
الولادة العسيرة لسورية الجديدة
صراحة نيوز ـ منذر الحوارات
تحولت سورية إلى ميدان لشتى أنواع الصعاب والتحديات، بل والمواجهات التي باتت تهدد وحدتها واستقرارها، فبعد زخم الاعترافات التي حظيت بها القيادة الجديدة، وجد الحكم الجديد نفسه في دوامة من الصراعات، فقد دخل في مواجهة دامية في الساحل مع أتباع النظام السابق، الأمر الذي عكس نجاح إيران في جرّ الحكم الجديد إلى تعقيدات الصراع الطائفي بدلًا من المواجهة المباشرة، بغية إدخال سورية الجديدة في مستنقع الانتقام، وبالتالي إثبات أن الحكومة الجديدة تفشل في ضبط الأمن دون العودة إلى دوامة العنف مجددًا
في الأثناء، كانت الخلافات والتوترات مع الدروز تطفو على السطح، حيث رأى بعضهم في الحكم الجديد خطراً على مصالحهم، مما دفع بعض شيوخهم إلى الاستنجاد بإسرائيل، التي لم تتأخر في استغلال الفرصة لمحاولة زرع مزيد من الفتنة والانقسام، بل زادت على ذلك بأن قامت باحتلال أراضٍ في الجنوب السوري، رطّب الأجواء قليلًا توقيع الاتفاق مع قسد، والذي، بالرغم من طبيعته الأمنية، يمكن أن يشكل نقطة انطلاق للاعتراف بالأكراد كمكون سوري له خواصه الثقافية، لكن في إطار الدولة السورية، وهذا مرهون بتوسيع الاتفاق ليشمل المكونات الكردية السياسية والاجتماعية، وفي حال تحقق ذلك، فسيكون نقلة نوعية في سبيل الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، أما الإعلان الدستوري الذي أُنتج في مؤتمر الحوار الوطني، فلا يزال موضع شدّ وجذب بين مختلف الأطراف، إذ أثبتت الأيام التالية لإعلانه أنه لا يشكل نقطة التقاء لجميع السوريين، كل ذلك يطرح السؤال الأهم: هل سورية على مشارف الاستقرار، أم أنها تسير نحو مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار؟
معضلة الصراع السوري أنه ليس حكراً على الأطراف المحلية فحسب، بل يعكس تدخل أطراف خارجية عديدة، أبرزها الولايات المتحدة، وروسيا، وتركيا، وإيران، وإسرائيل، والدول العربية، ولكلٍّ من هؤلاء أدواته على الأرض ورؤيته الخاصة لما ينبغي أن تكون عليه سورية، كما أن لكل طرف أجندته الخاصة التي تخدم مصالحه، قد تتقاطع هذه الأجندات والمصالح هنا أو هناك، لكن محصلة اختلافاتها هي ما سيتحكم بمستقبل سورية، وهذا يعتمد على قدرة الإدارة الجديدة على التعامل مع كل طرف، ومحاولة إما الاتفاق معه أو على الأقل تحييده
فأميركا مثلاً تسعى إلى تبريد وتهدئة المنطقة، وبالتالي فهي أكثر ميلاً لاستقرار ووحدة سورية وهي تختلف جذرياً مع إسرائيل في هذا، لذلك شجعت الاتفاق بين قسد ودمشق كنقطة انطلاق لاتفاقات لاحقة، وقد أكد ذلك مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شنكر عندما قال إن سورية ليست متجهة نحو نظام فيدرالي، بل نحو دولة مركزية موحدة، أما روسيا، فجُلّ مبتغاها هو إبقاء قواعدها العسكرية في الساحل، وهو ما يروق لإسرائيل التي تسعى لموازنة الوجود التركي، بينما تضع تركيا هاجس الأكراد واللاجئين في ذروة اهتماماتها، في المقابل، تحاول إيران إثبات أن الحكم الجديد ليس سوى مجموعة من الإرهابيين، وتتفق في هذا مع إسرائيل، حيث يحاول كلاهما استثمار وتغذية قلق الأقليات لمصلحته.
كل هذه المعطيات تضع سورية أمام ثلاثة سيناريوهات محتملة:
السناريو الأول الوحدة والاستقرار، وذلك في حال نجحت الحكومة المؤقتة في فرض سيطرتها على كامل البلاد والدخول في مرحلة التعافي السياسي والاقتصادي.
