
د. ميرنا القاضي تكتب: هرمس..حين نطقت مصر بالحكمة السماوية
في ظلال المعابد المصرية، وتحت طيات الحرف الهيروغليفي، كان هناك صوتٌ لا يُسمع إلا بالروح. صوتٌ نُسب إلى 'تحوت'، إله الحكمة، المرسوم برأس طائر أبي منجل، لكنه في الحضارات المتأخرة عُرف باسم 'هرمس الهرامسة'.
وحين امتزجت مصر باليونان في عاصمة الفكر الإسكندرية، وُلدت نصوص عُرفت لاحقًا باسم 'الكتب الهرمسية'، وهي خلاصة الفلسفة المصرية القديمة بعد أن تجرّدت من الطقوس وارتفعت إلى المجردات.
ما هي الكتب الهرمسية؟
هي مجموعة من النصوص الفلسفية والروحانية، منسوبة إلى هرمس المثلث العظمة – Hermes Trismegistus، وهي الاسم المتأخّر لـ تحوت المصري، الذي عُدّ في التراث الإسلامي هو النبي إدريس عليه السلام.
ظهرت هذه الكتب في الإسكندرية (من القرن 2 ق.م حتى 3 م)، لكنها تحمل في جوهرها روحًا مصرية خالصة، أعيدت صياغتها بلغات يونانية ولاتينية، وأهم ما يميزها هو مزجها بين الفلسفة والروحانية، وبين العلم والمقدّس، وبين الإنسان والكون.
نصوص الكتاب الهرمسي: لمحات وتحليل
1. نص 'بيماندر' (Poimandres): حوار العقل والنور، هو النص الأول والأهم في مجموعة كوربوس هرمتيكم.
ويحكي عن تجربة رؤيا صوفية يخوضها هرمس، حين يظهر له كائن نوري يُدعى 'بيماندر' (العقل الكوني)، ويبدأ معه حوارًا عن أصل الكون، والخلق، والروح، ومصير الإنسان.
أهم الأفكار:
الله هو الواحد الأزلي، لا يُدرك بالحواس، وكل شيء نابع من العقل الأول (Nous)، الإنسان كائن إلهي، فيه قبس من النور، لكنه سقط في المادة، وهدفه العودة إلى النور عبر المعرفة والتطهير، العالم المادي زائل، والروح خالدة، والصعود إلى الإله يتحقق بالتأمل والعرفان.
اقتباسات:
'أنا العقل، نور العالم، الذي وُجد قبل الظلمة. من عرفني، عرف كل شيء.'
'لقد خلقتك أيها الإنسان على صورتي، لأني أحبك، ووهبتك النطق والعقل.'
'الجهل هو الموت، والمعرفة حياة أبدية.'
تحليل:
'بيماندر' ليس مجرد حوار لاهوتي، بل خريطة روحية تُرشد الباحث إلى أصل النور. أسلوبه يذكّرنا بالتعاليم المصرية القديمة عن الروح، مثلما في 'كتاب البوابات' و'نشيد آتون'، لكن بلغته الكونية الخاصة.
2. نص 'أسكليبيوس' (Asclepius): في شؤون الإنسان والكون
هو نص أقرب إلى خطبة فلسفية، موجّه من هرمس إلى تلميذه أسكليبيوس، يتناول فيه موضوعات الطب، الروح، السياسة، العبادة، والخلق.
▪️ أهم الأفكار:
الكون حي، نابض، وكل جزء فيه يتفاعل مع الجزء الآخر.
الإنسان هو 'العمل الأعظم' (Magnum Opus)، يحمل بداخله الإلهي والبهيمي.
الكهنة ليسوا رجال دين فحسب، بل علماء روح، وأطباء كونيون، يعملون على شفاء الأرض.
اقتباسات.
'كما في السماء كذلك على الأرض، وكما في النفس كذلك في الجسد.'، 'الإنسان هو معبد الله… من عرف نفسه، عبد ربّه بحق، 'الطب ليس دواء الأجساد فقط، بل دواء الأرواح المريضة بالجهل والشهوة.'
