logo
الإسراء بالفلسطينيين من جنوب غزة إلى شمالها

الإسراء بالفلسطينيين من جنوب غزة إلى شمالها

الشروق٠٩-٠٢-٢٠٢٥

﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾،[سورة الإسراء، الآية: 1].
وسبحان الذي أسرى بالفلسطينيين ليلا من جنوب غزة إلى شمالها الخصيب.
وإذا كان من معجزات الإسراء بنبينا محمد، عليه السلام، من مكة إلى بيت المقدس، طي المسافات، ووضع العلامات، واستخلاص المعاني والعظات.
فإن من آيات الإسراء بالفلسطينيين من شمال غزة إلى جنوبها، آية المسيرة الجماهيرية المنتشية، وهي ترسم بأهازيجها ومرحها، ملحمة التحرير، لإسقاط مؤامرة التهجير.
وعلى وقع نشيد 'سوف نبقى هنا، لنؤدي فرضنا، ونعمر أرضنا، ونصون عرضنا'، أفرزت ملحمة غزة، هذه المدينة الصامدة التي كانت صخرا جغرافيا، قد يتحطّم، ولكنه فولاذا تاريخيا لا يلين.
أثبتت غزة، بملحمتها الدموية، ومقوماتها الإيمانية، وجماهيرها الملائكية، استهانتها بمسافة المكان، ومعضلة عامل الزمان.
كما قدّم شعبها الفلسطيني البطل والمقاوم، صورة للعالم عن وضعها للمقدمة الصحيحة، للانتصارات المستقبلية التي ترسم ولاشك، الخط البياني المتين، نحو الوصول إلى المسجد الأقصى.
إن حط الرحال في محطة نتساريم بعد تحريرها من الجيش الصهيوني، يترجم مدى صلابة الإرادة، وتجسيد الثبات على تعزيز مقومات السيادة.
سبحان من أسرى بكم، يا أهل غزة، إلى شمالها، لتحطّوا بعزمكم القدير، وصبركم الكبير على مؤامرة التهجير، من غزتكم، إلى بلد الغير، بتواطؤ من المتآمرين المساندين لعصابة الإبادة والتهجير.
إن من معجزات إسراء الغزاويين، الانطلاق من اليقين الثابت الذي ليس هو يقين الإنسان الاجتماعي العادي، ولكنه يقين الإنسان الإلهي المؤمن بربه وشعبه.
من كان يملك غنى في القلب، وقوة في الإيمان، وتموضعا في الحياة، لا يمكنه إلا الثبات على الخطوة المتقدمة، وإن لم تتقدم، واحتقار الضعف، وإن طغى وتسلط، ومقاومة الباطل وإن عمّ وساد.
إننا عندما نخضع تسلسل الأحداث الجارية في غزة، ونقرأها القراءة المتأنية الدقيقة والعميقة، يتراءى لنا من خلالها أناس حملوا في نفوسهم شموسا لقلوبهم، يستضيئون بها، ولعلهم الذين عنيهم القرآن الكريم بقوله: ﴿يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾،[سورة الحديد، الآية: 12]، وذلك ما يفسّر كون كل فرد من جماهير غزّة الزاحفة نحو الشمال، يحمل قوة وطن في جسم إنسان، وتلك آية من آيات الله في غزة.
إن سر الإعجاز في مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين كانوا زاحفين نحو الشمال الغزاوي، يحدوهم الفرح والمرح، ويستبدّ بهم حماس العائد إلى وطنه، إنما كانت قدوتهم ما أبدعته الشحنة الإيمانية المستوحاة من كلمة الألوهية، في بداية النور الإسلامي، فكان النموذج الأمثل لإخراج الأمة وبعثها في رحلة نحو الحياة، لتكون ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾،[سورة آل عمران، الآية: 110].
من هنا استوحى الإسراء الفلسطيني في غزة، قدوته من النور الأول، ليستبين به الطريق الموصل إلى النصر الأول في غزة، قبل أن يتواصل لتحقيق النصر الأكبر، نحو المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وسبحان الذي أخرج أسباب اللذة من أسباب الألم.
