب بعنوان "أحمد شوقى بقلم زكى مبارك".
يعد زكى مبارك أول ناقد ينصف أمير الشعراء أحمد شوقى فى حياته، وتطيب نفسه لهذا الأمر، فكتب يقول: "إن نفسى لتطيب كلما ذكرت أنى كنت أول ناقد أنصف شوقى فى حياته"، وهو ما جعل شوقى يرضى عنه ويضمه إلى حاشيته، ويطلب إليه أن يكتب المقدمة الأدبية لديوانه، كما كتب الدكتور محمد حسين هيكل المقدمة التاريخية، لكن زكى مبارك رفض طلب شوقى؛ فقد خشى أن تصرفه المقدمة عن السكوت على هنات شوقى، أو بعبارته: "ليحتفظ بحقه فى النقد حين يخطئ".
أحمد شوقى
وعرض زكى مبارك الأمر على طه حسين، وكان يسكن آنذاك بجواره بمصر الجديدة، فما كان من طه حسين إلا أن لامه وأخبره بأنه قد أخطأ بعدم كتابته المقدمة، وقال: "ليتك استشرتنى قبل أن تصنع ما صنعت، ألا تعرف أنك أضعت على نفسك فرصة من التشريف؟ لو طلب منى شوقى ما طلب منك – وأنا خصمه - لاستجبت بلا تردد، فشوقى فى رأيى هو أعظم شاعر عرفته اللغة العربية بعد المتنبى"، فرد عليه زكى مبارك: "إنى أرى أنه أشعر من المتنبى".
وهو فى نقده للجزء الأول من الشوقيات يختار بعض قصائد شوقى الجياد، فمثلا يرى أن "نهج البردة" أهم قصيدة بالديوان، كما يرى أن قصيدة "الأندلس الجديدة" من القصائد التى يجب حفظها عن ظهر قلب، وهى أعظم قصيدة جاد بها الشعر الحديث فى تصوير التعاطف بين الشعوب الإسلامية، ولهذا فإن زكى مبارك يخالف جميع النقاد الذين ذهبوا إلى أن عبقرية شوقى لم تتفتح إلا بعد نفيه فى الحرب العالمية الأولى إلى إسبانيا، لكنه يرى أن عبقريته تفتحت قبل ذلك وهو فى مصر قبل نفيه، مستشهدا بقصيدة الأندلس الجديدة التى نظمها عام 1912،
مقدونيا والمسلمون عشيرةٌ كيف الخئولةُ فيكِ والأعمامُ
أتَرَينهم هانوا، وكان بعزِّهم وعلوهم يتخايلُ الإسلامُ
إذ أنتِ نابُ الليث كلُّ كتيبةٍ طلعَت عليكِ فريسةٌ وطعامُ
ثم تأتى قصيدة "انتحار طالب"، ويرى زكى مبارك أنها قصيدة طوقت بها وزارة المعارف بأطواق من حديد، فالطالب المنتحر:
ناشِئٌ فى الوَردِ مِن أيامِهِ حَسبُهُ اللَهُ أَبِالوردِ عَثَر؟
سَدَّدَ السهمَ إِلى صَدرِ الصبا وَرَماهُ فى حَواشيهِ الغُرَر
بِيَدٍ لا تَعرِفُ الشرَّ ولا صَلُحَت إلا لتلهو بِالأُكَر
ولا يتوانى زكى مبارك فى الاعتراف بالخطأ متى أدرك الصواب، ومن ذلك أنه ذكر فى كتابه الممتع "الموازنة بين الشعراء" أن الشاعر إسماعيل صبرى هو أول من سن مذاهب القول فى وصف آثار الفراعنة سنة 1904، لكن يطَّلع زكى مبارك على قصيدة ألقاها شوقى فى مؤتمر المستشرقين سنة 1894، وكان شوقى شابا فى مقتبل حياته. ويمضى زكى مبارك فى الوقوف عند بعض قصائد الديوان، وموقف شوقى من أحداث عصره.
ويأخذ على شوقى فى نقده الجزء الثانى من الشوقيات عدم تأريخ القصائد، ويرى زكى مبارك لو أن شوقى فعل ذلك لأعفى النقد الأدبى من التعب فى تعقب أسباب الضعف والقوة فى شاعريته العصماء. ويذكر أن أقدم القصائد المؤرخة فى الديوان تعود إلى العاشر من سبتمبر سنة 1900، وهى قصيدة "طابع البريد".
