logo
السياسة الإسرائيلية تجاه الشرق الأوسط وتغذية الصراعات الطائفية

السياسة الإسرائيلية تجاه الشرق الأوسط وتغذية الصراعات الطائفية

بيان اليوم٢٨-١٠-٢٠٢٤

بقدر ما شكل العامل الخارجي المتمثل في تهديدات وأطماع الدول الاستعمارية تجاه منطقة الشرق الأوسط حافزا لتلاقي الإرادات لمواجهة التمدد الإسرائيلي بالمنطقة، بالقدر نفسه شكل عائقا أمام نجاح أية محاولة لتوحيد الجهود حتى داخل الدولة الواحدة، ذلك أن الدول التوسعية نجحت في تحقيق مساعيها التجزيئية باللعب على حبل التعددية الدينية والتنوع الطائفي الذي يعتبر معطى ثابت في بنية دول الشرق الأوسط عموما، ودول الهلال الخصيب أساسا، التي أصبحت مسرحا للتجزئة والفتنة أحيانا بفعل أبنائها وأحيانا أخرى بمكر الأجانب؛ وبالتالي جعلتها ـ التجزئة ـ تتحول من هلال خصيب إلى هلال نضيب.
إن هذه الروابط الثقافية والدينية المنصهرة والمندمجة مع بعضها البعض والتي كان يفترض فيها مبدئيا أن تجعل من مواجهة الأطماع الاستعمارية أمرا ممكنا، تحولت فيما بعد إلى حجر عثرة يعيق مساعي توحيد الرؤى لمواجهة التهديدات الأجنبية بالمنطقة، ذلك أن هذه القوى نجحت في استغلال المعطى الطائفي وتوظيفه كورقة لبث روح التجزئة والتشرذم في الشرق الأوسط، بالشكل الذي أفقد دوله الصلابة والمناعة التي تجعلها تصمد في مواجهة القوى الخارجية وطموحاتها التوسعية تجاه دول المنطقة. وبالتالي، جعل دعمها محدودا للقضية الفلسطينية التي شكلت أحد الثوابت في تفاعلات الخطاب العربي بمستوييه الرسمي والشعبي.
هكذا؛ وبمجرد بداية بروز تشكل الوعي الإقليمي لما يمثله المشروع الصهيوني من تهديد وخطر ليس فقط تجاه دولة فلسطين وإنما تجاه منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، سيما وأن إسرائيل كانت قد شرعت في عمليات التهويد وأفصحت عن توجهاتها التوسعية تجاه دول المنطقة بعد برنامج 'بلتيمور' الذي عقد أيام 6 – 11 عام 1942 بنيويورك الذي يحمل في طياته خطرا يفوق خطر وعد بلفور 1917، حيث ساعد هذا المؤتمر الحركة الصهيونية في تحويل مركزها من بريطانيا إلى أمريكا التي أصبحت الحاضن الرسمي للمشروع الصهيوني ومعه حصلت الصهيونية على أكبر حَامٍ لها وحصلت على تطمينات ليس فقط بإنشاء وطن يهودي في فلسطين وإنما تأسيس دولة يهودية في فلسطين يشمل نفوذها الجغرافي تراب دول مجاورة.
لقد شكلت فلسطين على مر التاريخ قطرا عربيا واقعا في قلب البلاد العربية تربطه بها روابط مشتركة ثقافية؛ دينية؛ روحية؛ تاريخية؛ لغوية وهو الأمر الذي جعل شعوب وحكام أغلب هذه الدول تهتم أيما اهتمام بالقضية الفلسطينية وتريدها دولة مستقلة وذات سيادة، وهذا التعاطف مع القضية الفلسطينية ونضالاتها دفع إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية لبذل كل ما في وسعهما من أجل كبح كل محاولات لمّ الشّمل لتأسيس جبهة موحدة لمواجهة سياسات التهويد ومطامع الاحتلال تجاه منطقة الشرق الأوسط عموما وفلسطين خصوصا؛ سيما بعدما تمكن الجيش الإسرائيلي عام 1967 من احتلال مساحة كبيرة من الأرض العربية في مصر؛ سوريا؛ الضفة الغربية وقطاع غزة وحققت مخططاتها الاستيطانية تقدما ملحوظا بضم كل من صحراء سيناء ومرتفعات الجولان، حيث أصبحت إسرائيل تسيطر على جزء كبير من جغرافيتها بالشكل الذي أتاح لها السيطرة على الموارد الطبيعية في منطقة الجولان وسيناء والضفة الغربية.
أولا: خطة إينون وحلم التجزئة؟
في سياق مساعي إسرائيل الرامية لوأد وإجهاض كل محاولة عربية – إسلامية للوحدة، تطفو على السطح خطة 'أوديد إينون' التي نُشرت عام 1982 في المجلة العبرية 'كيفونيم' والمخصصة لتفكيك وتجزئة الشرق الأوسط إلى دويلات متنافرة. وتعتبر هذه الخطة من أقدم الوثائق المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي، وفي نفس الوقت أكثرها وضوحا بشأن العقيدة التوسعية الإسرائيلية في جغرافية الشرق الأوسط.
من بين الأهداف التي سعت الخطة بلوغها إضعاف دول المنطقة وتقسيمها وتفكيكها، بالشكل الذي يجعلها غير قادرة على تأسيس جبهة موحدة لمواجهة إسرائيل، التي تنظر للمجتمعات العربية الإسلامية بمنظار الشبح الذي يمثل التهديد الحقيقي لها على المدى البعيد، والذي قد يشكل عائقا أمام تأسيس 'إسرائيل الكبرى'، الأمر الذي دفعها للتفكير في نهج سياسة فرق تسد من خلال محاولة تجزئة بعض الدول وتغذية روح الانقسامات السياسية؛ الطائفية؛ الدينية؛ سيما وأن أغلب دول الشرق الأوسط تعج بالطوائف التي تكن مشاعر عدوانية تجاه بعضها البعض وهو ما يسمح لإسرائيل بتغيير الخريطة الجيوسياسية؟.