تحليل:
'أسكليبيوس' يمد الجسر بين الحكمة المصرية القديمة وبين الطب، والطب هنا روحاني شمولي، لا ميكانيكي. وهو يربط بين الإنسان والكون بعلاقة مقدسة تُعيدنا إلى طقوس الكهنة المصريين الذين كانوا يُمارسون الطب والفلك والديانة في آنٍ واحد.
بين النصوص والهيروغليفية: مصر في قلب الكتاب
تحوت المصري (هرمس) هو كاتب الآلهة، وراعي 'ماعت' (الحق الكوني). في النصوص الهرمسية، يعود كـ'العقل المتكلم'.
مصطلحات مثل: 'النور'، 'القلب'، 'الصعود'، 'التطهير' لها أصول في اللاهوت المصري القديم.
التشابه واضح مع تعاويذ كتاب الموتى، لكن الكتب الهرمسية تخاطب الأحياء الباحثين عن النور، لا الموتى الباحثين عن النجاة.
علاقة الكتب الهرمسية بالتصوف والخيمياء
هذه النصوص ألهمت:
الفلاسفة المسلمين مثل الفارابي وابن عربي
الخيميائيين الأوروبيين (الخيمياء = al-kīmiyāʾ = العلم الإلهي)
القبّالية اليهودية، والمدارس الباطنية المسيحية
فكلها اقتبست من هذه النصوص رؤية الإنسان كمرآة للإله، والطبيعة ككتاب مقدّس.
مقارنة بين الكتب الهرمسية و'الجفر' و'نهج البلاغة' و'الزوهار'
هل للكتب الهرمسية نظائر في الديانات الأخرى؟ نعم، وبشكل مذهل:
الجفر (نصوص منسوبة للإمام علي): تتحدث عن العلم اللدنّي، والمستقبل، ومفاتيح الغيب. وتتشارك مع الهرمسية في أن 'الحق لا يُعرف بالعين، بل بالبصيرة.'
نهج البلاغة: تجد فيه خطبًا عن الكون، والخلق، والنفس، بأسلوب يجمع بين البلاغة والعرفان. كما في قول الإمام: 'دواؤك فيك، وما تشعر، وداؤك منك، وما تُبصر.' وكأنه صدى لهرمس حين قال: 'من أراد أن يرى الله، فلينظر في نفسه حين يتطهّر.'
الزوهار (Zohar): كتاب التصوف اليهودي، يقول إن النور هو الأصل، وإن الإنسان هو الحرف الذي ينطق الله من خلاله. وهي مفاهيم تنتمي صراحة للفكر الهرمسي.
المدارس الباطنية المسيحية: كالروزكروشيين، الذين رأوا في هرمس مرشدًا خفيًّا للمعرفة الإلهية.
الفكرة المشتركة: الإنسان مرآة للكون… وكل نصّ مقدّس ليس للقراءة، بل للانكشاف الداخلي.
المبادئ السبعة للفلسفة الهرمسية
بين السطور، تختبئ شيفرة الكون…
استنادًا إلى النصوص الهرمسية (خاصةً كتاب 'الكيباليون' الذي يُعدّ خلاصة التراث الهرمسي)، تُوجَز المبادئ الكونية السبعة التي تحكم الوجود كالتالي:
1. مبدأ العقلانية (Mentalism)
'الكون عقلٌ لا متناهٍ'
– كل المادة والطاقة في الكون هي نتاج 'عقل إلهي' (Nous).
– العالم المادي ظاهرة عقلية، والإنسان قادر على تشكيل واقعه عبر الفكر.
2. مبدأ التناظر (الترابط)
'كما في الأعلى كذلك في الأسفل، كما في السماء كذلك على الأرض'
– الكون نظام متكامل: القوانين نفسها تحكم المستويين المادي والروحي.
– مثال: دورات الطبيعة (الموت/الولادة) تعكس صعود الروح ونزولها.
3. مبدأ الاهتزاز (Vibration)
'لا شيء ساكنٌ، كل شيء يتحرك، كل شيء يهتز'
– المادة والطاقة والروح تختلف في ترددات اهتزازها فقط.
– المعرفة العليا تُكتسب بضبط اهتزاز النفس (عبر التأمل).
4. مبدأ القطبية (Polarity)
'كل شيء ثنائي، كل الأضداد متطابقة في طبيعتها'
– المتضادات (كالخير/الشر، الحرارة/البرودة) وجهان لنفس الجوهر.
