
الأقمار الاصطناعية تروي القصة الكاملة لجفاف سدود العراق
المقطع الذي التقطته عدسة راعي أغنام، أظهر مساحات متشققة وأرضا جرداء، ورافقته عبارات مثيرة للذعر من قبيل: "الجفاف يسود تماما" و"انخفاض مخزون المياه ينذر بكارثة كبرى" و"أيام سوداء بانتظار العراق".
عشرات الآلاف شاهدوا المقطع، الإعلام المحلي انخرط في التحذير، والقلق تسلل إلى الشارع.
لكن، هل تجسد هذه الصور حقيقة ما يحدث في سد الموصل، أم إن خلفها حكاية أخرى أبعد من عدسة الهاتف؟ في هذا التحقيق، تتبع فريق "الجزيرة تحقق" خيوط القصة منذ لحظة انتشار المقطع، بحثا عن مصدره وموقعه الفعلي، محللا صور الأقمار الاصطناعية ، ومفككا الرواية التي أشعلت موجة الذعر في العراق خلال ساعات قليلة.
بداية القصة
في 12 أغسطس/آب الجاري، اجتاحت منصات التواصل مشاهد زُعم أنها توثق جفافا حادا في سد الموصل، الواقع على بعد نحو 40 كيلومترا شمال المدينة، والذي يعد مصدرا حيويا للمياه والكهرباء لأكثر من مليون عراقي.
المقاطع التي نشرها ناشطون وحسابات موثقة على منصة "إكس" حصدت عشرات آلاف المشاهدات، وأرفقت بتحذيرات من "وضع خطير" ودعوات عاجلة للسلطات للتحرك قبل وقوع "كارثة لا تحتمل".
ولم يقف الأمر عند حدود تفاعل المدونين، إذ خصصت قنوات ووسائل إعلام عراقية تقارير تحذيرية تحدثت عن تقلص مساحات بحيرة السد وتحول أجزاء منها إلى أرض جافة، واصفة ما يحدث بأنه خطر بيئي وشيك قد يهدد مستقبل المنطقة.
تتبع فريق "الجزيرة تحقق" مسار الفيديو المتداول، ليتبين أن المشاهد لا تعود إلى سد الموصل، بل صُوّرت في منطقة قريبة جغرافيا من حدود محافظة السليمانية، ضمن إقليم كردستان العراق ، وتتبع إداريا لمحافظة كركوك.
وبالمقارنة مع لقطات أرشيفية تعود لشهر أبريل/نيسان 2023، تبين أن الموقع هو سد قادر كرم الذي يواجه جفافا غير مسبوق.
البحث العكسي كشف أن المقطع نشر أول مرة على حساب راعي أغنام في "تيك توك" بتاريخ 25 يوليو/تموز الماضي، قبل أن يتداول على نطاق واسع باعتباره من سد الموصل.
صور حديثة نشرت في 6 أغسطس/آب الجاري، أظهرت الانخفاض الحاد في منسوب المياه في المنطقة، وتأثيره المباشر على المزارعين ورعاة الأغنام المحليين.
صور الأقمار الاصطناعية تؤكد الكارثة
كشف تحليل لصور أقمار اصطناعية حصلت عليها "الجزيرة تحقق" عن حالة واسعة من الجفاف في بحيرة سد قادر كرم خلال أغسطس/آب الجاري مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024.
كما أظهرت صور أخرى ملتقطة في 10 أغسطس/آب الجاري انخفاضا ملحوظا في منسوب المياه في سد الموصل ذاته، مقارنة بصور 8 أغسطس/آب 2024.
يشير تحليل صور الأقمار الصناعية إلى أن نحو 40% من المسطحات المائية في سد الموصل قد جفت، مع بروز مناطق واسعة من التربة، بما يعرف بظاهرة التصحر وينذر بتصحر وتغيرات جغرافية تؤثر على البيئة والأنشطة الاقتصادية للسكان المحيطين.
نفي رسمي
سارعت وزارة الموارد المائية العراقية إلى نفي صحة المقاطع المتداولة التي تزعم تعرض سد الموصل للجفاف، مؤكدة أن المشاهد التي تظهر أرضا متشققة حول منشأ خرساني لا تمت بصلة للسد أو خزانه، وأن موقعها غير معروف، وربما لا يكون داخل العراق أصلا.
