
تقاطع النفوذ الإماراتي والمغربي في أزمات الساحل الإفريقي
على امتداد صحراء الساحل الإفريقي، تتساقط الأنظمة الواحدة تلو الأخرى. انقلاب في النيجر، اضطرابات في مالي، انسحاب فرنسي مرتبك، وتقدّم محسوب لقوات فاغنر الروسية. لكن في زوايا الخريطة، تظهر قوى أخرى تتقدم من دون ضجيج: الإمارات العربية المتحدة والمملكة المغربية.
لا تعدّ هذه القوى من الفاعلين التقليديين في المنطقة، غير أنها تؤدّي الآن أدوارًا تتراوح بين التأثير العسكري، والسيطرة الاقتصادية، والتغلغل الديني والثقافي. واللافت أن هذا التمدد لا يثير فقط أسئلة سياسية، بل أخلاقية أيضًا، عن طبيعة النفوذ الجديد في إفريقيا، وعن الرابح من فوضى الساحل، ومن يدفع الثمن؟
بين من يتحدث عن تحالفات استراتيجية لمكافحة الإرهاب، ومن يرى فيها إعادة تشكيل استعمار ناعم مغلف بالاستثمارات والدين والسيادة، يتبلور مشهدٌ معقّد تتداخل فيه أجندات النفط، والذهب، والصوفية، والطائرات المسيّرة، والشراكات الأمنية الرمادية.
يحاول هذا المقال الغوص في عمق هذا النفوذ، عبر تحليل الخطابات، وتقاطع المصالح، وردود الفعل المحلية والدولية، لنفهم: ما الذي تريده أبو ظبي والرباط من الساحل الإفريقي؟ وما أثر ذلك على حاضر المنطقة ومستقبلها؟
فراغ الساحل.. حيث يولد النفوذ
إذا أردنا فهم ما يجري في الساحل الإفريقي، علينا أن نبدأ من الفراغ.
منذ بداية الألفية، كانت فرنسا هي الفاعل العسكري والسياسي الأكبر في منطقة الساحل، عبر عمليات عسكرية ضخمة مثل 'سرفال' و'برخان'، بغطاء من الأمم المتحدة ومساندة دولية. لكنها اليوم، وبعد عقود من التواجد، تغادر واحدة تلو الأخرى، تحت ضغط شعبي وشعارات 'ارحلوا'.
في هذا الفراغ، لا تظل الأرض خاوية. بل تُعاد فيها صياغة التحالفات، وتتعدد أشكال النفوذ؛ الولايات المتحدة قلقة
،
وروسيا تتمدد
،
والصين تنسج خطوط اقتصادها بهدوء. لكن ما يلفت النظر، هو دخول لاعبين من 'الجنوب:' الإمارات والمغرب
'
.
لماذا الساحل تحديدًا؟
لأنها منطقة ضعيفة المؤسسات
،
غنية الموارد
،
منخفضة الكلفة السياسية. جعلت الانقلابات المتكررة، وغياب الرقابة الديمقراطية، ومرونة الأنظمة الانتقالية، منها أرضًا خصبة للتأثير السريع؛ ففي مالي، تراجعُ النفوذ الفرنسي فتح الباب لدخول مجموعات 'فاغنر'، في ظل تنسيق مبهم مع أطراف عربية .في النيجر، أضعف الانقلاب الأخير تحالفات الأمن الإقليمي، وأعاد تشكيل خريطة التوازن بين اللاعبين. أما في تشاد، فالنظام هشّ، والتحولات المتسارعة تربك حلفاء الغرب.
وسط كل ذلك، تظهر الإمارات والمغرب بـ'وجه غير صدامي'، يقدّمان أنفسهما كقوى غير استعمارية، وغير مشروطة، وغير غربية.
الإمارات: من المساعدات إلى القواعد الرمادية
قدّمت الإمارات، في البداية، نفسها فاعلًا إنسانيًّا وتنمويًّا، عبر الهلال الأحمر، والمبادرات التعليمية والصحية، خاصة في موريتانيا والنيجر. غير أنه، ووفقًا لتحقيق نُشر فيAfrican Intelligence سنة 2022م، فإن أبو ظبي سعت تدريجيًّا لتوسيع نفوذها الأمني في تشاد ومالي، عبر دعمها المباشر لبعض وحدات القوات الخاصة، وتوفير مُعدات مراقبة واتصالات مشفّرة مع تقديمه التدريبات أمنية تحت غطاء مدني أو طبي.
تشير وثائق مسربة من وزارة الدفاع التشادية (نُشرت جزئيًا على موقع MENADefense) إلى أن وفدًا إماراتيًّا زار إنجمينا في مطلع 2022م وعرض التعاون في 'مكافحة الإرهاب وتبادل الخبرات'، وهي الصيغة التي تُستخدم كثيرًا كمظلة لنقل الدعم العسكري الفني.
غير أنّ أكثر ما يقلق في الأمر، وفقًا لـLe Monde Diplomatique، هو العلاقة غير المعلنة بين الإمارات وبعض قادة الانقلابات، إذ أشارت تقارير استخباراتية فرنسية إلى وجود قنوات اتصال بين أبو ظبي وبعض النخب العسكرية بعد سقوط الأنظمة المنتخبة في كل من النيجر ومالي.
بداية الزحف الصامت
تبدو منطقة الساحل اليوم كطاولة مفتوحة للاعبين جدد. وبينما تنشغل فرنسا بجراحها، وتتمدَّد روسيا بلا قواعد واضحة، تتحرك الإمارات والمغرب بطرق مختلفة؛ ففي حين تعتمد أبو ظبي على السرعة، والحزم، والشراكات العسكرية الرمادية، فإن الرباط تراهن على التراكم الثقافي، والتعليم الديني، والعلاقات الهادئة. لكن ما يجمعهما هو الرغبة في الحضور، والتأثير، وحجز موقع في معركة النفوذ الإفريقية المقبلة.
