logo
'زهرة الصحراء'.. جريمة فرنسا النووية في الجزائر التي فاقت قنبلة هيروشيما 5 أضعاف

'زهرة الصحراء'.. جريمة فرنسا النووية في الجزائر التي فاقت قنبلة هيروشيما 5 أضعاف

الجزيرةمنذ 6 ساعات

في اجتماعه السنوي الماضي مع سفراء بلاده في قصر الإليزيه، قال الرئيس الفرنسي 'إيمانويل ماكرون' إن القادة الأفارقة نسوا أن يشكروا فرنسا، على الدعم الذي قدمته لهم لمكافحة الإرهاب.
يأتي هذا التصريح في ظل توتر العلاقات الفرنسية الأفريقية على عدة أصعدة، في وقت لا تزال شعوب وحكومات القارة تطالب وتنتظر اعتذار باريس عن تاريخها الاستعماري في بعض دول المنطقة، وذلك أمر يرفضه 'ماكرون' منذ سنوات، بحجة أن طلب الصفح لن يغير شيئا، ولن يحل المشكلة، فهو يؤمن بقضية الاعتراف، لكنه لا يُقدم على طلب الاعتذار، وقد ردت دول أفريقية على تصريحاته بعبارة 'لولا تضحياتنا لما تحررتم من الاحتلال النازي'.
من يستمع لتصريح 'ماكرون' جاهلا تاريخ فرنسا الإجرامي في أفريقيا، يظن أنها من دعاة السلام ورعاته في العالم، ولكن الواقع يكشف أنها لم تتخل بعد عن عباءة المستعمر، فلا تزال تتدخل في شؤون الدول الأفريقية، وتعاملها وكأنها وصي شرعي، وكأنها محميتها، في حين تتزايد المطالب بضرورة تحمل فرنسا مسؤولياتها التاريخية والأخلاقية والقانونية تجاه الجزائر مثلا، وهو أمر لم تفعله أمام مستعمراتها السابقة من دول القارة أيضا.
إصرار على الإنكار وعدم تحمل المسؤولية
يعد ملف التفجيرات والتجارب النووية الفرنسية في الجزائر من الملفات الأكثر حساسية التي لا تزال عالقة، ومطلبا شعبيا ورسميا ثابتا للدولة الجزائرية، فهي جريمة إنسانية مكتملة الأركان تسميها الجزائر 'تفجيرات نووية'، وتصر فرنسا على وصفها بأنها 'مجرد' تجارب نووية علمية.
وهي في نظر القانون الدولي تعد انتهاكا خطيرا للاتفاقيات والأعراف والمواثيق الدولية، وإبادة جماعية تستوجب عقابا وتعويضا عن الضرر، وبمفهوم الإنسانية هي جريمة لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن محوها باعتذار ولا اعتراف ولا تعويض.
لا تريد فرنسا الاعتذار عن جرائمها النووية التي حلت بالإنسان، وأثرت على البيئة وكل الكائنات الحية، وترفض تعويض الجزائريين المتضررين من هذه التفجيرات التي امتدت لأكثر من منطقة، ولم تبادر أيضا بتطهير تلك المواقع الملوثة، وما زالت ترفض تسليم الجزائر الخرائط التي تسمح بتحديد منطقة دفن النفايات الملوثة والمشعة أو الكيميائية غير المكتشفة، إلى غاية يومنا هذا.
إنها ملفات أو خرائط موجودة إلى اليوم في الأرشيف العسكري الفرنسي، وعليها عبارة 'سري للغاية'، وجدير بالذكر أن السكان المحليين لا يزالون يعانون من آثار تلك التجارب والتفجيرات، ففرنسا منذ غادرت تلك المواقع سنة 1966، أخذت معها كل الإحصائيات والمعلومات الدقيقة والمهمة، التي يمكن أن تقلص حجم الكارثة.
تعمل الجزائر على تنظيف تلك الأماكن الملوثة بالإشعاعات، فوراء هذا الملف حقائق كثيرة، يمكن أن تتخذ دليلا لمحاسبة المستعمر على كل الأفعال التي ارتكبها، وسيظل أثرها قائما إلى أجل غير معلوم.
لم يحقق أي رئيس فرنسي تقدما في هذا الملف وملفات أخرى، وخان 'ماكرون' وعده الذي قطعه للجزائر منذ ترشحه لولاية أولى، مما يعني رفضه الاعتذار والاعتراف والتعويض، وكل هذه المسائل المتراكمة تجعل العلاقات الجزائرية الفرنسية أكثر تعقيدا.
تثمن بعض المنظمات إصرار الجزائر على هذه المطالب الشرعية، فقد طالبت منذ سنوات الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية السلطات الفرنسية بتزويد الجزائر بقائمة الأماكن، التي دفنت فيها تلك النفايات، وتنظيف المواقع التي أجرت فيها التجارب عاجلا، فهي مواقع لا تزال تحتفظ لليوم بالانبعاثات السامة والمواد الملوثة، التي تركت ودفنت عمدا هناك، وهي مليئة بالنشاط الإشعاعي الضار، حسب علماء الفيزياء النووية.
جرائم وأكاذيب حول حلم القنبلة الذرية
أرادت فرنسا المصابة بعقدة النقص، المنهزمة في أكثر من حرب ومعركة، أن تظهر للعالم قوتها وقدرتها على أن تصبح رابع قوة نووية في العالم، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفياتي، وبريطانيا.
حظي ذلك بمباركة ومتابعة شخصية من الجنرال 'شارل ديغول'، فبعد تأسيس محافظة الطاقة النووية الفرنسية في أكتوبر/ تشرين الأول 1945، شُرع في إعداد الدراسات العلمية، وجمع الإمكانيات التقنية لصناعة القنبلة النووية، وتلا ذلك إنشاء المركز الصحراوي للتجارب العسكرية سنة 1957، على بعد 40 كلم من بلدة رقان الجزائرية.
اختارت السلطات الفرنسية منطقة حمودية، التي تبعد عن رقان نحو 50 كيلومتر، واتخذت مساحة تقدر بـ108 ألف كيلومتر من صحراء الجزائر -وكانت يومئذ مستعمرة- لتنفيذ تجاربها النووية، وبررت انتقاء هذا الموقع لبعده عن السكان، وخلوه من كل الكائنات التي يمكن أن تتضرر، في حال فشل تجاربها تلك.
جميع الخبراء والمختصين وسكان المناطق التي شهدت التفجيرات النووية، ممن أصابتهم والأجيال التي بعدهم أمراض نادرة، وإعاقات، وتشوهات خلقية، وأخطر أنواع السرطانات، يجمعون على فشل التجارب التي استمر التحضير لها بسرية سنوات، ووقوع تفجيرات حقيقية أتت على الأخضر واليابس، ولم يُخبر السكان بما يُحضر له، أو يحصنوا بما يضمن سلامتهم.
ففي صباح 13 فبراير/ شباط 1960، وفي تمام الساعة السابعة وأربع دقائق وعشرين ثانية، فجّرت فرنسا أول قنبلة ذرية تحت اسم 'اليربوع الأزرق'، بقوة بلغت 70 كيلو طنا، وفاقت شدتها خمس أضعاف قوة القنبلة التي ألقتها الولايات المتحدة الأمريكية على هيروشيما باليابان، وامتد تأثيرها وغبارها النووي إلى عواصم أفريقية وأوروبية، ووصل صداها إلى الجزائر العاصمة بعد 8 أيام، وما زالت أضرارها قائمة إلى يومنا هذا.
خرجت السلطات الفرنسية يومئذ لتدعي امتلاكها القنبلة النووية، وتهلل بنجاح تجاربها، وتفتخر بها على أنها منجز القرن، وهي ادعاءات دحضها الخبراء وعلماء الفيزياء والدراسات الجيوفيزيائية، وكذبتها الانعكاسات والتأثيرات السلبية على السكان، وعلى جنودها أيضا، بسبب ما خلفته تلك التفجيرات والتجارب النووية.