ثانيا: تقسيم لبنان إلى دويلات طائفية وإضعاف المقاومة الفلسطينية
إن محاولة تقسيم لبنان إلى دويلات طائفية متناحرة يعتبر هدفا قديما في العقيدة التوسعية الإسرائيلية، إذ سبق لرئيس الوزراء الإسرائيلي موشي شاريت أن كشف عنه في مذكراته عام 1954 عندما طرح دايفيد بن غوريون فكرة تقسيم لبنان بإقامة دولة مسيحية منفصلة وقائمة بذاتها، وهو الطرح الذي تبعه فيه شمعون بيريز الذي اعتبر أن حل الأزمة اللبنانية يكمن في تقسيم لبنان، وربما هذا الأمر هو الذي يفسر العلاقات الإسرائيلية الناشئة آنذاك مع مجموعات متعددة من الطوائف اللبنانية وتدخلها لإذكاء الصراعات الدامية بينها وتهديم الوحدة الوطنية اللبنانية وضرب كل البنى السياسية والثقافية الموحدة في لبنان، بدءا بتشجيعها للتيارات الطائفية وتوفير السلاح لها، خاصة المتحمسين لإقامة وطن قومي مسيحي بعد اقتحام القوات السورية للبنان عام 1976 وميل بعض الطوائف اللبنانية لتوثيق العلاقة مع إسرائيل التي كانت تقوم بالمستحيل من أجل نقل الحرب إلى داخل العرب بدلا من حصر دائرة الصراع بين العرب وإسرائيل، والعمل قدر المستطاع على تعريب الحرب في أفق إقامة 'الدولة الإسرائيلية الكبرى'.
تعتبر الطائفية في لبنان معطى أساسيا في مؤسسات ومفاصل الدولة، بحيث تعود جذورها للحرب الأهلية عام 1975؛ والتي كان من نتيجتها الانقسام في بنية وخريطة الدولة؛ المنطقة الغربية 'الإسلامية'، والمنطقة الشرقية 'المسيحية'، انتهت بوثيقة الوفاق الوطني في إطار ما سمي باتفاق الطائف عام 1989، واعتبار لبنان أرض واحدة لكل اللبنانيين، اتفاق أريد منه تحقيق 'التعايش المشترك' بين المسلمين والمسيحيين والعمل على تحقيق المساواة السياسية بينهما في أفق إلغاء الطائفية بشكل متدرج، إلا أنه ما فتئ أن أفرز واقعا مبلقنا أسهم في تلاشي فكرة الدولة وأقر حقوق الطوائف منفصلة عن سلطة الدولة وأعاق قيام الدولة المدنية.
هذا الواقع الهجين جعل إينون يدعو بدوره لتقسيم لبنان، وهو ما حاولت إسرائيل فعله منذ عام 1982، إذ بعد اجتياحها له سعت جاهدة لإنشاء منطقة آمنة في جنوب لبنان تحت السيطرة الإسرائيلية، وذلك كإجراء احترازي لمنع تسلل عناصر المقاومة الفلسطينية وقهر الإرادة العربية سياسيا؛ اقتصاديا؛ عسكريا والتوسع في المنطقة وضرب الوجود الفلسطيني في لبنان، وذلك من خلال استهداف المناطق العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية في الجنوب اللبناني وخلق حالة من الذعر لدى الفلسطينيين المقيمين بلبنان والضفة الغربية ودفعهم للنزوح نحو الأردن. وبالتالي، محاولة القضاء على القوى الخارجية في لبنان، خاصة السورية والفلسطينية وإعادة التركيبة السياسية في لبنان بخلق حكومة مركزية موالية لإسرائيل.
ثالثا: العراق الطائفية تعيق الدولة الفدرالية عام 2005
أما فيما يتعلق بالعراق فسعت إسرائيل لتقسيمها إلى دولة شيعية وأخرى سُنِّيَة مع انفصال الجزء الكردي منها. وفي هذا الصدد، يمكن اعتبار الحرب الإيرانية العراقية للفترة ما بين 1980-1988 بمثابة بداية تحقيق ذلك، حيث كانت إيران تمني النفس منذ نجاح ثورة 1979 على تصدير الثورة لجيرانها، فضلا عن الخلاف حول ترسيم الحدود بمنطقة شط العرب المطلة على الخليج العربي الغني بالنفط، وهو ما جعل حزب البعث العراقي الحاكم حينئذ يستشعر خطر قدوم التشيع من الجارة الإيرانية. غير أن الطائفية -منذ الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003- غذت من خصائص الدولة العراقية التي أصبحت مسرحا للانقسامات الداخلية.
لقد نجحت القوى الأجنبية والتوسعية في استغلال المسألة الطائفية التي هي معطى عقائدي لتحقيق أغراض سياسية مما أدى إلى تفكك بنية الدولة؛ وهذا حال العراق التي أصبحت مسرحا للعنف الطائفي بالرغم من تبنيها للتجربة الفدرالية بموجب دستور 2005 الذي نصت مادته الأولى بأن العراق دولة اتحادية واحدة، وبالرغم من التنصيص الدستوري في المادة 2 منه على ضمان الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية، وبالرغم من التنصيص الدستوري في المادة 3 بأن العراق بلد متعدد المذاهب والقوميات والأديان، إلا أن هذه الخصوصية جعلت من فكرة الفدرالية تعجز عن صهر كافة المكونات في بنية النظام السياسي الجديد، إما بسبب عدم الاستقرار السياسي والأمني وإما بسبب تباعد الرؤى بخصوص تدبير موارد النفط والغاز بإقليم كردستان.