زكى مبارك
وفى هذا الجزء أيضا نرى قصائد فرنسية وتركية ومصرية وسورية ولبنانية، ويوضح زكى مبارك سبب إفراط شوقى فى الإشادة بمحاسن سوريا ولبنان فى أخريات حياته، والسبب فى هذا يعود – من وجهة نظره- إلى إقبال أهل سوريا ولبنان على حفظ أشعار شوقى إلى درجة أنه لا يتذكر بعض القصائد التى مر عليها زمن طويل، ومع ذلك فهم يحفظونها، وشوقى من عادته أنه يحب من يحفظ أشعاره ويشيد بفضله، ولهذا فإنه – شوقى- كان يتلطف فى الحديث عن المسيحية مراعاة لنصارى الشام، فيقول زكى مبارك:"إن شوقى وجد فى نصارى لبنان رجالا يؤمنون بأدبه الرفيع فجازاهم وفاء بوفاء، وقال فى المسيح كلاما يقره أدب القرآن، وهل وصف المسيح بأفضل مما وصفه القرآن؟"
ليقرر فى النهاية زكى مبارك أن شوقى لم يذق طعم النعيم إلا فى سوريا ولبنان، فقد كان فى أبناء تلك البلاد الجميلة من يسمع شوقى آلاف الآبيات من شعره فى اليوم الواحد، وكان فيهم من يسمعه قصائد غابت عن وعيه الدقيق، وكان شوقى يتلقى تلك التحيات بالبكاء.
يتعرض زكى مبارك للعلاقة بين الشاعرين الكبيرين أحمد شوقى وحافظ إبراهيم، ويذكر أن المنافسة كانت شديدة بينهما، ويوضح الفارق بين الاثنين، وما يميز كل واحد منهما. فى البداية يؤكد زكى مبارك أن حافظ كان فى غاية الذكاء واللوذعية، وكان علمه بتاريخ العرب وآدابهم علما يفوق الوصف، وكان فهمه لدقائق الحياة المصرية أعجوبة الأعاجيب، فيما كان شوقى فرد من سواد الناس لا يمتاز بعبقرية ونبوغ. فما سر تفوق شوقى على حافظ؟!
يجزم زكى مبارك أن "شهوة الحديث" هى التى أضعفت شاعرية حافظ، فقط كان كثير الحديث، وهذا ما أنهك قواه، فإذا خلد إلى بيته كان متهالكا من فرط الإعياء، أما شوقى فكان يمتاز بأنه رجل قليل الكلام، يؤثر الصمت، يهرب من الناس عند شروعه فى النظم، يهيم على وجهه من طريق إلى طريق، وكأنه فى حالة من الجنون، فهو يريد إلقاء القصيد لا الإكثار من الحديث. وهذه الحالة كانت تغضب حافظ، فإذا سمع أن شوقى يهرب من طريق إلى طريق انفعل واغتاظ أشد الغيظ، فهذا يعنى مولد قصيدة جديدة، وقد جرب زكى مبارك مرة أن يغيظ حافظ، فذكر له أن شوقى رآه يهيم على وجهه فى الطريق، فما كان من حافظ إلا أن صرخ وهاج.
يذكر زكى مبارك أن الضغائن التى كانت بين الاثنين كانت تشبه ضغائن الأطفال، فسرعان ما تذوب بينهما، فعندما أقيمت حفلة عربية لتكريم شوقى ومبايعته أميرا للشعراء، أنشد حافظ قصيدته:
أمير القوافى قد أتيت مبايعا وهذى وفود الشرق قد بايعت معى
فقبَّل شوقى جبين حافظ والدموع الغزار تملأ عينيه. ولما مات حافظ رثاه شوقى بقصيدة تحمل الحب والوفاء والتقدير لحافظ:
قد كنتُ أُوثِرُ أن تقولَ رثائى يا مُنصِفَ الموتى من الأحياءِ
وفيها يقول أيضا:
وودِدتُ لو أنى فِداكَ من الرَّدى والكاذبون المُرجِفونَ فِدائى
الناطقون عن الضَّغينةِ والهوى المُوغِرُو المَوتى على الأحياءِ
من كل هدَّامٍ ويَبنى مَجدَهُ بكرائمِ الأنقاضِ والأشلاءِ
هذه القصيدة عدَّها زكى مبارك أعظم قصيدة قالها شوقى قبيل وفاته. وطبعا معروف من هو المعنىُّ بالبيتين الأخيرين، ومعروف من كان ينقض شوقى أشد النقض، وينتقص من قيمته وقدره، ويهدم بنيان شوقى ليقيم بنيانه.