وفي بيان نشرته عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك ، أوضحت الوزارة أنها نفذت مسحا ميدانيا امتد من بحيرة السد حتى محطة الضخ في مشروع ري الجزيرة الشمالي، على بعد أكثر من 40 كيلومترا شمال السد، ولم تعثر على أي تطابق مع الموقع الظاهر في المقاطع.
وأرفقت الوزارة توضيحها بمقطع مصور من محطة الضخ الرئيسية لمشروع ري الجزيرة الشمالي، يظهر مجرى نهر دجلة ، في محاولة لطمأنة المواطنين ووضع حد للشائعات المتداولة.
أزمة جفاف تاريخية
هذه التطورات تأتي في ظل أزمة جفاف هي الأسوأ التي يشهدها العراق منذ أكثر من 90 عاما، وفق وزارة الموارد المائية التي وصفت عام 2025 بأنه الأكثر جفافا منذ 1933.
وأوضح المتحدث باسم الوزارة، خالد شمال، أن حجم الخزين الحالي في سد الموصل لا يتجاوز ثلث طاقته الاستيعابية، في حين يبلغ إيراده من نهر دجلة 228 مترا مكعبا في الثانية.
ويحذر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من أن سد الموصل، الذي شيد في أوائل الثمانينيات على مجرى نهر دجلة، يواجه مخاطر بنيوية بسبب طبيعة الأرض أسفله، حيث تحتوي على طبقات جبسية سريعة الذوبان.
ووفق البرنامج، فإن انهيار السد قد يتسبب بموجة فيضان بارتفاع يصل إلى 45 مترا، تجتاح الموصل خلال ساعتين إلى 4 ساعات، مهددة حياة أكثر من نصف مليون شخص.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
الأقمار الاصطناعية تروي القصة الكاملة لجفاف سدود العراق
في ساعات قليلة، تحولت لقطات التقطها راعي أغنام لبحيرة جافة وأرض متشققة إلى مادة مشتعلة على منصات التواصل، تزعم أن أكبر سد في العراق، ورابع أكبر سد في الشرق الأوسط ، يواجه كارثة غير مسبوقة. المقطع الذي التقطته عدسة راعي أغنام، أظهر مساحات متشققة وأرضا جرداء، ورافقته عبارات مثيرة للذعر من قبيل: "الجفاف يسود تماما" و"انخفاض مخزون المياه ينذر بكارثة كبرى" و"أيام سوداء بانتظار العراق". عشرات الآلاف شاهدوا المقطع، الإعلام المحلي انخرط في التحذير، والقلق تسلل إلى الشارع. لكن، هل تجسد هذه الصور حقيقة ما يحدث في سد الموصل، أم إن خلفها حكاية أخرى أبعد من عدسة الهاتف؟ في هذا التحقيق، تتبع فريق "الجزيرة تحقق" خيوط القصة منذ لحظة انتشار المقطع، بحثا عن مصدره وموقعه الفعلي، محللا صور الأقمار الاصطناعية ، ومفككا الرواية التي أشعلت موجة الذعر في العراق خلال ساعات قليلة. بداية القصة في 12 أغسطس/آب الجاري، اجتاحت منصات التواصل مشاهد زُعم أنها توثق جفافا حادا في سد الموصل، الواقع على بعد نحو 40 كيلومترا شمال المدينة، والذي يعد مصدرا حيويا للمياه والكهرباء لأكثر من مليون عراقي. المقاطع التي نشرها ناشطون وحسابات موثقة على منصة "إكس" حصدت عشرات آلاف المشاهدات، وأرفقت بتحذيرات من "وضع خطير" ودعوات عاجلة للسلطات للتحرك قبل وقوع "كارثة لا تحتمل". ولم يقف الأمر عند حدود تفاعل المدونين، إذ خصصت قنوات ووسائل إعلام عراقية تقارير تحذيرية تحدثت عن تقلص مساحات بحيرة السد وتحول أجزاء منها إلى أرض جافة، واصفة ما يحدث بأنه خطر بيئي وشيك قد يهدد مستقبل المنطقة. تتبع فريق "الجزيرة تحقق" مسار الفيديو المتداول، ليتبين أن المشاهد لا تعود إلى سد الموصل، بل صُوّرت في منطقة قريبة جغرافيا من حدود محافظة السليمانية، ضمن إقليم كردستان العراق ، وتتبع إداريا لمحافظة كركوك. وبالمقارنة مع لقطات أرشيفية تعود لشهر أبريل/نيسان 2023، تبين أن الموقع هو سد قادر كرم الذي يواجه جفافا غير مسبوق. البحث العكسي كشف أن المقطع نشر أول مرة على حساب راعي أغنام في "تيك توك" بتاريخ 25 يوليو/تموز الماضي، قبل أن يتداول على نطاق واسع باعتباره من سد الموصل. صور حديثة نشرت في 6 أغسطس/آب الجاري، أظهرت الانخفاض الحاد في منسوب المياه في المنطقة، وتأثيره المباشر على المزارعين ورعاة الأغنام المحليين. صور الأقمار الاصطناعية تؤكد الكارثة كشف تحليل لصور أقمار اصطناعية حصلت عليها "الجزيرة تحقق" عن حالة واسعة من الجفاف في بحيرة سد قادر كرم خلال أغسطس/آب الجاري مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024. كما أظهرت صور أخرى ملتقطة في 10 أغسطس/آب الجاري انخفاضا ملحوظا في منسوب المياه في سد الموصل ذاته، مقارنة بصور 8 أغسطس/آب 2024. يشير تحليل صور الأقمار الصناعية إلى أن نحو 40% من المسطحات المائية في سد الموصل قد جفت، مع بروز مناطق واسعة من التربة، بما يعرف بظاهرة التصحر وينذر بتصحر وتغيرات جغرافية تؤثر على البيئة والأنشطة الاقتصادية للسكان المحيطين. نفي رسمي سارعت وزارة الموارد المائية العراقية إلى نفي صحة المقاطع المتداولة التي تزعم تعرض سد الموصل للجفاف، مؤكدة أن المشاهد التي تظهر أرضا متشققة حول منشأ خرساني لا تمت بصلة للسد أو خزانه، وأن موقعها غير معروف، وربما لا يكون داخل العراق أصلا. وفي بيان نشرته عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك ، أوضحت الوزارة أنها نفذت مسحا ميدانيا امتد من بحيرة السد حتى محطة الضخ في مشروع ري الجزيرة الشمالي، على بعد أكثر من 40 كيلومترا شمال السد، ولم تعثر على أي تطابق مع الموقع الظاهر في المقاطع. وأرفقت الوزارة توضيحها بمقطع مصور من محطة الضخ الرئيسية لمشروع ري الجزيرة الشمالي، يظهر مجرى نهر دجلة ، في محاولة لطمأنة المواطنين ووضع حد للشائعات المتداولة. أزمة جفاف تاريخية هذه التطورات تأتي في ظل أزمة جفاف هي الأسوأ التي يشهدها العراق منذ أكثر من 90 عاما، وفق وزارة الموارد المائية التي وصفت عام 2025 بأنه الأكثر جفافا منذ 1933. وأوضح المتحدث باسم الوزارة، خالد شمال، أن حجم الخزين الحالي في سد الموصل لا يتجاوز ثلث طاقته الاستيعابية، في حين يبلغ إيراده من نهر دجلة 228 مترا مكعبا في الثانية. ويحذر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من أن سد الموصل، الذي شيد في أوائل الثمانينيات على مجرى نهر دجلة، يواجه مخاطر بنيوية بسبب طبيعة الأرض أسفله، حيث تحتوي على طبقات جبسية سريعة الذوبان. ووفق البرنامج، فإن انهيار السد قد يتسبب بموجة فيضان بارتفاع يصل إلى 45 مترا، تجتاح الموصل خلال ساعتين إلى 4 ساعات، مهددة حياة أكثر من نصف مليون شخص.


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
الجفاف يفتك بالثروة الحيوانية في جنوب العراق
بغداد – يواجه العراق كارثة اقتصادية وبيئية وشيكة، إذ تتسبب موجة جفاف هي الأشد منذ عقود في نفوق أعداد كبيرة من المواشي في محافظات الوسط والجنوب. وأكدت وزارة الموارد المائية العراقية أن هذا العام هو الأكثر جفافا منذ عام 1933، موضحة أن تغذية نهري دجلة والفرات انخفضت إلى 27% فقط مقارنة بالعام الماضي. وتشير التقديرات إلى أن معدل نفوق الثروة الحيوانية تجاوز 30%، وهذا يهدد بانهيار قطاع يعتمد عليه آلاف السكان كمصدر رئيسي للرزق. وحذّر الخبير البيئي المتخصص في شؤون الأهوار، جاسم الأسدي، من تداعيات خطيرة على بيئة الأهوار العراقية واقتصادها المحلي، مؤكدا أن استمرار الأوضاع الحالية قد يؤدي إلى نفوق ما يصل إلى 45% من رؤوس الماشية، وخاصة الجاموس، خلال فصل الصيف القادم. وقال الأسدي للجزيرة نت إن الأهوار شهدت موجات جفاف متكررة منذ تسعينيات القرن الماضي، لكن الجفاف الذي بدأ عام 2021 يُعد "الأقسى" على الإطلاق، إذ أدى إلى انخفاض حاد في مناسيب المياه وجفاف مساحات واسعة من البحيرات والمناطق الرطبة، تاركا فقط المجاري المائية العميقة. ولم تقتصر الأزمة على نقص المياه، بل تفاقمت نتيجة ارتفاع الملوحة والتلوث الناجم عن مياه الصرف الصحي، وهذا أثر على صحة الجاموس وإنتاجيته. ووفقا للأسدي، انخفض إنتاج الحليب للجاموسة الواحدة إلى لترين فقط يوميا، كما يبست الأعلاف الخضراء وتعرضت للتلف، ما وضع مربي الجاموس في موقف صعب لعدم قدرتهم على توفير بدائل علفية. وأوضح أن نسبة نفوق الجاموس في عموم الأهوار العراقية وصلت بين 32% و35% خلال السنوات الماضية، مرجحا ارتفاعها إلى 45%، محذرا أيضا من فقدان أكثر من 95% من المخزون السمكي. وأشار إلى أن الوضع الراهن مرتبط بعوامل مناخية أبرزها انخفاض منسوب المياه في السدود العراقية إلى أقل من 6 مليارات متر مكعب، مع توقع تراجعها إلى أقل من 4 مليارات بحلول نهاية أكتوبر/تشرين الأول المقبل إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة. كما حمّل الجهات المعنية جزءا من المسؤولية بسبب عدم إيلاء ملف مربي الجاموس الاهتمام الكافي، لافتا إلى أن غياب تمثيل انتخابي ثابت لهذه الفئة جعلها مهمشة في السياسات العامة. وتظهر التقديرات أن الإيرادات المائية للعراق تراجعت من نحو 70 مليار متر مكعب إلى 40 مليارا، وسط توقعات بانخفاض نصيب الفرد من المياه إلى 479 مترا مكعبا سنويا بحلول عام 2030، في حين أن معيار منظمة الصحة العالمية يبلغ 1700 متر مكعب سنويا للفرد. تأثيرات مباشرة على الريف والثروة الحيوانية وأكد عضو الاتحاد المحلي للجمعيات الفلاحية، أحمد سوادي حسون العيساوي، خطورة الوضع الذي تمر به محافظات الوسط والجنوب، مشيرا إلى أن الثروة الحيوانية تتعرض لخسائر قد تصل إلى مستويات غير مسبوقة. وقال العيساوي للجزيرة نت إن مناطق في البصرة والناصرية والعمارة والديوانية والنجف هي الأكثر تضررا من الجفاف، بسبب اعتماد سكانها على الثروة الحيوانية المرتبطة ببيئة الأهوار التي جفت بالكامل في بعض المواقع. وبيّن العيساوي أن التأثير تفاقم بفعل الارتفاع الحاد في درجات الحرارة المرتبطة بالتغير المناخي ، وهذا جعل أنواعا من المواشي مثل الجاموس أكثر عرضة للنفوق. وتوقع ارتفاع نسبة النفوق إلى ما بين 50% و70% إذا لم تُتخذ حلول فورية، محذرا من أن حياة الريف باتت مهددة بالانهيار نتيجة توقف الزراعة وتراجع الثروة الحيوانية. كما أشار إلى أن انعدام المياه في بعض المناطق منذ أكثر من 3 أشهر أجبر المزارعين على استخدام مياه الإسالة (مياه الشبكة) لسقي الحيوانات، في ظل عدم توفر الأعلاف بسبب الجفاف، الأمر الذي دفع البعض إلى نحر مواشيهم أو بيعها أو تركها للموت. وأكد أن هذا الوضع أدى إلى انتشار الأوبئة بسبب تحول ما تبقى من المياه إلى برك ملوثة. نزوح داخلي وتراجع الإنتاج وأفاد رئيس مرصد العراق الأخضر، عمر عبد اللطيف، بأن أزمة الجفاف في المحافظات الجنوبية أدت إلى نزوح داخلي واسع، متوقعا أن يتجاوز عدد المتضررين 15 ألف نسمة. وقال عبد اللطيف للجزيرة نت إن محافظة ذي قار وحدها شهدت نزوح أكثر من 10 آلاف عائلة من القرى والأرياف منذ عام 2023 حتى الآن، في ظل تأثيرات متراكمة على الأمن الغذائي ومستويات المعيشة. وأضاف أن الدعم الذي قدمته المؤسسات الرسمية للعائلات المتضررة لا يرقى إلى حجم الأزمة، مشيرا إلى أن محافظة ذي قار فقدت منذ عام 2023 نحو 11 ألف رأس جاموس، إذ انخفض عدد الجواميس من 21 ألفا إلى 10 آلاف فقط. وأوضح أن مربي الجاموس يواجهون تحديات إضافية منها منعهم من الانتقال إلى مناطق تتوفر فيها المياه بسبب القيود الأمنية، وهذا يجبرهم على البقاء في بيئات جافة دون حلول بديلة.


الجزيرة
منذ 4 أيام
- الجزيرة
السوقية بين اليوم والأمس
"إنه شخص سوقي، إنها امرأة سوقية، جموع سوقية، رئيس سوقي، أفكار سوقية".. لا بد أن إحدى هذه العبارات قد صادفتك، مرت على مسمعك، استُعملت في مجلسك، أو أنت ذاتك قد استعملتها، والغالب أن ما تعرفه من دلالتها الاستعمالية الاصطلاحية أنها تعني الابتذال، الحديث المبتذل، اللغة الركيكة والسطحية، اللسان الأعوج.. على ذا المنوال يمكن أن نسأل: هل بالإمكان أن يوجد للسوقية معنى آخر غير ما هو رائج؛ ما يعيب اللسان، ويصنف صاحبه ضمن معشر اللاحِنين؟ الحياة "متغير"، اللغة "متغير"، الإنسان ذاته "متغير"، والسائد في الكون سنة التغير والتغيير، والتبدل والتبديل. وبالتالي، مصطلح السوقية شمله التغيير، هو أيضا من سنة اللاثابت واللامستقر في الكون، في النظم، في الأفكار ووسائل التواصل ماهي السوقية؟ أو: من هو الشخص السوقي؟ من ذا الذي يمكن أن نطلق عليه حقا "سوقي"؟ في ما مضى كانت السوقية تطلق على من لا يحسن الكلام إعرابا وصرفا، فهي من وجهة نظر غابرة في الزمن تتمحور حول إقامة الكلمة إعرابا؛ اللفظ السليم، البعيد عن اللحن.. لكن السؤال: متى ذلك؟ وكيف؟ إن "متى" الاستفهامية تحيلك إلى سؤال الزمن، ومنه فالسوقية من حيث التاريخ مصطلح وليد الماضي، أي إنها من زمن فات، كما أن كونها ماضية الاستعمال لا ينفي أن البعض لا يزال يستعملها اليوم بذات المعنى، وهو الإشكال الذي يدور في رحى المقالة، فهي- كما أسلفنا- كانت تُعنى بشكل خاص باللغة، خاصة من لدن مجتمع العرب، وتعني بالدرجة الأولى اعوجاج اللسان، كما أن ذلك الزمن يُعتبر زمن حضارة (أقلها حضارة لغوية)؛ ومن هنا قد يكون هذا المعنى في تلك اللحظة لا قصور فيه، ولا يحتاج إلى كلام ولا تفسير يوضح، ولا حرج في من يعرف السوقية بهذا الشكل، ومن كان يصف الشخصية السوقية بمن لا يحسن اللفظ، ويلحن بالكلام. الحياة "متغير"، اللغة "متغير"، الإنسان ذاته "متغير"، والسائد في الكون سنة التغير والتغيير، والتبدل والتبديل. وبالتالي، مصطلح السوقية شمله التغيير، هو أيضا من سنة اللاثابت واللامستقر في الكون، في النظم، في الأفكار ووسائل التواصل.. وفي ذا السياق نطرح معنى السوقية المستجد من وجهة نظرنا، حيث نقرأ أن مصطلح السوقية بحكم المتغيرات مسه التجديد كغيره من المصطلحات. القراءة أنه ينقسم إلى قسمين: قسم ولّى، حيث كانت الأمة التي تطرح السوقية بالمفهوم آنف الذكر، بتأشير المقروء أنها في تلك اللحظة التاريخية بزهو حضاري، وما يلي الحضارة من ترف يطول كل المجالات، بما في ذلك عالم المفاهيم والمصطلحات. أما القسم الثاني اليوم (في عصرنا هذا)، فنعرف السوقية فيه بشكل مختلف، فلكل حقبة خصوصية تجعل لأفرادها رؤى خاصة. يومنا هذا حرج للغاية؛ دقات ساعاته متسارعة لدرجة أن إنسانه يبادر باكرا ولا يكاد يلحق حقائبه، عصر بحكم المستجدات يندر ما يسلم من التغيير، كوصف أو مصطلح السوقية، فهي اليوم غير ما كان سائدا، موضوعها العقل بالأساس، فمن يعطل عقله أو يتركه لغيره ليأخذه حيث يشاء، أو يملؤه بما يهوى من الأهواء، هو السوقي بتعريفنا المستجد. إذن، السوقية تعني تعطيل العقل، ركنه جانبا، تمكين الآخر منه ليفكر نيابة عنك.. هذا أحد مفاهيم السوقية العديدة. ومن مفاهيمها أيضا الترديد؛ فمن يردد أقوال وآراء الآخرين بدون فرز، ولا غربلة تمحص الجيد من الرديء، والحق من الباطل، والجميل من القبيح، فقد أضحى شخصية سوقية. فالسوقية اليوم هي الترديد المتجاوز لعملية إشراك الوعي، وهي كذلك تجاوز محطة التفكير عند الترديد، وفي ذا السياق يكثر بانتشار المرددون في دنيا الأيدولوجيات المتزمتة، حيث يقر المرددون من حيث المبدأ سابق الوجود (وجودهم) بوجود سادة، المعرفة حصرا لهم، ولا يمكن الحصول عليها من دون ترديد ما يطرحون خارج محطة التفكير. هناك أيضا سوقية اجتماعية، وهي عدم القدرة على الانخراط في علاقات إنسانية واجتماعية، والجهل بالقوانين المشبكة للأوصال الإنسانية.. خذ نموذجا: الانطوائي -مثلا- تمسه السوقية، أيضا الذي لا يمكنه أن يقيم صداقات ولا علاقات مع أفراد مجتمعه، والذي يميز بعنصرية على أساس جنس أو لون أو عرق، كذلك أحادي الحيز، الذي لا يرى حق الوجود العام إلا لحيزه الضيق (أسرته، قبيلته، مجتمعه، طائفته، أمته)، وليس له نفس ليتقبل الآخر كما هو كائن، فضلا على أن يتعايش معه.. فرد تقوم الحياة بالنسبة له على فلسفة الصدامات، والرفض المطلق لأي مختلف. تتوفر أيضا سوقية سياسية، وهي التنكر لما توصل إليه الإنسان اليوم ورفضه، مع ما في ذلك من نظم سياسية وقوانين وتشريعات تسير شؤونه كفرد ينتمي لأمة معينة؛ فالشخص الذي ليست له ثقافة سياسية تمكنه من المشاركة في صنع القرار بشكل من الأشكال، أو -على الأقل- حيازة الحد الأدنى من درجات الوعي بمجريات السياسة، هو شخص سوقي. الشخص الذي لا يؤمن بقيم السياسة الحديثة ونواميسها (كالتعددية السياسة، والديمقراطية، والأحزاب، والبرلمانات، والشورى، والمشاركة السياسية، والانتخابات، والتداول السلمي للسطلة)، وبالمقابل يصمت أو يذوب أمام الاستبداد السياسي، أو يتماهى مع الحكم الديكتاتوري أو العسكري للحياة المدنية، ولو بصورة من الصور، أو يجنح إلى نظرية المتغلب.. ذلك الشخص هو سوقي بامتياز. السوقية الفكرية تعني عالم الأفكار وما ترتبط به، فالسوقي اليوم يتعلق بأسوار الفكر الهش. بمعنى من المعاني: هو من لا ينتج فكرة، من لا يفكر بمعنى، من لا يتأمل، لا يتدبر، هو المنساق والمُساق خلف كبرائه بلا رأي ولا قرار، هو من تفرض عليه الجمعوية فكرة بعينها، قرارا معين، وجهة نظر معينة، شكلا بذاته، وحتى ذوقا محددا؛ فالسوقي هو من يأخذ الأفكار طازجة، لا يكلف نفسه عناء البحث عنها، أو سبر أغوارها، هو الأصم الأبكم حين تُرفع المعالي، ويسهل كشفه لطغيان ضحالة الأفكار على فكره، وسفاسف الأمور على مواضيعه. يخط أحدهم نصا زاخرا بعظائم الأفكار، فتتلقف الناس النص ابتهاجا لما يحمل من أفكار عظيمة بإمكانها أن تصنع التغيير على مستوى الفرد أو المجتمع، وفجأة يخرج من السرداب أغبر العقل تليد الفكر يشير على الناس، ليخبرهم بأن النص فيه أخطاء لا تُغتفر! فعلى سبيل المثال، الأمة اليوم منشغلة بقضية الأرض المسلوبة والمقدسات المدنسة، حوارها ينصب في سؤال: كيف نحرر الأرض ونحمي المقدس، ونعيد كرامة المسلم بعد النهب الممنهج؟ في حين ينصب حوار خفيف القدر هذا في نوافل الأمور: تحريض الناس على الحديث في قضايا جزئية خلافية من الدين، كمسائل من قبيل الزكاة في عيد الفطر؛ أهي تزكى نقدا أم من قوت أهل البلد؟ ورؤية الهلال، والمسح على الجوارب، أو إشعال نار الطائفية بين طوائف المسلمين. هكذا ينصب فكر الشخصية السوقية، أو من يتصف بهكذا صفات وسلوكيات.. هو من يمكن أن نطلق عليه سوقي في زمننا هذا. ومدًّا لحبل الأمثلة، يخط أحدهم نصا زاخرا بعظائم الأفكار، فتتلقف الناس النص ابتهاجا لما يحمل من أفكار عظيمة بإمكانها أن تصنع التغيير على مستوى الفرد أو المجتمع، وفجأة يخرج من السرداب أغبر العقل تليد الفكر يشير على الناس، ليخبرهم بأن النص فيه أخطاء لا تُغتفر! تنبهر الجموع، تلتفت للخلف، مكانه دائما هناك حيث الخلف، فتسأل: ما هي الأخطاء؟ فيرد: هما اثنان الأول: لغوي، أما الثاني: فيتعلق بكاتب النص؛ كاتب النص -والعياذ بالله- خلفيته كذا وكذا، أو من الطائفة الفلانية، ليس منهم هم، الفرقة الناجية الوحيدة! وعلى ذا المنوال يغدو فكر السوقي؛ حيث سفاسف الأمور تجده، حيث موت الأفكار، صامدا لا يتزحزح. بالتناسق مع ما تقدم، يظهر أننا وضعنا السوقية في قالب جديد، وأخذناها إلى ما يتجاوز الماضي (حصْرها في مسألة اللغة أو اعوجاج اللسان)، كما أنها -من خلال ما تقدم- صور تنبثق أساسا مما يشوب العقل؛ فالسوقي اليوم سوقي العقل والفكر والمنطق، لا اللغة والبيان.