
الكمسارى
الجو اليوم لا يطاق، الرطوبة تخنق الأنفاس، وتحجب جنين الشمس البرتقالى المتخلق من خلفها بقسوة، رائحتها تغمر الهواء فى لزوجة وعطن منفرين، فى بداية مقدمى للبلد كنت أنزعج لهبّاتها، أتململ أكثر شىء للماء المنسكب دون مناسبة يغرق جسدى، لكن ومع مرور الوقت اعتدت عليها. هذا الصباح ركبت الأتوبيس رقم ١٨، الوحيد الذى يمر بالقرب من مكان عملى، أنتظره فى عذاب وسط حشد غفير من الموظفين ضاق بهم الرصيف، تخنقنى الرائحة الطافرة من أجساد الهنود، خليط عفن يهب يزكم أنفى بنكهات حريفة تشبه التراب المندى، أو بالأحرى الأعشاب المطمورة. فوق كرسى وثير استراح جسدى أخيرًا، استسلمت فورًا لهبات المكيف الباردة، وعلى وقع دمدمة أصوات آسيوية غير مميزة تركت رأسى المثقل وشأنه، غفوة قصيرة لن تضر، مرت دقائق قبل أن أنتبه لصوت غليظ بلكنة مصرية جنوبية، شاب أسمر نحيف فارع العود، يمرر سبابته فى ضجر ينتح حبات العرق المتكومة فوق جبهته السمراء العريضة، من جوار السائق، ابتسم ابتسامة مرة كأنها عصارة قلبه، قائلًا: «تذاكر.. تيكيت»، لم يستغرق الأمر طويلًا، سريعًا أنهى عمله، ليلقى بنفسه للشارع حيث كان.
منذ عامين بالتمام، اشتهت نفسى هذه الوظيفة، قرأت خبرًا فى صحيفة يومية «مطلوب مفتشون»، أضاءت وجهى الفرحة، وقد تزخر غدى بالآمال الجميلة، أشار علىّ أبناء الحلال بالتقدم، هى أضمن من غيرها، مرتب منتظم، إقامة ثابتة، وحياة جديدة تنقذك من وطأة هذه الأيام الكئيبة، هذا ما اتقفت عليه الآراء. فى صباح يوم فاتر لا تزال ذكراه الذابلة معلقة بخيالى المجهد، تأبطت حافظة أوراق حُبلى بالمستندات، كانت خصلة من شعر الشمس صفراء ملتهبة ساقطة فوق الحيطان الظامئة، لا يزال الوقت مبكرًا، لكن رائحة «الطعمية» الساخنة تتلاعب بأنفى، وكأنى أشمها لأول مرة، لأول مرة أشعر بالحنين للوطن، للبيت والأسرة، لأمى وأخوتى الصغار، أشعر بيد الغربة الغليظة تمسك بتلابيبى، تعتصر قلبى، تطاردنى خيوط الرائحة محملة باللذة، فى تشهٍّ تتبعت مصدرها، لا أعلم لماذا رقص قلبى فرحًا، وشعور غامر بأنى ما زلت على قيد الحياة يشملنى، التهمت فى لمح البصر رغيفين، تجشأت على استحياء فى ارتياح من لا تعدل الدنيا عنده جناح بعوضة، أكمل النشوة صوت السيدة «أم كلثوم» المنبعث من فجوة بالمطعم، تغرد بلحن شجى، هززت رأسى فى تفاؤل، تجولت عينى فى المبنى، حتى استقرت فى ركن بعيد، طالعنى موظف عجوز بعين باردة من خلف الزجاج، هرش ذقنه المغبرة وهو يتثاءب، ويده تدق أوراقًا بيضاء بختم كبير، وقبل أن أسأله حدجنى بغير اكتراث، لتغيم من بعدها الدنيا فى وجهى، لم ينقذنى من هذه الوحلة غير شخص، بدت ملامحه مصرية، ألقى إلىّ بابتسامة مهتزة، شجعتنى على الاقتراب منه، لأقول بصوت متكسر: «أريد التقديم فى وظيفة المفتش»، نظر نحوى بإشفاق، ووجهه يكسوه الاهتمام، أجابنى وهو يخفى ضحكته فى صدره: «بعد قليل، سيحضر الأستاذ ناصر يستلم منك الطلب، هو فى شباك ٦»، عندها اضطربت النظرات فى عينى، بلعت ريقى بصعوبة بالغة، ليزداد ضجيج الأفكار فى رأسى، وشيش مزعج، لا أعرف لماذا استدعيت صورة المفتش بزيه المميز، القميص الأصفر، البنطلون الكحلى، نظراته الواثقة، مشيته وسط الأتوبيس فى استعلاء، يده الخشنة تمزق التذاكر بلا رحمة، استماع السائق لنصائحه فى خشوع وسكينة، ليدب من بعدها النشاط فى جسدى الهامد، تحركت فى الممر أطالع فى ونس مفاجئ وجوه الموظفين المثقلة ببقايا الأمس، نعاس وإرهاق، وتحايا الصباح تلقى فى إهمال فاترة، دقائق وضج المكان بالأصوات تهدر، اختلطت روائح الأكل، تناوب السعاة فى تقليب الملاعق داخل أكواب الشاى، وضحكات تصدر من أفواه محشوة بالطعام من هنا وهناك.