ويستمر زكى مبارك فى اختيار عيون قصائد الجزء الثانى ويشيد بها، لكنه لا ينسى أن يأخذ على شوقى أنه قد أسرف فى وصف مقبرة توت عنخ آمون، وأنه قد ذكر لها خصائص غير حقيقية، خصائص لم ترها عينا زكى مبارك الذى حضر افتتاح المقبرة عام 1922، فما وصفه شوقى ينطبق على أى مقبرة فرعونية أخرى.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


نافذة على العالم
منذ يوم واحد
- نافذة على العالم
ثقافة : إشارة الإبهام لأعلى.. هل جاءت من معارك الرومان وما علاقتها بالحياة والموت؟
الثلاثاء 12 أغسطس 2025 08:30 مساءً نافذة على العالم - علامة الإبهام المرفوعة من أكثر رموز الموافقة شيوعًا في الثقافة الغربية الحديثة، تظهر هذه الإشارة الشائعة في رسائل التهنئة اليومية بين الأصدقاء والزملاء، وفي الرموز التعبيرية على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي العديد من المسلسلات التليفزيونية والأفلام. على الرغم من هذه الشعبية، يحيط قدر لا بأس به من الالتباس والمعلومات المغلوطة بأصل إشارة الإبهام المرفوعة، والكثيرين يعتقدون أن هذه الإشارة تعود إلى معارك المصارعين الرومانية القديمة، حيث كان المتفرجون يستخدمون الإبهام المرفوع لإنقاذ المقاتلين المهزومين، والإبهام المنخفض للحكم عليهم بالموت، وفقا لما ذكره موقع هيستورى فاكت. وقد عززت الثقافة الشعبية هذه الرواية، وخاصةً فيلم "المصارع" الحائز على جائزة الأوسكار عام 2000، إلا أن الحقيقة التاريخية ليست قاطعة كما تصورها هوليوود، صحيح وجود صلة بين حركات الإبهام ومباريات المصارعة في روما القديمة، لكننا لا نعرف تحديدًا كيفية استخدامها، فيما يتعلق بمباريات المصارعة، ويشير رفع الإبهام أو خفضه أو وضعه أفقيًا أو إخفائه داخل اليد للإشارة إلى آراء إيجابية أو سلبية، أو في ساحة المصارعة للإشارة إلى نجاة المصارع أو مقتله. سمح غموض المصادر القديمة للمفسرين اللاحقين بإسقاط معانٍ خاصة بهم على هذه الإشارة، وأبرز مثال على ذلك في العصر الحديث هو لوحة "بوليس فيرسو" لجان ليون جيروم عام 1872، تجسد اللوحة ببراعة قوة ودراما مباراة المصارعة، حيث يقف أحد المصارعين فوق خصمه الساقط، الذي يرقد مصابًا على الأرض، ويرفع إصبعين طالبًا الرحمة. في مدرجات الكولوسيوم، يشير المتفرجون الرومان، بمن فيهم مجموعة متحركة من العذارى إلى الموت للمصارع المهزوم بإشارة إبهام لأسفل، وقد روّجت اللوحة بشكل كبير لفكرة أن الإبهام لأعلى يشير إلى الحياة، والإبهام لأسفل يشير إلى الموت للمصارع المهزوم. المصارع ريدلي سكوت لم ينته الجدل حول هذه الإشارة عند هذا الحد، فحتى يومنا هذا، يتجادل المؤرخون حول معنى إشارة الإبهام في مسابقات المصارعة، ففي السنوات الأخيرة، على سبيل المثال، صرح أنتوني كوربيل، أستاذ الدراسات الكلاسيكية في جامعة فرجينيا، لمجلة تايم بأن الاعتقاد السائد حول إشارة الإبهام غير صحيح. ووفقًا لكوربيل، فإن "إنقاذ المصارع هو الضغط بالإبهام على قمة القبضة، والموت هو رفع الإبهام بمعنى آخر، إنه عكس ما نعتقد"، لكن قد يصعب تغيير المفاهيم السائدة، خاصةً عندما تُركّز هوليوود جهودها على