إن سر الإعجاز في مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين كانوا زاحفين نحو الشمال الغزاوي، يحدوهم الفرح والمرح، ويستبدّ بهم حماس العائد إلى وطنه، إنما كانت قدوتهم ما أبدعته الشحنة الإيمانية المستوحاة من كلمة الألوهية، في بداية النور الإسلامي، فكان النموذج الأمثل لإخراج الأمة وبعثها في رحلة نحو الحياة، لتكون ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾،[سورة آل عمران، الآية: 110].
لقد سجد العقل الإنساني، بجميع مكوّناته لآيات المسيرة الغزاوية، وإن في ذلك لعبرة.
وتتوالى الآيات والمعجزات في ملحمة غزة العسكرية والسياسية والشعبية، فها هن الأسيرات الإسرائيليات، بعد أن أفرج عنهن، يحملن آيات أخرى للحكم بتهافت كل الدعاوى الصهيونية، وأبرزها:
جمال السحنة البادية على وجوههن، وعلى أجسامهن، وكأنهن كن في سياحة، ولم يكن وسط أناس مطوّقين بالحصار، والبعد عن الدار.
تعلّمن العربية، والتحية بها، بل وتلاوة القرآن الكريم من بعضهن، وقد تكون من بينهن من أسلمت، بسبب حسن المعاملة في الأسر، وتجسيد الأخلاق الإسلامية في المعاملة معهنّ.
الحماية التي حظين بها خلال الأسر، مما جعل الألفة تتعمق بين الحراس والأسيرات، وهو نقيض ما بدا عليه السجناء الفلسطينيون، من هزال في الجسم، وجراح في كل مكان…
وعجبت بعد كل هذا، مما يحدث في رحاب السياسة، فالقادة الأمريكيون الذين يتبجّحون بترديد تحرير الأسرى الصهاينة على أقليتهم، لا يجرؤون على الحديث عن المساجين الفلسطينيين، على أكثريتهم، وطول معاناتهم.
فأين الوفاء لحقوق الإنسان، يا دعاة حقوق الإنسان ظلما وزورا؟
وبماذا يجادل دعاة التطبيع عندنا، والمجادلون عن 'حق إسرائيل في الحياة' حينما يجابهون بهذه الحقائق الدامغة، من صلب المعاناة؟
اللهم إننا نبرأ إليك، مما يأتيه بعض المنتمين إلينا، والناطقين باسمنا، عندما يطلقون ألسنتهم بالسوء في حق المقاومة والنبز واللمز والغمز في حماس تحديدا.
إن الآيات ما فتئت تترى كل يوم، في سماء غزة، وجنين، والقدس الشريف، ليظهر الله بها علامات انتصار الحق على الباطل، تجسيدا لقوله تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾،[سورة الأنبياء، الآية: 18].
وبعد، فقد أزفت ساعة النّصر، بعد الليل الطويل الذي عاشه الفلسطينيون، وعانوا فيه القتل، والسجن، والتهجير، والهدم، ولكن ذلك كله تحطّم على صخرة الإيمان القويم، والوعي السليم، والتجلد العظيم.
وها هي المقاومة، بالرغم من كلّ ما قدّمت من شهداء، وما لقيت من عناء، ها هي تخرج أقوى مما كانت عليه، فهي تثخن في العدو، في كل مكان، وفي كل زمان، جراحا وأتراحا، وتقبل المتطوعين من الشباب على صفوفها، بعد ما عاينوه من صمود وثبات.
بل إن استشهاد القادة من الصفوف الأولى، ما هو إلا عنوان على الإقبال لا الإدبار، وعلى الثبات لا الفرار، ويكفي أن يحيى السنوار قد خلفه محمد السنوار، والبقية تأتي.
فإلى مزيد من الثبات، وإلى مزيد من البطولات، فالنصر العظيم قاب قوسين أو أدنى، وقد سلّم بهذه الحقيقة الأعداء قبل الأشقاء، والغرباء قبل الأصدقاء، وذلك هو منطق التاريخ، وقوام السنن، ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾،[سورة الأحزاب، الآية: 62].