وقد صرحت فرنسا أن عدد هذه التجارب لا يتجاوز 17 قنبلة نووية، لكن تؤكد الدراسات أنها 57 تجربة نووية، موزعة على منطقة حمودية ورقان بولاية أدرار، وعين إيكر بولاية تمنراست، وتنوعت بين تفجيرات باطنية وأخرى سرية وجوية وتكميلية.
كل هذا ترفض فرنسا الاعتذار عنه، وتعويض ضحاياها في الجزائر، مع العلم أن الإشعاع الصادر من النفايات النووية، بسبب المواد التي تحتويها -مثل البلوتونيوم الخطير- لن يزول إلا بعد أكثر من 24,500 سنة.
استغلال للسجناء وخفايا أخرى غير معلنة
لا تزال الشكوك تحوم حول الأرقام التي قدمتها فرنسا بشأن عدد العمليات والضحايا، وحقائق أخرى تتخذ صفة السرية، ومع ذلك فإن الفشل هو السمة الأكثر وضوحا في الشهادات المتعلقة بتجاربها التي استمرت 6 سنوات كاملة.
فقد قال مدير المحافظة الفرنسية للطاقة الذرية سابقا 'إيف روكاد' في مذكراته: كل الإجراءات التي كنا نأمل تطبيقها في اللحظة الصفر، فيما يتعلق بقنبلة 13 فبراير/ شباط 1960 المسماة بـ'اليربوع الأزرق' باءت بالفشل، فقد نتجت عن التجربة الأولى هذه سحابة مشحونة بعناصر مشعة، وصلت إلى نيامي (عاصمة النيجر)، وكان نشاطها الإشعاعي أكثر بـ100 ألف مرة من معدلها، وسُجل تساقط أمطار سوداء في 16 فبراير/ شباط على جنوب البرتغال، وهذه الأمطار كانت تحمل نشاطا إشعاعيا أكبر بـ29 مرة من معدلها.
وأكد عدد من المسؤولين أن القياسات التي وقعت في نقطة الصفر وحول قنبلة 'اليربوع الأزرق' قد فشلت، بسبب ضعف خبرة القائمين عليها، مع أنها أعد لها جيدا.
كانت حصيلة هذه القياسات مؤسفة جدا، وشهادة المجندين الفرنسيين بعد مرور عشرات السنين على الجريمة، تؤكد أيضا أن تطبيقات الانفجار السلمية لم تكن مضبوطة ولا دقيقة، فكل الاعترافات والأدلة والمخلفات تؤكد عدم اهتمام الطرف الفرنسي بالأضرار التي ألحقتها الإشعاعات المنبعثة بسكان المنطقة، وتكرار التجارب والتفجيرات خير دليل على ذلك.
يفوق عدد الجزائريين الذين عُرّضوا للخطر المباشر، واستخدمت أجسادهم تجارب في عملية اليربوع الأزرق 3 آلاف إنسان، مع 150 سجينا اقتيدوا من سجن سيدي بلعباس (غرب الجزائر)، ورُبطوا بأعمدة أمام موقع التفجير، لدراسة سلوكهم اتجاه الإشعاعات النووية.
كان ذلك انتهاكا صريحا لحقوق الإنسان، واستغلالهم في تفجيرات شديدة الخطورة تنظر إليها فرنسا نظرة التجريب والمنجز، هو خرق آخر للقوانين والمواثيق الدولية، التي تجرم وتحرم التجريب على الإنسان، فمن خوّل لهم إخراج المساجين والزج بهم في هذه الجريمة في المنطقة الصفر؟
إنها جريمة أخرى تضاف لسجل فرنسا الاستعماري، فأطماعها أعمت بصيرتها، ودفعتها للتضحية بأبنائها من العسكر والمدنيين الذين أبقتهم في المنطقة، وتتحاشى دوما الحديث عنهم، فأول قنبلة ذرية سخّر لها أكثر من 6500 مهندس وجندي وباحث فرنسي، معهم 3500 من العمال الجزائريين.
جنود فرنسيون أصبح فخرهم مأساة
يفخر أولئك الفرنسيون الذين كانوا بالصحراء الجزائرية التي شهدت تلك التفجيرات بين 1960-1966، لأنهم يقدمون تضحيات وخدمات جليلة لبلادهم ولمجدها، ولكنهم اليوم يحمّلون 'شارل ديغول' مسؤولية الأضرار التي لحقت بهم، وتهدد نسلهم وتفتك بصحتهم، فقد أورثتهم تلك الإشعاعات أمراضا خطيرة ونادرة وانعكاسات كبيرة، كما أن بعضهم يقر بتخلي فرنسا عنهم، بل يتهمونها بأنها جعلتهم فئران تجارب، ولم تهتم بسلامتهم ولا بتعويضهم.
وقد تحقق لهم التعويض بعد سنوات من النضال، بسعي ومساعدة من جمعية قدماء المحاربين المشاركين في التجارب النووية، فتوّجت مطالبهم بالقانون الفرنسي لتعويض ضحايا التفجيرات النووية الفرنسية، الصادر عام 2010، ولكنه تجاهل الجزائريين المتضررين من تفجيراتها النووية.
عادة ما تمنع التجارب والمحاولات الفاشلة أصحابها من تكرارها، ومع ذلك لم يكن الفشل كافيا لمنع فرنسا من القيام بالمزيد من التجارب والتفجيرات الشديدة الخطورة حتى عام 1966، أي بعد نيل الجزائر استقلالها في 5 يوليو/ تموز 1962.
ولعل السؤال الأبرز الذي ظل يراود الجميع هو سبب استمرار فرنسا في تجاربها وتفجيراتها حتى بعد نيل الجزائر لاستقلالها، ويرد جموع المؤرخين والباحثين بأن بندا في اتفاقيات 'إيفيان' سمح لفرنسا بمزاولة نشاطها، تحت مسمى 'تجارب علمية' لا تجارب نووية، وهنا يؤكد المختصون أن فرنسا ادعت 'وهي كاذبة' بأن ما تفعل لا يتعدى حدود 'تجارب علمية باطنية'.
تجارب تلاحق أضرارها أجيال المواليد حتى اليوم
كانت عملية 'اليربوع الأزرق' (13 فبراير/ شباط 1960) أول قنبلة ذرية ضمن 57 تجربة، نفذت منها 17 قنبلة نووية فوق الأرض وفي باطنها، وأتبعتها فرنسا بعمليات أخرى، منها:
اليربوع الأبيض (1 أبريل/ نيسان 1960).
اليربوع الأحمر (27 ديسمبر/ تشرين الأول 1960).
اليربوع الأخضر (25 أبريل/نيسان 1961).
أغات (07 نوفمبر/ تشرين الثاني 1961).
زمرد مصدي (01 مايو/أيار 1962).
زمرد (18 مارس/ آذار 1963).
جهز (30 مارس/ آذار 1963).
الياقوت الأحمر (20 أكتوبر/ تشرين الأول 1963).
عين الهر (14 فبراير/ شباط 1964).
الياقوت الأصفر (15 يونيو/ حزيران 1964).
الفيروز (28 نوفمبر/ تشرين الثاني 1964).
الياقوت الأزرق (27 فبراير/ شباط 1965).
يشب (30 مايو/ أيار 1965).
قرند (01 أكتوبر/ تشرين الأول 1965).
الحجر الكهربائي (01 ديسمبر/ كانون الأول 1965).
بجادي (16 فبراير/ شباط 1966).
كان انفجار 'بيريل' أو 'زمرد مصدي' الذي حضره عدد من الشخصيات التقنية والرسمية الفرنسية الأخطر والأقوى، فقد قال العلماء والخبراء إن انفجارا ضخما حدث في النفق، أدى إلى خروج حمم ومعادن منصهرة فوقعت على سطح الأرض، وبسرعة تشكلت سحابة على بعد 2600 متر مربع، وأمام ذلك مرت السحابة فوق مركز القيادة وقاعدة عين إيكر النووية، مما يدل على قوة التفجير وخطورته.
ومن الأخطاء التي سجلت في الواقعة نسيان 9 أفراد في عزلة المكان بمنطقة التلوث، وقد أصيب هؤلاء بتسرب الإشعاع النووي، وأفاد الفحص الطبي فيما بعد أن الجرعات الإشعاعية قد تطورت داخل أجسامهم.
في ولاية رقان التي ارتبط اسمها في ذاكرة الجزائريين بالتجارب النووية الخطيرة، لا تزال الأمهات يلدن لليوم أبناء مصابين بعاهات وتشوهات، وغالبا ما تجد في الأسرة الواحدة أكثر من مصاب بأمراض مختلفة وفتاكة ومتفاوتة الخطورة، ناهيك عن ارتفاع نسب العقم والإجهاض والعمى، وأمراض أخرى نادرة لم يكن لها وجود في المجتمع قبل تلك التفجيرات، مما يؤكد أن ما تضمنته دراسة بريطانية نشرت سابقا أقرب للحقيقة.