أمرٍ ما، لقد رسّخ فيلم "المصارع" الملحمي التاريخي الناجح للغاية للمخرج ريدلي سكوت في الوعي العام فكرة أن إشارة الإبهام التي نستخدمها اليوم جاءت من روما القديمة. لفتة من زمن الحرب على الرغم من استمرار سردية المصارع الروماني، يرجح أن المعنى الإيجابى الحديث لإشارة الإبهام قد تطور عبر قنوات ثقافية مختلفة على مر قرون عديدة، ورغم أن الأصول الدقيقة غير معروفة، يعتقد المؤرخون أن هذه الإشارة اكتسبت شهرة واسعة خلال القرن العشرين، لا سيما في الدول الناطقة باللغة الإنجليزية، وربما يعود سبب انتشارها إلى الحروب. وفقًا لقاموس أكسفورد الإنجليزي، فإن إحدى الحالات الأولى المسجلة لاستخدام إشارة الإبهام للإشارة إلى الموافقة ظهرت في كتاب Over the Top الصادر عام 1917 للكاتب الأمريكي آرثر جاي إمبى، الذى خدم في الجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى، في الكتاب، يشرح إمبي إشارة الإبهام بأنها تعبير تومى الذي يعني "كل شيء على ما يرام معي"، وتشير نظرية أخرى إلى أن الطيارين استخدموا هذه الإشارة للتواصل مع الشخص الذى يشغل المروحة في فحوصات ما قبل الطيران المبكرة. ثم انتشرت هذه الإشارة بين طياري المقاتلات خلال الحرب العالمية الثانية، حيث استخدموها للإشارة إلى الطاقم بأن كل شيء على ما يرام وأنهم مستعدون للإقلاع، لذا، فرغم أن إشارة الإبهام الحديثة ربما لم تأتِ من حلبة المصارعة، إلا أنها على الأرجح انتشرت خلال أكبر صراعين في العصر الحديث.


اليوم السابع
منذ 2 أيام
- اليوم السابع
نشرة المنوعات.. بسنت شوقى تتصدر تريندات جوجل وأبراج بتنجذب للضحكة الحلوة
نشر "قسم المرأة والمنوعات" خلال الساعات الماضية عدد من الموضوعات المتنوعة والتى جمعت بين عالم الموضة والأبراج والديكور، ونصائح الحياة العملية والتي أثارت جدلاً كبيراً على مواقع التواصل الإجتماعى، وغيرها من الموضوعات التى لاقت تفاعلاً من الجمهور، وحرصاً منا على ألا يفوت القارئ أي موضوع من الموضوعات الهامة، نستعرض أبرزها في هذا التقرير.. مسلسل ما تراه ليس كما يبدو.. إزاى تنجح فى الموف أون وتكتشف نفسك من جديد؟ بسنت شوقى تتصدر تريندات جوجل بسبب حمام الثلج.. اعرفى فوائده على بشرتك بسنت شوقى حارب حر الصيف بـ4 مشروبات صحية بدون سكر.. هتنعشك وتفرفشك لو ابنك داخل سنة أولى إبتدائى.. 4 خطوات هتساعد طفلك على الاستعداد للمدرسة 5 أبراج تنجذب لأصحاب الضحكة المرحة والعفوية.. بيحبوا الهزار والفرفشة


نافذة على العالم
منذ 2 أيام
- نافذة على العالم
ثقافة : حسين السيد يكتب: أحمد شوقى بقلم زكى مبارك
الاثنين 11 أغسطس 2025 05:50 مساءً نافذة على العالم - انشغل زكى مبارك كثيرا بأحمد شوقى وبأشعاره، وكتب عنه مقالات عدة نشرت فى العديد من المجلات، وقامت "كريمة" ابنة الدكتور زكى مبارك بجمع هذه المقالات من المجلات والكتب، وأخرجتها على صورة كتاب؛ لأن موضوعها واحد هو أحمد شوقى، وظهر الكتاب بعنوان "أحمد شوقى بقلم زكى مبارك". يعد زكى مبارك أول ناقد ينصف أمير الشعراء أحمد شوقى فى حياته، وتطيب نفسه لهذا الأمر، فكتب يقول: "إن نفسى لتطيب كلما ذكرت أنى كنت أول