الإمارات في الساحل.. حضورٌ أمني في الظل
منذ سنوات، حرصت الإمارات العربية المتحدة على تقديم نفسها في منطقة الساحل كقوة ناعمة، تستثمر في المستشفيات، وتوزّع المساعدات، وتبني المساجد، وتدعم الحملات الصحية والتعليمية. غير أن هذا الوجه التنموي بدأ يتغير تدريجيًّا، لتبرز أدوار أمنية وعسكرية غير معلنة، تستند إلى تحالفات خلف الأبواب، وتدخّلات رمادية في ساحات لا تملك فيها الإمارات حضورًا تقليديًا.
في الواقع، لا تتواجد الإمارات في منطقة الساحل عبر جيش نظامي أو قواعد معلنة، لكنها تملك شبكة نفوذ معقّدة، تستخدم فيها أدوات مختلفة: شركات أمنية خاصة، صفقات تسليح غير تقليدية، تعاون استخباراتي مع أنظمة هشة، وأحيانًا مرتزقة يعملون بالوكالة.
تشاد: خط تماس النفوذ الخليجي
تعدّ تشاد بالنسبة للإمارات مدخلًا جيوسياسيًّا مركزيًّا، ليس فقط لقربها من ليبيا، حيث سبق لأبو ظبي أن دعمت قوات خليفة حفتر، ولكن أيضًا بسبب موقعها المتاخم لمجموعة من دول الساحل ذات الثقل الإستراتيجي.
وفق تقارير مسربة حصلت عليها منصة AfricaConfidential سنة 2022م، زار وفدٌ أمني إماراتي رفيع العاصمة أنجمينا وعقد اجتماعات غير معلنة مع ضباط من الحرس الرئاسي التشادي، تركّزت على 'تعزيز القدرات التقنية، والدعم في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود'.
وقد أُثيرت لاحقا شكوكٌ حول طبيعة هذا التعاون، خاصة في ظل وجود شحنات مُعدات مراقبة متطورة دخلت -حسب ما أكده تحقيق مشترك لصحيفةThe Continent وشبكة الإستقصاء الإفريقية- تشاد عبر طائرات شحن إماراتية. وأوضحت الوثائق أن تلك الشحنات نُقلت تحت بند 'الدعم الإنساني والتقني'، لكنها لم تُستخدم في مؤسسات الصحة أو التعليم.
النيجر: ما بعد الانقلاب
بعد انقلاب النيجر في جويلية 2023م، بدأت بوادر تقارب غير معلن بين المجلس العسكري في نيامي وبعض الدوائر الإماراتية. لم تعلن الإمارات موقفًا حادًّا ضد الانقلاب، على غرار الإتحاد الأوروبي، بل اكتفت بتصريحات 'تحث على التهدئة والاستقرار'.
حسب مصادر دبلوماسية في نيامي تحدَّثت لموقع MEE، جرت اتصالاتٌ عبر وسطاء خليجيين، من بينهم رجال أعمال وممثلون عن شركات أمنية، عُرض خلالها للمجلس العسكري الجديد تقديم 'دعم لوجستي وخبرات أمنية تقنية' مقابل تسهيلات في مشاريع البنية التحتية، خاصة في مناطق التعدين.
في السياق ذاته، كشفت مجلة Jeune Afrique عن وثيقة داخلية للجيش الفرنسي، تتحدّث عن 'قلق من التحرك الإماراتي السريع لملء الفراغ في النيجر بعد تقليص الدور الفرنسي'، مشيرة إلى أن بعض وحدات الاستخبارات الفرنسية تتعقب حاليًا نشاط شركات أمنية مقرها الإمارات، تعمل تحت غطاء 'مستشارين فنيين'.
مالي: ما بعد فاغنر؟
تعدُّ مالي النموذج الأكثر حساسية، حيث تواجدت قوات 'فاغنر' الروسية بوضوح بعد خروج القوات الفرنسية، وسط اتهامات بانتهاكات وجرائم ضد المدنيين.
في هذا السياق، بدأ الحديث في بعض الدوائر عن 'بديل عربي لفاغنر'، يتمثل في دعم إماراتي غير مباشر لقوات الأمن المالية، عبر تجهيزات تقنية وتدريبات تحت إشراف شركات خاصة، على غرار ما حدث سابقًا في اليمن وليبيا.
نشر الموقع الألماني DW Afrique في 2023م تقريرًا يُشير إلى أن الإمارات 'تحاول الاستفادة من فشل التجربة الروسية جزئيًّا في مالي لطرح نموذج أكثر هدوءًا، يجمع بين الأمن والدعم التنموي'، خاصة من خلال اتفاقيات لم تُعلن مع وزارة الدفاع المالية.
شركات الظل: البوابة الخلفية للتأثير
من أبرز أدوات الحضور الإماراتي غير المباشر في الساحل :شركات أمنية خاصة، مثل Black Shield, EDGE, DarkMatter، التي ظهرت أسماؤها في ملفات تجنيد وتدريب ونقل خبراء أجانب إلى إفريقيا. شركات اتصال ومراقبة، تعمل من خلالها على تزويد بعض الأنظمة ببرمجيات للمراقبة والتتبع، من دون المرور بالبيروقراطية الرسمية. المساعدات المشروطة، إذ تُموّل الإمارات في مناطق نائية مشاريع مياه وطاقة مقابل ضمانات أمنية أو تسهيلات لوجستية.
بحسب Reporters WithoutBorders، فإن هذه الشركات لا تخضع لرقابة برلمانية فعلية، وغالبا ما تعمل من خلال وسطاء وشراكات محلية تمنحها غطاءً قانونيًّا، ما يجعل تتبع أنشطتها في إفريقيا أمرًا بالغ الصعوبة.