صدقنى، حتى اللحظة لا أعرف مصير طلبى، لكن ما زالت تطوف برأسى ملامح الموظف الثلجية، وهو يغالب ابتسامة ساخرة، ولسان حاله يردد فى خبث: «مسكين، ستعلم أيها البائس ذات يوم ألا تصدق كل ما تراه».
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الأسبوع
منذ 4 أيام
- الأسبوع
مدة وأسباب غلق شارع 26 يوليو بالاتجاه القادم من كوبرى 15 مايو إلى ميدان لبنان
محور 26 يوليو رضوى ناصر أعلنت الإدارة العامة لمرور الجيزة، اليوم، عن تنفيذ غلق كلي لمحور 26 يوليو في الاتجاه القادم من كوبري 15 مايو إلى ميدان لبنان، لمدة 3 أيام فقط، اعتبارا من اليوم السبت الموافق 17 مايو 2025 وحتى صباح الإثنين 19 مايو 2025، ضمن خطة الأعمال الإنشائية الخاصة بمشروع مونوريل "وادي النيل - 6 أكتوبر". أسباب غلق شارع 26 يوليو باتجاه ميدان لبنان وقالت إدارة المرور، إن الغلق سيكون بشكل جزئي، من الساعة الـ 12 منتصف الليل وحتى الـ 6 صباحًا يوميا طوال مدة الأعمال، موضحة أنه تم تعيين الخدمات المرورية اللازمة لمواجهة أي كثافات مرورية متوقعة وتيسير حركة السير. التحويلات المرورية البديلة وأوضحت إدارة المرور، أن التحويلات المرورية البديلة تتمثل فيما مسارين كما يلي: المسار الأول: المركبات القادمة من كوبري 15 مايو والمتجهة إلى ميدان لبنان تدخل يمينا إلى شارع صلاح جاهين، ثم يسارًا إلى شارع الدكتور حجازي، ثم يسارا مرة أخرى إلى شارع وادي النيل حتى العودة إلى محور 26 يوليو بعد تجاوز منطقة الأعمال. المسار الثاني: الدخول يمينا إلى شارع صلاح جاهين ثم يمينا إلى شارع أحمد عرابي ثم يمينا إلى شارع جامعة الدول العربية وصولا إلى شارع السودان وميدان لبنان بعد تخطي الأعمال. وأشارت الإدارة العامة لمرور الجيزة، إلى أنها نسقت مع الشركات المنفذة للأعمال لوضع كافة المساعدات الفنية واللوحات الإرشادية والتحذيرية، بما يضمن سلامة وأمن المواطنين والمركبات في محيط الأعمال.