ناقد أنصف شوقى فى حياته"، وهو ما جعل شوقى يرضى عنه ويضمه إلى حاشيته، ويطلب إليه أن يكتب المقدمة الأدبية لديوانه، كما كتب الدكتور محمد حسين هيكل المقدمة التاريخية، لكن زكى مبارك رفض طلب شوقى؛ فقد خشى أن تصرفه المقدمة عن السكوت على هنات شوقى، أو بعبارته: "ليحتفظ بحقه فى النقد حين يخطئ". أحمد شوقى وعرض زكى مبارك الأمر على طه حسين، وكان يسكن آنذاك بجواره بمصر الجديدة، فما كان من طه حسين إلا أن لامه وأخبره بأنه قد أخطأ بعدم كتابته المقدمة، وقال: "ليتك استشرتنى قبل أن تصنع ما صنعت، ألا تعرف أنك أضعت على نفسك فرصة من التشريف؟ لو طلب منى شوقى ما طلب منك – وأنا خصمه - لاستجبت بلا تردد، فشوقى فى رأيى هو أعظم شاعر عرفته اللغة العربية بعد المتنبى"، فرد عليه زكى مبارك: "إنى أرى أنه أشعر من المتنبى". وهو فى نقده للجزء الأول من الشوقيات يختار بعض قصائد شوقى الجياد، فمثلا يرى أن "نهج البردة" أهم قصيدة بالديوان، كما يرى أن قصيدة "الأندلس الجديدة" من القصائد التى يجب حفظها عن ظهر قلب، وهى أعظم قصيدة جاد بها الشعر الحديث فى تصوير التعاطف بين الشعوب الإسلامية، ولهذا فإن زكى مبارك يخالف جميع النقاد الذين ذهبوا إلى أن عبقرية شوقى لم تتفتح إلا بعد نفيه فى الحرب العالمية الأولى إلى إسبانيا، لكنه يرى أن عبقريته تفتحت قبل ذلك وهو فى مصر قبل نفيه، مستشهدا بقصيدة الأندلس الجديدة التى نظمها عام 1912، مقدونيا والمسلمون عشيرةٌ كيف الخئولةُ فيكِ والأعمامُ أتَرَينهم هانوا، وكان بعزِّهم وعلوهم يتخايلُ الإسلامُ إذ أنتِ نابُ الليث كلُّ كتيبةٍ طلعَت عليكِ فريسةٌ وطعامُ ثم تأتى قصيدة "انتحار طالب"، ويرى زكى مبارك أنها قصيدة طوقت بها وزارة المعارف بأطواق من حديد، فالطالب المنتحر: ناشِئٌ فى الوَردِ مِن أيامِهِ حَسبُهُ اللَهُ أَبِالوردِ عَثَر؟ سَدَّدَ السهمَ إِلى صَدرِ الصبا وَرَماهُ فى حَواشيهِ الغُرَر بِيَدٍ لا تَعرِفُ الشرَّ ولا صَلُحَت إلا لتلهو بِالأُكَر ولا يتوانى زكى مبارك فى الاعتراف بالخطأ متى أدرك الصواب، ومن ذلك أنه ذكر فى كتابه الممتع "الموازنة بين الشعراء" أن الشاعر إسماعيل صبرى هو أول من سن مذاهب القول فى وصف آثار الفراعنة سنة 1904، لكن يطَّلع زكى مبارك على قصيدة ألقاها شوقى فى مؤتمر المستشرقين سنة 1894، وكان شوقى شابا فى مقتبل حياته. ويمضى زكى مبارك فى الوقوف عند بعض قصائد الديوان، وموقف شوقى من أحداث عصره. ويأخذ على شوقى فى نقده الجزء الثانى من الشوقيات عدم تأريخ القصائد، ويرى زكى مبارك لو أن شوقى فعل ذلك لأعفى النقد الأدبى من التعب فى تعقب أسباب الضعف والقوة فى شاعريته العصماء. ويذكر أن أقدم القصائد المؤرخة فى الديوان تعود إلى العاشر من سبتمبر سنة 1900، وهى قصيدة "طابع البريد". زكى مبارك وفى هذا الجزء أيضا نرى قصائد فرنسية وتركية ومصرية وسورية ولبنانية، ويوضح زكى مبارك سبب إفراط شوقى فى الإشادة بمحاسن سوريا ولبنان فى أخريات حياته، والسبب فى هذا يعود – من وجهة نظره- إلى إقبال أهل سوريا ولبنان على حفظ أشعار شوقى إلى درجة أنه لا يتذكر بعض القصائد التى مر عليها زمن طويل، ومع ذلك فهم يحفظونها، وشوقى من عادته أنه يحب من يحفظ أشعاره ويشيد بفضله، ولهذا فإنه – شوقى- كان يتلطف فى الحديث عن المسيحية مراعاة لنصارى الشام، فيقول زكى مبارك:"إن شوقى وجد فى نصارى لبنان رجالا يؤمنون بأدبه الرفيع فجازاهم وفاء بوفاء، وقال فى المسيح كلاما يقره أدب القرآن، وهل وصف المسيح بأفضل مما وصفه القرآن؟" ليقرر فى النهاية زكى مبارك أن شوقى لم يذق طعم النعيم إلا فى سوريا ولبنان، فقد كان فى أبناء تلك البلاد الجميلة من يسمع شوقى آلاف الآبيات من شعره فى اليوم الواحد، وكان فيهم من يسمعه قصائد غابت عن وعيه الدقيق، وكان شوقى يتلقى تلك التحيات بالبكاء. يتعرض زكى مبارك للعلاقة بين الشاعرين الكبيرين أحمد شوقى وحافظ إبراهيم، ويذكر أن المنافسة كانت شديدة بينهما، ويوضح الفارق بين الاثنين، وما يميز كل واحد منهما. فى البداية يؤكد زكى مبارك أن حافظ كان فى غاية الذكاء واللوذعية، وكان علمه بتاريخ العرب وآدابهم علما يفوق الوصف، وكان فهمه لدقائق الحياة المصرية أعجوبة الأعاجيب، فيما كان شوقى فرد من سواد الناس لا يمتاز بعبقرية ونبوغ. فما سر تفوق شوقى على حافظ؟! يجزم زكى مبارك أن "شهوة الحديث" هى التى أضعفت شاعرية حافظ، فقط كان كثير الحديث، وهذا ما أنهك قواه، فإذا خلد إلى بيته كان متهالكا من فرط الإعياء، أما شوقى فكان يمتاز بأنه رجل قليل الكلام، يؤثر الصمت، يهرب من الناس عند شروعه فى النظم، يهيم على وجهه من طريق إلى طريق، وكأنه فى حالة من الجنون، فهو يريد إلقاء القصيد لا الإكثار من الحديث. وهذه الحالة كانت تغضب حافظ، فإذا سمع أن شوقى يهرب من طريق إلى طريق انفعل واغتاظ أشد الغيظ، فهذا يعنى مولد قصيدة جديدة، وقد جرب زكى مبارك مرة أن يغيظ حافظ، فذكر له أن شوقى رآه يهيم على وجهه فى الطريق، فما كان من حافظ إلا أن صرخ وهاج. يذكر زكى مبارك أن الضغائن التى كانت بين الاثنين كانت تشبه ضغائن الأطفال، فسرعان ما تذوب بينهما، فعندما أقيمت حفلة عربية لتكريم شوقى ومبايعته أميرا للشعراء، أنشد حافظ قصيدته: أمير القوافى قد أتيت مبايعا وهذى وفود الشرق قد بايعت معى فقبَّل شوقى جبين حافظ والدموع الغزار تملأ عينيه. ولما مات حافظ رثاه شوقى بقصيدة تحمل الحب والوفاء والتقدير لحافظ: قد كنتُ أُوثِرُ أن تقولَ رثائى يا مُنصِفَ الموتى من الأحياءِ وفيها يقول أيضا: وودِدتُ لو أنى فِداكَ من الرَّدى والكاذبون المُرجِفونَ فِدائى الناطقون عن الضَّغينةِ والهوى المُوغِرُو المَوتى على الأحياءِ من كل هدَّامٍ ويَبنى مَجدَهُ بكرائمِ الأنقاضِ والأشلاءِ هذه القصيدة عدَّها زكى مبارك أعظم قصيدة قالها شوقى قبيل وفاته. وطبعا معروف من هو المعنىُّ بالبيتين الأخيرين، ومعروف من كان ينقض شوقى أشد النقض، وينتقص من قيمته وقدره، ويهدم بنيان شوقى ليقيم بنيانه. ويستمر زكى مبارك فى اختيار عيون قصائد الجزء الثانى ويشيد بها، لكنه لا ينسى أن يأخذ على شوقى أنه قد أسرف فى وصف مقبرة توت عنخ آمون، وأنه قد ذكر لها خصائص غير حقيقية، خصائص لم ترها عينا زكى مبارك الذى حضر افتتاح المقبرة عام 1922، فما وصفه شوقى ينطبق على أى مقبرة فرعونية أخرى.