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

رئيس مجلس المستشارين محمد ولد الرشيد يجري مباحثات مع رئيس مجلس النواب البحريني و رئيس برلمان مقدونيا الشمالية
رئيس مجلس المستشارين محمد ولد الرشيد يجري مباحثات مع رئيس مجلس النواب البحريني و رئيس برلمان مقدونيا الشمالية

حدث كم

timeمنذ 3 ساعات

  • حدث كم

رئيس مجلس المستشارين محمد ولد الرشيد يجري مباحثات مع رئيس مجلس النواب البحريني و رئيس برلمان مقدونيا الشمالية

اجرى رئيس مجلس المستشارين، السيد محمد ولد الرشيد، يومه الجمعة 23 ماي 2025، محادثات مع السيد أحمد بن سلمان المسلم رئيس مجلس النواب بمملكة البحرين الشقيقة. وخلال هذا اللقاء الذي جرى بمناسبة انعقاد الدورة الثالثة من منتدى مراكش الاقتصادي البرلماني للمنطقة الأورومتوسطية والخليج بمراكش تحت الرعاية الملكية السامية،تم التأكيد على متانة العلاقات الأخوية التي تجمع بين المملكة المغربية ومملكة البحرين تحت القيادة الرشيدة لعاهلي البلدين جلالة الملك محمد السادس وأخيه جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة حفظهما الله. و جدد الطرفان إرادتهما المشتركة وعزمهما الأكيد على تعزيز التعاون البرلماني الثنائي والمتعدد الأطراف ، وتكثيف تبادل التجارب والخبرات بين المؤسستين التشريعيتين بالبلدين الشقيقتين. كما تم التطرق أيضا إلى عدد من القضايا ذات الاهتمام المشترك المسجلة على جدول أعمال المنتدى ، ولا سيما التحديات الاقتصادية والتنموية التي تواجه المنطقتين المتوسطة والخليجية ، ودور البرلمانات الوطنية والمنظمات البرلمانية في مواكبة التحولات الكبرى على المستويين الإقليمي والدولي، من خلال تطوير التشريعات والأطر التنظيمية والمؤسساتية، وتشجيع المبادرات الهادفة، وتعزيز التواصل بين الفاعلين البرلمانيين والاقتصاديين وممثلين الأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني. ذوبالمناسبة ايضا، اجرى السيد رئيس مجلس المستشارين، محادثات مع رئيس برلمان جمهورية مقدونيا الشمالية، السيد أفربم غاشي. وقد شكل هذا اللقاء فرصة للتأكيد على أهمية تعزيز العلاقات البرلمانية بين المغرب وجمهورية مقدونيا الشمالية، بما يسهم في تطوير سبل التعاون الثنائي بين البلدين في مختلف المجالات ذات الاهتمام المشترك، لا سيما في ظل تفاقم التحديات التي تواجه المنطقة الأورومتوسطية والعالم. وأشاد الجانبان أيضا بمبادرة مجلس المستشارين في تنظيم هذا المنتدى الذي أضحى، مع توالي السنوات، منصة برلمانية رفيعة المستوى لتعزيز الحوار والتنسيق بين البرلمانات الوطنية والإقليمية في المنطقتين الأورو-متوسطية والخليجية خدمة للسلم والاستقرار والتنمية المستدامة. س.ح/ح

حكيم الجزائر محمد البشير الإبراهيمي في الذكرى الستين لوفاته
حكيم الجزائر محمد البشير الإبراهيمي في الذكرى الستين لوفاته