ردود الفعل: صمت رسمي وقلق حقوقي
لم تُصدر، إلى حد الآن، حكومات مالي أو تشاد أو النيجر بيانات تنتقد من خلالها النشاط الإماراتي، بل على العكس من ذلك، تُقدّم وسائل الإعلام الرسمية تقارير إيجابية عن 'الدعم الخليجي'.
لكن منظمات حقوقية مثل HumanRights Watch وAmnesty International أعربت في عدة تقارير عن 'قلقها من الطابع غير الشفاف لبعض أشكال التعاون الأمني بين دول الخليج وأنظمة الساحل'.
في هذا السياق، كتب الباحث السياسي الفرنسي 'بنجامين بارت' في صحيفة Le Monde:' إذا استمر الأمر بهذه السرية، فإننا أمام موجة جديدة من عسكرة الساحل بأدوات جديدة، من دون رقابة شعبية، وبتكلفة مجتمعية باهظة'.
يتضح من خلال ذلك أن الإمارات تتعامل مع منطقة الساحل كمساحة استراتيجية 'قابلة للتشكيل'، تستخدم فيها أدوات لا تثير ضجة سياسية، لكنها تحدث تأثيرًا عميقًا: من تدريب الجنود إلى دعم المخابرات، ومن التموقع في مناطق التعدين إلى التوسط بين العواصم الجديدة.
لا يعد ذلك مجرد 'شراكات إنمائية'، بل جزء من رؤية أوسع لبناء نفوذ صلب خلف واجهة ناعمة.
المغرب في الساحل.. دبلوماسية العِلم والدين
إذا كانت الإمارات تعتمد على أدوات الأمن والتكنولوجيا والشراكات الرمادية في الساحل الإفريقي، فإن المغرب يسلك طريقًا آخر لا يقل تأثيرًا: الدبلوماسية الدينية والثقافية.
في قلب الأزمات التي تعيشها دول الساحل، من تصاعد التطرف العنيف إلى الانقلابات العسكرية، يجد المغرب لنفسه موقعًا ثابتًا كـ'مرجعية روحية' تقدِّم الإسلام المعتدل بديلاً عن التطرف، وتُمارس النفوذ من دون ضجيج.
هذا الحضور المغربي ليس وليد اليوم، بل هو امتدادٌ لتاريخ طويل من الروابط الروحية والتجارية بين المملكة ودول غرب إفريقيا. ومع صعود تهديد الجماعات المتطرفة، أعادت الرباط تفعيل أدواتها الناعمة، مستخدمة مؤسسات دينية وتعليمية وجمعيات صوفية لبناء شبكة تأثير فعالة في دول مثل مالي والنيجر والسنغال وبوركينا فاسو وتشاد.
مدارس بلا جنود
تأسست مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة سنة 2015م، كذراع دينية ملكية تهدف إلى 'تعزيز قيم الإسلام المعتدل' في إفريقيا .ومنذ إطلاقها، أصبحت المؤسسة منصّة تدريب وتأهيل لآلاف الأئمة والعلماء القادمين من دول الساحل، إذ يتلقون تكوينًا دينيًّا في معهد محمد السادس لتكوين الأئمة في الرباط، بدعم مباشر من الدولة.
بحسب بيانات رسمية، تم خلال السنوات الماضية استقبال أكثر من1500 إمام من 32 دولة إفريقية، تتصدرها مالي والنيجر والسنغال. يُدرّس الأئمة على يد مشايخ مغاربة ينتمون إلى التيار المالكي الأشعري الصوفي، في محاولة لإعادة تشكيل المرجعية الدينية للدول الإفريقية وفق النموذج المغربي.
ووفق دراسة نشرها مركز 'كارنيغي' للدراسات الدولية، فإن المغرب يعتبر أن النفوذ الديني يشكّل أداة استراتيجية لمواجهة المدّ السلفي الجهادي المدعوم من جهات إقليمية (في إشارة ضمنية إلى قطر وتركيا سابقًا).
التغلغل في الزوايا الصوفية: تحالفات الروح والتاريخ
يعتمد المغرب في مدّ نفوذه الديني أيضًا على علاقاته التاريخية مع الزوايا الصوفية ذات الامتداد الشعبي الواسع في غرب إفريقيا، مثل :الطريقة التيجانية في السنغال ومالي والنيجر، والطريقة القادرية المنتشرة في موريتانيا وتشاد، وزوايا محلية مثل زاوية شيخ إبراهيم انياس في كولخ (السنغال)، والتي تُعدّ من أكبر مراكز النفوذ الصوفي في المنطقة.
تستقبل مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة سنويا تحت غطاء 'تكوين الأئمة الأفارقة'، مئات الدارسين من مالي، والنيجر، والسنغال، وبوركينا فاسو. الهدف المعلن: نشر الإسلام المعتدل ومحاربة التطرف. لكن خلف هذا المشروع، يسعى المغرب لإعادة هندسة الحقل الديني في الساحل، ليكون هو المرجعية، وهو ما يمنحه نفوذًا ناعمًا يتجاوز الخطابات الرسمية.
يحظى الملك محمد السادس بلقب 'أمير المؤمنين'، وهو ما يُضفي بُعدًا دينيًّا ودبلوماسيًّا خاصًّا على زياراته لدول الساحل، إذ يستقبله زعماء دينيون كبار، وتُنظَّم له احتفالات دينية في المساجد الكبرى.
في السياق ذاته، لاحظ مراقبون أن المغرب يقدِّم دعمه للزوايا الصوفية على شكل تمويل المدارس والمساجد، وتقديم منح دراسية للطلاب الصوفيين في الرباط وفاس، وتنظيم ملتقيات سنوية للحوار الديني برعاية رسمية.
هذا التفاعل الروحي، رغم أنه لا يظهر في نشرات الأخبار، يُؤسس لنفوذ عميق يتغلغل في المجتمع، ويصعب زحزحته حتى من قبل الحكومات نفسها.
