
غزتي غزتي يا أمتي
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أمتي أمتي»، وكان يبكي من شدة حرصه على أمته، وذلك من شدة حبه صلى الله عليه وسلم لأمته وخوفه عليهم، وقد جاء في الحديث أنَّ الله تعالى أرسل جبريل ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب بكائه، رغم أنَّ الله يعلم بكل شيء، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أمتي أمتي»، فقال الله لجبريل: «قل لمُحمد: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك». من هنا يطرأ سؤال جهوري هل اتبعنا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم حق الاتباع، ألسنا نحن من أمته صلى الله عليه وسلم؟ أليس هو النبي الذي بكى عند الدعاء لأمته، وهو القائل: «وددت أني لقيت أحبابي». فقال الصحابة: "أولسنا أحبابك يا رسول الله؟"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أنتم أصحابي، وأحبابي قوم يأتون من بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله».
فماذا لو رآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا حالنا كيف سنُبرر له فساد الأحوال، وانتشار الذنوب والمعاصي؟ كيف سنشرح له انشغالنا بالدنيا وابتعادنا عن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، بل كيف سندافع عن تخاذلنا وتقاعسنا عن نصرة إخوتنا المسلمين في بقاع المعمورة. هذه حال أمتك يا رسول الله، تغير حالها كثيراً وأنت القائل: «تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، وحينما تم سؤالك أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قلت: «لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل». وها نحن اليوم كُثر، ولكن شغلتنا الدنيا وزينتها.. فعذرًا يا رسول الله..
"أمّتِي.. أمّتِي يا رب" قالها رسول الله الذي ربى المُسلمين على أن يكون هَمّهُم هو الأمة، غرس فيهم المودة والمحبة والرحمة والتعاطف والتعاون فيما بينهم، وعلمهم بأن أمتهم كالجسد الواحد يحزنون لما يصيبها، ويقفون صفاً واحداً في حل قضاياها في كل مكان وزمان. علمهم عليه الصلاة والسلام الوقوف صفا واحدا مع أمتنا في كل بلد مسلم بعيدا عن القوميات والجنسيات، فديننا واحد وربنا واحد وكتابنا واحد وقبلتنا واحدة ورسولنا صلى الله عليه وآله وسلم واحد، نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم، نعيش معهم همومهم ومعاناتهم، ونتضامن معهم، ننصرهم فكرا واغاثة وإعلاما، وموقفا سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وبالكلمة والمال والنفس والدعاء وهو أضعف الإيمان.
تشهد أمتنا اليوم واقعاً أليماً ومريراً، فقد فوصل بها الحال إلى أن تداس أجساد المسلمين وتدنس وتهتك أعراض المسلمات، وتهجر وتحرق وتسفك دماء الأطفال الأبرياء، فلا رحمة ولا شفقة بهذه الأمة، ولا دموع ولا حسرة، ولا همّ ولا تعب من أجلها، إنما هم أمتنا المصالح والكراسي والمناصب والدراهم.
فهاهي "غزة هاشم" خير برهان لحال الأمة لما وصلت إليه.. تباد منذ ما يُقارب العامين، سلبت أرضهم وحرقت ونسفت ودمرت بيوتهم وأصبحوا في العراء بلا مأوى ولا غذاء ولا دواء ولا ماء، وآلة العدو تدك شعب غزة يوميا وكل ساعة دون توقف والمجازر والإبادة الجماعية مستمرة ولا حياة لمن تنادي..!!، أليست هذه الأمة التي قال في حقها العزيز الحكيم(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).
فإلى متى هذا الصمت الدولي والعربي والإسلامي حيال هذا الحال الذي يدمي القلوب فقد صار مخزياً بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، أين الأمة التي نادى لها رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم:" أمتي..أمتي ؟ أين نصرة المظلومين المكلومين المستضعفين؟ أين النخوة العربية والإسلامية؟، وهل غاب الضمير الإنساني والقيم والمبادئ والأخلاق الإنسانية؟ أين العالم الحر والشعوب الحرة والمنظمات والهيئات والمؤسسات الأممية والدولية لإغاثة وإنقاذ شعب غزة؟ أين هؤلاء من رسول الله -صلى الله عليه وآله سلم- الذي كان يبكي لأجل هذه الأمة، ولأجل سعادتها، وخوفا على مستقبلها، ورغبة في نجاتها، كان يبكي -صلى الله عليه وسلم- رحمة بها وشفقة عليها.