الشروق

timeمنذ 6 ساعات

  • الشروق

حكيم الجزائر محمد البشير الإبراهيمي في الذكرى الستين لوفاته

إي والله، حكيم بأتمّ معنى الكلمة، وقد عقّب هو نفسه على من قال عنه 'علّامة الجزائر'، بقوله 'أنا علّامة الجزائر، وعلَامة رفع لا علامة خفض'… وآية حكمته ما قرأناه له فيما وصل إلينا من آثاره التي نُشرت في خمس مجلدات، بإشراف ابنه الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وهي ما بقي مما كتب وما وصلنا من آثار حفظتها لنا الجرائد والمجلات… أما ما ألّف من كتب في فنون متنوعة فكثير، ولكنه ضاع مع ما ضاع من رسائل ومقالات أخرى وأحاديث إذاعية في العالم الإسلامي؛ بل ومقابلات مع الكثير من رجال الفكر والدعوة في العالم الإسلامي -بكل أسف- ومنها لقاؤه مع الأستاذ أبو الأعلى المودودي في زيارته لباكستان. قال لي الأستاذ محمد الهادي الحسني يوما 'عزمتُ على ألا أقرأ لأحد بعد اليوم إلا للإبراهيمي'، وحق له ذلك؛ لأن من يقرأ للإبراهيمي، يشعر أنه يقرأ كلاما غير عادي: مفردات وأسلوب وجمل متجانسة، لا تشعر بمفردة مقحمة في غير سياقها الذي وضعت فيه؛ بل لا يشعر بتكلّف أو تصنّع في شعر أو نثر أو سجع أو تصنّع في إيراد عبارات من مفردات عربية قديمة يريد الاستعلاء بها عن الناس… بل ويشعر من يقرأ للإبراهيمي، أنه يقرأ لأديب من الطراز العالي، حتى أن إعلام العراقيين استقبلوه في زيارته لبغداد في إطار الترويج للثورة بعناوين عريضة منها 'أمير البيان'، التي لم يعرف بها إلا شكيب أرسلان، ويقرأ لفيلسوف وعالم في تربية وعالم في الاجتماع ومؤرخ… وكل ذلك يكتب فيه كتابة المتخصِّص وليس ككاتب المقال الملزم بتسليمه كل أسبوع… وفي كل ذلك من الحكمة الكثير التي لم يؤتها الكثير من الناس. يرى الشيخ الإبراهيمي أن الشعب الجزائري قد استولى عليه استعماران: الاستعمار الغربي الفرنسي الذي حاول تجريده من إنسانيته بالتجهيل والتفقير والاستيلاء على مقدراته واستعباده وتجريده من مقوماته الثقافية والدينية، والاستعمار الذي تمثله الطرق الصوفية المنحرفة التي استولت على عقول الناس بالتدين المغشوش المختلط بالخرافة والشعوذة والبدعة. الشيخ محمد البشير الإبراهيمي لمن لا يعرفه، واحد من رجال الإصلاح في الجزائر ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد ابن باديس، تُوفي في 20 ماي 1965، أي قبل شهر من الانقلاب على خصمه السياسي أحمد بن بلة… وقد عاش 76 سنة بين الحجاز والشام والجزائر، كما عاش في الجزائر بين راس الواد ببرج بوعريريج وسطيف شرقا وتلمسان غربا وآفلو جنوبا… طالبا للعلم ومعلما ومدرِّسا ومنفيا وداعية إلى الله رفقة إخوانه من رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وإثباتا لدعوى حكمة الإبراهيمي اكتفي بهذه المناسبة بعرض ثلاثة نماذج من الحِكم البليغة التي زين بها مقالاته… وهي من الحكم التي تعدّ من مفردات الأصول في منهجية الفعل الإصلاحي عموما، وقد تبنتها جمعية العلماء ونسبتها للشيخ الإبراهيمي، لأنه هو