وتبقى الإشكاليات التي تطرحها المادة 140 من الدستور العراقي لعام 2005 في مقدمة القضايا الخلافية بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان، خاصة مشكلة كركوك والمناطق المتنازع عليها بين الإقليم والمحافظات المجاورة أي المناطق التي 'تعرضت للتغيير الديمغرافي ولسياسة التعريب' في عهد صدام حسين، ونصت المادة المذكورة آنفا على آلية تضم ثلاث مراحل لتسوية الوضع: بدءا بتسوية التغييرات التي طرأت على التركيبة السكانية في كركوك والمناطق المتنازع عليها؛ مرورا بإحصاء الساكنة، وصولا للاستفتاء لتحديد إرادة السكان، بهذا تحولت الطائفية إلى آلية لتغييب التوافق السياسي بين أبناء البلد الواحد؛ وعوض أن تكون الفدرالية مدخلا لدرء الانقسامات أصبحت مغذية لها.
رابعا: سوريا الطائفية وحظوظ الدولة الفدرالية؟
نفس الأمر بالنسبة لسوريا، فهي لا تختلف اختلافا بَيِّناً عن لبنان والعراق الطائفيتين، حيث كانت منذ القدم عرضة لمساعي أجنبية لتحويلها إلى بؤرة للنزاع الطائفي بين السنة والشيعة؛ وهو ما تعيشه سوريا؛ حيث تبدو منذ اندلاع 'الربيع العربي 2011″، نموذجا لبلد عربي أكثر تأثرا بالنزعة الطائفية التي تغذيها التدخلات الخارجية، خاصة تلك التي مصدرها من داخل المنطقة -إيران أساسا- بالشكل الذي جعل الانقسام الداخلي إحدى السمات الأساسية التي تطبع المشهد السياسي بسوريا، بين أقلية شيعية 'الطائفة العلوية' الماسكة بزمام الحكم منذ 1970 وأكثرية سنية معارضة منذ 2011 وتطالب بإصلاحات جذرية، لكن سعيهم هذا اصطدم ويصطدم بممانعة الحزب الحاكم في سوريا وبأنظمة شيعية تساند موقف السلطة القائمة في سوريا، خاصة بعد التقارب السوري الإيراني وهو ما صعب من إمكانية تحقيق الإصلاحات التي تسعى إليها السنة في سوريا ومعه غذت حظوظ الدولة الفدرالية هناك ضئيلة بل ومستبعدة، ذلك أن تدخل إيران في الشؤون الداخلية لسوريا يجعل من فكرة الدولة الفدرالية التي تجمع بين السنة والشيعة في سوريا أمرا غير ممكنا، سيما في ظل تمسك حزب البعث العربي الاشتراكي بالشرعية التاريخية التي يؤسس ويقيم عليها أحقيته في الحكم.
خامسا: مصر هل تدخل سيناء في استراتيجية إسرائيل التوسعية؟
قديما سعت إسرائيل لتقسيم مصر إلى عدة دويلات ذات نفوذ ضعيف من خلال تصور تواجد دولة مسيحية قبطية في مصر متاخمة لعدة دول ضعيفة، وإن كان هذا الأمر لم يحدث وتأجل بموجب اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في عام 1979 وانحياز الرئيس المصري السابق أنور السادات للجانب الأمريكي، غير أن احتمالية هذه الفرضية تبقى ممكنة على المدى البعيد لأن جزيرة سيناء، التي احتلتها إسرائيل مرتين الأولى عام 1956 والثانية عام 1967، كانت وستظل ذات أهمية استراتيجية في العقيدة التوسعية لإسرائيل، وهذا الأمر يمكن تلمسه من خلال دعوة بعض الفئات الإسرائيلية لتوسيع الرقعة الجغرافية لـ 'دولة إسرائيل'، وهي نفس الدعوة التي تبناها ودافع عنها وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو، الذي نشر تغريدة بحسابه الرسمي على 'منصة إكس' يوم 3 يوليوز 2024؛ تروج لمنتجات تدعو إلى احتلال شبه جزيرة سيناء المصرية، وهذا يعني أن الأمر لم يعد مجرد حلما للإسرائيليين، بل ربما أصبح توجها رسميا لسلطة الاحتلال.
سادسا: الخليج العربي بين مطرقة الخطر الإيراني وسندان الأطماع الأمريكية؟
بخصوص دول الخليج العربي، فقد بدأ المذهب الشيعي يتغلغل داخلها بعد أن تسلل إليها من حدود الجوار التي تجمعها بإيران، وبفضل مساعي هذه الأخيرة الدؤوبة لنشر المذهب الشيعي، منذ عام 1979، ليس فقط داخل دول الجوار بل حتى داخل دول شمال إفريقيا. وبالتالي، إعطاء قضية التشيع بعدا استراتيجيا؛ الأمر الذي جعل دول الخليج العربي بدورها تحتضن طائفية شيعية وإن على قلتها، إلا أنها يمكن أن تكون سببا في بروز مشكل الطائفية بمجرد توافر الشروط الموضوعية لذلك، كما أن أغلب هذه الدول تعيش على عائدات النفط وهو الأمر الذي جعلها ويجعلها عرضة لأطماع القوى الأجنبية سيما أمريكا التي لن تتردد في اتخاذ ما يقتضيه الحفاظ على مصلحتها، حتى لو تطلب الأمر اللجوء إلى القوة العسكرية طبقا لمبدأ كارتر لعام 1980 دفاعا عن نصيبها من عائدات النفط.