البُعد الأمني غير المُعلن: معلومات لا قواعد
رغم كون المغرب لا يملك وجودًا عسكريًّا معلنًا في دول الساحل، إلا أن التعاون الأمني مع عدد من هذه الدول قائم وفعّال. وفي 2020م، أشار تقرير نشره موقع Africa Intelligence إلى وجود تبادل معلومات استخباراتي منتظم بين الرباط وأجهزة الأمن في كل من مالي وبوركينا فاسو، يركّز على شبكات تجنيد الجماعات المتطرفة العابرة للحدود.
كما ساهم المغرب، وفقًا لتقارير فرنسية، في بناء منظومة رصد ديني/ أمني تهدف إلى متابعة النشاطات المتشددة في المساجد والفضاءات الاجتماعية، وذلك من خلال تدريب الأئمة على أساليب 'الرصد المجتمعي'.
كما تدعم الرباط أيضًا برامج 'محاربة التطرف' التي تموّلها الوكالة الأمريكية للتنمية USAID في بعض دول الساحل، من خلال تقديم محتوى ديني معتدل باللغتين العربية والفرنسية، مستوحى من المنهج المغربي.
الغاز والاقتصاد: التمدد عبر الطاقة
لا يقتصر النفوذ المغربي على الحقل الديني فقط، بل يمتد إلى ملفات استراتيجية أبرزها مشروع أنبوب الغاز نيجيريا– المغرب، الذي يمرّ عبر 13 دولة إفريقية من بينها مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو.
هذا المشروع الذي يجري الترويج له على أنه محرك للتنمية الإقليمية، ينظر إليه البعض كأداة جيوسياسية تمنح المغرب عبر شبكات الطاقة نفوذًا غير مباشر في منطقة الساحل، ما يضعه في منافسة مباشرة مع مشاريع جزائرية مماثلة. وقد استخدم المغرب هذا المشروع لتقوية علاقاته مع أنظمة سياسية متغيرة، وتثبيت حضوره في ملفات لا يملك فيها نفوذًا عسكريًّا مباشرًا، ما يُؤشر إلى إستراتيجية تنموية بغطاء جيوسياسي صامت.
ردود الفعل: ترحيب حذر.. وقلق خفي
يلقى الحضور المغربي، في المجمل، في دول الساحل ترحيبًا رسميًّا من الحكومات، خاصة أنه لا يفرض أجندة سياسية، ولا يرتبط بشروط اقتصادية قاسية. غير أن بعض الأصوات داخل المجتمع المدني الإفريقي بدأت تُعبّر عن قلقها من التغلغل الديني/ الثقافي غير المرئي، والذي قد يعيد تشكيل الهوية الدينية للمنطقة بشكل مركزي من الرباط.
تبدو منطقة الساحل اليوم كطاولة مفتوحة للاعبين جدد. وبينما تنشغل فرنسا بجراحها، وتتمدَّد روسيا بلا قواعد واضحة، تتحرك الإمارات والمغرب بطرق مختلفة؛ ففي حين تعتمد أبو ظبي على السرعة، والحزم، والشراكات العسكرية الرمادية، فإن الرباط تراهن على التراكم الثقافي، والتعليم الديني، والعلاقات الهادئة. لكن ما يجمعهما هو الرغبة في الحضور، والتأثير، وحجز موقع في معركة النفوذ الإفريقية المقبلة.
كما يخشى مراقبون أن يؤدي تسييس الدين أو احتكار المرجعية الروحية إلى تحجيم التنوع الديني المحلي، وخلق تبعيات ثقافية على المدى البعيد.
من ثم، يظهر أن المغرب اختار طريقًا مختلفًا في التأثير على منطقة الساحل :بالعلم والدين والهوية، وليس بالسلاح أو الشركات.
يمنح هذا النموذج الناعم الرباط نفوذًا طويل الأمد، يصعب الانتباه إليه أو مقاومته بسهولة، لكنه يطرح تساؤلات عن مدى حياديته، وعن الحدود الفاصلة بين التأثير الديني المشروع و'التمدد الصامت' في ملفات السيادة والهُوية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


خبر للأنباء
منذ ساعة واحدة
- خبر للأنباء
مسؤولون أميركيون: ترامب محبط من استمرار حرب غزة ويريد إنهاءها
أفاد موقع "أكسيوس" الإخباري، نقلاً عن مسؤولين في البيت الأبيض، الثلاثاء، بأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب "محبط" من الحرب المستمرة في قطاع غزة، وطلب من مساعديه إبلاغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه يريد إنهاءها، وسط تحذيرات من مجاعة وشيكة. وذكر الموقع، أن المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين يعترفون بـ"تزايد التباين" في السياسات بين ترمب الذي يريد إنهاء الحرب، ونتنياهو الذي يعمل على توسيعها بشكل كبير، رغم نفيهم اعتزام الرئيس الأميركي التخلي عن دعم إسرائيل. وقال مسؤول في البيت الأبيض لـ"أكسيوس"، إن ترمب "يشعر بالإحباط مما يحدث في غزة، ويريد إنهاء الحرب وعودة المحتجزين الإسرائيليين وإدخال المساعدات، كما يريد البدء في إعادة إعمار غزة"، لافتاً إلى أن الرئيس الأميركي "انزعج من صور الأطفال والرضع الذين يعانون في غزة، وضغط على الإسرائيليين لإعادة فتح المعابر". وحذرت الأمم المتحدة من أن آلاف الأطفال معرضون للموت جوعاً إذا لم تزد كمية المساعدات بشكل كبير.


