
بشارات آذار... الصوم والصيام لقاء المسيحية والإسلام
من بشارات هذه السنة، التي تطل علينا بآمال عودة الحياة إلى مؤسسات الدولة، أن يتشارك المسلمون والمسيحيون في صيام هذا الشهر هذا العام.
الصيام، وإن كان فريضة إسلامية، يستمد فرضيته من الديانات السماوية التي سبقته. فاليهود يصومون سبعة أيام متفرقة، من بينها صيام يوم الكفارة: وهو اليوم الوحيد الذي أمرت الشريعة اليهودية بالصيام فيه وهو اليوم العاشر من الشهر السابع بحسب التقويم العبري. والغاية من الصيام ليست من أجل الشعور بالجوع والعطش، بل لطلب المغفرة.
وأما المسيحيون، فيصومون أربعين يوماً متتالية يمتنعون فيها عن بعض المأكولات والمشروبات إلى فترات معينة في الليل وفي النهار. ومن مستحبات الصيام لديهم عدم إظهار الشقاء والتعب، فيقول السيد المسيح: "وإِذا صُمتُم فلا تُعبِّسوا كالمُرائين فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ، أَمَّا أَنتَ، فإِذا صُمتَ، فادهُنْ رأسَكَ واغسِلْ وَجهَكَ، لِكَيْلا يَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّكَ صائم، بل لأَبيكَ الَّذي في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك".
إلى جانب هذا الصوم كان الفريسيون يصومون يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع بدافع من تقواهم الخاصة، باعتبار أن الخميس هو يوم ذهاب موسى النبي إلى الجبل لاستقبال الوحي الإلهي، والإثنين هو اليوم الذي عاد فيه من الجبل.
وأما الصيام الإسلامي، فكان في بدايته كما تنص بعض الروايات عند مقدم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المدينة في ما يرويه البخاري من أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَهُمْ (اليهود) يَصُومُونَ يَوْمًا يَعْنِي عَاشُورَاءَ فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ وَهُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ فَقَالَ: (أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) فكان صيامه أولَ الأمر فريضة، ثم نُسخ الوجوب بفرض صيام رمضان، وصار صيام عاشوراء على الاستحباب.
مسلمون يشاركون في مسيرة مشاعل في جاكرتا، قبل بدء شهر رمضان المبارك (26 شباط 2025، أ ف ب).
ومهما تكن هذه الرواية في هذا الحديث، فإن القرآن الكريم أمر بصيام شهر رمضان، معتبراً أن هذا الصوم امتداد للصيام الذي كتب على أهل الكتاب، فجاءت الآية مؤكدة استمراريته وفرضيته على المسلمين كافة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
بين الصوم والصيام
وكما في الشرائع السماوية السابقة، فإن هدف الصيام ليس الجوع والعطش، وإنما كبح الرذائل والتسلط على الغرائز والتعلق بالله. لذا فالصيام لا يقوم على الامتناع عن المأكل والمشرب من قبل شروق الشمس إلى المغيب من كل يوم في شهر رمضان، بل عن غضّ العين والأذن والقدمين واليدين وكل أعضاء الجسم عن المحرمات.
فالمقصود من الصيام حث المؤمن على الالتفات إلى جوهر عبادة الصيام وروحها ومقاصدها وعدم الاقتصار على القيام بهيئتها وصورتها من الامتناع عن الأكل والشراب وباقي الشهوات الجسدية. فكم من الصائمين من يتعبون أنفسهم بالجوع والعطش فيخلطون طاعتهم بالآثام ويكون صيامهم متابعة وتقليداً، "فربّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع" يقول النبي صلى الله عليه وسلم.
ولعل من المفيد التفريق بين مفردتين وردتا في القرآن الكريم: "الصيام" و"الصوم":
فالصيام ارتبط بمعنى الامتناع عن الأكل والشراب والعلاقات الزوجية (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ).
وأما الصوم كما ورد في القرآن الكريم لما طلبه الله من سيدتنا مريم عليها السلام عند عودتها تحمل ابنها المولود ببشارة الملك جبريل: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا).