تذكر الدراسة أن التأثير الجيني على الإنسان يشمل أكثر من 22 جيلا، فحتى الرمال التي تزحف من مناطق الانفجار إلى البلدات المجاورة بسبب الرياح وعوامل طبيعية أخرى -لا سيما في فبراير/شباط- تحمل معها سنويا ذلك التلوث الإشعاعي، مما يؤثر سلبا على صحة ساكنة المنطقة، وهذا الخطر يتجاوز حدود الجزائر إلى دول أخرى.
'زهرة الصحراء'.. أول فيلم روائي عن القنبلة الذرية برقان
أنجزت عدة وثائقيات وأعمال مصورة، تناولت التفجيرات النووية الفرنسية في صحراء الجزائر، لا سيما منطقة رقان، لكن فيلم 'زهرة الصحراء' للمخرج أسامة بن حسين يعد أول فيلم سينمائي روائي يتطرق إلى هذه الجريمة الإنسانية، التي خلفت كوارث بيئية وصحية لا يمكن عدّها، بدأت بتجارب وانتهت بتفجيرات ومخلفات لم يشهدها العالم من قبل، وخلفت أكثر من 42 ألف ضحية بين 1960-1966.
وبرغم الجهود المبذولة لتوثيق هذه الجرائم -التي تتجنب فرنسا الخوض فيها إلى يومنا هذا، وتتحاشى ذكرها ومواجهتها- تبقى هذه الحقيقة التاريخية أكبر من أن يحتويها أي فيلم أو وثائقي، ففي كل بيت وموقع ومع كل إنسان شهادة تروي قصة إنسانية، تتعلق بهذه المجازر التي ارتكبتها فرنسا بمسؤوليها وجنودها في حق الجزائريين وأرضهم.
فما قدمه أسامة بن حسين هو جزء بسيط من إرث أثقل الذاكرة الجماعية، لهذا بدأ في سرد الواقعة وتفاصيل الحياة من خلال الـ48 ساعة الأخيرة، التي سبقت تنفيذ عملية 'اليربوع الأزرق'، والتي ستظل جريمة تروى للأجيال، لا تمحى من الذاكرة ولا يتجاوزها الزمن.
يرصد الفيلم (26 دقيقة) تفاصيل يوميات سكان مدينة رقان، من خلال عائلة تتكون من الجد مولود، والأم مباركة، وابنها عباس، الذي يترقب عودة أبيه، ينتظره بلا ملل، ويراسله باستمرار، على أمل أن يتلقى جوابا من المارة على بلدته.
وفي يوم من الأيام يجد صدفة صندوقا صغيرا مخبأ في بيت جده، يتضمن صورا ووثائق لوالده المجاهد، عندها يدرك أن أباه الذي ينتظر عودته قد أصبح شهيدا. في بداية الأمر يواجه والدته بالحقيقة ويتهمها بالكذب، لكنه يحتفظ في داخله ببعض الأمل والفرضيات، حول إمكانية أن يكون والده حيا.
'لو كان أبي هنا لما خاف من فرنسا'
تتداخل رحلة عباس بين انتظاره لوالده وبحثه المتواصل عن كلبته زينة، التي كانت تؤنس وحدته، فيخرج مرات عدة للبحث عنها، بعدما ركبت بالخطأ صندوق شاحنة الجنود الفرنسيين، وكانت تقل أحد السجناء الذين ستُجرى عليهم أولى التجارب النووية برقان، وبرغم كل محاولاته فإنه لم يجد لها أثرا، فيُشعر جده بالتقصير بقوله: لو كان أبي هنا لما خاف من فرنسا، ولأعاد إلي زينة.
يرغب الجد في نقل عائلته من رقان إلى تيميمون فور انتهاء حظر التجوال، ولا يمكن تفسير ملامحه المتعبة المثقلة بالهموم بأنها خوف من العدو، بل هي مخاوف وأسرار ظل يحتفظ بها، بدأت ترهقه وتثقل كاهله حين علم عباس باستشهاد أبيه، لكن علم فرنسا أن زوج ابنته مجاهد أكثر ما كان يخشاه، ولهذا أحرق كل الوثائق والأدلة التي تثبت ذلك، في إشارة إلى الملاحقات ومضايقات قوات المحتل لعائلات المناضلين.
وهنا يجب الإشادة بالممثل الراحل عبد الحليم زريبيع، الذي استطاع باحترافية تأدية الشخصية بمخاوفها، ونقل الصراع النفسي الذي كان يعيشه.
وفي صباح 13 فبراير/ شباط 1960، لم يكن أمام الأم مباركة -وهي في أشهر حملها الأخيرة- خيار آخر غير الخروج للبحث عن ابنها عباس، الذي راح يبحث في قلب الصحراء عن كلبته زينة، وبالتزامن مع سعيها وقع انفجار عنيف، هز الأرض وسبب هلعا كبيرا للسكان.
كان الانفجار أشبه بزلزال قوي ومدمر، فاحتمت مباركة واختبأت داخل شاحنة قديمة، وحاولت استيعاب الكابوس الذي كانت تعيشه أو النجاة منه، ولكن وسط هذا الفزع جاءها المخاض، فصرخت بصوت مدوّ كأي امرأة تضع حملها، لكن صوت جنينها لم يسمع أبدا، وحينها توقفت الحياة، وتحول الترقب إلى حزن وصدمة.
يبرز المشهد قسوة الظرف والوضع غير الإنساني الذي عومل به سكان القرية والمدينة، ولم يفرق فيه المحتل بين حامل أو طفل، ولا عجوز أو مريض.
جزائريون في قلب الحدث وفرنسيون بلا أقنعة
استحضر فيلم 'زهرة الصحراء' مواقف ووقائع حقيقية، سردها من عايشوا التفجيرات النووية الأولى بمدينة رقان. ومنها قصة المساجين الذين جُلبوا من سجن سيدي بلعباس، وأخضعوا للتجارب على بعد أمتار من النقطة صفر، لدراسة تأثير الأشعة النووية عليهم، وقد أظهرت بعض المشاهد هذه الجزئية كما وردت في الشهادات وكتب التاريخ، وهي حادثة معروفة جدا.
وتكشف بعض المشاهد قسوة المعاملة، التي كان يخص بها الجنود الفرنسيون المجاهدين والسجناء، واستفزازهم المستمر لهم، ففي أحد المشاهد يخاطب العريف الفرنسي (الممثل إيدير بن عيبوش) أحد المساجين قائلا: لا ينقص سوى عائلتك لحضور العرض ومشاهدته والتصفيق على النجم.
فرد عليه السجين الجزائري (الممثل سليمان بن واري) بعبارة تحمل دلالات كثيرة: أنا على الأقل أعرف أبي.
يحدث هذا قبل إخضاع المساجين الجزائريين لذلك الخطر والموت غير الرحيم بساعات قليلة.
وكما هو مدون في شهادات الجنود والمدنيين الفرنسيين التي أصبحت فيما بعد اتهامات مباشرة للرئيس 'شارل ديغول' ووزرائه، أظهر أسامة بن حسين الأقنعة والألبسة التي وزعتها فرنسا على جنودها، ولم تحمهم من تلك الأشعة الخطيرة، ولم تكن آمنة لهم قط.
كما أن بعض الجنود قابلوا ذلك الإشعاع بلباسهم العسكري العادي بلا أقنعة، وفي ذلك تأكيد على أن فرنسا لم تكن تهتم بسلامة جنودها، الذين أرغموا على دخول معركة لم تدرس جيدا بما يكفي.
وقائع ولحظات توقف عندها المخرج وتعمد عرضها، مع تركيز على ملامح العريف الفرنسي، الذي أدرك بأن سلطات بلاده ضحت بأبنائها، وستقدمهم بعد دقائق قليلة فئران تجارب في عملية 'اليربوع الأزرق'، التي انتظرت أن تدخل بها التاريخ.
ضوء الانفجار الذي أظلمت المنطقة بعده