فيتو
١٣-٠٥-٢٠٢٥
- فيتو
تعليم القليوبية تنظم جلسات تدريب لطلاب الشهادة الإعدادية على نظام البوكليت الجديد
دشنت إدارة بنها التعليمية تجربة تدريبية فريدة من نوعها لأول مرة على مستوى محافظة القليوبية، حيث بدأت تنظيم جلسات تدريب لطلاب الصف الثالث الإعدادي على نظام البوكليت الجديد، والمقرر تطبيقه خلال امتحانات الشهادة الاعدادية التي تنطلق نهاية الشهر الجاري. التدريب على نظام البوكليت الجديد تأتي التدريبات في إطار حرص وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني على تطوير العملية التعليمية، ورفع كفاءة طلاب المرحلة الإعدادية تحت رعاية محمد عبد اللطيف وزير التربية والتعليم والتعليم الفني ومصطفى عبده وكيل وزارة التربية والتعليم بالقليوبية وإشراف أحمد زكي البنهاوي مدير إدارة بنها التعليمية. أقيمت الفعاليات بمدرسة ناصر الإعدادية بمتابعة عبد الرحمن فؤاد مدير المرحلة الإعدادية بالإدارة، وبحضور إيمان الجوهري مديرة المدرسة وسط تفاعل كبير من طلاب الصف الثالث الإعدادي. أوضح أحمد زكي البنهاوي مدير إدارة بنها التعليمية أن هذا التدريب سيتم تعميمه على مستوى جميع مدارس إدارة بنها والمديرية والإدارات التعليمية، تأكيدًا على جاهزية الطلاب للتعامل مع النظام الجديد المقرر تطبيقه في امتحانات نهاية العام الجاري في امتحانات الشهادة الإعدادية. نظام البوكليت أسلوب جديد في الامتحانات أوضح البنهاوي أن نظام البوكليت هو أسلوب جديد في الامتحانات أقرّته وزارة التربية والتعليم، بهدف الحد من الغش داخل اللجان، حيث يتم دمج ورقة الأسئلة مع ورقة الإجابة داخل كراسة واحدة، دون أي تغيير في طبيعة أو نمط الأسئلة، مع الحفاظ على مواصفات الورقة الامتحانية المعتمدة من المركز القومي للامتحانات والتقويم التربوي. أكد البنهاوي أنه ثبت نجاح هذا النظام في تقليص محاولات الغش، سواء داخل اللجان أو خارجها، كما ساهم في الحد من تسريب الامتحانات وتصويرها، وحقق نتائج ملموسة في امتحانات الثانوية العامة على مدار السنوات الماضية. كما أكد مدير إدارة بنها التعليمية أن هذا التدريب يُعد خطوة استباقية مهمة نحو إعداد الطلاب وتأهيلهم بشكل عملي للتعامل مع هذا النظام، بما يحقق العدالة وتكافؤ الفرص بين الجميع، ويعكس التزام الإدارة برؤية الوزارة في تطوير نظم التقويم والامتحانات. التدريب علي البوكيليت بادارة بنها، فيتو التدريب علي البوكيليت بادارة بنها، فيتو التدريب علي البوكيليت بادارة بنها، فيتو ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.


الدستور
١٠-٠٥-٢٠٢٥
- الدستور
الكمسارى
الجو اليوم لا يطاق، الرطوبة تخنق الأنفاس، وتحجب جنين الشمس البرتقالى المتخلق من خلفها بقسوة، رائحتها تغمر الهواء فى لزوجة وعطن منفرين، فى بداية مقدمى للبلد كنت أنزعج لهبّاتها، أتململ أكثر شىء للماء المنسكب دون مناسبة يغرق جسدى، لكن ومع مرور الوقت اعتدت عليها. هذا الصباح ركبت الأتوبيس رقم ١٨، الوحيد الذى يمر بالقرب من مكان عملى، أنتظره فى عذاب وسط حشد غفير من الموظفين ضاق بهم الرصيف، تخنقنى الرائحة الطافرة من أجساد الهنود، خليط عفن يهب يزكم أنفى بنكهات حريفة تشبه التراب المندى، أو بالأحرى الأعشاب المطمورة. فوق كرسى وثير استراح جسدى أخيرًا، استسلمت فورًا لهبات المكيف الباردة، وعلى وقع دمدمة أصوات آسيوية غير مميزة تركت رأسى المثقل وشأنه، غفوة قصيرة لن تضر، مرت دقائق قبل أن أنتبه لصوت غليظ بلكنة مصرية جنوبية، شاب أسمر نحيف فارع العود، يمرر سبابته فى ضجر ينتح حبات العرق المتكومة فوق جبهته السمراء العريضة، من جوار السائق، ابتسم ابتسامة مرة كأنها عصارة قلبه، قائلًا: «تذاكر.. تيكيت»، لم يستغرق الأمر طويلًا، سريعًا أنهى عمله، ليلقى بنفسه للشارع حيث كان. منذ عامين بالتمام، اشتهت نفسى هذه الوظيفة، قرأت خبرًا فى صحيفة يومية «مطلوب مفتشون»، أضاءت وجهى الفرحة، وقد تزخر غدى بالآمال الجميلة، أشار علىّ أبناء الحلال بالتقدم، هى أضمن من غيرها، مرتب منتظم، إقامة ثابتة، وحياة جديدة تنقذك من وطأة هذه الأيام الكئيبة، هذا ما اتقفت عليه الآراء. فى صباح يوم فاتر لا تزال ذكراه الذابلة معلقة بخيالى المجهد، تأبطت حافظة أوراق حُبلى بالمستندات، كانت خصلة من شعر الشمس صفراء ملتهبة ساقطة فوق الحيطان الظامئة، لا يزال الوقت مبكرًا، لكن رائحة «الطعمية» الساخنة تتلاعب بأنفى، وكأنى أشمها لأول مرة، لأول مرة أشعر بالحنين للوطن، للبيت والأسرة، لأمى وأخوتى الصغار، أشعر بيد الغربة الغليظة تمسك بتلابيبى، تعتصر قلبى، تطاردنى خيوط الرائحة محملة باللذة، فى تشهٍّ تتبعت مصدرها، لا أعلم لماذا رقص قلبى فرحًا، وشعور غامر بأنى ما زلت على قيد الحياة يشملنى، التهمت فى لمح البصر رغيفين، تجشأت على استحياء فى ارتياح من لا تعدل الدنيا عنده جناح بعوضة، أكمل النشوة صوت السيدة «أم كلثوم» المنبعث من فجوة بالمطعم، تغرد بلحن شجى، هززت رأسى فى تفاؤل، تجولت عينى فى المبنى، حتى استقرت فى ركن بعيد، طالعنى موظف عجوز بعين باردة من خلف الزجاج، هرش ذقنه المغبرة وهو يتثاءب، ويده تدق أوراقًا بيضاء بختم كبير، وقبل أن أسأله حدجنى بغير اكتراث، لتغيم من بعدها الدنيا فى وجهى، لم ينقذنى من هذه الوحلة غير شخص، بدت ملامحه مصرية، ألقى إلىّ بابتسامة مهتزة، شجعتنى على الاقتراب منه، لأقول بصوت متكسر: «أريد التقديم فى وظيفة المفتش»، نظر نحوى بإشفاق، ووجهه يكسوه الاهتمام، أجابنى وهو يخفى ضحكته فى صدره: «بعد قليل، سيحضر الأستاذ ناصر يستلم منك الطلب، هو فى شباك ٦»، عندها اضطربت النظرات فى عينى، بلعت ريقى بصعوبة بالغة، ليزداد ضجيج الأفكار فى رأسى، وشيش مزعج، لا أعرف لماذا استدعيت صورة المفتش بزيه المميز، القميص الأصفر، البنطلون الكحلى، نظراته الواثقة، مشيته وسط الأتوبيس فى استعلاء، يده الخشنة تمزق التذاكر بلا رحمة، استماع السائق لنصائحه فى خشوع وسكينة، ليدب من بعدها النشاط فى جسدى الهامد، تحركت فى الممر أطالع فى ونس مفاجئ وجوه الموظفين المثقلة ببقايا الأمس، نعاس وإرهاق، وتحايا الصباح تلقى فى إهمال فاترة، دقائق وضج المكان بالأصوات تهدر، اختلطت روائح الأكل، تناوب السعاة فى تقليب الملاعق داخل أكواب الشاى، وضحكات تصدر من أفواه محشوة بالطعام من هنا وهناك. صدقنى، حتى اللحظة لا أعرف مصير طلبى، لكن ما زالت تطوف برأسى ملامح الموظف الثلجية، وهو يغالب ابتسامة ساخرة، ولسان حاله يردد فى خبث: «مسكين، ستعلم أيها البائس ذات يوم ألا تصدق كل ما تراه».