الشروق
منذ 4 ساعات
- الشروق
تقاطع النفوذ الإماراتي والمغربي في أزمات الساحل الإفريقي
على امتداد صحراء الساحل الإفريقي، تتساقط الأنظمة الواحدة تلو الأخرى. انقلاب في النيجر، اضطرابات في مالي، انسحاب فرنسي مرتبك، وتقدّم محسوب لقوات فاغنر الروسية. لكن في زوايا الخريطة، تظهر قوى أخرى تتقدم من دون ضجيج: الإمارات العربية المتحدة والمملكة المغربية. لا تعدّ هذه القوى من الفاعلين التقليديين في المنطقة، غير أنها تؤدّي الآن أدوارًا تتراوح بين التأثير العسكري، والسيطرة الاقتصادية، والتغلغل الديني والثقافي. واللافت أن هذا التمدد لا يثير فقط أسئلة سياسية، بل أخلاقية أيضًا، عن طبيعة النفوذ الجديد في إفريقيا، وعن الرابح من فوضى الساحل، ومن يدفع الثمن؟ بين من يتحدث عن تحالفات استراتيجية لمكافحة الإرهاب، ومن يرى فيها إعادة تشكيل استعمار ناعم مغلف بالاستثمارات والدين والسيادة، يتبلور مشهدٌ معقّد تتداخل فيه أجندات النفط، والذهب، والصوفية، والطائرات المسيّرة، والشراكات الأمنية الرمادية. يحاول هذا المقال الغوص في عمق هذا النفوذ، عبر تحليل الخطابات، وتقاطع المصالح، وردود الفعل المحلية والدولية، لنفهم: ما الذي تريده أبو ظبي والرباط من الساحل الإفريقي؟ وما أثر ذلك على حاضر المنطقة ومستقبلها؟ فراغ الساحل.. حيث يولد النفوذ إذا أردنا فهم ما يجري في الساحل الإفريقي، علينا أن نبدأ من الفراغ. منذ بداية الألفية، كانت فرنسا هي الفاعل العسكري والسياسي الأكبر في منطقة الساحل، عبر عمليات عسكرية ضخمة مثل 'سرفال' و'برخان'، بغطاء من الأمم المتحدة ومساندة دولية. لكنها اليوم، وبعد عقود من التواجد، تغادر واحدة تلو الأخرى، تحت ضغط شعبي وشعارات 'ارحلوا'. في هذا الفراغ، لا تظل الأرض خاوية. بل تُعاد فيها صياغة التحالفات، وتتعدد أشكال النفوذ؛ الولايات المتحدة قلقة ، وروسيا تتمدد ، والصين تنسج خطوط اقتصادها بهدوء. لكن ما يلفت النظر، هو دخول لاعبين من 'الجنوب:' الإمارات والمغرب ' . لماذا الساحل تحديدًا؟ لأنها منطقة ضعيفة المؤسسات ، غنية الموارد ، منخفضة الكلفة السياسية. جعلت الانقلابات المتكررة، وغياب الرقابة الديمقراطية، ومرونة الأنظمة الانتقالية، منها أرضًا خصبة للتأثير السريع؛ ففي مالي، تراجعُ النفوذ الفرنسي فتح الباب لدخول مجموعات 'فاغنر'، في ظل تنسيق مبهم مع أطراف عربية .في النيجر، أضعف الانقلاب الأخير تحالفات الأمن الإقليمي، وأعاد تشكيل خريطة التوازن بين اللاعبين. أما في تشاد، فالنظام هشّ، والتحولات المتسارعة تربك حلفاء الغرب. وسط كل ذلك، تظهر الإمارات والمغرب بـ'وجه غير صدامي'، يقدّمان أنفسهما كقوى غير استعمارية، وغير مشروطة، وغير غربية. الإمارات: من المساعدات إلى القواعد الرمادية قدّمت الإمارات، في البداية، نفسها فاعلًا إنسانيًّا وتنمويًّا، عبر الهلال الأحمر، والمبادرات التعليمية والصحية، خاصة في موريتانيا والنيجر. غير أنه، ووفقًا لتحقيق نُشر فيAfrican Intelligence سنة 2022م، فإن أبو ظبي سعت تدريجيًّا لتوسيع نفوذها الأمني في تشاد ومالي، عبر دعمها المباشر لبعض وحدات القوات الخاصة، وتوفير مُعدات مراقبة واتصالات مشفّرة مع تقديمه التدريبات أمنية تحت غطاء مدني أو طبي. تشير وثائق مسربة من وزارة الدفاع التشادية (نُشرت جزئيًا على موقع MENADefense) إلى أن وفدًا إماراتيًّا زار إنجمينا في مطلع 2022م وعرض التعاون في 'مكافحة الإرهاب وتبادل الخبرات'، وهي الصيغة التي تُستخدم كثيرًا كمظلة لنقل الدعم العسكري الفني. غير أنّ أكثر ما يقلق في الأمر، وفقًا لـLe Monde Diplomatique، هو العلاقة غير المعلنة بين الإمارات وبعض قادة الانقلابات، إذ أشارت تقارير استخباراتية فرنسية إلى وجود قنوات اتصال بين أبو ظبي وبعض النخب العسكرية بعد سقوط الأنظمة المنتخبة في كل من النيجر ومالي. بداية الزحف الصامت تبدو منطقة الساحل اليوم كطاولة مفتوحة للاعبين جدد. وبينما تنشغل فرنسا بجراحها، وتتمدَّد روسيا بلا قواعد واضحة، تتحرك الإمارات والمغرب بطرق مختلفة؛ ففي حين تعتمد أبو ظبي على السرعة، والحزم، والشراكات العسكرية الرمادية، فإن الرباط تراهن على التراكم الثقافي، والتعليم الديني، والعلاقات الهادئة. لكن ما يجمعهما هو الرغبة في الحضور، والتأثير، وحجز موقع في معركة النفوذ الإفريقية المقبلة. الإمارات في الساحل.. حضورٌ أمني في الظل منذ سنوات، حرصت الإمارات العربية المتحدة على تقديم نفسها في منطقة الساحل كقوة ناعمة، تستثمر في