– تغيير الطاقة السلبية إلى إيجابية يتم بتحويل القطب.
5. مبدأ الإيقاع (Rhythm)
'لكل فعل رد فعل، لكل صعود نزول'
– الكون يسير بدورات متبادلة (ليل/نهار، حرب/سلام).
– الحكيم يتجاوز التأرجح بالتوازن الداخلي.
6. مبدأ السببية (Cause and Effect)
'كل سبب له معلول، كل معلول له سبب'
– الصدفة وهم، وكل حدث نتاج قانون كوني.
– تحرر الإنسان يتم بفهم الأسباب الخفية وراء الأحداث.
7. مبدأ الجنسين (Gender)
'الجنس في كل شيء، الذكر والأنثى في كل مخلوق'
– الذكورة (فاعل) والأنوثة (منفعل) قوتان متكاملتان في الخلق.
– يتجلى في الطبيعة (التلقيح) وفي النفس (العقل/الحدس).
أين وُجدت كتب هرمس؟ وكيف كُشف عنها؟، رحلة المخطوطات من المعابد إلى الأكاديميات
وهو فصل مهم جدًا لربط كل نص هرمسي بمكان اكتشافه، وتاريخه، وكيف وصل إلينا.
أين وُجدت كتب هرمس؟ وكيف كُشف عنها؟ من رمال نجع حمادي إلى مخطوطات فلورنسا… حكاية اكتشاف الحكمة المفقودة على عكس ما قد يتصوّره البعض، لم تُكتشف 'الكتب الهرمسية' كلها في مكانٍ واحد، بل ظهرت متفرقة على مدار قرون، في لغات ومناطق مختلفة، ثم جُمعت لاحقًا تحت اسم Hermetica. وهنا نفصّل لكِ أين وُجد كل جزء، وكيف خرج من الظل إلى النور:
1. نص 'الخطاب عن الثامن والتاسع' (Discourse on the Eighth and Ninth)
مكان الاكتشاف: منطقة جبل الطارف – نجع حمادي، مصر
سنة الاكتشاف: 1945
اللغة: قبطية (لهجة صعيدية)
الوعاء المخطوطي: الكودكس السادس – مكتبة نجع حمادي
النوع: نص هرمسي غنوصي صوفي
كيفية اكتشافه:
عُثر عليه ضمن مجموعة ضخمة من المخطوطات في جرة فخارية، على يد فلاحين محليين.
وكان محفوظًا مع نصوص غنوصية أخرى، مما يُظهر أن الهرمسية في صعيد مصر لم تكن فلسفة فحسب، بل ممارسة روحية.
أين هو الآن؟
معظم النسخ الأصلية محفوظة في المتحف القبطي بالقاهرة، مع نُسخ مصوّرة في مكتبات عالمية.
2. نصوص 'كوربوس هرمتيكم' (Corpus Hermeticum)
مكان الاكتشاف: لا تعود إلى اكتشاف ميداني حديث، بل تُحفظ في مخطوطات قديمة بأوروبا
أقدم مخطوطة: Codex Laurentianus – مكتبة لورينتسيانا، فلورنسا، إيطاليا
اللغة: يونانية
الزمن: نصوص كُتبت في مصر بين القرن 1 ق.م و3 م، وجُمعت في عصر النهضة
كيفية اكتشافها/نشرها:
في عام 1463، أمر كوزيمو دي ميديشي بترجمتها من اليونانية إلى اللاتينية على يد مارسيليو فيتشينو، معتقدًا أنها أقدم من أفلاطون.
الترجمة أعادت إحياءها في عصر النهضة الأوروبي، وأثّرت في مفكرين مثل بيكو ديلا ميراندولا وجيوردانو برونو.
أين هي الآن؟
المخطوطة الأصلية في فلورنسا، وطبعاتها الكاملة نُشرت لاحقًا في أكاديميات مثل أكسفورد وهارفارد.
3. نص 'أسكليبيوس' (Asclepius)
اللغة: لاتينية (مع أجزاء قبطية مفقودة)
المصدر الأصلي: ترجمة لاتينية للنص اليوناني المفقود
المكان: وُجدت مخطوطاته في مكتبات أوروبية، أقدمها في الفاتيكان
كيفية وصوله إلينا:
كان محفوظًا ضمن مؤلفات تُنسب لعلماء وفلاسفة، واعتُبر نصًا روحانيًا/طبيًا مهمًا في العصور الوسطى.