لا صوت يعلو في 'زهرة الصحراء' على صوت الأذان والناس والطبيعة بكل مخلوقاتها، باستثناء مشاهد البداية والنهاية، وبينما يتهيأ الفيلم لاستعراض حياة سكان رقان، والدخول إلى إحدى قراها قبل التفجيرات بـ48 ساعة، اختار المخرج أسامة بن حسين موسيقى مفعمة بالحيوية والأمل مدخلا، مستعينا بأغنية 'تينيري' لفرقة 'تيكوباوين' الشهيرة، وتعني 'الصحراء'.
مطلع الأغنية يقول:
ساكن في الصحراء بلا ماء، ولا نبات
لمَ لا نقف متحدين معا
ونخرج للشمس ولا نبقى في الظلال
هذا المشهد مع إيقاع الموسيقى يجذب الجمهور إلى عمق الصحراء، ويحيلهم إلى قصص أناس لا تتعارض مع الحياة مقاومتهم للظلم والطغيان، ولا تنفي تمسكهم بالأمل.
فمدينة رقان وضواحيها لم تكن على الهامش، بل كانت في قلب ثورة التحرير، فقد أسهم أهلها في كتابة تاريخ البلد والمنطقة، وتحملوا ما تحملته ولايات الجزائر كافة من تقتيل وتضييق وتهجير وتعذيب واستغلال للخيرات والممتلكات، وربما أكثر.
حالة الترقب التي تسبق الكارثة، يكسرها ضوء الانفجار، الذي يُفقد البصر ويُؤجل الحياة في رقان وضواحيها، ومع بلوغ القصة والفيلم نهايتهما، يسود الصمت ويطغى الحزن بشكل يوحي بأن القادم أسوأ، وأن الكارثة أعظم على الإنسانية، انتقال في السرد تطلّب دعامة موسيقية قوية، تعبر عن مصير الشخصيات، وتدعم المشاهد المأساوية.
كان الاعتماد هنا على أوتار العود، لتعزيز مشاعر الحزن والفقد والألم، واستطاعت الموسيقى التصويرية أن تكمل المشهد، وأن تنقل تلك المعاناة بصريا ووجدانيا.
فيلم 'زهرة الصحراء' هو العمل الثاني الذي يتعاون فيه أسامة بن حسين كاتبا مع الموسيقي محمد يونس قماط، والفنان سفيان زيقم على آلة العود بعد مسلسل 'عين الجنة'.
يؤكد سكان رقان ومناطق أخرى شهدت التفجيرات -التي يفوق عددها 17 تفجيرا- أن منسوب المياه تراجع، وأن أنواعا كثيرة من الحيوانات قد انقرضت، حتى أن بعض النباتات لم يعد لها وجود، والأشجار لم تعد تثمر كما كانت.
تفاصيل كان المخرج وكاتب السيناريو حريصا جدا عليها، فحضور بعض الحيوانات كان طاغيا في أكثر من مشهد، ناهيك عن اهتمامه بجزئيات لا تقل أهمية عما ذكر، سواء ما تعلق بمظاهر الحياة في المنطقة، مثل الكتاتيب القرآنية واختيار الشيخ الفقيه والطلاب تلاوة سورة الزلزلة، أو لباس أهل الجنوب الجزائري، وظهورهم على أنهم أهل علم ودين.
تشبه بعض الأفلام أصحابها
في أول تجربة إخراجية له، حاول أسامة بن حسين تنويع اللقطات، فكان يتنقل بين اللقطات الواسعة التي تُبرز بيئة القصة والأحداث، مع تركيز أكبر على الشخصيات وعلاقتها بمحيطها، لا سيما الطفل عباس، واللقطات القريبة التي تقترب من تعابير الشخصيات وملامحها في لحظات الفرح والتوتر والحزن والخيبة والصمود، محاولا ترجمة حالتهم النفسية بدقة، كما أن زوايا التصوير مكنته من تقديم كل شخصية حسب أهميتها والموقف الذي كانت تمر به.
وعلى مستوى الصورة، استطاع مدير التصوير محمد سعدي نقل تفاصيل مهمة عن البيئة الصحراوية، وخصوصيات المجتمع والأزياء والبيوت التقليدية، التي تجمع بين البساطة والأصالة، واستحوذت لقطاته على الجمال الطبيعي للصحراء واتساعها وامتداد رمالها، وضيق ممرات القرية النابضة بالحياة وروح التعاون، مما أضاف عمقا بصريا للفيلم، وأثرى العمل إثراء كبيرا.
تشبه بعض الأفلام أصحابها، كلام ينطبق على أسامة بن حسين، ففيلمه 'زهرة الصحراء' يقترب من البساطة التي يفضل أن يقدم بها أفكاره دوما. بساطة طرح مقترنة بقوة القصة الحقيقية وحسن اختياره للممثلين، الذين كان أداؤهم قويا وصادقا، وأقرب للواقعة التي تشبعت بها أجيال، ولا تزال تتأثر بهول الكارثة.
أداء الممثلين.. ظلال الانتماء على ملامح الوجوه
كان أداء الممثل الراحل عبد الحليم زريبيع في دور الجد مولود، والممثلة 'تنو خيلولي' في دور الأم مباركة، يوحي بأنهما كانا مرتاحين في أدوارهما، فانتماؤهما للمكان، واقترابهما من اللهجة المحلية، وانسجامهما وجدانيا مع التفاصيل، عزّز صدقهما، وجعل أداءهما أقرب للواقعية التي تطلبتها القصة والفيلم عموما.
أما الطفل عباس (الممثل محمد بن شرقي) فقد كان المفاجأة الجميلة التي قدمها أسامة بن حسين، وجعل الفيلم يرتكز عليها، فأبان الفتى قدرات هائلة في التمثيل، لا سيما في انتقاله بين الحزن والفرح في مشهد واحد، مما أضاف عمقا عاطفيا للشخصية التي قدمها، فتمكنه جعل الأنظار تتجه إليه توجها لافتا.
أما الممثلان سليمان بن واري وإيدير بن عيبوش، فمع أن دورهما محدود فإنهما قدما أداء استثنائيا وقويا، قوة اللحظات المهمة التي تجسدها كل شخصية في الفيلم.
بدا أن أسامة بن حسين الذي كتب وأخرج فيلم 'زهرة الصحراء' وصوره بولاية تيميمون تحت درجة حرارة تتعدى 60 درجة، في انتقاله من قصة لأخرى ومن مشهد لمشهد، كان لديه الكثير ليقوله عن تجاوزات وتجارب لا يسعها فيلم روائي لا يتجاوز 26 دقيقة.
ولكنه على الأقل تمكن من إيصال فكرة أن كل الأجيال كان لها موقف، وشاركت في كتابة التاريخ، وكان لها نصيب من النضال، وأن الثورة في الشمال والجنوب واحدة، كما أن فيلمه عند عرضه خارج الجزائر عرّف بهذه الجرائم، التي ظلت مجهولة لدى كثير من الشعوب.
وثيقة سينمائية تعيد جرائم فرنسا إلى الواجهة
أنجز فيلم 'زهرة الصحراء' عام 2023، في إطار ستينية استقلال الجزائر، التي نظمتها وزارة الثقافة والفنون، عن طريق المركز الوطني لتطوير السينما، وقد تُوج بجائزة لجنة التحكيم بمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في دورته الـ13.
إنها وثيقة سينمائية مهمة تجرم فرنسا مرة أخرى، وتعيد فتح دفاتر التاريخ المثقل ببطولات أبناء الوطن وتضحياتهم، والمغلف بالتزييف والتهرب والمجازر الفرنسية، التي تشبه مجازر الكيان الصهيوني بحق سكان غزة، فالعدو واحد، وقد اجتمعت فرنسا والكيان في التحضير والتخطيط وإطلاق أول قنبلة ذرية في صحراء الجزائر، حسب شهادات الباحثين والمؤرخين.
والمتصفح لتاريخ الاستعمار الفرنسي بالجزائر، قد يجد وهو يتتبع الأحداث انتهاكات وجرائم كثيرة، من مجازر الثامن مايو/ أيار 1945 التي خلّفت أكثر من 45 ألف شهيد، إلى 60 ألف متظاهر خرجوا مطالبين بالاستقلال، فألقت قوات الأمن الفرنسية بهم في نهر السين بباريس، يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1961.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