السيناريو الثاني، استمرار الفوضى، وهو سيناريو وارد إذا ما استمرت المواجهات بين الحكومة المؤقتة وبقايا نظام الأسد، وتصاعدت التوترات مع الدروز، وفشل الاتفاق مع قسد
السيناريو الثالث، الحرب الأهلية بالوكالة، وهو السيناريو الأكثر كارثية، إذ قد يقود البلاد إلى سنوات من المواجهات، ما قد يؤدي إلى تقسيمها وفقًا لمصلحة كل طرف، على غرار النموذج اللبناني.
كل ذلك يضعنا أمام خيارين: إما خيار الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز في كتابه الشهير 'ليفياثان' كتعبير عن الدولة القوية المركزية التي تقف في وجه الفوضى والانقسامات أو نموذج المسامحة الذي اتبعته جنوب أفريقيا بعد انهيار نظام الفصل العنصري عام 1990، بين الخيارين مسافة شاسعة وقدر هائل من الدماء، لكن بلا شك، فإن سورية بحاجة إلى أحدهما، وقد يبدو النموذج الجنوب أفريقي هو الأنسب، نظراً لما يتمتع به من ميزة رئيسية تتمثل في تحييد الأطراف الخارجية، أما نموذج هوبز، ففي حال تطبيقه، فإنه يستدعي مزيداً من التدخل الخارجي، مما يعني أن مصير سورية لن يكون في أيدي السوريين وحدهم، بل سيكون رهناً بمصالح الأطراف المتداخلة في الصراع، لذلك فإن ولادة سورية الجديدة شديدة التعسر فهي إما أن تذهب هي والإقليم نحو الفوضى، أو أن يسير بها الإقليم وبنفسه نحو الاستقرار
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العرب اليوم
منذ 31 دقائق
- العرب اليوم
من أشعل حرب طرابلس؟
هذا سؤال يتردد وفي حاجة لإجابة دقيقة عنه، بعد أن انطلقت مظاهرات تطالب بإسقاط الحكومة في طرابلس التي اتهمها بيان عمداء البلديات والتحركات الشعبية بالقتل واستخدام السلاح لقمع المتظاهرين، الأمر الذي عبرت عنه البعثة الدولية بالقلق وتحذير الحكومة من تكرار الاعتداء على المتظاهرين من قبل حكومة غير منتخبة ديمقراطياً، فقط جاءت نتيجة اتفاق سياسي ولا تريد أن تغادر إلا عبر الانتخابات؛ في ثنائية شيزوفرينية. البعض نسب الحرب لغريزة البقاء التي تعاني منها حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية بحكم سحب الثقة منها من قبل البرلمان الشرعي في البلاد، فكأن هذه الحكومة كان شعارها: «نحكمكم أو نخرب بيوتكم»؛ خياران لا ثالث لهما تعلنهما الحكومة بكل عنجهية وتسويف وتجاهل للأزمة الليبية التي تتفاقم وتتشظى، رغم جميع المحاولات المتعددة لإعادة تجميع الفرقاء. وقد جاء بيان لعمداء بلديات المنطقة الغربية والجبل الغربي ليدعو جميع الليبيين للانتفاض وإسقاط حكومة الدبيبة، حيث ورد في البيان: «نطالب مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والشرطية للانحياز الكامل للشعب الليبي، ودعم انتفاضته الشعبية. حكومة الدبيبة استخفت بدماء أبناء العاصمة، وباعت ورهنت تراب ليبيا للاحتلال الأجنبي، وندعو الشعب الليبي لإطاحة هذه الحكومة العميلة، التي فرطت في السيادة الوطنية ومقدرات الوطن وأزهقت