النسخ التي وصلت إلينا تختلف قليلاً، لكن جوهر النص واحد: الإنسان والكون كجسدين متوازيين.
أين هو الآن؟
نسخه الأصلية محفوظة في مكتبة الفاتيكان، ومتاح بنسخ مترجمة في جامعات كبرى.
4. 'كوري كوزمو' (Kore Kosmou) – عذراء الكون
اللغة: يونانية
الاكتشاف: ليس ميدانيًا، بل أدبيًا – وُجد ضمن كتابات لاحقة جمعها الفلاسفة البيزنطيون
الزمن: يرجح أنه صيغ في مصر في القرن الثاني الميلادي، لكنه دُمج ضمن التراث النيو-أفلاطوني
أين هو الآن؟
نُشر ضمن مؤلفات 'هيرميس الهرامسة' في مجموعات فلسفية يونانية، مثل مجموعة ستوبايوس.
5. شذرات ستوبايوس (Stobaeus Fragments)
المكان: اقتباسات حفظها الفيلسوف 'يوحنا ستوبايوس' في القرن الخامس الميلادي
اللغة: يونانية
المصدر: مدينة منوبيوليس (الواقعة في مقدونيا، اليونان اليوم)
أهميته:
أنقذ هذا الكاتب أجزاء كبيرة من نصوص هرمسية فُقدت، عن طريق تضمينها في موسوعته الأخلاقية.
أين تُحفظ؟
نُشرت ترجماتها ضمن مجموعات الفلسفة الأخلاقية اليونانية – موجودة في أغلب مكتبات الفلسفة الكلاسيكية.
* خريطة الاكتشاف: مصر… ثم أوروبا… ثم العودة
النص مكان الاكتشاف اللغة مكان الحفظ الحالي، الخطاب عن الثامن والتاسع نجع حمادي، مصر قبطية المتحف القبطي + هارفارد، كوربوس هرمتيكم فلورنسا، إيطاليا يونانية مكتبة لورينتسيانا
أسكليبيوس الفاتيكان لاتينية مكتبة الفاتيكان، كوري كوزمو اليونان/الإسكندرية يونانية مجموعات بيزنطية فلسفية، شذرات ستوبايوس مقدونيا يونانية موسوعات كلاسيكية فلسفية
ضمن الرمل إلى الروح
كل كتاب من كتب هرمس خرج من تربة مختلفة، لكن جميعها تشمّ رائحة مصر القديمة، وتتكلم بلسانها الخفي، من جرة في صعيد مصر، إلى مخطوط في فلورنسا، إلى همسات في الفاتيكان…
إنها أصوات تحوت القديمة، وهي تعود لتُنصت إليها الأرواح الباحثة.
مصر حين كتبت الخلود بلغة الروح
من مصر خرجت الحكمة، وتوزّعت على العالم في ألف لسان… لكنها تعود الآن لمن يسمعها بالقلب.
فهرمس لم يكن نبيًّا لحضارة، بل ناقلًا لصوتٍ أقدم… صوت الروح، الكتب الهرمسية ليست مجرد بقايا غنوصية، بل مرآة للفكر المصري العميق حين خرج من المعابد وراح يبحث عن الإنسان الكامل.
وفي زمننا، حيث ضاعت الحِكمة بين ضجيج الحداثة، تعود هذه النصوص لتذكّرنا:
أن النور لا يُنال بالحواس، وأن الحقيقة لا تُقال، بل تُذاق كما قال هرمس: 'من أراد أن يرى الله، فلينظر في نفسه حين يتطهّر.'