هل يفتح الاتحاد الأفريقي صفحة جديدة مع السودان؟
هل يفتح الاتحاد الأفريقي صفحة جديدة مع السودان؟

الجزيرة

timeمنذ 2 ساعات

  • الجزيرة

هل يفتح الاتحاد الأفريقي صفحة جديدة مع السودان؟

على هامش قمة الجامعة العربية في بغداد أثارت تصريحات لافتة أدلى بها رئيس المفوضية الأفريقية محمود علي يوسف أبدى فيها تفاؤله بانتصارات الجيش السوداني حالة من الجدل بشأن تغيرات محتملة في موقف المؤسسة القارية من طرفي الصراع ببلاد النيلين. وتأتي هذه التصريحات في لحظة مفصلية من الحرب السودانية أعقبت تغييرات كبيرة على المستوى الميداني بتقدم القوات المسلحة السودانية في العديد من المحاور الإستراتيجية، في ظل فشل المبادرات المختلفة للدفع نحو تسوية سلمية. علاقة متوترة طبع التوتر علاقة الاتحاد الأفريقي والسودان منذ انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021، والذي تلاه تعليق الاتحاد عضوية السودان ، معتبرا ما حدث "تغييرا غير دستوري للسلطة". وقد جاء هذا القرار ضمن سياسة الاتحاد الأفريقي الصارمة تجاه الانقلابات العسكرية في القارة، حيث شدد على ضرورة العودة إلى المسار الانتقالي المدني كشرط أساسي لأي انخراط رسمي مع السلطات السودانية. ومع اندلاع الحرب في السودان في أبريل/نيسان 2022 تزايدت المبادرات الأفريقية لكبح جماحها، وبرز منها إعلان الاتحاد "خارطة طريق" لحل الأزمة السودانية في مايو/أيار 2023 تضمنت 6 محاور رئيسية، منها الوقف الشامل لإطلاق النار، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وبدء حوار سياسي شامل، واستعادة النظام الدستوري. كما شُكلت في يناير/كانون الثاني 2024 لجنة رفيعة المستوى معنية بالسودان ضمت 3 شخصيات أفريقية بارزة برئاسة الممثل السامي للاتحاد الأفريقي لإسكات السلاح الدكتور محمد بن شمباس. لكن أحد أبرز ملامح العلاقة بين الاتحاد الأفريقي والسودان شكّلها الخلاف الحاد بين الأخير ورئيس المفوضية الأفريقية السابق موسى فكي محمد الذي وصفت ورقة صادرة عن مجموعة الأزمات الدولية إدارته لاستجابة المفوضية للحرب في السودان بـ"الفوضوية". وفي هذا السياق، اتهم الجيش السوداني فكي والمفوضية بالانحياز لصالح أطراف معينة، خصوصا بعد لقاءات مثيرة للجدل بين مسؤولي الاتحاد ومستشارين لقوات الدعم السريع، مما فاقم التوتر وأدى إلى "حرب بيانات" بين الخارجية السودانية والاتحاد الأفريقي. ويرى محللون أن هذه الاتهامات أضعفت مصداقية الاتحاد الأفريقي لدى الحكومة السودانية، وأدت إلى تراجع التعاون مع مبادراته، كما انعكست على فعالية اللجنة الرفيعة المستوى التي أخفقت في تحقيق تقدم ملموس بملف إيقاف الحرب. سياق متغير التوتر وعدم الثقة اللذان وسما علاقة المفوضية الأفريقية والسودان بين خريف 2021 ومطلع العام الحالي كانا سببا رئيسيا وراء المفاجأة التي رافقت تصريحات لافتة أدلى بها رئيس المفوضية الأفريقية محمود علي يوسف في 19 مايو/أيار الجاري عقب لقاء جمعه بعضو مجلس السيادة الانتقالي ورئيس وفد السودان إلى قمة الجامعة العربية في بغداد إبراهيم جابر. وفي إفادته أكد يوسف أن السودان يعد القلب النابض للقارة الأفريقية، مضيفا "نحن نستبشر خيرا ونتفاءل كثيرا بأن القوات المسلحة السودانية بدأت تسيطر على مناطق كثيرة"، معربا عن أمله في أن يتمكن السودان من استعادة مكانته الطبيعية ضمن محيطه الإقليمي والدولي. ورغم ما أثارته هذه الكلمات من جدل فإنها تأتي متطابقة مع ما أدلى به يوسف في مؤتمر صحفي بعد زيارته بورتسودان في أكتوبر/تشرين الأول 2024، حيث صرح بأن الحرب الحالية "فُرضت على السودان من قبل التمرد"، وأن بوادر "انتصار القوات المسلحة السودانية الآن واضحة". ولا يمكن فصل التصريحات الأخيرة لرأس المفوضية الأفريقية عن سياق شهد تحولا نوعيا في العلاقة بين المؤسسة القارية والحكومة السودانية خلال الأشهر الأخيرة. وهو ما يعزى إلى مجموعة من العوامل يأتي في مقدمتها التغير الذي تم في أعلى هرم قيادة المفوضية الأفريقية في فبراير/شباط من هذا العام بتولي وزير الخارجية الجيبوتي محمود علي يوسف رئاسة المفوضية ونائبته الجزائرية سلمى مليكة الحدادي. وتمثل تصريحات يوسف في بورتسودان -التي زارها باعتباره وزيرا لخارجية بلاده- نقلة في موقف الأخيرة. وكان الرئيس الجزائري عبد العزيز تبون صرح خلال استقباله رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان في يناير/كانون الثاني 2025 بوقوف بلاده إلى جانب السودان لتجاوز الظروف الصعبة "ومواجهة قوى الشر"، في ما اعتبره العديد من المراقبين إشارة إلى قوات الدعم السريع وداعميها الخارجيين. وكانت أصداء هذا التغيير إيجابية في السودان، حيث صرح وزير الخارجية السوداني السابق علي يوسف الشريف بسعادة بلاده بفوز يوسف برئاسة المفوضية، ووصف هذا التغيير بأنه "مفيد للسودان". بدوره، أبدى مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة في زيارته لجيبوتي في مارس/آذار الماضي ثقة السودان في قدرة القيادة الجديدة لمفوضية الاتحاد الأفريقي على