الذي عبّر عنها في النصوص التي ننقلها عنه، ومن ناحية أخرى هو مع ابن باديس هما عمدة الجمعية والعمل الإصلاحي عموما في الجزائر، من حيث أنهما كانا يخططان وينفذان وفق رُؤى واضحة بالنسبة إليهما تمام الوضوح، ولذلك سهُل عليهما التعبير عنها بسهولة ويسر ودقة تامة. الحكمة الأولى: كشف عنها الإبراهيمي في مقال له عن بذور الأولى لتأسيس جمعية العلماء في الجزائر، وذلك في سنة 1913 عندما زاره ابن باديس في المدينة المنورة، وكان عمره يومها 24 سنة، وقد عكفا على مناقشة موضوع النهوض بالجزائر والكيفية المناسبة لذلك فقال 'كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء هي: ألا نتوسَّع له في العلم، وإنما نربّيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، فتمّت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا'. آثار محمد البشير الإبراهيمي 5/280. ولبُّ الحكمة في هذه الفقرة هي قوله: 'فكرة صحيحة ولو مع علم قليل'، على خلاف ما يعتقد الناس في الغالب، من أن الإكثار من العلم هو المطلوب والذي ينبغي الاهتمام به، فقد اختار الرجلان التركيز على 'الفكرة الصحيحة' وليس على الإكثار من العلم؛ لأن العلم القليل مع الفكرة الصحيحة التي تعني صفاء الذهن وخلوَّ العقل من الخرافة والشعوذة والبدعة وانحراف السلوك، والخوف والجبن والخور، أولى من كثرة العلم مع وجود الخرافة والشعوذة والبدعة وانحراف السلوك؛ لأن صفاء الذهن واستقامة العقل ينمّيان العلم القليل ويزكيانه، أما الإكثار من العلم لا يقوى على تقويم الذهن وإخلاء العقل وتصفيته من الخرافة والشعوذة والبدعة. يرى الشيخ الإبراهيمي أن الشعب الجزائري قد استولى عليه استعماران: الاستعمار الغربي الفرنسي الذي حاول تجريده من إنسانيته بالتجهيل والتفقير والاستيلاء على مقدراته واستعباده وتجريده من مقوماته الثقافية والدينية، والاستعمار الذي تمثله الطرق الصوفية المنحرفة التي استولت على عقول الناس بالتدين المغشوش المختلط بالخرافة والشعوذة والبدعة. ولتحرير المجتمع من هذين الاستعمارين لا بد من بناء العقل وتمجيده، وتصفية الذهن وتنقيته من كل ما علق به مما يخالف صحيح الوحي وصريح العقل السليم. وبالفعل فقد عاد ابن باديس في ذلك العام 1913 وشرع في تنفيذ الخطة في جامع سيدي قموش والجامع الأخضر بقسنطينة، ثم لحق به الشيخ البشير بعد نحو سبع سنوات ليسير على النهج نفسه، ثم لحق بهم خلقٌ كثير من علماء الجزائر من داخل البلاد ومن القادمين من خارجها، وواصل الجميع العملية البنائية وفق تلك المنهجية المتفق عليها: 'فكرة صحيحة ولو مع علم قليل'… لأن الفكرة الصحيحة تجلب العلم وتُكثره، أما العلم بمفرده بكثرته فلا يقوى على مقارعة الانحرافات العقدية البدعية والسلوكية، ولذلك وجدنا علماء كبارا ولكنهم خرافيون وبدعيون بل ومتآمرون مع الطواغيت على الشعوب المغبونة. الحكمة الثانية: هي العمل على تحرير العقول، وفق المنهج والعبارة ذاتها التي وضعها الإبراهيمي في ذلك قوله: 'محال