صحيح أن مبدأ كارتر أتى كرد فعل على غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان سنة 1979؛ غير أن هذا المبدأ يعتبر معطى ثابت في العقيدة العسكرية الأمريكية، ذلك أنه ليس هناك ما يمنعها من توظيفه لتقويض المبادرات الرامية للمس بمصالحها في الخليج العربي، سيما أمام تنامي نفوذ إيران الذي لن تتركه أمريكا يشكل تهديدا لأطماعها في الثروة النفطية، وهذا الأمر يبدو جليا من خلال البيان المشترك بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، الصادر في 15 يوليوز 2022، حيث شددا الجانبان على ضرورة ردع تدخل إيران في الشؤون الداخلية للدول والتأكيد؛ في نفس الوقت؛ على عدم مشروعية امتلاكها لسلاح نووي، وهذا الأمر يفسره أيضا استمرار الدعم العسكري الأمريكي للجيش الإسرائيلي في الشرق الأوسط وحرصهما على تحويل الصراع من صراع بين العرب وإسرائيل إلى صراع بين العرب أنفسهم وتغذية النزعة الطائفية.
ومما يوحي بأن أمريكا لن تسمح بالمساس بمصالحها الاقتصادية في منطقة الخليج العربي، هو رد فعلها إزاء التقارب السعودي الصيني، الذي كان من ثماره استثمار السعودية لموقعها الجيوسياسي وانخراطها الإيجابي في مبادرة الصين الرامية لإحياء أقدم الطرق التجارية بين العرب والصين عبر مشروع طريق الحرير الجديد، باعتباره استراتيجية صينية الغاية منها تمديد النفوذ التجاري الصيني نحو العالم، غير أن أمريكا لم تقف موقف المراقب لتسرب الهيمنة الصينية في الخليج العربي، بل واجهتها بإطلاق خطة مماثلة عبر مشروع الممر الاقتصادي بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا من خلال خطوط السكك الحديدية والنقل البحري وتعمدت إقحام كل من المملكة العربية السعودية والإمارات في الصراعات الجيوسياسية والاقتصادية بين القوى الكبرى. قد يبدو للوهلة الأولى أن مبادرة أمريكا تسعى لتسهيل نقل الطاقة والكهرباء والهيدروجين وإنشاء خطوط السكك الحديدية والتشبيك التجاري، بيد أن الهدف المضمر للمشروع الأمريكي يتمثل أساسا في محاولة التضييق على المبادرة الصينية وتحجيم التواجد الصيني وإن كانت الجدوى الاقتصادية للمشروع الأمريكي تبقى متواضعة بالمقارنة مع مشروع الحزام والطريق الصيني.
على سبيل الختم
تأسيسا على ما تقدم، يمكن القول بأن ما تشهده حاليا بعض الدول خاصة لبنان؛ سوريا والعراق من نزاعات طائفية، تهيأت شروطها الموضوعية والذاتية منذ بداية التغلغل الإسرائيلي، ونجاحه في تغذية التوترات بين المكون الطائفي الذي يعتبر معطى أساسيا ومتجذرا في تركيبة هذه الدول، وقد كانت الغاية من تذكية النزعة الطائفية هي عدم السماح لأي دولة من الدول بأن تتقوى أكثر من اللازم أو أن تصبح على الشكل الذي يحمل خطرا على التواجد الأجنبي بالمنطقة خاصة إسرائيل، وهو الأمر الذي عانت منه إسرائيل وأمريكا مع العراق في عهد صدام حسين، وتعاني منه إسرائيل وأمريكا حاليا جراء تنامي النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.
وعليه؛ وللخروج من الطائفية التي تعصف بوحدة دول المنطقة تبقى الفدرالية -التي تتأسس على الوحدة واللامركزية وتوزيع السلطة بين المركز والأقاليم- خيارا يطرح نفسه بإلحاحيَّة باعتباره بديلا للطائفية التي تغذي الانقسامات الداخلية. وبالنسبة للحالة اللبنانية؛ يمكن أن يشكل اتفاق الطائف لعام 1989 أرضية يمكن تطويرها وتجويدها نحو الفدرالية مستقبلا بدلا من اللامركزية الإدارية، الأمر الذي من شأنه أن يشكل في حالة ما تم تطبيقه بشكل سليم ـ إسوة بالتجربة السويسرية التي أسس لها أول دستور صادر في 12 شتنبر 1848 والفدرالية الألمانية التي نصت عليها المادة 20 من القانون الأساسي لعام 1949 ـ حلا لوقف الانقسامات الداخلية بين التشكيلات الطائفية؛ بل ومدخلا للتنمية بجميع مستوياتها.
بيد أن حظوظ نجاح الفدرالية في هذه الدول تتوقف أساسا على حسن تبيئتها؛ وبالتالي تجنب الغلو الذي قد يجعلها مدخلا لتجذر الفكرة الطائفية في بنية النظام السياسي، وإنما يجب تطبيقها باعتبارها مفتاحا للتسوية السياسية وإدماج المكون الهوياتي مما يؤدي في نهاية المطاف إلى لم شمل الكيانات الطائفية المتنوعة في إطار دولة واحدة، شريطة التزام الحكومات الإقليمية بعدم المغالاة في تفسير المبدأ الفدرالي على النحو الذي يؤدي إلى المطالبة باقتسام الروافد التقليدية للسيادة: 'الأمن؛ الدفاع والسياسة الخارجية' مع الحكومة الفدرالية كما حدث في التجربة العراقية.
بقلم: عبد الغني السرار
أستاذ العلوم السياسية بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة المغرب.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

من نظرية إلى واقع ميداني.. ما هي خطة 'أوديد إينون' التي تنفذها إسرائيل في سوريا؟
من نظرية إلى واقع ميداني.. ما هي خطة 'أوديد إينون' التي تنفذها إسرائيل في سوريا؟

بديل

time٠٤-٠٥-٢٠٢٥

  • بديل

من نظرية إلى واقع ميداني.. ما هي خطة 'أوديد إينون' التي تنفذها إسرائيل في سوريا؟

تحولت وثيقة كتبها مستشار رئيس وزراء إسرائيل أرييل شارون، أوديد إينون في 1982 بعنوان 'استراتيجية إسرائيل للثمانينيات'، إلى واقع تعيشه سوريا والشرق الأوسط في 2025، فماذا نعرف عنها؟ تنطلق خطة مستشار شارون التي شرحها أيضا في كتاب 'الأرض الموعودة: خطة الصهيونية من الثمانينيات' من مبدئين أساسيين استراتيجيين ينبغي لإسرائيل مراعاتهما: العمل على تحول إسرائيل إلى قوة إقليمية إمبريالية والعمل على تحويل المنطقة برمتها إلى دويلات صغيرة عن طريق تفكيك جميع الدول العربية القائمة حاليا. وتتضمن الخطة رؤية لتفكيك الدول العربية إلى كيانات طائفية وعرقية صغيرة بهدف ضمان تفوق إسرائيل الإقليمي، وركزت بشكل خاص على سوريا، مشيرة إلى ضرورة تقسيمها إلى دويلات علوية وسنية ودرزية، على غرار ما حدث في لبنان. الملفت أنه بعد أكثر من أربعة عقود، تبدو ملامح هذه الخطة واضحة في الواقع السوري الحالي، فقد شهدت البلاد صراعات داخلية أدت إلى تشرذم المجتمع وتفكيك الدولة، مما سهل التدخلات الخارجية، بما في ذلك التدخل الإسرائيلي. ففي دجنبر 2024، استغلت إسرائيل انهيار النظام السوري لتنفيذ ضربات جوية مكثفة استهدفت مواقع استراتيجية، وأعلنت عن إقامة 'منطقة سيطرة' تمتد داخل الأراضي السورية، بهدف إنشاء منطقة عازلة وتأمين حدودها. كما كشفت تقارير عن خطة إسرائيلية جديدة لحماية الحدود مع سوريا، تتضمن ثلاثة مستويات دفاعية، تبدأ بإنشاء منطقة حدودية عازلة داخل الأراضي الإسرائيلية، يليها نظام دفاع أمامي داخل الأراضي السورية، وأخيرا فرض نزع السلاح في جنوب سوريا. وفي أحدث تحرك إسرائيلي، أطلق المستويان السياسي والعسكري الإسرائيليان تهديدات للحكومة السورية الانتقالية بقيادة أحمد الشرع، في تدخل واضح بالشأن الداخلي السوري على خلفية أحداث جرمانا وصحنايا اللتين يسكنهما أفراد الطائفة الدرزية. ولم تكتف إسرائيل بالتصريحات، فقد تحركت عسكريا ضد حكومة الشرع، حيث وجهت ضربات جوية على أهداف ومواقع عسكرية، وحتى بالقرب من القصر الرئاسي في دمشق، لترسل تهديدا واضحا إلى القيادة السورية. تجسد هذه التحركات الإسرائيلية تنفيذا عمليا لخطة 'عوديد إينون'، حيث تسعى إسرائيل إلى استغلال الفوضى في سوريا لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، من خلال تقسيم البلاد وإضعافها، لضمان أمنها وتفوقها في المنطقة.

حل العودتين بدلا من حل الدولتين
حل العودتين بدلا من حل الدولتين

وجدة سيتي

time١٤-٠٢-٢٠٢٥

  • وجدة سيتي

حل العودتين بدلا من حل الدولتين

منذ أكثر من قرن، وضع الغربُ فلسطينَ في قلب صراع دموي سببه المشروع الصهيوني الاستيطاني، الذي قام على تهجير شعب كامل من أرضه لإحلال مستوطنين قدموا من شتى بقاع الأرض. ومع مرور الزمن، طُرحت حلول متعددة لإنهاء الصراع، وكان ولا يزال أبرزها هو ما يُعرف حتى اليوم بـ »حل الدولتين ». حل ينص على إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. لكن هذا الحل، الذي بدا لكثيرين وكأنه التسوية المنطقية، حُكم عليه بالإعدام على يد الصهاينة أنفسهم، بالنظر لما يرون فيه من تهديد حقيقي لزوال دولتهم على المدى المتوسط أو البعيد. فلم يتوقفوا يومًا عن توسيع مستوطناتها والاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية مع نية تهجير أهلها قسرا، بل تطمع حتى في الاستيطان بغزة الذي تتبناه فكرة تهجير أهلها، مما يجعل حل إقامة دولة فلسطينية مستقلة أمرًا مستحيلًا. في المقابل، بينما يحلم البعض بحل تهجير الفلسطينيين، هناك حل أكثر عدالة وواقعية ومنطقية، وهو « حل العودتين ». حل يبدو مع الأسف الشديد مستبعدا ومستحيلا فيظهر وكأنه لم يخطر على بال أحد اللهم المقاومة المشروعة التي كالعادة توصف بالإرهاب من طرف أي احتلال ومن طرف مؤيديه المنحازين له. هذا الحل العادل والمشروع يقوم على مبدأ بسيط، وهو أن يعود أخيرا كل طرف من طرفي النزاع إلى موطنه الأصلي. فيعود اليهود إلى أوطانهم التي هاجروا منها إلى فلسطين طيلة القرن الماضي وحتى الآن، في مقابل عودة كل الفلسطينيين من مخيمات اللجوء إلى أراضيهم وديارهم التي أُجبر أجدادهم وآباؤهم على مغادرتها بالقوة تحت ضربات العصابات الإرهابية الصهيونية التي شكّلت جذور جيش إسرائيل الحالي. فـفي « حل العودتين » بدلًا من « حل الدولتين » استعادة للحقوق المشروعة لكلا الطرفين. وهو السبيل الوحيد لتحقيق سلام دائم في فلسطين وفي المنطقة، وأخيرًا بين الغرب اليهودي-المسيحي والمشرق العربي-المسلم. فمنذ نكبة عام 1948، تعرض الفلسطينيون لعملية اقتلاع جماعي، حيث دمِّرت العصابات الصهيونية مئات القرى وقتلت سكانها وطردت من تبقى منهم قسرًا، تحت حماية الانتداب البريطاني الذي يسر بذلك قيام الكيان الإسرائيلي على أنقاض وطنهم بموجب وعد بلفور. كيان يهودي تشكل من المستوطنين الصهاينة الذين جاؤوا من أوروبا وروسيا وأمريكا ودول أخرى. وبما أن الدول الغربية وفي مقدمتها بريطانيا هي التي رعت المشروع الصهيوني منذ بدايته، فمن العدل والمنطق أن تتحمل مسؤولية إقناع المستوطنين بالعودة إلى بلدانهم الأصلية بل حتى بالضغط عليهم بشتى الوسائل ومنها رفع كل أشكال الدعم عنهم، وتعويض الفلسطينيين التعويض الكافي والوافي عن عقود من المعاناة التي تسببوا لهم فيها. أما من يبررون وجود إسرائيل بالحاجة إلى وطن قومي لليهود، فعليهم أن يتساءلوا: لماذا يجب أن يكون هذا الوطن في فلسطين تحديدًا؟ شعوب العالم والقانون الدولي ليسوا مجبرين على تبني عقيدة دينية خاصة بأي قوم، ومنها عقيدة اليهود بما فيها خرافة « الأرض الموعودة » وأسطورة « شعب الله المختار ». والمفارقة أن الدول الغربية، التي تتبنى الطرح الصهيوني بكل قوة، هي نفسها التي باسم العلمانية تعتبر العقائد الدينية من خصوصيات الأفراد والجماعات وغير ملزمة للوطن والمجتمع. والمستغرب أكثر هو مقف فرنسا الداعم للدولة اليهودية، في حين تتبنى حكوماتها علمانية متطرفة مقارنة بعلمانية باقي الدول الغربية. فملك بريطانيا مثلا، هو رئيس الكنيسة الإنڴليكانية، ورؤساء أمريكا يؤدون اليمين الدستورية اليد موضوعة على الكتاب المقدس وأمام قسيس. أمور مستحيلة ولا في الخيال مع العلمانية الفرنسية المتشددة. ومع ذلك توجد فرنسا في مقدمة المدافعين عن المشروع الصهيوني القائم على « اليهودية السياسية » التي اتضح بالملموس أنه باسمها يرزح الفلسطينيون منذ سبع عقود تحت نيْر الفصل العنصري الصارخ بأرضهم المحتلة. في الوقت الذي تعارض فيه نفس فرنسا وبكل قوة مجرد رائحة ما تسميه ب »الإسلام السياسي ». ازدواجية في المعايير فاضحة لا تفهم سوى بالتحيز الأعمى للصهيونية العنصرية باسم « الدين السياسي » الذي تزعم أنها تعارضه مبدئيا. وذلك على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة. على كل حال، إذا كان لا بد من منح اليهود دولة آمنة، فلماذا لا تكون في الغرب الذي لا يزال يتبنى مشروعهم بكل قوة؟ فلما ليس في أراضي الولايات المتحدة الشاسعة، حيث يوجد دعم المسيحيين الإنجيليين المطلق لليهود، وحيث يمكنهم العيش وسط بيئة ديمقراطية ومتحضرة المتماهية مع ثقافتهم الغربية، وبعيدًا كل البعد عن العيش وسط « الهمجية والوحشية العربية »، كما يحلو لهم وصف ثقافة المشارقة الذين لم يستضيفهم يوما للعيش بينهم؟ فيمكن، على سبيل المثال، تخصيص ولاية خاصة بالطائفة اليهودية في أمريكا، كما هو الحال مع ولاية يوطا التي تعد مركزًا لطائفة المورمون. هكذا سيحصل اليهود على دولة يعيشون فيها من دون دوام لعنة الخوف على زوالها، ولا لعنة حالة الحرب الدائمة مع محيطها الأجنبية عنها، ومن دون الحاجة إلى جيش ضخم وأجهزة استخبارات مكلفة لحمايتها. فكرة « حل العودتين » ليست فقط الأكثر عدلًا، بل هي أيضًا الأكثر واقعية وسلمية ومطمئنة للجميع مقارنة بجميع الحلول الوهمية المطروحة حتى يومنا هذا. ففكرة تهجير الفلسطينيين مستحيلة ولو حتى في الأحلام. وخير دليل على ذلك يكمن في نتيجة الحرب الأخيرة لصالح المقاومة الشبه بدائية ضد وحشية جيش الاحتلال المدعوم بكل قوى العالم الغربي. كما يكمن وبقوة في مشاهد عودة الغزيين مبتهجين فور إعلان الهدنة إلى لقراهم وديارهم المدمرة. بينما استمرار الاحتلال الإسرائيلي يعني دوام الحروب والصراعات والاضطرابات والتوترات والعداوات ليس فقط في فلسطين وفي كل المنطقة، بل أيضًا بين الأنظمة الغربية وشعوب العالم الإسلامي ومجمل حكومات المشرق وباقي العالم التي لا تقبل الظلم. أما العودة إلى الأصول بمعنى إلى حال فلسطين قبل الاحتلال، حيث يعود اليهود إلى بلدانهم الأصلية، ويستعيد الفلسطينيون أراضيهم وديارهم وحريتهم واستقلالهم، فهي الحل الذي يحقق العدالة والطمأنينة للجميع والتعايش السلمي والتقليدي والمعهود بالعالم المسلم بين كل المسلمين وكل اليهود، وينهي قرنًا من الحروب والاضطرابات ليس فقط بالمنطقة بل بالعالم كله. فإذا أراد العالم أخيرا سلامًا حقيقيًا وعادلا ودائمًا، فعليه أن يتشجع ويتخلى عن الحلول الوهمية التي لم تؤدِّ إلا إلى مزيد من الحروب والتوتر وذبح الأبرياء وسجنهم صغارا وكبارا، نساء وزجالا ودمار أراضيهم وديارهم وحرمانهم من الحق في حريتهم. « حل العودتين » هو البديل العادل والمنطقي، الذي يعيد الحقوق إلى أصحابها، ويضمن سلامًا حقيقيًا، ليس فقط لفلسطين، بل للمنطقة والعالم بأسره. حل العودتين الذي من المؤمل أخيرا أن تتبناه الأجيال اليهودية الصاعدة لما تستخلص الدروس من الموروث الصهيوني الظالم الذي دام أكثر من سبعة عقود، والذي لم يجلب لليهود بفلسطين سوى لعنة البؤس الدائم ولعنة التعاسة ولعنة الخوف على الحاضر وعلى لمستقبل، من دون باقي شعوب العالم التي تعيش في أراضيها بسلام آمنة ومطمئنة بداخلها ومع كل جيرانها في محيطها وفي منطقتها. فكل من المصري مثلا، والأردني واللبناني والسوري، مثل باقي أفراد شعوب العالم، يعيش مطمئنا في أرضه لا ينازعه فيها أحد. فقط اليهودي الصهيوني في فلسطين ومن دون غيره يشعر بدوام لعنة الغربة عن الأرض التي يحتلها ومرفوض ومنبوذ ومكروه من طرف كل من أهلها وأهالي محيطها. أليست هذه لعنة؟ نعم، ويا لها من لعنة جزاء وفاقا! فمن أجل ماذا، سوى السراب طيلة حياة لا يعيشها الإنسان إلا مرة واحدة؟

المؤمرات والدسائس الخبيثة للغرب الأطلسي بزعامة أمريكا ضد الدول العربية والاسلامية اصبحت مفضوحة
المؤمرات والدسائس الخبيثة للغرب الأطلسي بزعامة أمريكا ضد الدول العربية والاسلامية اصبحت مفضوحة

وجدة سيتي

time١٢-٠٢-٢٠٢٥

  • وجدة سيتي

المؤمرات والدسائس الخبيثة للغرب الأطلسي بزعامة أمريكا ضد الدول العربية والاسلامية اصبحت مفضوحة

على الغرب الأطلسي بزعامة أمريكا أن كبح جماح جشعه وأطماعه في مقدرات البلاد العربية والإسلامية وأن تتركها وشأنها بعد كل ما لحقها جراء مؤامرتها المتتالية والخسيسة من مصائب وكوارث عظمى لم ينج قطر من أقطار البلاد العربية والإسلامية من احتلال الأنظمة الغربية الرأسمالية البغيض خلال القرن التاسع عشر . ولم ترحل عساكر المحتلين عنها إلا بعدما استنزفت بشكل فظيع مقدراتها إلى درجة الاتلاف الكلي لبعضها . ولم تنج أيضا من تمزيق وتفكيك وحدتها ولحمتها ،الشيء الذي غير معالم حدودها الكبرى أو الجامعة التي كانت عليها خلال حكم امبراطورياتها المتعاقبة ، وذلك بسبب تطبيق الدول المحتلة ما سمته معاهدة سايكس بيكو المبرمة سنة 1916 بين فرنسا وبريطانيا وبالتنسيق مع روسيا وإيطاليا ،وبذلك قضى الاحتلال الغربي الرأسمالي على فكرة وحدة بلاد العروبة والإسلام التي آخر ما من مثلها في العصر الحديث الامبراطورية العثمانية أو بالتعبير الإسلامي الخلافة العثمانية . وبعد سايكس بيكو التي تم بموجبها تقسيم منطقة الهلال الخصيب ، واقتطاع أجزاء من الدولة العثمانية ، من أجل استنزاف مقدارتها تحت ذريعة تحديثها وإلحاقها بركب حضارة بلاد الغرب ، وبعد المآسي التي عانت منها بسبب الحروب التي شنت عليها ظلما وعدوانا ، والتي أزهقت بسببها ملايين الأرواح البريئة ، رحلت الجيوش الغربية تدريجيا عن الوطن العربي والإسلامي الممزع الأوصال ، لكنه ظل تحت سيطرة الهيمنة الغربية اقتصاديا وإيديولوجيا ، وهي هيمنة وفرت على الدول المحتلة نفقات غزوها العسكري . وترتب عن هذه الهيمنة تآمر على حركات التحرر في الوطن العربي والإسلامي ، من أجل تطويعها لقبول التبعية الإيديولوجية والفكرية والاقتصادية للغزاة . ومن أشكال ذلك التآمر قدح زناد الصراعات بين أنظمة أقطار هذا الوطن الممزع بسبب خلافاتها حول الحدود التي خضعت لتقسيمات سايكس بيكو. وتزامنا مع نشوء الصراع بين الدول التي خرجت منتصرة في الحرب العالمية الثانية ، وهو صراع سببه الخلاف بينها حول تقاسم مناطق النفوذ في العالم بما في ذلك العالم العربي والإسلامي من أجل نهب الخيرات والمقدرات ، برز قطبان في العالم قطب رأسمالي بزعامة الولايات المتحدة ، وقطب شيوعي بزعامة الاتحاد السوفياتي ، ونشأت بينهما حرب إيديولوجية سميت بالباردة ، إلا أنها كانت تتخذ من الأقطار الواقعة تحت هيمنتها ساحات حروب ساخنة لتجريب أسلحتها في ظل التنافس الاقتصادي المحموم بينها بما في ذلك مجال الصناعات الحربية المدرة للأرباح الفاحشة .ولقد كان الوطن العربي والإسلامي مسرحا لهذه الحروب الساخنة ، فضلا عن وجود مسارح أخرى في جهات أصقاع من العالم ، ولا زال الأمر كذلك في بعض بؤر التوتر الساخنة إلى يومنا هذا بالرغم من تفكك القطب الشيوعي ، وانفراد القطب الرأسمالي بالهيمنة على العالم ولقد نشأت عن الحرب الباردة المسؤولة عن التوترات الساخنة تبعية أنظمة عربية وإسلامية إيديولوجيا واقتصاديا وفكريا لهذا المعسكر أو ذاك . وتجدرالإشارة إلى أن بعد تلك الأنظمة تحولت من الخضوع للنفوذ الشيوعي إلى الخضوعها للنفوذ الرأسمالي بعد تفكك المعسكر الشيوعي . ولا بد من الإشارة أيضا إلى أنه من تداعيات معاهدة سايكس بيكو ما سمي بوعد بلفور الوزير البريطاني الصهيوني الذي صدر بعد سنة واحدة من صدور معاهدة السيطرة والتقسيم . ولقد نص هذا الوعد المشؤوم على زرع الورم الصهيوني الخبيث في القلب النابض للوطن العربي بأرض فلسطين حيث بدأت عملية ترحيل يهود العالم إليها ،وانتهى الأمر بالإعلان عن دولة هذا الكيان العنصري سنة 1948 ، وهي دولة لم يكن لها وجود من قبل ، وكان ذلك على حساب الشعب الفلسطيني صاحب الأرض . ولقد اعتمدت دول القطب الرأسمالي التي مزقت بمعاهدتها المشؤومة سايكس بيكو الوطن العربي بزعامة الولايات المتحدة خرافة تلمودية سخيفة تزعم أن فلسطين هي وطن قومي لليهود، و تم بذلك تسليمها إلى عصابات إجرامية صهيونية تم تسليحها لطرد الشعب الفلسطيني من وطنه التاريخي ، وهو يومئذ تحت حكم ما سمى بالانتداب البريطاني ، وهكذا انتقل من احتلال بريطاني إلى احتلال صهيوني ، في ظرف هيمنة القطب الرأسمالي الذي خاض بشكل مباشر حروبا غير متكافئة في منطقة الشرق الأوسط بين جيوش عربية وبين جيوشه الداعمة للعصابات الإجرامية الصهيونية التي أصبحت توصف بالجيش الإسرائيلي من أجل تثبيت الاحتلال الصهيوني في فلسطين ، ولكي يلعب دور عرّابها في المنطقة العربية ، ويتمدد فيها جغرافيا ،واقتصاديا ، وفكريا، وإيديولوجيا . ولقد اتخذ القطب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة من حماية الكيان الصهيوني المزروع في قلب الوطن العربي ذريعة واهية من أجل التمويه على نوايا جشعه وأطماعه في مقدرات هذا الوطن المفكك الأوصال بمعول سايكس بيكو . ولقد جعل من الاحتلال الصهيوني أمرا واقعا ، واعتبر وجوده أبديا في فلسطين، لأن ذلك يخدم فكرة نهب وسلب المقدرات العربية التي بها صنع الغرب رفاهيته بشطر كبير منها إبان احتلاله العسكري ، وبشطر أكبر منه بعد انسحابه العسكري منها ، وتعويضه بسياسة الهيمنة والابتزاز ، وفرض التبعية له فكريا وإيديولوجيا واقتصاديا . و لقد تناسلت عن ذريعة حماية الكيان الصهيوني ذرائع أخرى متتالية منها ذريعة محاربة الإرهاب ، وذريعة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل ، وبهاتين الذريعتين غزا الغرب الأطلسي بجيوشه كلا من العراق وأفغانستان طمعا في المقدرات ، بذلك أعاد من جديد احتلاله لهما كما كان الحال من قبل في القرن التاسع عشر . ومن تداعيات الحرب على العراق وأفغانستان ، والاستبداد الصهيوني في أرض فلسطين ، وسوء سياسة الأنظمة العربية الخاضعة للغرب الأطلسي ، و بسبب تنامي وعي الشعوب العربية ، اندلعت ثورات الربيع العربي التي أسقط بعضها أنظمة مستبدة ، لكن سرعان ما أجهز عليها الغرب الأطلسي عن طريق انقلابات بعضها عسكري دموي ، والبعض الأخر كان عبارة عن التفاف حولها بشكل أو بآخر، في حين أشعل فتيل الحروب الطائفية في بلاد عربية أخرى لا زالت مشتعلة لحد الساعة . وبسبب الإجهاز على ثورات الربيع العربي التي كانت الشعوب العربية تتوق من ورائها إلى حياة كريمة في ظل سيادة الديمقراطية بعد ماض استعماري بغيض ، و بعد حكم أنظمة مستبدة عقب استقلالها ، فكر الغرب في مؤامرة خبيثة أخرى سماها صفقة القرن التي أريد بها طمس قضية الشعب الفلسطيني عن طريق بديل ما سمي بالتطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل ، والتي بواسطتها يُمكّن للكيان الصهيوني في الوطن العربي من خليجه إلى محيطه كي يمارس دور عرّاب الغرب الأطلسي . ولقد واجه الشعب الفلسطيني مؤامرة صفقة القرن بضربة استباقية سماها طوفان الأقصى قبل أن يغير الجيش الصهيوني على قطاع غزة من أجل إعداده بعد القضاء على المقاومة الفلسطينية ، وتهجير أهله منه قسرا خارجه لتنفيذ مشروع خطط له الغرب الأطلسي بزاعمة الولايات المتحدة ،والذي صرح به مؤخرا الرئيس ترامب علانية ، وهو يدوس على كل القوانين والأعراف الدولية معلنا أنه سيشتري قطاع غزة كي يحولها إلى ساحل سياحي أو » ريفيرا » على غرار » ريفيرا سانت بربارا » بولاية كالفورنيا أو غيرها من » الريفيرات » الأمريكية . وبهذا التصريح الوقح أزيل الستار عن مؤامرة صفقة القرن الخبيثة التي تعكس مدى جشع الإدارة الأمريكية التي توظف الكيان الصهيوني عرّابها من أجل سلب ونهب مقدرات وطن له شعب يراد تهجيره قسرا إلى دول الجوار أو إلى أبعد من ذلك ، ثم توسيع النهب والسلب في كل أقطار الوطن العربي . وأخيرا ستبقى الكلمة الأخيرة لشعوب الوطن العربي ك تقول للغرب الأطلسي بطريقتها الخاصة أنه لا مستقبل لعرّابه الصهيوني فوق أرض فلسطين ، وأن حلمه بريفيرا عبارة عن سراب بقيعة ، وأن عليه أن يكبح جماح شجعه وأطماعه في مقدرات وطنه الكبير ، وأن عليه أن يتركها وشأنها بعد كل ما لحقها من مصائب وكوارث عظمى جراء مؤامراته الخسيسة .

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store