تصحيح مسار المفوضية والقيام بدورها في إيجاد الحلول للقضايا الأفريقية. هذا الانفتاح السوداني على القيادة الجديدة للمفوضية الأفريقية يعزوه مراسل الشؤون الدبلوماسية والإقليمية لصحيفة ستاندارد الكينية موانغي ماينا إلى سعي القيادة السودانية بعد سنوات من الغياب إلى إصلاح العلاقات واستعادة مكانتها في الإيغاد والاتحاد الأفريقي. مقاربة جديدة ويشير العديد من المراقبين إلى أن انتخابات المفوضية في فبراير/شباط الماضي لم تسفر عن قيادة جديدة فحسب، بل كذلك عن مقاربة مختلفة في التعاطي مع الأزمات الأفريقية، ومن ضمنها الحرب المستعرة في السودان. وتعد هذه المقاربة امتدادا لنقاش واسع بشأن كيفية وجدوى تعاطي الاتحاد الأفريقي مع دول الانقلابات من خلال الأدوات التقليدية كتعليق العضوية وفرض العقوبات، حيث تشير -على سبيل المثال- ورقة صادرة عن مجموعة الأزمات الدولية المرموقة إلى نجاعة هذا النهج في أوائل هذا القرن في عدد من الحالات، وهو ما تضاءلت احتمالاته بشكل كبير حاليا. وفي السياق السوداني، تأتي هذه المقاربة كجزء من تحرك إقليمي شامل من تجلياته موقف مجلس السلم والأمن الأفريقي المطالب بإعادة فتح مكتب الاتصال التابع للاتحاد الأفريقي في بورتسودان في أكتوبر/تشرين الأول 2024 على الرغم من استمرار تجميد عضوية السودان ورفض الاتحاد الأفريقي الاعتراف بسلطة الانقلاب. هذا البحث عن أدوات أكثر واقعية وفاعلية ترافق مع إعلان رئيس المفوضية عن رفض الاتحاد الأفريقي للتدخلات الخارجية في الشأن السوداني، وضرورة البناء على الحلول الأفريقية لأزمات القارة، مما يشير -وفق العديد من المحللين- إلى رغبة في دور أكبر للتكتل القاري بالملف السوداني. ويتناغم هذا مع تصريحات يوسف لصحيفة "ميل آند غارديان" والتي انتقد فيها إبان حملته نهج المفوضية تجاه السودان، والذي وصفه بـ"عدم النجاح"، موضحا أن الأزمة السودانية ستكون من أولوياته، إلى جانب ملفات أخرى في القارة. هذه الرغبة تأتي في أعقاب عدد من المتغيرات، من أبرزها التقدم الكبير للجيش السوداني الذي عبر يوسف عن سعادته به، وكذلك ما أشارت إليه الدكتورة منى عبد الفتاح في مقال من أهمية الاستقرار في السودان وتأثير موقعه على دول شمال وشرق أفريقيا، إضافة إلى دول حوض النيل. وهكذا، فقد تجلى التخوف الأفريقي من تحول الحرب السودانية إلى سيناريوهات أكثر تعقيدا في رفض مجلس السلم والأمن الأفريقي إعلان الحكومة الموازية في السودان في مارس/آذار الماضي، وهو ما اعتبرته وزارة الخارجية في بيان لها دعما "للشعب السوداني ومؤسساته الوطنية". وضمن هذا السياق يأتي إعلان يوسف عن بدء حوار مع المجلس السيادي السوداني، لبحث الأزمة السياسية وسبل عودة السودان إلى العضوية الكاملة في الاتحاد التي وضعها قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان شرطا للانخراط في مساعي الحلول الأفريقية. ورغم السجال الحاد بشأن من يملك شرعية تمثيل الخرطوم في المؤسسات القارية والدولية فإن تصريح يوسف في بغداد يحمل وزنا سياسيا كبيرا، فهو يعني ضمنيا أن الاتحاد الأفريقي يعترف بوجود سلطة شرعية، ويرفض الدعوات التي تطالب بالتعامل مع السودان كدولة فاقدة للشرعية أو مفتوحة للتدخل الخارجي. هذا التوجه يعضده تصريح لرئيس الآلية الأفريقية المعنية بالسودان محمد بن شمباس الذي أوضح في لقاء على الجزيرة مباشر أن المجلس السيادي هو "السلطة التي يعمل معها الاتحاد الأفريقي"، داعيا الشعب السوداني إلى بناء سلطة "أكثر شرعية" في البلاد عبر عملية انتقالية شاملة. وفي إشارة إلى تغيرات في تعاطي الاتحاد الأفريقي مع الأزمة السودانية، كشفت "سودان تريبون" في 21 مايو/أيار الجاري عن مصادر داخل الاتحاد عن ترتيبات جارية بين المفوضية والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) بمشاركة مسؤولين من الأمم المتحدة لإنشاء آلية جديدة للملف السوداني برئاسة "إيغاد". ردود فعل وتداعيات وأثارت تصريحات يوسف حالة من الجدل في الساحة السودانية، حيث اعتبرها البعض دعما للجيش السوداني وتعزيزا لشرعيته في مواجهة خصومه العسكريين والسياسيين. وعلى الضفة الأخرى، قوبلت التصريحات برفض صريح من قوات الدعم السريع التي اعتبرتها في بيان "انحيازا سافرا" و"خرقا لقيم الحياد والموضوعية" التي يجب أن يتحلى بها الاتحاد الأفريقي، ووصفتها بأنها محاولة لتجيير موقف الاتحاد لصالح الجيش السوداني، كما حذرت من مغبة استمرار المفوضية في هذا النهج، معتبرة أن ذلك يتناقض مع دور الاتحاد كوسيط محايد. ويشير مراقبون إلى أن هذه التصريحات قد تزيد تمسك الطرفين بمواقفهما، مما سيضيف المزيد من التعقيدات أمام الوساطة الأفريقية. ورغم أن تصريحات رئيس المفوضية الأفريقية تشير إلى مقاربة جديدة في التعاطي مع الأزمة السودانية فإن القرار النهائي بشأن رفع تجميد عضوية السودان يتخذ حصريا بواسطة مجلس السلم والأمن الأفريقي الذي يربط هذه الخطوة بتحقيق انتقال ديمقراطي مدني، وليس من صلاحيات رئيس المفوضية أو حتى المفوضية مجتمعة اتخاذ هذا القرار بشكل منفرد.

هل استخدم الجيش في السودان أسلحة كيميائية ضد الدعم السريع؟
هل استخدم الجيش في السودان أسلحة كيميائية ضد الدعم السريع؟

الجزيرة

timeمنذ 2 ساعات

  • الجزيرة

هل استخدم الجيش في السودان أسلحة كيميائية ضد الدعم السريع؟

أثار الإعلان الأميركي عن استخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية في العام 2024 موجة من الغضب الرسمي والشعبي في السودان، ليس بسبب نيّة واشنطن فرض عقوبات على السودان -فقد تعوّدنا على عقوباتهم ودعايتهم السوداء- ولكن لعدم وجود أدلة أو منطق يدعم تلك المزاعم، واستسهال إطلاق الاتهامات والأكاذيب، وبناء إستراتيجية حولها تقوم على قهر الشعوب، وسلبها الحقّ في الحياة والاستقرار. سلق الاتهامات وتسويقها الجيش السوداني ليس بحاجة لاستخدام أسلحة كيميائية في حربه ضد مليشيا الدعم السريع، التي انهارت مؤخرًا، وفقدت الحماس والقدرة على القتال، ولم يعد بمقدورها تعويض خساراتها أو استعادة المناطق التي فقدتها. أما واشنطن فهي لا تمتلك دليلًا واحدًا على استخدام الجيش السوداني تلك الأسلحة المحرمة، ولا نعرف عنها سوى رواية غير مسنودة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز منتصف يناير/ كانون الثاني 2025، عن مسؤولين أميركيين، لم تسمِّهم الصحيفة، زعموا أن الجيش السوداني استخدم الأسلحة الكيميائية في مناسبتين على الأقل، ضد قوات الدعم السريع. وفيما تم سلق تلك الاتهامات بمنطق الفتوة والخباثة، لا توجد روايات متطابقة تعزز ذلك، ما دفع المسؤولين الأميركيين للتهرب بالقول إن استخدام الأسلحة الكيميائية كان محدود النطاق، ووقع في مناطق نائية، ولم يُحقق أي فاعلية تُذكر، لتجنّب الأسئلة المحرجة، على شاكلة أين وكيف حدث ذلك، وما هي البيّنة المادية على ذلك الادّعاء الأجوف؟ فلا يعقل أن يستخدم الجيش السوداني موادّ سامة بلا فاعلية، ثم لماذا لم تظهر آثار تلك الأسلحة على أجساد قوّات التمرّد، إذ إنّه يصعب بالمَرّة التخلّص من تبعات تلك الأسلحة على الطبيعة. والمثير للدهشة أن الرواية اليتيمة مصدرها صحيفة غربية ليس لها مراسل على الأرض، ولم تسعَ للقيام بعمل استقصائي يسند ظهر اتهامات على ذلك النحو الخطير، والتي للغرابة أيضًا لم تتفوّه بها منصات مليشيا الدعم السريع، وهي تنفث كل ماهو مدسوس ومُختلق في حق الجيش السوداني! موت منبر جدة بهذا الموقف العدائي الأميركي تجاه السودان، تكون واشنطن قد تخلّت عن حياديتها المفترضة كوسيط، حين لوّحت بسيف العقوبات، ووضعت نفسها عمليًا في موضع الخصم. وقد كشف هذا الانحياز الواضح للمليشيا عن فقدانها للمصداقية، وجعلها طرفًا غير مؤهّل لدعم أي مسار تفاوضي، وغير جدير بالثقة من جانب الأطراف السودانية. فقد تعثّرت تلك المفاوضات أكثر من مرّة، وعجزت الوساطة عن حمل قوات الدعم السريع على الالتزام بإعلان جدة في مايو/ أيار 2023 والذي قضى بخروج الدعم السريع من بيوت المواطنين والمرافق الحكومية، والدخول في هدنة مؤقتة، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، ما دفع الجيش السوداني إلى مواصلة القتال، وإخراج قوات التمرد من القرى والمدن بالقوة. وعلى ما يبدو، ثمة قرائن كثيرة تشير إلى أن مليشيا الدعم السريع مجرد بندقية مؤجرة، وأن أميركا ليست بعيدة عن توجيه نيران الحرب، واستئناف حلقات المشروع الاستعماري القديم بتدمير السودان، وخنقه بالعقوبات، حتى يخضع لها، ودعم حركات التمرّد وحفز الهويات القاتلة، واستباحة كل ما هو موروث ووطني، عبر شعارات خادعة تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن النزعة الكولونيالية هي الغالبة على سياساتهم تجاه كل بلد حباه الله بالموارد، أو كما عبّر عن ذلك ليوناردو دي كابريو في فيلم الألماس الدموي: "نحنُ لا نتبنى الحروب، ولكن نخلق الظروف التي تجعلها تستمرّ". وهنا قد تعهّدوا بذلك لوكيلهم في الشرق الأوسط، إسرائيل، ومن يقوم بخدمة مصالحهم، ومن بين ذلك دولة معروفة تناصب السودان العداء، هي التي تقف حاليًا وراء استعداء حكومة دونالد ترامب ضد السودان، وتريد أن تستنصر بها لإنقاذ فصيلها العسكري -الدعم السريع-المهزوم على الأرض. خيبة أمل هائلة بالعودة للعقوبات الأميركية- التي سوف تدخل حيز التنفيذ بعد فترة إخطار مدتها 15 يومًا للكونغرس، على أن تشمل قيودًا على الصادرات الأميركية إلى السودان، وحرمان المصارف الحكومية السودانية من الوصول إلى خطوط الائتمان الحكومية الأميركية- هي بالمناسبة ليست جديدة. فقد ظلت العقوبات الأميركية على السودان باقية بالرغم من قيام السودان بتسديد مبلغ 335 مليون دولار؛ تعويضًا لعائلات أميركية من ضحايا هجمات شنها تنظيم "القاعدة" على سفارتَي واشنطن في كينيا وتنزانيا عام 1998، مقابل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ودمج مصارف السودان في النظام المالي العالمي، وهو ما لم يحدث عمليًا. وقد حصدت الخرطوم خيبة أمل هائلة، وظلت إلى اليوم تحت رحمة العقوبات الأميركية، وهي في الحقيقة إستراتيجية كولونيالية ثابتة تقوم على سياسة الجزرة والعصا، بينما في الحقيقة لا توجد جزرة، والبيت الأبيض -أيًا كان قاطنه- ظلّ يتعامل بنفس الأسلوب مع السودان، ما يعزز فرضية أن الحملة ضد السودان تنشط فيها مراكز نفوذ أميركية لا تتأثر بطبيعة النظام الحاكم. الخارجية السودانية في تفنيدها تلك المزاعم أبدت استغرابها كيف أن الإدارة الأميركية تجنّبت تمامًا طرح اتهاماتها عبر الآلية الدولية المختصة والمفوضة بهذا الأمر؛ المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية بلاهاي، والتي تضم كلا البلدين في عضويتها، لا سيما أن السودان يتمتع بعضوية مجلسها التنفيذي، ورفضت تلك الإجراءات الأحادية، التي تخالف اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، خاصة من طرف "لديه تاريخ في توظيف المزاعم الباطلة لتهديد سيادة الدول وأمنها وسلامة أراضيها"، على حد تعبير بيان الخارجية السودانية التي تجاهلت كذلك حقيقة خطيرة وهي وجود أسلحة أميركية عثر عليها الجيش السوداني بطرف قوات الدعم السريع، دون أن تعرضها على أروقة الأمم المتحدة، أو تتقدم بشكوى بها في مجلس الأمن والمنظمات الدولية. من قام بتزويد الجنجويد بأسلحة أميركية؟ القوات المسلحة السودانية ضبطت مؤخرًا صواريخ جافلين في مخازن الدعم السريع بمنطقة صالحة غرب أم درمان، يبلغ سعر الصاروخ ومنصة الإطلاق، اللذين تصنعهما مجموعتا "رايثيون" و"لوكهيد مارتن" الأميركيتان، 178 ألف دولار بحسب ميزانية البنتاغون لعام 2021، علاوة على تسليح جنود المليشيا ببنادق آلية أميركية الصنع من طراز (إيه آر- 15) استخدمتها في استهداف مواقع مدنية بالعاصمة الخرطوم ومدينة الفاشر المحاصرة. فمن هي الجهة التي زودت الدعم السريع بتلك الأسلحة الأميركية، دون أن تأبه بقرار مجلس الأمن بحظر الأسلحة في دارفور، ولماذا صمتت الولايات المتحدة عن انتهاكات قوات الجنجويد وجرائمها الموثقة في السودان؟ على شاكلة تغطية فضيحة كلينتون سيناريو وجود أسلحة كيميائية في السودان ليس جديدًا، وقد انطلت الكذبة على الرأي العام الأميركي إبان فترة حكم الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، في أعقاب فضيحة المتدربة مونيكا لوينسكي، ساعتها قام كلينتون بقصف مصنع الشفاء شمال الخرطوم في 20 أغسطس/ آب 1998؛ بسبب مزاعم ارتباطه بإنتاج أسلحة كيميائية، ليتضح لاحقًا أن المصنع يعمل في إنتاج الأدوية والعقاقير الطبية. لكن الولايات المتحدة لم تُقدِم على الاعتراف بخطأها أو تقديم اعتذار رسمي للسودان بشأن قصف مصنع الشفاء، رغم أن التحقيقات اللاحقة أثبتت أن المنشأة كانت مخصصة للأدوية وليس لها صلة بإنتاج الأسلحة الكيميائية. كما لم تُظهر إدارة الرئيس بيل كلينتون في حينها اهتمامًا يُذكر بالآثار الإنسانية والصحية المترتبة على هذا القصف، والذي اعتبره كثيرون محاولة لصرف الأنظار عن أزمات داخلية، في سياق سياسي دقيق وملتبس. لا شك أن اتهام الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية يمهّد لسيناريو التدخل العسكري الدولي في السودان، ومن غير المستبعد أن تغزو أميركا الأراضي السودانية بهذه الفرية المضحكة، كما فعلت مع العراق من قبل، والهدف من وراء ذلك إيقاف انتصارات الجيش السوداني، والسيطرة على الموارد الطبيعية والمعدنية وساحل البحر الأحمر، فأميركا لديها مطامع قديمة في هذه المنطقة، أو بالأحرى لدى إسرائيل أحلام توسعية في النيل والبحر الأحمر. وهو عين ما أشار إليه السفير التركي لدى السودان فاتح يلدز في تدوينة على منصة "إكس" عندما سخر من الادعاءات الأميركية باستخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية، وقال: "إنهم فقدوا مصداقيتهم منذ سنوات عندما شنوا حربًا بناءً على ادعاءات كاذبة بوجود أسلحة دمار شامل في العراق". وهذا بالضرورة يتطلب الحذر واليقظة، وتكوين فريق سوداني مُتمرّس من الشخصيات الدبلوماسية والعسكرية للتعامل مع هذه المزاعم الأميركية الخطيرة، وما يمكن أن تفضي إليه.

ما وراء ادعاء أميركا استخدام الجيش في السودان أسلحة كيميائية
ما وراء ادعاء أميركا استخدام الجيش في السودان أسلحة كيميائية