المستشفيات، وتوزّع المساعدات، وتبني المساجد، وتدعم الحملات الصحية والتعليمية. غير أن هذا الوجه التنموي بدأ يتغير تدريجيًّا، لتبرز أدوار أمنية وعسكرية غير معلنة، تستند إلى تحالفات خلف الأبواب، وتدخّلات رمادية في ساحات لا تملك فيها الإمارات حضورًا تقليديًا. في الواقع، لا تتواجد الإمارات في منطقة الساحل عبر جيش نظامي أو قواعد معلنة، لكنها تملك شبكة نفوذ معقّدة، تستخدم فيها أدوات مختلفة: شركات أمنية خاصة، صفقات تسليح غير تقليدية، تعاون استخباراتي مع أنظمة هشة، وأحيانًا مرتزقة يعملون بالوكالة. تشاد: خط تماس النفوذ الخليجي تعدّ تشاد بالنسبة للإمارات مدخلًا جيوسياسيًّا مركزيًّا، ليس فقط لقربها من ليبيا، حيث سبق لأبو ظبي أن دعمت قوات خليفة حفتر، ولكن أيضًا بسبب موقعها المتاخم لمجموعة من دول الساحل ذات الثقل الإستراتيجي. وفق تقارير مسربة حصلت عليها منصة AfricaConfidential سنة 2022م، زار وفدٌ أمني إماراتي رفيع العاصمة أنجمينا وعقد اجتماعات غير معلنة مع ضباط من الحرس الرئاسي التشادي، تركّزت على 'تعزيز القدرات التقنية، والدعم في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود'. وقد أُثيرت لاحقا شكوكٌ حول طبيعة هذا التعاون، خاصة في ظل وجود شحنات مُعدات مراقبة متطورة دخلت -حسب ما أكده تحقيق مشترك لصحيفةThe Continent وشبكة الإستقصاء الإفريقية- تشاد عبر طائرات شحن إماراتية. وأوضحت الوثائق أن تلك الشحنات نُقلت تحت بند 'الدعم الإنساني والتقني'، لكنها لم تُستخدم في مؤسسات الصحة أو التعليم. النيجر: ما بعد الانقلاب بعد انقلاب النيجر في جويلية 2023م، بدأت بوادر تقارب غير معلن بين المجلس العسكري في نيامي وبعض الدوائر الإماراتية. لم تعلن الإمارات موقفًا حادًّا ضد الانقلاب، على غرار الإتحاد الأوروبي، بل اكتفت بتصريحات 'تحث على التهدئة والاستقرار'. حسب مصادر دبلوماسية في نيامي تحدَّثت لموقع MEE، جرت اتصالاتٌ عبر وسطاء خليجيين، من بينهم رجال أعمال وممثلون عن شركات أمنية، عُرض خلالها للمجلس العسكري الجديد تقديم 'دعم لوجستي وخبرات أمنية تقنية' مقابل تسهيلات في مشاريع البنية التحتية، خاصة في مناطق التعدين. في السياق ذاته، كشفت مجلة Jeune Afrique عن وثيقة داخلية للجيش الفرنسي، تتحدّث عن 'قلق من التحرك الإماراتي السريع لملء الفراغ في النيجر بعد تقليص الدور الفرنسي'، مشيرة إلى أن بعض وحدات الاستخبارات الفرنسية تتعقب حاليًا نشاط شركات أمنية مقرها الإمارات، تعمل تحت غطاء 'مستشارين فنيين'. مالي: ما بعد فاغنر؟ تعدُّ مالي النموذج الأكثر حساسية، حيث تواجدت قوات 'فاغنر' الروسية بوضوح بعد خروج القوات الفرنسية، وسط اتهامات بانتهاكات وجرائم ضد المدنيين. في هذا السياق، بدأ الحديث في بعض الدوائر عن 'بديل عربي لفاغنر'، يتمثل في دعم إماراتي غير مباشر لقوات الأمن المالية، عبر تجهيزات تقنية وتدريبات تحت إشراف شركات خاصة، على غرار ما حدث سابقًا في اليمن وليبيا. نشر الموقع الألماني DW Afrique في 2023م تقريرًا يُشير إلى أن الإمارات 'تحاول الاستفادة من فشل التجربة الروسية جزئيًّا في مالي لطرح نموذج أكثر هدوءًا، يجمع بين الأمن والدعم التنموي'، خاصة من خلال اتفاقيات لم تُعلن مع وزارة الدفاع المالية. شركات الظل: البوابة الخلفية للتأثير من أبرز أدوات الحضور الإماراتي غير المباشر في الساحل :شركات أمنية خاصة، مثل Black Shield, EDGE, DarkMatter، التي ظهرت أسماؤها في ملفات تجنيد وتدريب ونقل خبراء أجانب إلى إفريقيا. شركات اتصال ومراقبة، تعمل من خلالها على تزويد بعض الأنظمة ببرمجيات للمراقبة والتتبع، من دون المرور بالبيروقراطية الرسمية. المساعدات المشروطة، إذ تُموّل الإمارات في مناطق نائية مشاريع مياه وطاقة مقابل ضمانات أمنية أو تسهيلات لوجستية. بحسب Reporters WithoutBorders، فإن هذه الشركات لا تخضع لرقابة برلمانية فعلية، وغالبا ما تعمل من خلال وسطاء وشراكات محلية تمنحها غطاءً قانونيًّا، ما يجعل تتبع أنشطتها في إفريقيا أمرًا بالغ الصعوبة. ردود الفعل: صمت رسمي وقلق حقوقي لم تُصدر، إلى حد الآن، حكومات مالي أو تشاد أو النيجر بيانات تنتقد من خلالها النشاط الإماراتي، بل على العكس من ذلك، تُقدّم وسائل الإعلام الرسمية تقارير إيجابية عن 'الدعم الخليجي'. لكن منظمات حقوقية مثل HumanRights Watch وAmnesty International أعربت في عدة تقارير عن 'قلقها من الطابع غير الشفاف لبعض أشكال التعاون الأمني بين دول الخليج