"أمتي أمتي" هي عبارة تتكررت على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتعبر عن شدة حرصه وعظيم شفقته على أمته. هذا التعبير، الذي يبدو بسيطًا لكنه يحمل معاني عميقة ودلالات واسعة حول مكانة الأمة الإسلامية ومنزلتها عند الله وعند رسوله، فالعبارة تدل على عمق الشفقة والرحمة التي يحملها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قلبه تجاه كل فرد من أمته، فهو لا يرضى لهم الضلال أو العذاب. كما تدل على وحدة الأمة الإسلامية، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليها كجسد واحد، يتألم لآلامها ويفرح لأفراحها. وتبعث الأمل والرجاء في نفوس المسلمين، فهي تذكرهم بأن نبيهم لم ينساهم وأنه يدعو لهم في كل وقت وحين، وخاصة في الازمات والمواقف الصعبة.
إن تخلف الأمة اليوم أصبح قضية معقدة ومتعددة الأبعاد، فهناك العديد من العوامل التي ساهمت في هذا التخلف، بما في ذلك الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والخلافات والانقسامات وعدم الوحدة والتشتت بين الدول الإسلامية والمسلمين أنفسهم، مما أضعف تأثيرهم وقدرتهم على مواجهة التحديات والأزمات، وكذلك انتشار الجهل والتخلف العلمي وضعف الاهتمام بالتعليم والبحث العلمي، والابتعاد عن روح الابتكار والاكتشاف التي كانت سائدة في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية، وتفشي الفساد وانعدام الشفافية في بعض المؤسسات الحكومية والاجتماعية، مما أعاق التنمية وقوض الثقة.
فرغم ما تمتلكه أمتنا الإسلامية من مقوّمات حضارية وثروات بشرية ومادية، إلا أن طريقها نحو التقدّم لا يزال محفوفًا بالعقبات. في ظل العديد من المعوّقات التي كبلت حركة النهضة، حيث تنعدم في كثير من الأنظمة السياسية قيم العدالة والمساواة، وتُقمع فيها الحريات، ويُحاصر فيها الإبداع، فلا صوت يعلو فوق صوت الحاكم، ولا مشاركة حقيقية في صنع القرار.
ويضاف إلى ذلك التبعية الاقتصادية التي جعلت العديد من الدول الإسلامية أسيرة للقرارات الغربية، تابعة في سياساتها، مقيدة في خياراتها، فاقدة لقدرتها على رسم مسارات مستقلة تضمن لها السيادة والكرامة.
ولا يمكن إغفال ضعف القيادات في عدد من هذه الدول، إذ تفتقر الأمة في كثير من الأحيان إلى قادة يمتلكون الرؤية والحكمة، ويضعون مصلحة الأمة فوق مصالحهم الشخصية أو الحزبية.
ومع ذلك، لا يجوز أن يُسدل الستار على مشهد قاتم فقط، فثمة دول إسلامية حققت نجاحات ملموسة في مختلف المجالات، وثمة جهود جبارة يبذلها أفراد ومؤسسات لإصلاح الواقع، وبث روح جديدة في الجسد المنهك، وتقديم نموذج حضاري إسلامي يُحتذى به. لقد بدأت بعض السياسات تتحول في اتجاه إيجابي، مما يدل على أن الأمل ما زال قائمًا، والفرصة للتغيير ممكنة.
وفي خضم هذا الواقع، تأتي كلمات "أمتي أمتي" كنداءٍ حار يعيد إلى المسلمين شعور الانتماء، ويُوقظ فيهم الوعي بوحدتهم، ويحُثّهم على التعاون والتكاتف، ويذكّرهم بأنهم جزء من كيان عظيم يجب أن يعمل على نهضته ويقتدي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سعيه لبناء أمة راسخة عادلة.