الجزيرة

timeمنذ 3 ساعات

  • الجزيرة

ما وراء ادعاء أميركا استخدام الجيش في السودان أسلحة كيميائية

أثار الإعلان الأميركي عن استخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية في العام 2024 موجة من الغضب الرسمي والشعبي في السودان، ليس بسبب نيّة واشنطن فرض عقوبات على السودان -فقد تعوّدنا على عقوباتهم ودعايتهم السوداء- ولكن لعدم وجود أدلة أو منطق يدعم تلك المزاعم، واستسهال إطلاق الاتهامات والأكاذيب، وبناء إستراتيجية حولها تقوم على قهر الشعوب، وسلبها الحقّ في الحياة والاستقرار. سلق الاتهامات وتسويقها الجيش السوداني ليس بحاجة لاستخدام أسلحة كيميائية في حربه ضد مليشيا الدعم السريع، التي انهارت مؤخرًا، وفقدت الحماس والقدرة على القتال، ولم يعد بمقدورها تعويض خساراتها أو استعادة المناطق التي فقدتها. أما واشنطن فهي لا تمتلك دليلًا واحدًا على استخدام الجيش السوداني تلك الأسلحة المحرمة، ولا نعرف عنها سوى رواية غير مسنودة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز منتصف يناير/ كانون الثاني 2025، عن مسؤولين أميركيين، لم تسمِّهم الصحيفة، زعموا أن الجيش السوداني استخدم الأسلحة الكيميائية في مناسبتين على الأقل، ضد قوات الدعم السريع. وفيما تم سلق تلك الاتهامات بمنطق الفتوة والخباثة، لا توجد روايات متطابقة تعزز ذلك، ما دفع المسؤولين الأميركيين للتهرب بالقول إن استخدام الأسلحة الكيميائية كان محدود النطاق، ووقع في مناطق نائية، ولم يُحقق أي فاعلية تُذكر، لتجنّب الأسئلة المحرجة، على شاكلة أين وكيف حدث ذلك، وما هي البيّنة المادية على ذلك الادّعاء الأجوف؟ فلا يعقل أن يستخدم الجيش السوداني موادّ سامة بلا فاعلية، ثم لماذا لم تظهر آثار تلك الأسلحة على أجساد قوّات التمرّد، إذ إنّه يصعب بالمَرّة التخلّص من تبعات تلك الأسلحة على الطبيعة. والمثير للدهشة أن الرواية اليتيمة مصدرها صحيفة غربية ليس لها مراسل على الأرض، ولم تسعَ للقيام بعمل استقصائي يسند ظهر اتهامات على ذلك النحو الخطير، والتي للغرابة أيضًا لم تتفوّه بها منصات مليشيا الدعم السريع، وهي تنفث كل ماهو مدسوس ومُختلق في حق الجيش السوداني! موت منبر جدة بهذا الموقف العدائي الأميركي تجاه السودان، تكون قد حكمت على منبر جدة بالموت، وهي واحدة من أطراف الوساطة فيه مع السعودية، إذ إنها بالتلويح بسيف العقوبات تكون قد تخلّت عن حياديتها، ووضعت نفسها في موضع الخصم، وأسفرت عن وجهها المنحاز للمليشيا، وأصبحت غير مؤهلة لإنجاح التفاوض، ولا يمكن الوثوق بها بعد اليوم. فقد تعثّرت تلك المفاوضات أكثر من مرّة، وعجزت الوساطة عن حمل قوات الدعم السريع على الالتزام بإعلان جدة في مايو/ أيار 2023 والذي قضى بخروج الدعم السريع من بيوت المواطنين والمرافق الحكومية، والدخول في هدنة مؤقتة، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، ما دفع الجيش السوداني إلى مواصلة القتال، وإخراج قوات التمرد من القرى والمدن بالقوة. وعلى ما يبدو، ثمة قرائن كثيرة تشير إلى أن مليشيا الدعم السريع مجرد بندقية مؤجرة، وأن أميركا ليست بعيدة عن توجيه نيران الحرب، واستئناف حلقات المشروع الاستعماري القديم بتدمير السودان، وخنقه بالعقوبات، حتى يخضع لها، ودعم حركات التمرّد وحفز الهويات القاتلة، واستباحة كل ما هو موروث ووطني، عبر شعارات خادعة تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن النزعة الكولونيالية هي الغالبة على سياساتهم تجاه كل بلد حباه الله بالموارد، أو كما عبّر عن ذلك ليوناردو دي كابريو في فيلم الألماس الدموي: "نحنُ لا نتبنى الحروب، ولكن نخلق الظروف التي تجعلها تستمرّ". وهنا قد تعهّدوا بذلك لوكيلهم في الشرق الأوسط، إسرائيل، ومن يقوم بخدمة مصالحهم، ومن بين ذلك دولة معروفة تناصب السودان العداء، هي التي تقف حاليًا وراء استعداء حكومة دونالد ترامب ضد السودان، وتريد أن تستنصر بها لإنقاذ فصيلها العسكري -الدعم السريع-المهزوم على الأرض. خيبة أمل هائلة بالعودة للعقوبات الأميركية- التي سوف تدخل حيز التنفيذ بعد فترة إخطار مدتها 15 يومًا للكونغرس، على أن تشمل قيودًا على الصادرات الأميركية إلى السودان، وحرمان المصارف الحكومية السودانية من الوصول إلى خطوط الائتمان الحكومية الأميركية- هي بالمناسبة ليست جديدة. فقد ظلت العقوبات الأميركية على السودان باقية بالرغم من قيام السودان بتسديد مبلغ 335 مليون دولار؛ تعويضًا لعائلات أميركية من ضحايا هجمات شنها تنظيم "القاعدة" على سفارتَي واشنطن في كينيا وتنزانيا عام 1998، مقابل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ودمج مصارف السودان في النظام المالي العالمي، وهو ما لم يحدث عمليًا. وقد حصدت الخرطوم خيبة أمل هائلة، وظلت إلى اليوم تحت رحمة العقوبات الأميركية، وهي في الحقيقة إستراتيجية كولونيالية ثابتة تقوم على سياسة الجزرة والعصا، بينما في الحقيقة لا توجد جزرة، والبيت الأبيض -أيًا كان قاطنه- ظلّ يتعامل بنفس الأسلوب مع السودان، ما يعزز فرضية أن الحملة ضد السودان تنشط فيها مراكز نفوذ أميركية لا تتأثر بطبيعة النظام الحاكم. الخارجية السودانية في تفنيدها تلك المزاعم أبدت استغرابها كيف أن الإدارة الأميركية تجنّبت تمامًا طرح اتهاماتها عبر الآلية الدولية المختصة والمفوضة بهذا الأمر؛ المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية بلاهاي، والتي تضم كلا البلدين في عضويتها، لا سيما أن السودان يتمتع بعضوية مجلسها التنفيذي، ورفضت تلك الإجراءات الأحادية، التي تخالف اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، خاصة من طرف "لديه تاريخ في توظيف المزاعم الباطلة لتهديد سيادة الدول وأمنها وسلامة أراضيها"، على حد تعبير بيان الخارجية السودانية التي تجاهلت كذلك حقيقة خطيرة وهي وجود أسلحة أميركية عثر عليها الجيش السوداني بطرف قوات الدعم السريع، دون أن تعرضها على أروقة الأمم المتحدة، أو تتقدم بشكوى بها في مجلس الأمن والمنظمات الدولية. من قام بتزويد الجنجويد بأسلحة أميركية؟ القوات المسلحة السودانية ضبطت مؤخرًا صواريخ جافلين في مخازن الدعم السريع بمنطقة صالحة غرب أم درمان، يبلغ سعر الصاروخ ومنصة الإطلاق، اللذين تصنعهما مجموعتا "رايثيون" و"لوكهيد مارتن" الأميركيتان، 178 ألف دولار بحسب ميزانية البنتاغون لعام 2021، علاوة على تسليح جنود المليشيا ببنادق آلية أميركية الصنع من طراز (إيه آر- 15) استخدمتها في استهداف مواقع مدنية بالعاصمة الخرطوم ومدينة الفاشر المحاصرة. فمن هي الجهة التي زودت الدعم السريع بتلك الأسلحة الأميركية، دون أن تأبه بقرار مجلس الأمن بحظر الأسلحة في دارفور، ولماذا صمتت الولايات المتحدة عن انتهاكات قوات الجنجويد وجرائمها الموثقة في السودان؟ على شاكلة تغطية فضيحة كلينتون سيناريو وجود أسلحة كيميائية في السودان ليس جديدًا، وقد انطلت الكذبة على الرأي العام الأميركي إبان فترة حكم الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، في أعقاب فضيحة المتدربة مونيكا لوينسكي، ساعتها قام كلينتون بقصف مصنع الشفاء شمال الخرطوم في 20 أغسطس/ آب 1998؛ بسبب مزاعم ارتباطه بإنتاج أسلحة كيميائية، ليتضح لاحقًا أن المصنع يعمل في إنتاج الأدوية والعقاقير الطبية. لكن الولايات المتحدة لم تُقدِم على الاعتراف بخطأها أو تقديم اعتذار رسمي للسودان بشأن قصف مصنع الشفاء، رغم أن التحقيقات اللاحقة أثبتت أن المنشأة كانت مخصصة للأدوية وليس لها صلة بإنتاج الأسلحة الكيميائية. كما لم تُظهر إدارة الرئيس بيل كلينتون في حينها اهتمامًا يُذكر بالآثار الإنسانية والصحية المترتبة على هذا القصف، والذي اعتبره كثيرون محاولة لصرف الأنظار عن أزمات داخلية، في سياق سياسي دقيق وملتبس. لا شك أن اتهام الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية يمهّد لسيناريو التدخل العسكري الدولي في السودان، ومن غير المستبعد أن تغزو أميركا الأراضي السودانية بهذه الفرية المضحكة، كما فعلت مع العراق من قبل، والهدف من وراء ذلك إيقاف انتصارات الجيش السوداني، والسيطرة على الموارد الطبيعية والمعدنية وساحل البحر الأحمر، فأميركا لديها مطامع قديمة في هذه المنطقة، أو بالأحرى لدى إسرائيل أحلام توسعية في النيل والبحر الأحمر. وهو عين ما أشار إليه السفير التركي لدى السودان فاتح يلدز في تدوينة على منصة "إكس" عندما سخر من الادعاءات الأميركية باستخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية، وقال: "إنهم فقدوا مصداقيتهم منذ سنوات عندما شنوا حربًا بناءً على ادعاءات كاذبة بوجود أسلحة دمار شامل في العراق". وهذا بالضرورة يتطلب الحذر واليقظة، وتكوين فريق سوداني مُتمرّس من الشخصيات الدبلوماسية والعسكرية للتعامل مع هذه المزاعم الأميركية الخطيرة، وما يمكن أن تفضي إليه.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store