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

أخبار السياحة
منذ 11 ساعات
- أخبار السياحة
دكتور قاسم زكي يكتب: عبقرية الهوية في حضارة مصر القديمة..الذات التي صنعت الخلود
عبر أكثر من ثلاثة آلاف عام، لم تتغير ملامح الحضارة المصرية القديمة بشكل جذري، ولم تذُب في ثقافات الغزاة أو تتلاشى في تقلبات الزمان. ما سرّ هذا الثبات؟ وكيف حافظ المصري القديم على خصوصيته الثقافية والحضارية؟ الإجابة تكمن في مفهوم عميق ومركزي: الهوية. فهوية مصر القديمة لم تكن مجرّد شعور بالانتماء، بل منظومة متكاملة من الفكر، واللغة، والرمز، والطقس، والمكان، والتاريخ، واللغة، والدين. عبقرية المصريين القدماء أنهم لم يبنوا دولة فقط، بل بنوا ذاتًا جماعية لها ملامح راسخة تُحسّ وتُرى، وتستعصي على الذوبان. أولًا: الأرض… حجر الزاوية في الهوية شكلت أرض مصر محورًا رئيسيًا في تشكل الهوية. لم تكن الأرض مجرد مجال زراعي، بل كانت 'كيانًا حيًا'، مرتبطًا بالنيل والفيضان والفصول. وكان المصري يرى في أرضه مهد الحياة، وموطن الآلهة، ومسرح الخلق والبعث. عبّر المصريون عن ارتباطهم بالأرض من خلال أسماء الأقاليم، والرموز النباتية (زهرة اللوتس للجنوب، والبردي للشمال)، كما قدّسوا النيل وأطلقوا عليه 'إيتروعا' (النهر العظيم)، وكان الاحتفال بفيضان النيل طقسًا وطنيًا عامًا. ثانيًا: اللغة والكتابة… سلاح الدفاع عن الذات كانت اللغة المصرية القديمة (والكتابة الهيروغليفية خاصة) وسيلة ترميز للهوية. لم تكن فقط نظامًا للتواصل، بل أداة لحفظ الذاكرة الجمعية. كتب المصريون على جدران المعابد، وعلى البرديات، وفي المقابر، كل ما يعكس فكرهم وشعورهم ومعتقداتهم. ولم تتغير البنية الأساسية للغة المصرية رغم التحولات السياسية، بل تطورت من الهيروغليفية إلى الديموطيقية ثم القبطية، مع احتفاظها بجذورها الأصلية. وهذا الاستمرار اللغوي يبرهن على تمسك المصريين القدماء بهويتهم حتى مع موجات التأثير الخارجي. ثالثًا: الدين… بنية الهوية العميقة تُعد الديانة المصرية القديمة من أقوى عناصر الهوية، لأنها شكّلت الوعي الجمعي وربطت بين الفرد والمجتمع والكون. آمن المصريون بفكرة 'الماعت' (Ma'at) التي تعني النظام والعدالة والتوازن، واعتبروها أساس الحياة الفردية والسياسية والكونية. لم يكن الدين طقسًا عابرًا، بل فلسفة وجود. فكل شيء في حياة المصري يخضع لنظام إلهي: الزراعة، الموت، السلطة، وحتى النجوم. هذا الإيمان العميق أنتج هوية روحانية أخلاقية، راسخة لا تزعزعها تغيرات الحكم أو الزمان. رابعًا: الرموز… مفاتيح الذاكرة الجماعية امتلأت الحضارة المصرية برموز شديدة الخصوصية والوضوح: • الصقر (حورس): رمز الملكية والحماية. • عنخ (☥): رمز الحياة الأبدية. • الجعران: رمز البعث والتجدد. • اللون الأبيض: رمز النقاء، وارتبط بالتاج الملكي للوجه القبلي. تلك الرموز لم تكن زينة شكلية، بل شفرات للهوية، يفهمها المصري ويستشعرها ويعيش بها، سواء في الجداريات أو الملابس أو أدوات الحياة اليومية. خامسًا: السلطة… هوية الدولة المركزية تميّزت مصر بهوية سياسية واضحة منذ عهد الملك 'مينا' بتوحيد القطرين، مما أوجد شعورًا بالوحدة والانتماء لكيان مركزي اسمه 'كِمِت' (الأرض السوداء). كانت مصر تُرى كوحدة روحية وإدارية، تُحكم من ملك يُعتبر 'ابن الإله رع'، وتخضع لقوانين كونية واجتماعية. الملك لم يكن مجرد حاكم، بل تجسيد للهوية العليا للدولة، يُلبس تاجين (الأحمر والأبيض) للدلالة على توحيد الأرض، ويقوم بدور ديني وسياسي في آنٍ واحد، مما يعمّق فكرة الدولة ذات الذات الواحدة. سادسًا: الفن والعمارة… ذاكرة الذات المتجسدة الفن المصري القديم لم يكن تجريديًا أو عبثيًا، بل فنًّا وظيفيًا يخدم الهوية. فالتماثيل والمقابر والمعابد وُضعت في سياق رمزي محدد، يخدم تصور المصري عن نفسه والكون. الأهرامات، مثلًا، لم تكن مجرد مقابر، بل