أن يتحرّر بدَنٌ يحمل عقلًا عبدًا'، (آثار الشيخ الإبراهيمي 3/56) ذلك أن العبد لا يمكن أن يكون إلا عبدا. والعبد ليس العبد المملوك فحسب، وإنما هو كل إنسان لا يملك عقلا حرّا يتفاعل مع الوجود وفق قناعاته ومقرراته النابعة عنها. ومن فقد هذا المستوى من الحرية يعدّ عبدا بسبب فقدانه الحرية العقلية، واعتبر الإبراهيمي ذلك من جوهر ما يعمل عليه العلماء في نشاطاتهم الإصلاحية بل اعتبر ما تم في الجزائر من ذلك 'من صنع يدها، لا فضل فيه لأحد سواها، وأوّل يدٍ بيضاء لها في هذا الباب هو تحرير العقول من الأوهام والضلالات في الدين والدنيا، وتحرير النفوس من تأليه الأهواء والرجال، وإن تحرير العقول لأساسٌ لتحرير الأبدان، وأصْلٌ له، ومحال أن يتحرّر بدَنٌ يحمل عقلًا عبدًا'، وجميع توجيهات الشيخ التربوية داخل الجمعية وخارجها يصبّ في هذا الاتجاه. يقول أحمد طالب الإبراهيمي: 'أنني عندما نجحت في امتحان البكالوريا سنة 1949، استشرتُ والدي عن نوعية الدراسة العليا التي ينصحني بإتّباعها، فقال لي رحمه الله: اختر ما شئت، شريطة أن تمارس مهنة حرة، ألا تصبح موظفا عند الحكومة الفرنسية'. حتى لا يستعبدك أحد ويضغط عليك بالوظيفة والسعي وراء الخبزة. أحمد طالب الإبراهيمي/ آثار محمد البشير الإبراهيمي 1/23. والحرية هي جوهر ما كانت تهدف إليه جمعية العلماء في نشاطاتها التربوية، سواء في الاختيار الأول وهو العمل على 'الفكرة الصحيحة' التي تهتم ببناء العقل وتجريده مما علق به من أدران الخرافة والجهل… أو في التوجيه العامّ المفضي إلى التحرر من ربقة الاستعمار وامتداداته المتنوعة؛ بل إن ابن باديس اعتبر 'المطالبة بالاستقلال' لا يعبِّر حقيقة عن السعي من أجل الحرية؛ لأن الاستقلال نتيجة تتحقق بمقدماتها… أما الاستقلال من حيث هو فتحنّ إليه الدواب، ولا يتحقق بالمطالبة، وإنما يتحقق بالانتزاع، ولا يُنتزع إلا بالنفوس الحرة الأبيّة. الحكمة الثالثة: هي 'فقه الفقه' وذلك في قوله 'إن في الفقه فقهًا لا تصل إليه المدارك القاصرة، وهو لباب الدين، وروح القرآن، وعصارة سنة محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو تفسير أعماله وأقواله وأحواله ومآخذه ومتاركه؛ وهو الذي ورثه عنه أصحابُه وأتباعهم إلى يوم الدين، وهو الذي يسعد المسلمون بفهمه وتطبيقه والعمل به، وهو الذي يجلب لهم عز الدنيا والآخرة، وهو الذي نريد أن نحييه في هذه الأمّة فتحيا به، ونصحّح به عقائدها، ونقوّم به فهومها، فتصحّ عباداتها وأعمالها، فإن العبادات هي أثرُ العقائد، كما أن الأعمال هي أثر الإرادات، وما يُبنى منها على الصحيح يكون صحيحًا، وما يُبنى على الفاسد فهو فاسد' (آثار محمد البشير الإبراهيمي 3/ 191)، وعبارة 'فقه الفقه' التي لم أقف عليها عند أحد ممن قرأتُ لهم، يمكن اعتبارها عنوان 'علم المقاصد'… وذلك هو جوهر التديُّن الذي يريده الله منا، سواء في الأمور معقولة المعنى أو في الأمور التي لا تخضع للعقل، وإنما هي من العبادة التي جاء بها الوحي الصحيح.

النفاثات في العقد
النفاثات في العقد

الشروق

timeمنذ 10 ساعات

  • الشروق

النفاثات في العقد

كل من قرأ كتاب الشيخ أحمد حماني 'الصراع بين السنة والبدعة'، أو كما سماه الراحل أيضا: 'القصة الكاملة للسطو بالإمام الرئيس عبد الحميد بن باديس'، يلاحظ ما بذله رائد النهضة الجزائرية من جهد واجتهاد، لأجل أن يحرر العقول من الخزعبلات، التي عشّشت فيها، وساهم الاستعمار في ترسيخها، من خلال رفع قيمة وسلطة الطرقيين و'المرابطين' كما كانوا يُسمّون في ذاك الزمن التعيس. وبحسب رواية الراحل أحمد حماني، وهو تلميذ الشيخ ابن باديس، فإن رائد النهضة لم يتوقف عند الخطب والكتابة، فكان يطرق أبواب المشعوذين، فإن عجز عن منعهم عن النصب على عامة الناس، استعمل القوة لردعهم، وكان لا يرى أي نهضة ممكنة للأمة من دون أن تُكنس هذه الطائفة من مجتمعنا ويُكنس خصوصا ما عشّش في عقول الناس بأن هؤلاء بإمكانهم الإتيان بالأذى وأيضا بالخير، ويعتبر ذلك شركا يُبعد فاعله عن الإسلام الذي جاءت فرنسا لأجل قبره. يحزّ في النفس أن نقرأ في الصحف عن مشعوذ جمع أموالا قارونية في ظرف وجيز، ويحزّ في النفس أكثر عندما نعلم بأن من ضحاياه أو دعونا نقُل من 'المسلّمين المكتّفين' كل أطياف المجتمع بما في ذلك من حملوا شهادات جامعية، وحتى لا نترك الأمور تسير إلى الاتجاه الخطأ، فإن هذه الحملة التي نظمها بعض الشباب عن حسن نية لأجل تطهير المقابر، يجب أن تتوقف حالا، فمن غير المعقول أن يؤمن هؤلاء بأن الصور التي وُجدت مدسوسة في التراب أو الأقفال والتمائم بإمكانها أن تؤذي آمنا في بيته أو مسالِمة تعيش حياتها في هدوء. قرأنا كل النسخ الأصلية من صحف الشيخ ابن باديس، من 'المنتقد' إلى 'الشهاب'، وكل الافتتاحيات التي كان يتفضل بها الشيخ ابن باديس مع رعيله الفاضل وطائفة من علماء الجمعية الأجلاء، وكانت صحيفة 'الشهاب' تضع ركنا خاصا بالفتاوى يتولى رائد النهضة الإجابة فيه عن تساؤلات أبناء الجزائر منذ قرن من الزمان، فلم تستوقفنا قطّ حكايات عين الحسود والسحر المتمكّن أو الجن الساكن في الأجساد أو الرقية التي يجب أن تنقذ هذا الشعب البائس، الذي تتهاطل عليه الشرور من المسمى 'شمهروش'، حتى إنك تخال السنوات الأخيرة للشيخ ابن باديس كانت منيرة وأسّست لفكر علمي وثوري، أنجب فكر مالك بن نبي وعبد الرحمان شيبان وأحمد زبانة وعبد الحميد مهري والعربي بن مهيدي… أكيد، أن التشوّهات التي تطال أعضاء الموتى، من قطع أصابع وأيدٍ أو دسّ في تراب القبور للصور والمسامير والشعور، هو جريمة يُسأل عنها الفاعلون وحتى مصالح البلدية العاجزة عن حماية ميّت في قبره، لكن التشوّهات التي طالت عقول الأحياء، أكثر إيلاما، فالسحر لا يحقق مراده، وقد قال تعالى: 'ولا يفلح الساحر حيث أتى'، والغيب لا يمتلك مفاتيحَه غيرُ الله، وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: 'ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير'، والذين ينظّفون القبور، عليهم أن يقتنعوا بأنهم ينظفونها من الوسخ والرجس، وليس من أذى الناس، وإلا دخلوا دائرة المؤمنين بقوة السحرة.. دائرة الشرك.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store