وأنظمة الساحل'. في هذا السياق، كتب الباحث السياسي الفرنسي 'بنجامين بارت' في صحيفة Le Monde:' إذا استمر الأمر بهذه السرية، فإننا أمام موجة جديدة من عسكرة الساحل بأدوات جديدة، من دون رقابة شعبية، وبتكلفة مجتمعية باهظة'. يتضح من خلال ذلك أن الإمارات تتعامل مع منطقة الساحل كمساحة استراتيجية 'قابلة للتشكيل'، تستخدم فيها أدوات لا تثير ضجة سياسية، لكنها تحدث تأثيرًا عميقًا: من تدريب الجنود إلى دعم المخابرات، ومن التموقع في مناطق التعدين إلى التوسط بين العواصم الجديدة. لا يعد ذلك مجرد 'شراكات إنمائية'، بل جزء من رؤية أوسع لبناء نفوذ صلب خلف واجهة ناعمة. المغرب في الساحل.. دبلوماسية العِلم والدين إذا كانت الإمارات تعتمد على أدوات الأمن والتكنولوجيا والشراكات الرمادية في الساحل الإفريقي، فإن المغرب يسلك طريقًا آخر لا يقل تأثيرًا: الدبلوماسية الدينية والثقافية. في قلب الأزمات التي تعيشها دول الساحل، من تصاعد التطرف العنيف إلى الانقلابات العسكرية، يجد المغرب لنفسه موقعًا ثابتًا كـ'مرجعية روحية' تقدِّم الإسلام المعتدل بديلاً عن التطرف، وتُمارس النفوذ من دون ضجيج. هذا الحضور المغربي ليس وليد اليوم، بل هو امتدادٌ لتاريخ طويل من الروابط الروحية والتجارية بين المملكة ودول غرب إفريقيا. ومع صعود تهديد الجماعات المتطرفة، أعادت الرباط تفعيل أدواتها الناعمة، مستخدمة مؤسسات دينية وتعليمية وجمعيات صوفية لبناء شبكة تأثير فعالة في دول مثل مالي والنيجر والسنغال وبوركينا فاسو وتشاد. مدارس بلا جنود تأسست مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة سنة 2015م، كذراع دينية ملكية تهدف إلى 'تعزيز قيم الإسلام المعتدل' في إفريقيا .ومنذ إطلاقها، أصبحت المؤسسة منصّة تدريب وتأهيل لآلاف الأئمة والعلماء القادمين من دول الساحل، إذ يتلقون تكوينًا دينيًّا في معهد محمد السادس لتكوين الأئمة في الرباط، بدعم مباشر من الدولة. بحسب بيانات رسمية، تم خلال السنوات الماضية استقبال أكثر من1500 إمام من 32 دولة إفريقية، تتصدرها مالي والنيجر والسنغال. يُدرّس الأئمة على يد مشايخ مغاربة ينتمون إلى التيار المالكي الأشعري الصوفي، في محاولة لإعادة تشكيل المرجعية الدينية للدول الإفريقية وفق النموذج المغربي. ووفق دراسة نشرها مركز 'كارنيغي' للدراسات الدولية، فإن المغرب يعتبر أن النفوذ الديني يشكّل أداة استراتيجية لمواجهة المدّ السلفي الجهادي المدعوم من جهات إقليمية (في إشارة ضمنية إلى قطر وتركيا سابقًا). التغلغل في الزوايا الصوفية: تحالفات الروح والتاريخ يعتمد المغرب في مدّ نفوذه الديني أيضًا على علاقاته التاريخية مع الزوايا الصوفية ذات الامتداد الشعبي الواسع في غرب إفريقيا، مثل :الطريقة التيجانية في السنغال ومالي والنيجر، والطريقة القادرية المنتشرة في موريتانيا وتشاد، وزوايا محلية مثل زاوية شيخ إبراهيم انياس في كولخ (السنغال)، والتي تُعدّ من أكبر مراكز النفوذ الصوفي في المنطقة. تستقبل مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة سنويا تحت غطاء 'تكوين الأئمة الأفارقة'، مئات الدارسين من مالي، والنيجر، والسنغال، وبوركينا فاسو. الهدف المعلن: نشر الإسلام المعتدل ومحاربة التطرف. لكن خلف هذا المشروع، يسعى المغرب لإعادة هندسة الحقل الديني في الساحل، ليكون هو المرجعية، وهو ما يمنحه نفوذًا ناعمًا يتجاوز الخطابات الرسمية. يحظى الملك محمد السادس بلقب 'أمير المؤمنين'، وهو ما يُضفي بُعدًا دينيًّا ودبلوماسيًّا خاصًّا على زياراته لدول الساحل، إذ يستقبله زعماء دينيون كبار، وتُنظَّم له احتفالات دينية في المساجد الكبرى. في السياق ذاته، لاحظ مراقبون أن المغرب يقدِّم دعمه للزوايا الصوفية على شكل تمويل المدارس والمساجد، وتقديم منح دراسية للطلاب الصوفيين في الرباط وفاس، وتنظيم ملتقيات سنوية للحوار الديني برعاية رسمية. هذا التفاعل الروحي، رغم أنه لا يظهر في نشرات الأخبار، يُؤسس لنفوذ عميق يتغلغل في المجتمع، ويصعب زحزحته حتى من قبل الحكومات نفسها. البُعد الأمني غير المُعلن: معلومات لا قواعد رغم كون المغرب لا يملك وجودًا عسكريًّا معلنًا في دول الساحل، إلا أن التعاون الأمني مع عدد من هذه الدول قائم وفعّال. وفي 2020م، أشار تقرير نشره موقع Africa Intelligence إلى وجود تبادل معلومات استخباراتي منتظم بين الرباط وأجهزة الأمن في كل من مالي وبوركينا فاسو، يركّز على شبكات تجنيد الجماعات المتطرفة العابرة للحدود. كما ساهم