تجسيدًا لهوية خالدة، تنطق بالتنظيم والدقة والخلود. كما أن الجداريات كانت نوعًا من 'السيرة الذاتية الجماعية'، تسجل أفعال الإنسان وارتباطه بالقيم العليا، كالممات والبعث والخلود. سابعًا: الزي والاسم والطقس… تفاصيل تصنع الذات كان لكل مصري اسمه الذي يحمل بعدًا دينيًا أو اجتماعيًا (مثل 'سخم رع'، 'با نفر')، كما كان يرتدي زيًا يعكس طبقته ومهنته ومكانته. المرأة، مثلًا، كانت تُصوّر بملابس دقيقة، وتسريحات مميزة، وأحيانًا بتيجان رمزية، تعكس دورها المحوري في الأسرة والدين، أما الطقوس، مثل حفلات الميلاد أو الأعياد الدينية أو طقوس الدفن، فكانت تُعيد صياغة الهوية بشكل دوري. ثامنًا: الآخر… وعي الذات عبر المقارنة كان المصري يعرّف نفسه من خلال تمايزه عن 'الآخرين' (الليبيين، النوبيين، الآسيويين). وتُظهر النقوش هذه الشعوب بملابس وهيئات مغايرة، مما يشير إلى إدراك المصري لخصوصيته. ولكن هذا الوعي لم يكن عنصريًا بقدر ما كان دفاعًا عن ذات حضارية متميزة. وقد مارست مصر سياسة استيعاب للثقافات الأخرى دون أن تفقد هويتها، فحين حكمها الفرس ثم اليونان ثم الرومان، احتفظت بمعتقداتها ورموزها ولغتها في المعابد والمجتمعات المحلية. خاتمة: إن عبقرية الهوية في حضارة مصر القديمة تتجلى في قدرتها على البقاء والتجدد، رغم العواصف والاحتلالات والتحولات. لم تكن الهوية شعارًا، بل نظام حياة، وأسلوب تفكير، وفن تعبير، وإيمان بالخلود. ولهذا لم تمت مصر القديمة، بل بقيت حية في وجدان أبنائها ودهشة زوارها، تشهد أن من امتلك الوعي بذاته، لا يُقهر. كاتب المقال: أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة، جامعة المنيا؛ورئيس اللجنة الوطنية للعلوم الوراثيةبأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، والرئيس الأسبق للجمعية الأفريقية لعلوم المحاصيل، وأحد مؤسسي المجلس العالمي للنبات (GPC)؛ عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو اتحاد الآثاريين المصريين، وعضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين

أخبار السياحة
منذ 11 ساعات
- أخبار السياحة
التعليم تعلن رسوم الدراسة والإعفاءات للعام الدراسي 2025/2026
أعلنت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني تفاصيل الرسوم الدراسية والخدمات الإضافية للعام الدراسي الجديد 2025/2026، وذلك وفقًا للقرار الوزاري رقم 156 لسنة 2025، الذي حدد القيم المالية لكل مرحلة تعليمية وآلية الإعفاءات. وبحسب القرار، جاءت الرسوم الدراسية (شاملة التعليم التفاعلي والمنصات التعليمية) كالتالي: رياض الأطفال حتى الصف الثاني الإعدادي 395 جنيهًا، الصف الثالث الإعدادي 295 جنيهًا، الصف الأول الثانوي العام 620 جنيهًا، الصفين الثاني والثالث الثانوي العام 605 جنيهات، الصف الأول الثانوي الفني 320 جنيهًا، والصفين الثاني والثالث الثانوي الفني 305 جنيهات. كما حددت الوزارة رسوم خدمة القيد والتسجيل والحفظ الإلكتروني (تدفع مرة واحدة فقط) بـ100 جنيه للمدارس الحكومية والرسمية لغات والخاصة عربي، و200 جنيه للخاصة لغات، و500 جنيه للمدارس الدولية، فيما بلغت رسوم التحويل بين المدارس 100 جنيه لجميع الصفوف. وشددت الوزارة على ضرورة تقديم إيصال سداد الرسوم وإيصال خدمة القيد ضمن أوراق التقديم، مع الإعفاء الكامل للفئات الواردة في القرارات الوزارية 45 لسنة 2020 و170 لسنة 2022، إضافة إلى أبناء شهداء ثورة 25 يونيو، والمستفيدين من معاش الضمان أو مساعدات التضامن الاجتماعي، والأيتام، وأبناء المرأة المعيلة أو المطلقة أو المهجورة، وذوي الاحتياجات الخاصة وطلاب الدمج، وأبناء المفرج عنهم حديثًا بدون دخل، وأبناء مصابي الثورة، وطلاب مدارس حلايب وشلاتين وأبو رمادة وشمال سيناء، فضلًا عن طلاب التربية الخاصة والتعليم المجتمعي والفصل الواحد والمدارس الصديقة للفتيات والأطفال والمتحررين من الأمية.