الأرواح، ندعو لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتشكيل حكومة وطنية توافقية»، وطالبوا مجلسي النواب والدولة وبشكل عاجل، بتسمية رئيس حكومة وطنية جديدة تتولى زمام الأمور، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد تغول الميليشيات وعجز الحكومات المتعاقبة عن احتواء الميليشيات، بما في ذلك حكومة الدبيبة ورضوخها لسطوة الميليشيات لدرجة شرعنتها بوصفها قوات نظامية، في حين هي تدين بالولاء لأمراء الميليشيات، ولا تمتلك الحكومة أي سلطة عليها، سوى أنها تدفع لها الإتاوات. فالميليشيات في العاصمة تشكلت على أساس المال والمصالح المشتركة، وأخرى جهوية كميليشيات من مدينة مصراتة التي تدعم رئيس الحكومة من باب الحمية القبلية، وأخرى من الزنتان، اللتين تتنازعان تقاسم النفوذ في العاصمة، في مقابل ظهور ميليشيات «طرابلسية» التشكيل، مثل ميليشيا غنيوة الذي قتل مؤخراً في كمين نصب له. واعترف رئيس الحكومة بقتل القوة المسلحة التي تحمل رقم 444، قائدَ جهاز دعم الاستقرار، الذي وصف بقائد ميليشيا، في حين أنَّ القوة التابعة له هي بحكم قرار من رئيس الحكومة نفسه وتكليف غنيوة بترؤس جهاز دعم الاستقرار، الذي وصف في أول خلاف بأنَّه ميليشيا، واعتراف رئيس الحكومة بسطوة الميليشيات بذلك في خطاب متلفز بعد انتهاء العمليات القتالية في طرابلس. مقتل قائد جهاز دعم الاستقرار قد يكون جزءاً من خطة التخلص من قائد ميليشيا في ثوب مشرعن مسبقاً. صحيح أن تاريخ الرجل مثقل بالدماء والنهب والابتزاز، لكنه ليوم مقتله كان مشرعناً رسمياً من حكومة تنصلت منه بمجرد مقتله، في حين كان يتسلم الملايين من الدنانير شهرياً من هذه الحكومة. طرابلس العاصمة الليبية أسيرة لمجموعة من الميليشيات المسلحة ذات الطابع الإجرامي والمتطرف، حيث تتنوع فيها الولاءات بين الإسلام السياسي المتطرف، وآخر إجرامي للدفع المسبق كبنادق مستأجرة. طرابلس ميدان سيبيتموس سيفيروس، وطرابلس شارع عمر المختار والسرايا الحمراء وميدان الشهداء وميدان الغزالة، هي اليوم أسيرة ميليشيات الدفع المسبق، حيث سيطرت هذه الميليشيات على العاصمة طرابلس منذ الأيام الأولى لحراك فبراير (شباط) 2011 الذي انتهى بالفوضى وانتشار السلاح، إذ لم يكن هناك أي نية صادقة أو جهد صادق لجمعه ولملمة الفوضى من قبل حلفاء «الناتو» الذي أسقط الدولة الليبية وتركها نهباً للميليشيات، التي أغلبها يدعي التبعية للدولة ويرتدي الملابس العسكرية، ويتقاسم تبعيتها الشكلية تحت وزارات كالداخلية أو الدفاع، بينما الحقيقة هي جماعات غير منضوية تحت سلطة الدولة، بل ميليشيات نهب ومال أسود تتحكم به في قهر السكان ورهن البلاد. طرابلس اليوم تبتلعها نيران الميليشيات، وتغيب فيها سلطة الدولة وسط سطوة المدافع والبنادق، فارتهن القرار السياسي في مؤسساتنا لتوازنات قوى خارجية تتقاسم النفوذ، ومواردنا النفطية، وتُنهب خزائن المال العام.


العرب اليوم
منذ 31 دقائق
- العرب اليوم
لبنان... إحياء اتفاقية الهدنة أمر أكثر من ضروري
يمكن تلخيص الوضع أو التحدي في لبنان حالياً بعنوان الإصلاح والسلاح والعلاقة الجدلية بين الاثنين. فلا مساعدات خارجية من الدول القادرة والراغبة لإطلاق عجلة الإنقاذ إذا لم تتقدم وبسرعة عملية الإصلاح الهيكلي الشامل الذي يحتاجه لبنان. الإصلاح الذي صارت عناوينه ومجمل مضامينه واضحة. وقد انطلق المسار الإصلاحي باعتراف الجميع، ولو ما زالت هنالك خلافات في تقييم الحزم والسرعة، وكذلك الحجم الذي تتم فيه العملية المطلوبة. وهنالك شروط يجب أن تواكب المسار الإصلاحي، حسب المطالب أو المقترحات التي تقول بها الأطراف الخارجية التي يُنتظر أن تنفذ وعودها، متى تحققت هذه الشروط، لتوفير الدعم المطلوب للبنان باعتبار أن استقرار لبنان الفعلي وليس الهش مصلحة لمن يريد الاستقرار في الإقليم. هذه الشروط تندرج أيضاً تحت عنوان حصرية السلاح في يد السلطات اللبنانية، وبالتالي لا شريك لها في هذا المجال. الأمر الذي يعني أن قرار الحرب والسلم يجب أن يبقى في يد السلطة اللبنانية وحدها. الموقف الرسمي اللبناني يتمسك بشكل واضح بهذا الهدف، ويؤكد عليه كل يوم. يبقى التحدي قائماً في كيفية ترجمة أو تحويل هذا الموقف الأكثر من ضروري إلى واقع قائم. هنالك أكثر من حديث عن ضرورة إطلاق حوار وطني هادف ومحدود من حيث أطرافه المشاركة تلافياً للغرق في «مستنقع» الحوار للحوار، الأمر الذي يدخل البلد، في لحظة عصيبة، في لعبة شراء الوقت، لتأجيل ما لم يعد من المقبول أو حتى من الممكن تأجيله، في إطار زمني مفتوح. وإذا كان الجميع يريد تلافي مخاطر الانزلاق في أزمة قد تؤدي إلى مواجهة على الأرض، وتهديد السلم الأهلي في وقت نحن في خضم الحاجة إلى تعزيزه وليس فقط الحفاظ عليه؛ فالمطلوب البدء بإعلان تلتزم به كافة المكونات السياسية اللبنانية، وبالأخص المسلحة، بأن قرار الحرب والسلم، الردع والإكراه في العمل العسكري، يبقى منذ لحظة صدور الإعلان في يد السلطات اللبنانية المعنية وحدها: إنه قرار سيادي بامتياز ولا شراكة فيه مع أحد. وللتذكير، فإن «قواعد اللعبة» بعد التحرير في عام 2000 لم تعد كما كانت عليه من قبل. وقد اعترفت قيادة «حزب الله» بأن العملية العسكرية التي قام بها الحزب في عام 2006 كانت خروجاً عن قواعد اللعبة التي استقرت بعد التحرير. وقد وفرت الحجة لإسرائيل للقيام بحربها. كما أن قواعد لعبة جديدة قد استقرت بعد وقف الحرب ونشر قوات «يونيفيل 2». وقد سقطت هذه القواعد مع الحرب الإسرائيلية التي انطلقت على غزة و«حرب الإسناد»، أو وحدة الساحات من طرف «حزب الله». المطلوب اليوم بعد الإعلان الذي أشرنا إليه عن حصرية قرار الحرب والسلم بيد السلطات اللبنانية، أن يتم في مرحلة أولى جمع السلاح وتجميد دوره كلياً، على أن يتم تسليمه للسلطات اللبنانية المعنية عبر الاتفاق حول ذلك. وعلى لبنان أن يتحرك مع الدول الصديقة وتلك المؤثرة بشكل خاص في الأمم المتحدة (الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن) للدفع عبر الضغط على إسرائيل للانسحاب أولاً من النقاط الخمس، وكذلك التنفيذ الكلي لاتفاقية الهدنة العامة الموقعة في 23 آذار (مارس) 1949، والقبول بتسوية النقاط الست الخلافية الباقية بعد أن تمت تسوية نقاط خلافية أخرى. ولا بد من التذكير بأن المادة الخامسة من الاتفاقية المشار إليها تنص على ما يلي: «يتبع الخط الفاصل للهدنة الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين». فلقد تعب لبنان ودفع أغلى الأثمان عندما صار منذ أواخر الستينات مسرح المواجهة العسكرية المباشرة والوحيدة الفلسطينية - الإسرائيلية، وما نتج عن ذلك من عدوان واحتلال إسرائيلي. وبعد التحرير عاد لدور ساحة تبادل الرسائل في الصراع الإقليمي، صراع النفوذ، كما دل على ذلك ما أشرنا إليه سابقاً، وكذلك الحرب الأخيرة والمستمرة إسرائيلياً، ولو بشكل متقطع ومنخفض حيناً ومتصاعد أحياناً. خلاصة الأمر أن من حق لبنان أن يعود ليكون دولة طبيعية تنظم الأوضاع على حدوده مع إسرائيل اتفاقية الهدنة. كما أن موقف لبنان من تسوية النزاع مع إسرائيل يستند إلى مبادرة السلام العربية التي أُقرت في القمة العربية في بيروت (2002)؛ المبادرة التي تؤكد على السلام الشامل والدائم والعادل، كما تستند إلى قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وتنص على قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. اتفاقية الهدنة واحترامها والتمسك بها هو البديل الوحيد عن التحول، كما جرى ويجري حتى الآن، إلى ساحة مواجهة باسم سياسات واستراتيجيات مختلفة لأطراف مختلفة، وضمن أفق زمني مفتوح على كافة الاحتمالات التي يدفع ثمنها لبنان. التمسك باتفاقية الهدنة وتفعيلها حتى تحقيق السلام المشار إليه، وهو ليس في القريب العاجل... لذلك لا يمكن الانتظار في حين يتمكن منا كل يوم المزيد من الدمار، ويبقى الوطن على حافة الانهيار.


العرب اليوم
منذ 31 دقائق
- العرب اليوم
المقاتلون الأجانب... اختبار سوريا والمجتمع الدولي
«يهبنا الله اللوز، لكن لا يُقشّره لنا»، هذه الحكمة تختزل لحظة سوريا الجديدة: فرصة تاريخية، لكنها مشروطة، معقّدة لكنها ليست مستحيلة وتحتاج إلى تجاوز لغة التعميم والتبرير ومحاولة ترحيل المعضلة إلى مقاربات لا تنتمي إلى منطق الدولة ومفهومها بل إلى مفاهيم وثقافة المناخات الثورية أو «الجهادية» مثل الأنصار والوفاء لرفاق الأمس، والهدنة إلى أن يحين التمكين... إلخ. سوريا على موعد استحقاق كبير وفرصة كبيرة بعد أكثر من عقد على الحرب، وسقوط النظام السابق في ديسمبر (كانون الأول) 2024، إذ يجد السوريون أنفسهم أمام أكبر مفترق سياسي منذ بداية الثورة. فالمجتمع الدولي، وبدعم فاعل من دول الاعتدال العربي وفي مقدمتها السعودية، ينحاز اليوم بوضوح إلى فرصة بناء دولة سورية موحّدة، ومستقرة، تُعيد تشكيل نفسها ضمن محيطها العربي، بعد سنوات من العزلة والتدويل. الرهان كبير، والثقة ممنوحة لقيادة جديدة، انطلاقاً من أن الثمن، سياسياً وأمنياً واجتماعياً، باهظ في حالة الفشل، لذلك منحُ الفرصة كان الخيار السياسي الواقعي. ومع أن شروط رفع العقوبات وإعادة الإعمار والاستثمارات معروفة، إلا أن أكثرها تعقيداً وخطورةً هو ملف المقاتلين الأجانب. المقاتلون بشكل أساسي باتوا عبئاً متعدد المستويات: أمنياً، وقانونياً، واجتماعياً، وثقافياً. إذ لم تشهد ساحة صراع في العصر الحديث تجمّعاً دولياً للمقاتلين الأجانب كما حدث في سوريا منذ 2012، حين تحوّلت البلاد إلى نقطة جذب لعشرات الآلاف من المقاتلين من أكثر من مائة دولة -سنة وشيعة- انخرطوا في الصراع على جانبي الجبهة، وحملوا معهم أجندات تتجاوز حدود الوطن السوري. اليوم، وبعد نهاية المعركة العسكرية، تُطرح أسئلة وجودية لمستقبل سوريا: ما مصير هؤلاء المقاتلين؟ كيف يمكن معالجة تداعيات وجودهم؟ وهل يمكن أن تستعيد سوريا وحدتها وهويتها في ظل وجود جيوش عقائدية لا تدين بالولاء للدولة؟ ترك الملف بلا حل ليس خياراً. فبعد حرب أفغانستان، عاد «الأفغان العرب» ليؤسّسوا تنظيم «القاعدة». وفي البوسنة، خلّف العشرات من المقاتلين الأجانب جيوباً ثقافية متطرفة، أثّرت في هوية الإسلام البوسني المعتدل. وفي العراق أسهم عائدو «الجهاد» في ولادة «دولة (داعش)» لاحقاً، في حين العراق واليمن ولبنان عالقة في ميليشيات شيعية تتلبس شكل الدولة وتؤثر في استقرارها. في سوريا المشكلة مضاعفة؛ هناك مقاتلون ما زالوا ينتشرون في الشمال أقرب إلى فكر «داعش»، ومقاتلون ضمن فصائل يدينون بطريقة شكلانية إلى جسد الفصيل الأكبر «هيئة تحرير الشام»، لكن ولاءهم مشروط بالآيديولوجيا، إضافة إلى بداية الانشقاقات الفكرية من الهجوم الشرس لإعلام «داعش» في آخر عدد وبشكل مباشر تجاه الرئيس ثم لشخصيات