ومعنى الصوم هنا لا يشمل الامتناع عن الأكل والشرب بدليل أن الله طلب من مريم عليها السلام أن تأكل وتشرب وفي الوقت ذاته عليها أن تنذر له صوماً. فالصوم هنا معناه تجنب الحديث مع البشر مع أن مريم تعرف أنه ما إن يراها قومها حاملةً طفلها حتى يتهموها بالزنى ويفتروا عليها بهتاناً عظيماً، وهي تعلم أنها بريئة، وأن من الطبيعي عندما تُقذف بالاتهامات فإنها تميل إلى المسارعة للدفاع عن نفسها. ولكن الله أمرها مع ذلك بالسكوت والصبر والطاعة والثقة بأمره لها أن تصوم عن الكلام.
الفلسطيني عمار لوزون يصنع زخارف في شكل فانوس تحمل رسائل تهنئة قبل حلول شهر رمضان المبارك في منطقة الرمال بمدينة غزة (25 شباط 2025، أ ف ب).
فالصوم هو تهذيب وتأديب للروح وامتناع عن أي كلام سيئ وجارح ومهين ومعيب. لذلك، فإن انقضاء الصيام لا يعني انقضاء الصوم باعتبار أنه تدريب دائم للنفس حينما تتعرض للشتم أو الأذى، فإن كان شهر رمضان ولم يصبر الصائم على الأذى وردّ الإساءة بالإساءة، أو باشرها بالقول والعمل فلا يتعدّى نصيبه حينئذ من هذا الشهر إلا الجوع والعطش.
مسلمون ومسيحيون يجتمعون في أعياد
مشتركات إيمانية عديدة يجتمع عليها المسلمون والمسيحيون في هذا الشهر، والذي يليه من الشهور. فما إن يحل يوم الخامس والعشرين من شهر آذار حتى يجتمع المسلمون والمسيحيون في عيد البشارة الوطني المريمي المشترك، الذي تحوّل في غضون سنوات قليلة، منذ إقراره في سنة 2010، ثقافة عالمية تزخر بها المكتبات والوثائق والمقالات والأبحاث والاطروحات العلمية لتجعل منه ركيزة أساسية في التقارب الإسلامي المسيحي.
واحتفاءً بهذه المناسبة، أعلنت المرجعيات الدينية المسيحية والإسلامية في مدينة جبيل قبل سنوات عدة يوماً مفتوحاً للمساجد والكنائس مع ما يتخلله من احتفاليات مشتركة. وما إن يمر عيد الشعانين، حتى تعيدنا ذكراه إلى اجتماع النبي محمد مع نصارى نجران في مسجده النبوي، كما أورده ابن هشام في سيرته أن الأحبار المسيحيين الوافدين إلى الاجتماع استأذنوا النبي للخروج من المسجد لإقامة قداسهم الديني الذي ذكره البعض بأنه كان في مناسبة الشعنينة، فطلب منهم النبي أن يصلوا في مسجده، فكان المسلمون يقيمون صلاتهم حين دخل وقتها في ركن من المسجد، والمسيحيون يقيمون صلاتهم في ركن آخر من المسجد.
اللقاء الاسلامي المسيحي معاً حول سيدتنا مريم - السرايا الكبيرة في وسط بيروت (آذار 2019- منير إبراهيم جبر).
كذلك، يتلاقى المسلمون والمسيحيون في آخر يوم أربعاء من شهر نيسان للاحتفال معاً في مناسبة يطلق عليها رابعة أيوب. هذه المناسبة تجد ركيزتها في الكتاب المقدس الذي ذكر المرض الذي ابتُلي به النبي أيوب: (فَخَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ حَضْرَةِ الرَّبِّ، وَضَرَبَ أَيُّوبَ بِقُرْحٍ رَدِيءٍ مِنْ بَاطِنِ قَدَمِهِ إِلَى هَامَتِهِ. فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ شَقْفَةً لِيَحْتَكَّ بِهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي وَسَطِ الرَّمَادِ").