أخبار السياحة
منذ 14 ساعات
- أخبار السياحة
دكتور قاسم زكي يكتب: عبقرية الطبقات الاجتماعية في حضارة مصر القديمة:
حين نتأمل البناء الاجتماعي في حضارة مصر القديمة، نكتشف أنه لم يكن مجرد نظام جامد قائم على التراتب، بل كان منظومة دقيقة محكمة، جمعت بين الوضوح والتكامل، وبين الانضباط والتكافل. لقد أسّس المصري القديم ما يمكن وصفه بـ'عبقرية الطبقات الاجتماعية'، حيث لم تكن الطبقة مجرد موقع اجتماعي، بل وظيفة وجودية، ودور تكاملي يخدم هدفًا أعلى: استقرار الدولة، وتحقيق ماعت – النظام الكوني والعدالة الأخلاقية. الطبقات الاجتماعية… بناء هرمي لا فوضى فيه تشبه الطبقة الاجتماعية في مصر القديمة حجارة الهرم: لكل منها موضعها، ووظيفتها، ودورها في دعم ما فوقها. قمة الهرم شغلها الفرعون، بوصفه الحاكم الإلهي، ثم تليه طبقة النبلاء والكهنة، تليهم طبقة الموظفين والكتبة، ثم طبقة الحرفيين والعمال، وأخيرًا الفلاحون والعبيد. لكن المدهش أن هذا الترتيب لم يُبنَ على قمع أو إذلال، بل على فكرة 'الوظيفة الوجودية': فكل طبقة لها دورها المشروع والمُحترم، وتُقيَّم بمدى إتقانها لمهمتها، لا بمجرد انتمائها. الفرعون: على القمة لكنه خادم للماعت الفرعون لم يكن طاغية متعاليًا، بل كان 'ابن رع' وممثل الآلهة على الأرض، ومسؤولًا عن إقامة العدالة، وحفظ التوازن بين الطبقات. لم يكن الفرعون خارج النظام، بل في قلبه. وكان يُحاسَب بعد موته على مدى عدله، تمامًا كأدنى الفلاحين. وتظهر النقوش أن الفرعون كان يجلس على العرش لكنه يقدّم القرابين، ويقود الجيوش، ويصدر القوانين، ويصغي لشكاوى الشعب، أي أنه ليس زعيمًا مستبدًا، بل راعٍ للمجتمع الهرمي. الكهنة والكتبة: حماة الروح والعقل تأتي طبقة الكهنة في المرتبة الثانية، نظرًا لأهمية الدين في حياة المصريين، فهم حماة العقيدة، ووسطاء بين الناس والآلهة، ومسؤولون عن الطقوس والمراسم. أما الكتبة، فكانوا نخبة مثقفة تدير شؤون الدولة: من الضرائب إلى القوانين، من الزراعة إلى الحسابات. وقد وصفهم المصريون بأنهم 'عيون الدولة وعقولها'، وكان الانتماء لهذه الطبقة علامة نبوغ، ويمكن لأي شخص مجتهد أن يرتقي إليها بالتعليم. العمال والحرفيون: اليد التي شيّدت الحضارة رغم أنهم لم يكونوا في أعلى الهرم، فإنهم كانوا محل احترام كبير، لأنهم بنوا المعابد، وصنعوا التماثيل، وزيّنوا القبور، ونقشوا الأسرار. وقد وُجدت برديات كاملة تصف ظروف عملهم، وأجورهم، واحتجاجاتهم إن تأخرت مستحقاتهم، مما يدل على وعي الدولة بمكانتهم. كان الحرفي يُكافأ إن أتقن عمله، ويُكرَّم في حياته وبعد موته، وبعضهم دُفن في مقابر خاصة، ونُقشت أسماؤهم على جدران الأعمال الفنية. الفلاحون: العمود الفقري للمجتمع يحتل الفلاحون القاعدة، لكنهم كانوا العمود الذي يحمل الهرم بأكمله. كانوا مسؤولين عن الزراعة، والري، وجمع المحاصيل، وتقديم الضرائب العينية، وقد اعترف الحكماء المصريون بأهميتهم، إذ يقول أحد النصوص: 'إن لم يزرع الفلاح، لن يأكل الملك، ولن يقيم الكاهن طقوسه، ولن يكتب الكاتب سجلّه.' ورغم الصعوبات، فقد نال الفلاح تقديرًا أخلاقيًّا، وذكرت الوثائق شكاوى الفلاحين، وكيف كانت تُعرض على القضاة للنظر فيها، ما يدل على وجود حد أدنى من العدالة الطبقية. العبيد والخدم: طبقة هامشية لا منبوذة كانت طبقة العبيد والخدم موجودة، لكنها لم تكن عبودية عنصرية كما في حضارات أخرى، بل نشأت غالبًا نتيجة أسرى الحروب أو فقر مدقع. ومع ذلك، احتفظوا بكرامتهم الإنسانية، وبعضهم ترقّى في المناصب، بل وصاروا كتبة أو خدّامًا مخلصين لدى الأسرة الملكية. مرونة النظام الاجتماعي ما يميّز العبقرية الاجتماعية للمصريين هو أن النظام لم يكن مغلقًا تمامًا. فالكفاءة والعلم والولاء كانت تفتح الباب للترقي. فقد يُصبح ابن الفلاح كاتبًا، أو الحرفي مدير ورشة ملكية، وهذا يبرهن على أن المجتمع كان يحترم الإنجاز، لا فقط الانتماء الوراثي. علاقة الطبقات ببعضها: الاحترام لا الصراع لم تُبْنَ علاقة الطبقات على العداء أو الحسد، بل على التكامل. كان هناك فاصل واضح، لكنه لم يكن جدارًا عازلًا. فالطبقة الأعلى تعطف على الأدنى، والأدنى تحترم الأعلى، في مناخ تحكمه 'ماعت' – التوازن الأخلاقي والواجب المتبادل. الفن والمقابر: تجسيد طبقي راقٍ صوّر الفن المصري كل طبقة بسماتها الواقعية دون تحقير. فالفرعون يظهر مهيبًا، والكاهن وقورًا، والكاتب يقظًا، والنجار في ورشته، والراعي يقود أغنامه. وكلٌّ منهم يمارس وظيفته بكفاءة، ويجد موضعه في لوحة الحياة. خاتمة: درس اجتماعي خالد لقد قدّمت حضارة مصر القديمة نموذجًا فريدًا في إدارة المجتمع الطبقي: ليس بالمساواة المطلقة، ولا بالظلم المطلق، بل بالتكامل، والوضوح، والواجب، والاحترام المتبادل. كانت عبقرية هذا النظام في قدرته على أن يصمد لآلاف السنين، ويُنتج حضارة لا تزال تدهشنا. وإذا كان كل مجتمع حديث يسعى للتوازن بين الفئات، فإن مصر القديمة تعلّمنا درسًا خالدًا: لا خلل في الهرم ما دامت أحجاره مترابطة، وكل منها يعرف مكانه وقيمته. كاتب المقال: أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة، جامعة المنيا؛ورئيس اللجنة الوطنية للعلوم الوراثيةبأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، والرئيس الأسبق للجمعية الأفريقية لعلوم المحاصيل، وأحد مؤسسي المجلس العالمي للنبات (GPC)؛ عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو اتحاد الآثاريين المصريين، وعضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين