logo
من أجل رجاء عتيد

من أجل رجاء عتيد

النهارمنذ 3 أيام
عقيدة انتقال مريم العذراء بالنفس والجسد إلى السماء.
"هنا ترقد بقايا بول كلوديل ونواته". بهذه الكلمات البسيطة والمؤثّرة، أراد الشاعر الفرنسيّ بول كلوديل أن يطبع جوهرَ إيمانه على رخامةِ قبر جثمانه، ليعلن أنّ هذا الجزء اليسير من حياتنا الزمنيّة، حتى وإن طواه الموت "في طرفة عين"، لن يُشكّل أبدا صفحة وجودنا الأخيرة. فما من فلسفة أو مقاربة بشريّة محضة، يمكنها أن تمنح حياتنا الزائلة معناها الكامل، أو أن تكمّلها بجزء آخر من وراء حدود الموت، بغير تدخّل إلهيّ. ولطالما علّمت الأنثروبولوجيا المسيحيّة أن لغز الموت وما بعده، لا بدّ له أن يُحلّ ويتّضح في النهاية، حين تتجلّى الحقيقة بكمالها ويبلغ الإنسان كماله في الحياة الأبدية. صحيح أن الموت هو طريق الأرض كلّها، غير أن الله عنده للموت مخارج. فمع قيامة المسيح من بين الأموات، تشكّلت نواة الإيمان المسيحيّ حول مصير الإنسان والغاية التي دُعي إليها. فما تحقّق في الرأس، أي في المسيح، سيمتدّ إلى الجسد كلّه، لأن ما أتمّه في شخصه من كمال إنسانيّ نهائي، سيتمّه أيضًا فينا إذ إنّ "القدرة التي أقامته من بين الأموات، وأجلسته إلى يمين الله في السماوات، ستبدّل جسد تواضعنا ليصير على صورة مجده، فيَلبس كياننا الفاني عدم الفناء".
إن الشواهد الكتابيّة هذه، تحوي حقيقة لا تتجزّأ: الله الذي أقام يسوع من بين الأموات، سيقيمنا نحن أيضًا (1قورنتس 14:6). ومفاعيل القيامة وثمار مجدها، ستنعكس حتما في جسد المسيح كلّه وبخاصة في من كانت للمسيح أمّا. من هذا المنطلق، جاءت عقيدة الانتقال بالنفس والجسد إلى السماء، تحقيقا لهذا الرجاء الإنسانيّ العميق بقوةِ الذي غلبَ الموتَ وعواقبه، وارتباط العذراء الوثيق بابنها وإلهها، هو ما سيُبرّر عقيدة انتقالها حسبما أعلنتها الكنيسة في الدستور الرسوليّ'Munificentissimus Deus' في 1 تشرين الثاني عام 1950. فجوهر العقيدة إذًا يرتكز على قيامة المسيح بجسده، وعلى الكمال الّذي سيتمّه فينا، ولا يمكن بالتالي اعتبار انتقال مريم مجرد امتياز استثنائيّ مُنح لها جزافا وبِلا أساس في الكتاب المقدّس أو في التقليد. ولم تكن الكنيسة لتعلنها عقيدة لو لم تجد في الوحي والتقليد ما يدلّ على اتحاد مريم بابنها بأوثق صورة ممكنة. والإيمان بكون مريم قد بلغت ملء قامتها في المسيح، لتكون باكورة هذا المجد قبلنا، سيضفي على الكنيسة رجاء أكيدا وترابطا في فهمنا لمصيرنا الشّخصي الذي نرجوه في نهاية الأزمنة. ويؤكد تعليم الكنيسة أن "ما تؤمن به العقيدة بالنسبة إلى مريم، يرتكز على ما تؤمن به بالنسبة إلى المسيح، وما تعلّمه في ما يتعلّق بمريم، ينير بدوره إيمان الكنيسة بالمسيح". فلا عجب إذا في أن يكون الإيمان الكاثوليكي قد استجمع في دعوة العذراء ومصيرها، مفهوم المشاركة البشريّة في الفداء ونتائجها الأنتروبولوجية كلّها.
ولقد صيغت عقيدة الانتقال على النحو التالي: "نُثبت ونعلن ونحدّد، أن مريم أمّ الله الكلّية الطهر، والدائمة البتولية، بعدما أنهت مسيرة حياتها على الأرض، قد رُفعت بجسدها ونفسها إلى المجد السماوي". بهذا التحديد العقائدي، تكون الكنيسة قد أعلنت أن مسيرة العذراء تكلّلت بالمجد الأخير إلى جانب يسوع ابنها. وهذا مُعطى بيبلي قوامه بلوغ ملء قامتها جسديا وروحيا بالمسيح قبل القيامة الأخيرة. كما أنّ العقيدة لم تبتّ موت أمّ يسوع أو عدم موتها في ختام حياتها الأرضيّة. ولم تجب أيضا عن الأين، والكَيف، أو المتى لسرّ الانتقال. القدّيس ابيفانيوس في القرن الرابع، ترك لنا شهادة يعلن فيها أنه لا يعرف كيف كانت نهاية مريم، ولا إذا كانت قد ماتت أو دفنت أو لم تدفن. فالأمانة للكتاب المقدس تقتضي ذلك، إذ إنّه لم يذكر شيئا من هذا القبيل. في المقابل، آمن أبيفانيوس بأن نهاية مريم لا بدّ من أن تكون نهاية "تليق بأمّ الله". غير أن قيمة شهادته هذه، قطعت الطريق أمام استقصاء أي تقليد تاريخيّ يعود إلى الرسل أنفسهم بما في ذلك خَبر اجتماعهم مع بعض التلاميذ بصورة "عجائبية" حول أمّ يسوع لحظة موتها. بحلول القرن السادس، وبعدما استفاضت روايات كثيرة في الكلام على نهاية لمريم، عجيبة ومجيدة، وعلى الرغم من الغياب الواضح في التقليد الرسوليّ، انتشر في الشرق عيد "رقاد مريم" (15 آب) ثمّ ما لبث أن دخل في التقليد الغربيّ تحت اسم "انتقال مريم".
لكن الأمر الأهم من وجهة النظر اللّاهوتية، هو أن كتّاب القرن السادس كانوا يرون دوما في أمومة مريم وقداستها، أساس تمجيدها، ومدخلا لقبول انتقالها. مع مرور الزمن، توالت في الشرق شهادات جمّة لمصلحة الانتقال مع أسماء كبيرة كيوحنا الدمشقي وجرمانوس القسطنطيني. غير أن هذا المعتقد اصطدم في الغرب بعوائق عدّة في بادئ الأمر، إذ لم يتمّ القبول إلا بتمجيد نفس العذراء وليس جسدها. القديس برناردوس من جهته، وصف بكثير من التقوى دخول مريم إلى السماء، لكنّه لم يذكر إن كان دخولها هذا قد تمّ بالنفس والجسد. لاهوتيّو القرن الثالث عشر (بونافنتورا ودُنس سكوتو وغيرهما)، أبدوا قبولا كبيرا بهذا المعتقد. واستمرّ الأمر على هذا النحو لغاية منتصف القرن العشرين.
ففي عام 1946، وبعد استشارة أساقفة العالم حول رأيهم في إعلان الانتقال بالنفس والجسد عقيدة موحاة في الكنيسة، وجد بيوّس الثاني عشر أنّ 1169 أسقفاً يؤيدون هذا الإعلان مقابل 22 فقط أعربوا حياله عن بعض الشكوك أو تساءلوا عن ضرورته أو الجدوى من إعلانه. أما بالنسبة إلى مضمون العقيدة تحديدا، لقد آثرت الكنيسة الابتعاد عن كلّ ما هو مكانيّ وزمانيّ، بُغية التحرّر من أي بُعد كوسمولوجيّ قد يُفقد العقيدة جدّيتها. واستعمال تعبير "رُفعت" الذي يعني كتابيا "أُخذت" أو "جُمعت" بالله، جاء تماما ضمن هذا السياق الكتابيّ حتّى لا يُفهم الانتقال على أنّه انتقال مكانيّ. لأننا عمليا أمام حدث خلاص يفوق مقاييسنا البشريّة. فمريم أُخذت لتوضع على مقربة من جسد ابنها القائم من الموت لتنضمّ إليه في مجده، ممّا يعني أنطولوجيا ولاهوتيا أنّ قيام الإنسان النهائي أمام الله، والذي أتمّه يسوع بشخصه، قد تحقّق بها كلّيا، ليتقلّص بالتالي الفارق القائم بين وضعنا الحالي ومصيرنا المُرتقب في الحياة الأبدية. لقد أكمل يسوع عمله في مريم حتى النهاية، ووصل بها إلى ذاك الحدّ الذي يُكمل الله فيه خليقتَه بصورة تامة ونهائيّة. فغدت العذراء نتيجة لذلك صورة حيّةً واستباقا ساطعا (Archetype) لما سنكون عليه نحن من مجد بعد القيامة، وعربونا لقدرته على إنجاح مخطّطه الخلاصيّ وغايته الأكيدة.
ولا يسعني في الختام، إلّا أن استحضر ما قاله عالم النفس البروتستانتيّ الشهير كارل غوستاف يونغ: "إن إعلان عقيدة انتقال مريم بالنفس والجسد إلى السماء، هو حدث ثوريّ بامتياز يضاهي حدث الإصلاح البروتستانتيّ نفسه. لأن مفهوم الانتقال بذاته، يشكّل دعامة لرجاء بشريّة تَنوء تحت الفناء والزوال، ورمزا أصيلا لتجلّي الخليقة واكتمالها، ودلالة على مصير نهائيّ تسقط فيه الفوارق كلّها. فالظواهر ستزول ... ولن يبقى في النهاية سوى اللُبّ والجوهر".
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

كانت أم وجدة حنينة..رانيا فريد شوقي تحيي ذكرى ميلاد هدى سلطان
كانت أم وجدة حنينة..رانيا فريد شوقي تحيي ذكرى ميلاد هدى سلطان

صدى البلد

timeمنذ 27 دقائق

  • صدى البلد

كانت أم وجدة حنينة..رانيا فريد شوقي تحيي ذكرى ميلاد هدى سلطان

حرصت الفنانة رانيا فريد شوقي، على إحياء ذكرى ميلاد الفنانة هدى سلطان المائة، معبرة عن حبها الكبير لها. وكتبت رانيا فريد شوقي عبر حسابها الشخصي بموقع فيسبوك: 'النهاردة عيد ميلاد طنط هدى سلطان ال ١٠٠ أم إخواتي وأمنا كلنا، من وأنا طفلة كنت بشوفها كتير في كل المناسبات العائلية، وكانت رشا بنت ناهد، اختي, بتعد معاها أيام، كانت ام وجده حنينة اوي كنا بنروح ناخد رشا من عندها في البيت، عمارة جنب بيت السادات اللي على النيل، في الجيزة وكانت دايمًا تهزر معانا وضحكتها كانت حلوة أوي'. وتابعت: "ومن أجمل الحاجات لما كانت تغني في المناسبات العائلية، كانت لحظة استمتاع حقيقية في وسط جو عائلي كله حب ودفء، لغاية ما كبرت واشتغلت معاها, كانت أمي في مسلسل "أحلام البنات"، من أجمل المسلسلات وأحلى الأوقات في التصوير كنت احب انكشها واتكلم عن بابا وهي ترجع للذكريات وتحكيلي و عنيها ووشها كله حب كانت دايما تقولي بشوف فيكي ابوكي بالحته كان يمشي ينكش و يهزر مع كل الناس في اللوكشن". وأضافت: "يوم عيد الأم وإحنا بنصور، جبت تورته واحتفلنا بيها فرحت أوي حبيبتي فريدة وملك بناتي جم يومها التصوير اول لما شفتهم، خدتهم بالحضن وندت على المصور وقالتله: 'صورني مع أحفادي". وكمان قالتلي: "كلميلي سهير، اللي هي أمي، وكلمت ماما قالتلها بنتنا بتحتفل بيا في عيد الأم، اعدوا يرغوا ويهزروا سوا، ومن المسلسل ده بقي بينا علاقة خاصة ام وبنتها". واختتمت: 'أقولكم السر كلنا جمعنا حب فريد شوقي، الله يرحمهم جميعا ويغفر لهم ويسكنهم فسيح جناته'. ذكرى ميلاد هدى سلطان ووافق أمس الذكرى المئوية لميلاد فنانة أيقونية،الراحلة هدى سلطان التي شكّلت بأدوارها وتمثيلها وصوتها جمالاً خالدًا في تاريخ الفن المصري والعربي. ولدت هدى سلطان واسمها الحقيقي بهيجة عبد العال في 15 أغسطس 1925 بقرية كفر أبو جندي بمركز قطور، محافظة الغربية. نشأت هدى سلطان في أسرة محافظة، وواجهت معارضة، وحتّى تهديدات بالقتل من أفراد الأسرة بسبب قرارها دخول الفن، حيث كان يعيقها شقيقها الفنان محمد فوزي، الذي كان يخشى على سمعتها. برعت هدى سلطان على مدار أكثر من نصف قرن في عالم الفن من خلال مشاركات بارزة في السينما، التلفزيون، والمسرح. تزوّجت هدى سلطان خمس مرات، أشهرها زواجها من فريد شوقي الذي أنجبت منه ابنتين هما ناهد ومها، وتزوجت كذلك من فؤاد الأطرش، المنتج فؤاد الجزايرلي، والمخرج حسن عبد السلام . بعد مسيرة فنية طويلة، توفيت هدى سلطان في 5 يونيو 2006 بمدينة السادس من أكتوبر إثر صراع مع سرطان الرئة، عن عمر يناهز 81 عامًا، تاركة وراءها إرثًا فنيًا لا يزال حاضرًا في وجدان الجمهور .

تنمية الفكر النقدي.. تعرف على موضوع خطبة الجمعة القادمة بمساجد مصر
تنمية الفكر النقدي.. تعرف على موضوع خطبة الجمعة القادمة بمساجد مصر

صدى البلد

timeمنذ ساعة واحدة

  • صدى البلد

تنمية الفكر النقدي.. تعرف على موضوع خطبة الجمعة القادمة بمساجد مصر

حدَّدت وزارة الأوقاف موضوع خطبة الجمعة القادمة ٢٢ أغسطس ٢٠٢٥م، الموافق ٢٨صفر ١٤٤٧ هـ بعنوان: "إِنَّ مِن الشَّجرِ شجَرةً لا يسقُطُ ورقُهَا". وقالت وزارة الأوقاف، إن الهدف من هذه الخطبة هو التوعية بطرق وأسباب تنمية الفكر عامَّة والفكر النقدي خاصَّة. مسابقة دولة التلاوة قال الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، إن مسابقة "دولة التلاوة" تُعتبر أضخم وأبرز مسابقة قرآنية تلفزيونية في تاريخ مصر، موضحًا أنها تقام بالتعاون مع الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وتستهدف إبراز المواهب المصرية في التلاوة من أصحاب الأصوات المميزة الذين يسيرون على خطى كبار القراء. وأكد الوزير أن هذه المسابقة ستقدّم صورة مشرِّفة تليق بريادة مصر في خدمة كتاب الله وأهله. وأشار الأزهري إلى أن الهدف الأساسي هو إعادة إحياء المدرسة المصرية الأصيلة في التلاوة، على نهج الشيخ محمد رفعت، الشيخ محمود خليل الحصري، الشيخ محمد صديق المنشاوي، والشيخ مصطفى إسماعيل وغيرهم من عمالقة التلاوة، مشددًا على أن الوزارة تسعى من خلالها لإعداد جيل جديد يحمل الرسالة القرآنية بصوتٍ راقٍ وأداء متميّز يعكس جماليات المدرسة المصرية. وأوضح أن الوزارة ستمنح المواهب التي تكشفها المسابقة فرصة إمامة المصلين في المساجد الكبرى خلال شهر رمضان المبارك، في خطوة تهدف إلى تمكين الكفاءات الشابة وربط الأجيال الجديدة بروح التلاوة المصرية العريقة.

موعد ومكان عزاء والدة صبحي خليل
موعد ومكان عزاء والدة صبحي خليل

صدى البلد

timeمنذ 2 ساعات

  • صدى البلد

موعد ومكان عزاء والدة صبحي خليل

كشف الفنان صبحي خليل عن موعد ومكان عزاء والدته التى رحلت عن عالمنا صباح اليوم السبت. وكتب صبحي خليل عبر حسابه الرسمي عبر خاصية الإستوري، معلقا: 'العزاء غدا الأحد ١٧ / ٨ بمسجد الحامدية الشاذلية بالمهندسين'. وشيعت جنازة والدة صبحي خليل صباح اليوم من محافظة الغربية وانهار الفنان صبحي خليل وانخرط في البكاء والدموع أثناء دفنها. وفاة والدة صبحي خليل واعلن صبحي خليل صباح اليوم خبر وفاة والدته ونشر الفنان صبحي خليل صورة عبر حسابه الرسمي بموقع فيسبوك تجمعه بوالدته الراحلة وكتب «إنا لله وإنا إليه راجعون، أمي في ذمة الله». أحدث اعمال صبحي خليل وشارك صبحي خليل فى ماراثون رمضان بمسلسل المداح . مسلسل 'المداح ' يضم نخبة من أبرز نجوم الفن، من بينهم حمادة هلال، وغادة عادل، وفتحي عبد الوهاب، وهبة مجدي، ودنيا عبد العزيز، وخالد سرحان، ومحمد عز، وحنان سليمان، وتامر شلتوت، وصبحي خليل، وسهر الصايغ، ومي سليم، ودياب، وحمزة العيلي ، محمود فارس ؤ و غيرهم كثير من النجوم . العمل من تأليف أمين جمال، ووليد أبو المجد، وشريف يسري، ومن إخراج أحمد سمير فرج، وإنتاج صادق الصباح

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store