من رموز «السلفية الجهادية»، منهم أبو محمد المقدسي، عدا الكثير من المتن «الجهادوي» على وسائل التواصل الذي يشعر بالقلق تجاه ما يجري، والمؤثرون منهم طوائف شتى، كل منهم يحمل تصوراً خاصاً عن «الشرعية»، ويتصرف بوصفه صاحب فضل في النصر أو التضحية. هذا الواقع يفرض على الإدارة السورية ثلاثة خيارات. أولاً: الترحيل الكامل، ويعني إخراج كل المقاتلين الأجانب من الأراضي السورية، بدعم أممي، بوصفه شرطاً أساسياً لإعادة الشرعية الدولية؛ لكنه خيار محفوف بالعقبات، فالكثير من الدول ترفض استعادة مواطنيها، والبعض فقد جنسيته أصلاً. كما أن عمليات الترحيل قد تكون شرارة جديدة للفوضى، ما لم تقترن بخطة أمنية دقيقة. ثانياً: الدمج المشروط، ويقوم على التمييز بين من ارتكب جرائم جسيمة ومن يمكن استيعابه، خصوصاً من تزوج داخل سوريا أو عاش فيها سنوات. لكن هذا السيناريو يواجه تحفظات داخلية، ويتطلّب قدرة أمنية وقانونية عالية، وبرامج تأهيل شاملة؛ لكن بالطبع هذا الحل صعب جداً في ظل وجود مناصب قيادية للمقاتلين الأجانب وهيكلية مبنية على التراتبية التنظيمية والولاء الجزئي للفصيل. ثالثاً: المماطلة ومعالجة الفوضى وهو السيناريو الأخطر، فإذا فشلت الدولة في معالجة الملف، يتحول المقاتلون إلى قوة موازية تهدّد السلم الأهلي، وتستدرج تدخلات إقليمية، خصوصاً على حدود العراق ولبنان وتركيا. وقد تتحول سوريا إلى مسرح دائم لإعادة تدوير التنظيمات المسلحة العابرة للحدود. الآن الأمر واضح، ليس فقط لأن المجتمع الدولي يترقّب، بل لأن الداخل السوري بحاجة إلى دولة تعيد الاعتبار إلى المواطنة، وتنهي منطق «الولاء العابر للحدود» والشعارات الشمولية المبنية على ثنائيات طائفية أو جهوية أو حتى تاريخية تستدعي أمجاداً متخيلة، فضلاً عن ثقافة التطرف التي يمكن بعيداً عن حالة العسكرة أن تؤدي إلى تجريف الإسلام المعتدل لصالح مجتمع راديكالي محتقن وقابل للانفجار في أي لحظة. إن علاج ملف المقاتلين الأجانب يجب ألا يكون رد فعل أمنياً فقط، بل جزءاً من رؤية متكاملة لإعادة بناء الدولة والمجتمع، قائمة على العدالة، والمحاسبة، والمواطنة، والاستفادة من تجارب الدول التي خاضت معركة طويلة وشرسة ضد الإرهاب، وفي مقدمتها السعودية، التي أدركت مبكراً أن المعركة مع الفكر لا تقل أهمية عن المعركة مع السلاح. سوريا اليوم، بغض النظر عن الإدارة السياسية، أمام لحظة تأسيس ثانية، والنصر الحقيقي الذي بدأ بإسقاط النظام يتطلّب استدامة وجهداً سورياً مضنياً تشارك فيه كل المكونات والخبرات السورية لإقامة دولة مواطنة لا تحمل في باطنها بذور تفككها... البدء من ملف المقاتلين الأجانب هو الامتحان الأهم لإثبات أن سوريا قادرة على الانحياز إلى نفسها، قبل أن ينحاز إليها المجتمع الدولي الذي هو على استعداد لتقديم تنازلات كبيرة وفرص أكبر.