وغزة، رمز الصمود وجرح الأمة النازف، تنادي من تحت الأنقاض، من بين صرخات الأطفال وآهات الشيوخ ودموع النساء. هناك، حيث لا مأوى إلا السماء، ولا فراش إلا الأرض، يصطفّ شعبٌ أعزل يُواجه أعتى آلة عدوان، لا لشيء إلا لأنه جزءٌ منّا، من هذه الأمة. أفلا يستحق هذا الشعب نصرتنا؟ أليس من حقه علينا أن نكون عونًا له في وجه الظلم؟ إنَّ ما يحدث في غزة ليس مُجرد مأساة إنسانية، بل هو اختبار حقيقي لضمير الأمة، ومقياس حيّ لمدى صدق شعارات الوحدة والتكافل والتضامن التي نرددها.
يا أمة الإسلام أين جهادكم
ودفاعكم عن حوزة القرآن
فكتابكم جمع الهداية كلها
وكذا العلوم لسائر الأزمان
إني أحب المتقين بقوة
وأحب من يحمي حمى الرحمن
سيروا إلى الهدى العظيم بهمة
وتسلحوا بعقيدة الإيمان
فالله خير حافظ لكتابه
وهو القوي بعزة السلطان
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الرؤية
منذ 3 ساعات
- جريدة الرؤية
عذق البيدار أين اختفى؟
ناصر بن حمد العبري ورد اسمها في القرآن الكريم، وجعلها الله مباركة في كل ما تحتويه النخلة، وأكرمها الآباء والأجداد، وهي أيضًا كانت كريمة في عطاياها من الثمار، حتى جعل الأجداد من كل نخلة عذقًا من الثمار، يتم وضع علامة عليه خاص لذلك المزارع الذي يقوم بالسقي والتنبيت وتحدير الثمار وتنظيف النخل من الكرب والزور اليابس والاعتناء بها. وهذا العذق يُقصد به زكاة ومكافأة لذلك المزارع، ولا أحد يقترب منه. وكانت النخلة تطرح ثمارًا وفيرة وبجودة عالية، وجعل الله فيها البركة. حتى تولّى الوافد تلك المهمة، ولم يعتنِ بها كما كان الأجداد، وكذلك اختفى ذلك العذق وقلّت الثمار، وأصبحت النخلة لا تُنتج مثل السابق، وكثرت أمراض النخيل المتعددة. ومن المعروف أن الوافد همه الوحيد هو المادة، والبعض يُسلّم الوافدين المزرعة مقابل مبلغ من المال كل سنة، فيصبح الوافد يعبث في الأرض بكل أنواع الكيماويات والمبيدات، حتى يحصل على إنتاج، ولو كان على حساب الصحة العامة والأرض. لذلك كثرت الأمراض، سواء في النخيل أو في الإنسان، من تلك الاستخدامات المفرطة في الكيماويات والمبيدات الحشرية. ومع شح المياه وقلة الأمطار، لا يُبالي الوافد باستخدام المياه بالمضخات، خصوصًا الذين يُركزون على زراعة البرسيم والأعلاف. رحم الله الآباء والأجداد الذين عاملوا الأرض والنخيل بعناية، فأعطتهم الثمار الوفيرة. ومع الوافدين... اختفى "عذق البيدار".


جريدة الرؤية
منذ 5 ساعات
- جريدة الرؤية
تأثر الكون بعمل الإنسان
محمد بن رضا اللواتي mohammed@ منذ أقدم الحضارات، آمن الإنسان بأن لعمله تأثيرا ما على الظواهر الكونية، فلقد نقلت الأبحاث في "الأنثروبولوجيا" هذا اللون من المعتقدات من الفكر الهندي الموغل في القدم، وفي المصرية القديمة، وفي السومرية وكذلك في الفلسفات الإغريقية. في الفكر الإسلامي، ظهر هذا الاعتقاد مجددا وسرى في معتقديه نظرا لأن القرآن الكريم أشار إليه بنحو رمزي جدا، كما نجد ذلك في قوله تعالى: " فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ "، قال ابن كثير في تفسيره للآية: " لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا ألا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم، وعتوهم وعنادهم ". ثم نقل خبرا عن رسول الله "عليه الصلاة والسلام" يقول فيه: " ما من عبد إلا وله في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه " . وذكر القُرطبي في تفسيره: " وقال مجاهد: إن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحا. قال أبو يحيى: فعجبت من قوله فقال: أتعجب! وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل! وقال علي وابن عباس -رضي الله عنهما: إنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ". وتنقل شتى المصادر الإسلامية عن وقوع ظواهر كونية غير طبيعية عصر عاشوراء غداة مقتل أبو الشهداء الإمام الحسين بن علي ومعه عترة النبي محمد "عليه الصلاة والسلام" عام 61 للهجرة، فهذا ابن حجر في الصواعق المحرقة ص:116 يقول: "ومما ظهر يوم قتل الحسين بن علي رضي الله عنه من الآيات أن السماء اسودت اسودادا عظيما، ولم يُرفع حجر إلا ووُجد تحته دم عبيط، وأخرج أبو الشيخ أن السماء احمرت لقتله وانكسفت الشمس وظن الناس أن القيامة قامت"، وأضاف: "نقل ابن الجوزي عن ابن سيرين أن الدنيا أظلمت ثلاثة أيام ثم ظهرت الحُمرة في السماء وقد أمطرت دما"، وقال: "وقال ابن الجوزي: إن غضبنا يؤثر حمرة الوجه، والحق تعالى وتقدس تنزه عن الجسمية فأظهر تأثر غضبه على من قتل الحسين بحُمرة الأفق، وإظهارا لعظيم الجناية". ويمكن مراجعة المصادر التالية للتأكد من تكرار ذكر هذه الظاهرة في أعقاب شهادة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (السنن الكبرى للبيهيقي ج:3، ص:237، ومجمع الزوائد ج:9، ص:197، والمعجم الكبير ج:4، ص:114، وفيض القدير ج:1، ص:65، وتاريخ دمشق ج:14، ص:238، وتهذيب الكمال ج:6، ص:433، وأنساب الأشراف ج:3، ص:197، والدر النظيم، ص:567، وسير أعلام النبلاء ج:3، ص:312، وتاريخ الإسلام ج:5، ص:15، ونُظُم الدرر ص:221، ومعارج الوصول ص:99، وامتاع الأسماع ج:12، ص:242، وبغية الطلب في تاريخ حلب ج:6، ص:637، وتهذيب التهذيب ج:2، ص:305، والوافي بالوفيات ج:12، ص:65، وينابيع المودة ج:3، ص:15، والعُمدة ص:406، وتفسير الثعلبي ج:8، ص:353، وتفسير القُرطبي ج:6، ص:141، والجرح والتعديل ج:4، ص:216، وذخائر العُقبى ص:145). اليوم، تشبه غزة المحاصرة "كربلاء" يوم العاشر من محرم عام 61 للهجرة، حيث منعوا الماء عن أسرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ثم أفنوهم عن آخرهم بمن فيهم بعض الأطفال الرضع، وها نحن الآن نرى أبشع جريمة تقع هذا العصر أمام ناظري العالم، حيث يُباد شعب برمته بتأييد من مجموعة حكومات الغرب الخبيث التي طالما رفعت شعارات حقوق الإنسان. لقد تُركت "كربلاء" في ذلك الوقت وحيدة تنزف الدماء التي رأى ابن عباس حبر الأمة في منامه أن النبي صلى الله عليه وسلم يلتقط الدماء النازفة ويحملها في قارورة، وتُركت غزة تواجه الإبادة وحيدة. ما أشبه الأمس باليوم! لن يتعلم المسلمون الدرس، ولا يزالون لا يتقنونه، وهو أن الكون لن يظل مكتوف الأيدي، مكتفيا بالتأثر لما تجري من جرائم على الأرض، وإنه في آخر المطاف بصدد قلب الطاولة على المستكبرين في الأرض بغير الحق، طبقا لقوله تعالى: " وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ "، فخاتمة المآل ليست لقوى الاستكبار ومن أرادوا العزة بجوارهم، وإنما هي للمستضعفين في الأرض، هذا هو القانون الإلهي الذي لا يتخلف: " وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ ". (*)


جريدة الرؤية
منذ يوم واحد
- جريدة الرؤية
ليظل ويبقى بيننا "الجميل" جميلًا
خالد بن سعد الشنفري الجميل، أحد مسميات عادة قديمة متبعة فيما يسمى بالمسؤولية أو المساهمة المجتمعية لإعانة المقدمين على الزواج في التخفيف من تكاليفه عليهم من مهر وولائم العرس وغيرها من المصاريف، للتشجيع والتيسير للأبناء لتكوين أسرة جديدة في المجتمع، وهي عادة قديمة ومتجذرة في المجتمع الظفاري، ويتفرد بها عن غيره من مجتمعات محافظات السلطنة والكثير من المجتمعات ويغبطونه عليها. إن تعدد مسميات هذه العادة أو العرف الذي أصبح عليه، مثل: الواجب، الدفتر، المحوشة، الجميل، لَدليل على أهميتها لديهم؛ (كن جميلاً ترى الوجود جميلاً). في النهاية، هي موروث ورثوه عن الأجداد وتناقلته الأجيال حتى وصل إلينا اليوم. بعد مقالي قبل عدة أيام في صحيفة الرؤية العمانية بعنوان: (ارتفاع تكاليف الزواج... إلى أين؟)، وتوالي عبارات الاستحسان والثناء عليه، والمطالبة من القراء، وخصوصًا من أبناء المحافظة، بالمزيد من الكتابة حوله والتسليط على أهمية المحافظة عليه في ظل ما يمر به مجتمعنا من تغيرات اقتصادية واجتماعية؛ ولِبالغ أهميته، كونه يتعلق بأهم مشروع يقدم عليه الإنسان في حياته، ألا وهو الزواج، (سنة الله في خلقه، وسنة الأنبياء والمرسلين)، والحثّ على التناسل والتكاثر؛ كما في الحديث الشريف: "تناكحوا تناسلوا، فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة" صدق رسول الله ﷺ. ومن أجل أن تتحقق لهذه الأسرة الجديدة السعادة الزوجية، لتتمكن من تشكيل نواة صالحة في المجتمع، ابتدَع آباؤنا الأوائل فكرة هذا "الواجب" أو "الجميل". لذا، وجب علينا أن نحافظ عليه نحن أيضًا، ولو من باب الوفاء بجميلهم علينا. أعتقد أنه سيتفق معي الكثير، إذا لم يكن الجميع، بأن ما وصلنا إليه اليوم من مغالاة في تكاليف الزواج، يُخشى معه بالتالي أن ندخل بذلك إلى دائرة المسرفين، والعياذ بالله، دون أن نقصد بالطبع، فحاشاكم جميعًا من ذلك. وفي ظل مفاهيم براقة مثل: فرح العمر، وليلة العمر، والظهور بمظهر أفضل من الآخرين، فيها قد لا نلتفت إلى أننا نغالي في مظاهر هذا الفرح، وهذا الإسراف في هذه الليلة، ونسرف بذلك من أجل إظهاره في أفضل صورة، وبالتالي نضطر، ويضطر أبناؤنا، للاستدانة من البنوك في بداية حياتهم الزوجية لإظهار الفرحة بهذا اليوم السعيد، والفرحة المنشودة غير المبررة أصلًا، وندخلهم بذلك إلى نوع من العبودية للبنوك الدائنة، لزمن لا يعلمه إلا الله مداه، وقد لا يخرجون من عنق زجاجته الضيقة، وبالتالي لا شيء سيتخلف من جراء ذلك إلا الاضطراب الأسري لحياتهم الاجتماعية والاقتصادية، والشقاء والتعاسة بدلًا عن الهناء والسعادة المنشودتين، وهذا ما يخلفه الدين الاستهلاكي غير المبرر عادة (همٌّ بالليل وذلٌّ بالنهار)، ولا تستقيم حياة أسرية هانئة، ولن يُربى في ظل عدم الاستقرار، أبناء تربية حسنة صالحة، والأسرة الجديدة قد أصبحت ما هي عليه من همٍّ وذلّ." فلنتقِ الله، إخوتي، في أنفسنا وفي أبنائنا، ويحب أن نهب جميعًا هبة رجل واحد، ونقول لهذه المغالاة في تكاليف الزواج: إلى هنا وكفى، ولنُغيّر ما بأنفسنا حتى يغيّر الله لنا ما هو خيرٌ مما وصلت إليه الأمور في هذا الجانب، وقبل أن تنعكس سلبًا على عاداتنا الجميلة في التعاون والتكاتف في إعانة المتزوجين من أبنائنا، ونوقف كل ذلك ونرجع به إلى الحد المعقول والمقبول. فالإقدام على الزواج هو إقدام على تحقيق سنّة إلهية في الأساس، وليس كرنفال أفراح تنافسي، ويفترض أن يتحقق بمجرد الإشهار والمشاركة (أولِم ولو بشاة). ومن جانب آخر، علينا أيضًا مراعاة ظروف من حولنا من المساهمين في هذا الواجب المادي، والذين انبروا بنخوة وشهامة، رغم كل ما يمرّون به من ظروف حاليًا، للمشاركة المادية والمعنوية (ويؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة). بصريح العبارة، ومِلءُ الفم نقولها، وبعد أن أشبعنا الموضوع حوارات جانبية بيننا دون نتيجة، ويمرّ بعد ذلك مرور الكرام دون حل، وعليه، فلا بد من الشجاعة الأدبية والمواجهة الحقيقية، وإبراز هذا الموضوع للعلن بيننا والتوقف للمعالجة. واجتهاد شخصي مني كفرد من هذا المجتمع لإيجاد بعض حلول أعتقد قد تكون ناجعة وتساعد على الحدّ من هذا الارتفاع في التكاليف؛ بما أن متوسط المهور حاليًا عندنا في حدود خمسة آلاف ريال عماني، وهو يعد معقولا في ظل الغلاء الحالي في الأسعار، أرى أن على أهل العروس، الذين نعلم جميعُنا بأنهم يدفعون حاليًا ضعف مهر ابنتهم فيما يُسمّى (جهاز العروس)، وأن هذا الجهاز أو التجهيز قد تنامى باطراد ومغالاة في الآونة الأخيرة دون مبرر ولا داعٍ، عليه فإن تجهيز العروس بمهرها الذي حُدِّد لها أساسًا يُفترض أن يفي بالغرض منه، وبالتالي لا ضرر ولا ضرار، وهذه قاعدة شرعية، فالعريس أساسًا لا يطلب إلا عروسته، وهي أفضل هدية تُقدَّم له. ثم إن هدية الخطوبة بدورها أصبحت خارجة عن إطار الهدية المتعارف عليها، وأصبحت تتجاوز حدود ألفَي ريال عماني، ولا داعي لها، أيها العريس الهمام، فأنت أفضل هدية أساسًا لعروستك. كذلك، هدية الزوج ليلة الدخلة لزوجته وأمها (الخالة): ألف ريال أو قيمتها ذهبًا للعروس، وخمسمائة ريال عماني أو قيمتها ذهبًا لأم العروس، يُفترض أن تقتصر على أم العروس فقط، كما عرفناه سابقًا، لأن العروس هديتها يُفترض ألا تُقدَّر بثمن، فالهدية هدية، وليست مهرًا جديدًا. أخيرًا، وليس آخرًا، الوليمة -سواء كانت في قاعة أو خيمة- ينبغي أن نتجنب الإسراف فيها قدر الإمكان، فقد أصبحت تُناهز خمسة آلاف ريال عماني، أي عشرة آلاف لبوفيه الرجال والنساء، وتُعتبر كثيرة لعريس متوسط الحال، ومعظمنا اليوم أقل من متوسطي الحال في هذا الوقت العصيب على الجميع. فحبّذا لو عدنا إلى وليمة الأعراس القديمة، وتُعتبر موروثًا وتراثًا معنويًا، والمكونة من قبولي اللحم أو مرقة اللحم بالأرز (التقزّوحة)، مع الحلوى العُمانية والبارد والقهوة. ونأتي أخيرًا إلى مربط الفرس، وهو مبلغ الواجب أو الدفتر أو الجميل، والذي إذا طبقنا المقترحات أعلاه، سنجد أن تكاليف الزواج قد تناقصت إلى أقل من 50٪ وأكثر مما هي عليه حاليًا، وبالتالي يمكننا أيضًا من جانب آخر النزول بمبلغ المساهمة (الواجب أو الدفاتر) إلى نصف المبلغ المتعارف عليه حاليًا، وهو 20 ريالًا كحد أدنى إلى 10 ريالات، باستثناء بالطبع فيما بين الأرحام والأهل والأقارب، أو من كان مُقتدرًا ويريد أن يزيد مشكورًا عن ذلك، ونعتبرها في ميزان حسناته. ونضمن بذلك، وهذا هو الأهم، أكبر عدد من الحضور والمشاركة، وهي بيت القصيد في الأول والأخير. أدام الله علينا نعمة أفراحنا، ونعمة خريفنا، ومواسم زيجاتنا.