المغرب، وفقًا لتقارير فرنسية، في بناء منظومة رصد ديني/ أمني تهدف إلى متابعة النشاطات المتشددة في المساجد والفضاءات الاجتماعية، وذلك من خلال تدريب الأئمة على أساليب 'الرصد المجتمعي'. كما تدعم الرباط أيضًا برامج 'محاربة التطرف' التي تموّلها الوكالة الأمريكية للتنمية USAID في بعض دول الساحل، من خلال تقديم محتوى ديني معتدل باللغتين العربية والفرنسية، مستوحى من المنهج المغربي. الغاز والاقتصاد: التمدد عبر الطاقة لا يقتصر النفوذ المغربي على الحقل الديني فقط، بل يمتد إلى ملفات استراتيجية أبرزها مشروع أنبوب الغاز نيجيريا– المغرب، الذي يمرّ عبر 13 دولة إفريقية من بينها مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو. هذا المشروع الذي يجري الترويج له على أنه محرك للتنمية الإقليمية، ينظر إليه البعض كأداة جيوسياسية تمنح المغرب عبر شبكات الطاقة نفوذًا غير مباشر في منطقة الساحل، ما يضعه في منافسة مباشرة مع مشاريع جزائرية مماثلة. وقد استخدم المغرب هذا المشروع لتقوية علاقاته مع أنظمة سياسية متغيرة، وتثبيت حضوره في ملفات لا يملك فيها نفوذًا عسكريًّا مباشرًا، ما يُؤشر إلى إستراتيجية تنموية بغطاء جيوسياسي صامت. ردود الفعل: ترحيب حذر.. وقلق خفي يلقى الحضور المغربي، في المجمل، في دول الساحل ترحيبًا رسميًّا من الحكومات، خاصة أنه لا يفرض أجندة سياسية، ولا يرتبط بشروط اقتصادية قاسية. غير أن بعض الأصوات داخل المجتمع المدني الإفريقي بدأت تُعبّر عن قلقها من التغلغل الديني/ الثقافي غير المرئي، والذي قد يعيد تشكيل الهوية الدينية للمنطقة بشكل مركزي من الرباط. تبدو منطقة الساحل اليوم كطاولة مفتوحة للاعبين جدد. وبينما تنشغل فرنسا بجراحها، وتتمدَّد روسيا بلا قواعد واضحة، تتحرك الإمارات والمغرب بطرق مختلفة؛ ففي حين تعتمد أبو ظبي على السرعة، والحزم، والشراكات العسكرية الرمادية، فإن الرباط تراهن على التراكم الثقافي، والتعليم الديني، والعلاقات الهادئة. لكن ما يجمعهما هو الرغبة في الحضور، والتأثير، وحجز موقع في معركة النفوذ الإفريقية المقبلة. كما يخشى مراقبون أن يؤدي تسييس الدين أو احتكار المرجعية الروحية إلى تحجيم التنوع الديني المحلي، وخلق تبعيات ثقافية على المدى البعيد. من ثم، يظهر أن المغرب اختار طريقًا مختلفًا في التأثير على منطقة الساحل :بالعلم والدين والهوية، وليس بالسلاح أو الشركات. يمنح هذا النموذج الناعم الرباط نفوذًا طويل الأمد، يصعب الانتباه إليه أو مقاومته بسهولة، لكنه يطرح تساؤلات عن مدى حياديته، وعن الحدود الفاصلة بين التأثير الديني المشروع و'التمدد الصامت' في ملفات السيادة والهُوية.


خبر للأنباء
منذ 9 ساعات
- خبر للأنباء
الاتحاد الأوروبي يستضيف الأربعاء القادم اجتماع كبار المسؤولين الإنسانيين بشأن اليمن
ونقل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية باليمن في تغريدة على حسابه في منصة "إكس"، الاثنين، عن رئيسته بالإنابة؛ ماريا روزاريا برونو، قولها إن الاجتماع السابع لكبار المسؤولين الإنسانيين بشأن اليمن، سينعقد الأربعاء 21 مايو/أيار الجاري، في مقر الاتحاد الأوروبي بالعاصمة البلجيكية بروكسل. وأكدت برونو الالتزام الجماعي للعاملين في الوكالات الأممية والمنظمات غير الحكومية الدولية والجهات المانحة، لمواصلة جهود إنقاذ الأرواح وتخفيف المعاناة الإنسانية في اليمن، "لكن لتحقيق ذلك نحتاج إلى تكثيف الدعم بشكل عاجل". وكان سفير الاتحاد الأوروبي لدى اليمن؛ غابرييل مونويرا فينيالس، قد كشف في وقت سابق عن مشاركته في رئاسة الاجتماع السنوي المرتقب، وقال: "سنجدد خلاله التزامنا ونحشد شركائنا لتلبية الاحتياجات الملحة للبلاد، والحاجة إلى بيئة عمل مواتية للعاملين في المجالين الإنساني والتنموي". ويُعد هذا الاجتماع هو السابع من نوعه، وكان السادس قد عُقد في الـ7 من مايو/أيار 2024، وخرج حينها بتعهدات بلغت أكثر من 734 مليون يورو من الجهات المانحة، بما فيها 120 مليون يورو من المفوضية الأوروبية لتمويل خطة الاستجابة الإنسانية في اليمن خلال العام الماضي. يذكر أن خطة الاستجابة الإنسانية في اليمن لعام 2025، لم يتم تمويلها حتى الآن سوى بنسبة 9%، حيث لم تتلقى سوى 222.4 مليون دولار من إجمالي 2.48 مليار دولار، ما يترك فجوة تمويلية قدرها 2.26 مليار دولار، وهو ما يُمثّل "أقل مستوى تغطية تمويلية منذ أكثر من عقد، الأمر الذي أجبر وكالات الإغاثة على تقليص برامجها المنقذة للأرواح بشكل كبير".