وأما في ما ذكره القرآن الكريم، فإن أيوب نال الشفاء بواسطة الماء. وفي تفسير ابن كثير أن الله أنبع عيناً وأمره أن يغتسل فيها فأذهبَ جميع ما في بدنه من الأذى، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عيناً أخرى، وأمره أن يشرب منها فأذهب جميع ما في بطنه من السوء، وتكاملت العافية ظاهراً وباطناً (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ* ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ*وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ* وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ ۗ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
هذه الحادثة خلّدها أهالي بيروت دون غيرهم من باقي مدن العالم بطبق من أطباق الحلوى تسمّى "المفتقة"، التي تقدم بمناسبة رابعة أيوب. اعتاد أهل العاصمة اللبنانية إعداد طبق المفتقة خلال الاحتفال بـ«أربعاء أيوب» من كل عام. ومع أن هذه الاحتفالات قد توقفت منذ الستينيات، ما زال البعض يواظب على إحيائها كتقليد جميل.
ومن طقوس هذه الاحتفالات التي كانت تقام على شاطئ البحر في بيروت، وتحديداً في منطقتي الرملة البيضاء والأوزاعي البعيدة عن السكن في حينها آنذاك، كان البيروتيون ينصبون الخيام ويمضون يومهم في ظلها احتفالاً بشفاء النبي أيوب، الذي يُحكى أن حكماء ذلك الزمن نصحوه بطمر نفسه في الرمال. أما الأطفال الصغار فكانوا يحتفلون على طريقتهم الخاصة بشفاء أيوب، حين كانوا يرافقون أهلهم إلى الشاطئ، فيلجؤون إلى صنع طائرات من ورق ويلهون بها على الرمال.
وما إن يحل آخر يوم أحد من شهر تموز حتى يحتفل المسلمون والمسيحيون في فرنسا وبعض المناطق بذكرى الشهداء القديسين السبعة النيام، أو من يسمّيهم القرآن الكريم "أهل الكهف"، فيتشارك المسلمون والمسيحيون في احتفاليات جماعية بتلاوة النصوص المسيحية والقرآنية التي تمجد ذكراهم بجو مفعم بالمحبة والأخوة والتضامن بين أتباع هاتين الديانتين.
لقاءات إيمانية كثيرة تجمعنا مسلمين ومسيحيين في لبنان والعالم. فلنرفع الصلوات والأدعية في هذا الشهر الكريم ليحفظ لنا بلدنا ويصون أمنه بسواعد جيشه وحكمة المخلصين من مسؤوليه وتضامن مواطنيه جميعاً.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


ليبانون 24
منذ 4 ساعات
- ليبانون 24
المطران إبراهيم إبراهيم: أسعد نكد رجل بحجم دولة وعد ووفى
في الذكرى الثامنة عشر لبناء كابيلا القديسة ريتا في مقام سيدة زحلة والبقاع، احتشد الآلاف لاستقبال ذخائر القديسة ريتا التي جلبها المهندس اسعد نكد من كاسيا في إيطاليا في قداس احتفالي ترأسه المطران ابراهيم ابراهيم بمشاركة الأساقفة جوزف معوض ، أنطونيوس الصوري ، بولس سفر والمتروبوليت نيفن سيقلي ورؤساء الأديرة ولفيف من الكهنة بحضور حشد من الفاعليات الزحلية و البقاعية. وبعد قراءة الرسالة من قبل الإعلامي الشيخ فارس الجميل وتلاوة الانجيل من قبل المطران جوزف معوض ، ألقى المطران إبراهيم إبراهيم عظة نوه فيها بجهود المهندس اسعد نكد على مختلف الصعد من اجل إنماء و خدمة منطقته وصدق وعوده التي تجلت نوراً مستداماً حتى أضحى رجلاً بحجم دولة لما حقق منطقته ما عجزت عنه الدولة طيلة عشرات السنين الماضية في لبنان. وتابع إبراهيم: "في هذا العيد، لا يسعنا إلّا أن نوجّه تحيّة ملؤها المحبّة والرجاء والوفاء إلى المهندس الحبيب أسعد نكد ، الذي اجتاز ظروفًا صحيّة صعبة، وخرج منها بفضل الله وشفاعة القديسة ريتا، أكثر قوةً وإيمانًا، وأكثر تصميمًا على خدمة مدينته وكنيسته. انه رجل واحد، لكنه بحجم وطن لأنه استطاع ان يفعل ما لم يفعله الوطن". وأكمل: "نصلّي اليوم من أجل صحّته، من أجل حياته العائلية، من أجل المشاريع التي يعمل عليها، كي تبقى دومًا في خدمة الخير العام، وتكون وجهًا من وجوه "الهندسة الروحية" التي تبني الناس، لا فقط النور والطاقة. نحيّي أيضًا عائلته الكريمة، التي تشاركه هذا الإيمان، وهذه الرسالة، ونصلّي من أجل أن تظلّ عائلته شهادةً حيّة على أن الله لا يترك من يتّكل عليه". وأردف: "أمام هذا الجمع المبارك، أوجّه تحية شكر ومحبة لأصحاب السيادة، اخوتي اساقفة مدينة زحلة ، سيدنا جوزيف وسيدنا أنطونيوس الصوري وسيدنا بولس سفر، وعلى رأسنا جميعاً، المتقدم بيننا، المتروبوليت نيفن صيقلي المحبوب، أساقفة المدينة المشاركين معي اليوم في هذه الذبيحة الإلهية. وجودكم بيننا هو شهادة على وحدة الكنيسة، وعلى أن ريتا ومريم توحدان القلوب قبل أن توحّدا الجدران. إنكم بركتنا ورعاتنا، وسهرنا معاً على زحلة في أيام الرخاء والضيق، واليوم نرفع معكم ذبيحة الشكر". واستكمل: "أيّها الأحبّة، من زحلة التي أحبّت ريتا، واحتضنت العذراء ، ننطلق اليوم من جديد. نخرج من هذه الذبيحة حاملين سلام الله، مملوئين من رجاء القديسة ريتا، متسلحين بإيمان العذراء مريم. لنكن نحن أيضًا شهودًا على الغفران، على التضحية، على المحبة، على الوحدة، ولنتذكّر دائمًا أن الأوطان لا تُبنى بالعداوة، بل بالمصالحة، ولا تُحفظ بالانقسام، بل باللقاء. هذا ما ترمز إليه كابيلا القديسة ريتا، الواقفة بجانب أمّنا العذراء مريم، حمايةً لزحلة، وبركةً للبقاع، وأملاً للبنان". وختم إبراهيم: "أيّها الأحبّة،من زحلة التي أحبّت ريتا، واحتضنت العذراء، ننطلق اليوم من جديد. نخرج من هذه الذبيحة حاملين سلام الله، مملوئين من رجاء القديسة ريتا، متسلحين بإيمان العذراء مريم. لنكن نحن أيضًا شهودًا على الغفران، على التضحية، على المحبة، على الوحدة. ولنتذكّر دائمًا أن الأوطان لا تُبنى بالعداوة، بل بالمصالحة، ولا تُحفظ بالانقسام، بل باللقاء. وهذا ما ترمز إليه كابيلا القديسة ريتا، الواقفة بجانب أمّنا العذراء مريم، حمايةً لزحلة، وبركةً للبقاع، وأملاً للبنان".


بيروت نيوز
منذ 4 ساعات
- بيروت نيوز
أسعد نكد رجل بحجم دولة وعد ووفى
في الذكرى الثامنة عشر لبناء كابيلا القديسة ريتا في مقام سيدة زحلة والبقاع، احتشد الآلاف لاستقبال ذخائر القديسة ريتا التي جلبها المهندس اسعد نكد من كاسيا في إيطاليا في قداس احتفالي ترأسه المطران ابراهيم ابراهيم بمشاركة الأساقفة جوزف معوض، أنطونيوس الصوري، بولس سفر والمتروبوليت نيفن سيقلي ورؤساء الأديرة ولفيف من الكهنة بحضور حشد من الفاعليات الزحلية و البقاعية. وبعد قراءة الرسالة من قبل الإعلامي الشيخ فارس الجميل وتلاوة الانجيل من قبل المطران جوزف معوض، ألقى المطران إبراهيم إبراهيم عظة نوه فيها بجهود المهندس اسعد نكد على مختلف الصعد من اجل إنماء و خدمة منطقته وصدق وعوده التي تجلت نوراً مستداماً حتى أضحى رجلاً بحجم دولة لما حقق منطقته ما عجزت عنه الدولة طيلة عشرات السنين الماضية في لبنان. وتابع إبراهيم: 'في هذا العيد، لا يسعنا إلّا أن نوجّه تحيّة ملؤها المحبّة والرجاء والوفاء إلى المهندس الحبيب أسعد نكد، الذي اجتاز ظروفًا صحيّة صعبة، وخرج منها بفضل الله وشفاعة القديسة ريتا، أكثر قوةً وإيمانًا، وأكثر تصميمًا على خدمة مدينته وكنيسته. انه رجل واحد، لكنه بحجم وطن لأنه استطاع ان يفعل ما لم يفعله الوطن'. وأكمل: 'نصلّي اليوم من أجل صحّته، من أجل حياته العائلية، من أجل المشاريع التي يعمل عليها، كي تبقى دومًا في خدمة الخير العام، وتكون وجهًا من وجوه 'الهندسة الروحية' التي تبني الناس، لا فقط النور والطاقة. نحيّي أيضًا عائلته الكريمة، التي تشاركه هذا الإيمان، وهذه الرسالة، ونصلّي من أجل أن تظلّ عائلته شهادةً حيّة على أن الله لا يترك من يتّكل عليه'. وأردف: 'أمام هذا الجمع المبارك، أوجّه تحية شكر ومحبة لأصحاب السيادة، اخوتي اساقفة مدينة زحلة، سيدنا جوزيف وسيدنا أنطونيوس الصوري وسيدنا بولس سفر، وعلى رأسنا جميعاً، المتقدم بيننا، المتروبوليت نيفن صيقلي المحبوب، أساقفة المدينة المشاركين معي اليوم في هذه الذبيحة الإلهية. وجودكم بيننا هو شهادة على وحدة الكنيسة، وعلى أن ريتا ومريم توحدان القلوب قبل أن توحّدا الجدران. إنكم بركتنا ورعاتنا، وسهرنا معاً على زحلة في أيام الرخاء والضيق، واليوم نرفع معكم ذبيحة الشكر'. واستكمل: 'أيّها الأحبّة، من زحلة التي أحبّت ريتا، واحتضنت العذراء، ننطلق اليوم من جديد. نخرج من هذه الذبيحة حاملين سلام الله، مملوئين من رجاء القديسة ريتا، متسلحين بإيمان العذراء مريم. لنكن نحن أيضًا شهودًا على الغفران، على التضحية، على المحبة، على الوحدة، ولنتذكّر دائمًا أن الأوطان لا تُبنى بالعداوة، بل بالمصالحة، ولا تُحفظ بالانقسام، بل باللقاء. هذا ما ترمز إليه كابيلا القديسة ريتا، الواقفة بجانب أمّنا العذراء مريم، حمايةً لزحلة، وبركةً للبقاع، وأملاً للبنان'. وختم إبراهيم: 'أيّها الأحبّة،من زحلة التي أحبّت ريتا، واحتضنت العذراء، ننطلق اليوم من جديد. نخرج من هذه الذبيحة حاملين سلام الله، مملوئين من رجاء القديسة ريتا، متسلحين بإيمان العذراء مريم. لنكن نحن أيضًا شهودًا على الغفران، على التضحية، على المحبة، على الوحدة. ولنتذكّر دائمًا أن الأوطان لا تُبنى بالعداوة، بل بالمصالحة، ولا تُحفظ بالانقسام، بل باللقاء. وهذا ما ترمز إليه كابيلا القديسة ريتا، الواقفة بجانب أمّنا العذراء مريم، حمايةً لزحلة، وبركةً للبقاع، وأملاً للبنان'.


الشرق الجزائرية
منذ 18 ساعات
- الشرق الجزائرية
حديث الجمعة _ رحلة العمر: الحج
المهندس بسام برغوت الحَجّ في الإسلام فريضةٌ عظيمةٌ ذاتُ مكانةٍ روحانيةٍ وتشريعيةٍ فريدة، تجمع بين مقاصد العبادة الخالصة لله تعالى وتجسِّدُ وحدةَ الأمّة وتذكّرُها بجذورها الإبراهيمية. نتناول في هذا المقال الحَجّ من زواياه المتعددة: معناه الشرعي، تاريخه، أركانه، حكمه وآدابه، مقاصده الكبرى، الأبعاد الروحية والاجتماعية والاقتصادية، إضافةً إلى لمحةٍ عن جهود المملكة العربية السعودية في خدمة الحجاج، وأبرز التحديات المعاصرة المتعلّقة بهذا الركن الركين. أولاً: تعريف الحَجّ ومكانته: الحَجّ في اللغة يعني القصدُ إلى شيءٍ مُعظَّم. أمّا في الاصطلاح الشرعي فهو: قصدُ بيت الله الحرام لأداء مناسك مخصوصةٍ في زمنٍ مخصوصٍ بشروطٍ مخصوصة. والحجُّ ركنٌ من أركان الإسلام الخمسة؛ فقد قال النبي ﷺ: «بُني الإسلامُ على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وصومِ رمضان، وحجِّ البيت من استطاع إليه سبيلًا». فجاء بعد التوحيد والصلاة والزكاة والصوم دلالةً على علوِّ شأنه، لكنه مُقيَّدٌ بالاستطاعة رحمةً بالأمة. ثانيًا: جذور الحَجّ التاريخية: يعود أصلُ الحَجّ إلى عهد أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام عندما أمره الله تعالى أن يرفع القواعد من البيت مع ابنه إسماعيل، ثمّ أُمِر بأن يُؤذِّن في الناس بالحج ليأتوا «رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فجٍّ عميق» (سورة الحج). ومنذ ذلك الحين والبيت العتيق قِبلةُ الموحّدين؛ يطوفون به ويقصدونه تلبيةً لأمر الله. ومع مرور القرون وقعت انحرافاتٌ في الشعائر إلى أن جاء الإسلام فطهّر البيت وأعاد للحج نقاءه التوحيدي. ثالثًا: أركان الحَجّ وواجباته وسُننه: قسم الفقهاء أعمال الحج إلى أركانٍ لا يصح بدونها، وواجباتٍ يجبر تركُها بدمٍ، وسُننٍ يُستحبّ فعلُها. الأركان أربعة: الإحرام: نِيّة الدخول في النسك، مع تجريد القلب من الدنيا وتعظيم شعائر الله. الوقوف بعرفة: الركن الأعظم؛ كما في الحديث الشريف: «الحج عرفة» ، يبدأ من زوال شمس يوم التاسع من ذي الحجة إلى فجر يوم النحر. الطواف بالبيت (طواف الإفاضة): بعد النزول من منى يوم العيد، وهو طوافُ الركن. السعي بين الصفا والمروة: استحضارٌ لسعي هاجر أم إسماعيل وتوكّلها على الله. الواجبات تشمل الإحرام من الميقات المعيَّن، المبيت بمزدلفة ومنى، رمي الجمرات، الحلق أو التقصير، وطواف الوداع. أمّا السنن فكثيرة: التلبية، طواف القدوم، الإكثار من الذكر والدعاء، والخشوع. رابعًا: شروط وجوب الحَجّ: لا يجب الحجّ إلا إذا توفّرت خمسة شروط: الإسلام، البلوغ، العقل، الحرية، والاستطاعة (صحةٌ بدنية، وسيلةُ سفرٍ آمنة، ومالٌ زائدٌ عن الحاجات الأساسية). ويُعدّ أداءُ الحجّ مرةً واحدةً فرضَ عين، وما زاد عنها فهو تطوّع. خامسًا: مقاصد الحَجّ الكُبرى: تحقيق التوحيد الخالص: لَبّيْك اللهم لَبّيْك، يردّدها الحاجّ فيعلن الانقياد والعبودية لله وحده. إحياء ذكرى الأنبياء: من إبراهيم وإسماعيل إلى محمدٍ ﷺ ، وتأكيد وحدة مصدر الرسالات. تعميق الأخوّة الإسلامية: يلتقي الحجاج بمختلف الألوان والألسنة، بلباس موحد يرمز الى لباس الكفن لإعلان المساواة والتجرد من التفاخر. تهذيب النفس: بالانضباط وكظم الغيظ، «فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ في الحج». التذكير بيوم الحشر: مشهد عرفة يُشبه وقوفَ الناس للحساب، فيبعث على التوبة والرجاء. سادسًا: الأبعاد الروحية: الحجّ رحلةُ العمر؛ يترك الحاجّ أهله ومتاعه، ويتجرد من ثيابه، ممّا يُشعره بفناء الدنيا وحاجة القلب إلى الله. الطواف يورث ذكرًا دائمًا، والسعي يُذكّره ببذل الأسباب مع التوكل، والوقوف بعرفة يُفيض دموع التوبة. ثمّ إذا رمى الجمرات فكأنّه يرمي الشيطان، وإذا ذبح الهدي استحضر معنى البذل، وإذا حلق شعره تجددت ولادته الروحية. سابعًا: الأبعاد الاجتماعية والسياسية: الوحدة والمساواة: الحج مؤتمَرٌ عالميّ سنوي، يذوب فيه الانتماء العِرقي والطبقي. تبادل العلم والخبرة: كان الحج منصةً لطلبة العلم والتجار والسلاطين لتدارس الأحوال وتنسيق الجهود. نقل الرسائل الإصلاحية: التاريخ زاخِر بخطبٍ ألقيت في موسم الحج رسّخت قيمَ العدل. ثامنًا: إدارةُ الحجّ وجهود المملكة: تتحمّل المملكة العربية السعودية مسؤوليةَ تنظيم الحج؛ فأنشأت وزارة الحج والعمرة، وطوّرت مبادرة «طريق مكة» و«نسك» للتأشيرات الإلكترونية، وشيدت توسعات الحرم، وجسور الجمرات ذات الطبقات، والقطار السريع، وأنظمة التبريد في الخيام، وكلّها لتيسير أداء المناسك مع الحفاظ على سلامة الملايين، مع إتاحة الكراسي المتحركة لحجّ ذوي الاحتياجات الخاصة في الطواف والسعي، مع خدمات الترجمة للصم والبكم، وخطوط أرضية بارزة للمكفوفين. أجاز العلماء للمرأة الحجّ مع محرمٍ أو في رفقةٍ آمنةٍ معتبرة. ولها أحكامٌ خاصةٌ في الطواف والسعي حال الحيض، تُؤجِّل الطواف وتبقى على إحرامها حتى تطهر، رعايةً لحرمتها. ختاماً، يبقى الحَجّ أسمى مدرسةٍ تربويةٍ يتخرّج فيها المسلم متطهّر القلب، موحِّد اللسان، محقّقًا لمعنى الطاعة، ومع التحولات العالمية لا يزال نداء إبراهيم يتردّد، فتهفو القلوب إلى البيت العتيق. إن اغتنام هذه الشعيرة في إصلاح الذات والمجتمع هو الغاية المنشودة؛ فإذا عاد الحاجُّ وقد غُفِر له عاد كيومَ ولدته أمّه، يحمل مسؤولية نشر السَّكينة والتقوى حيثما حلّ. نسأل الله أن يرزقنا وإيّاكم حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.