
عن مادلين
لا أعرف كيف يعرف صنّاع القرار في أسطول الحرية مادلين كلّاب الصيادة الغزاوية الوحيدة، كي يطلقوا اسمها على القارب الذي حاول ركابه متعدّدو الجنسية الأسبوع الماضي، أن يخرقوا بواسطته الحصار المفروض إسرائيلياً على غزّة ولو إعلامياً، وقد نجحوا في ذلك وما زالوا، حتى اللحظة، تحت مجهر الإعلام، مسبّبين المزيد والمزيد من الضرر لصورة إسرائيل.
ولعلّ اختيار اسم مادلين، المألوف للأذن الغربية، وقصّتها، يشير إلى مهارة دعائية تتوخى تعاطفاً أوسع من الرأي العام العالمي مع أهل القطاع المتعرّضين للإبادة المُتلفزة مند ما يقارب السنتين، وذلك عبر اختيار بطلة، بمهنة غير اعتيادية، تناضل على جبهات عدّة لمجرّد البقاء. مواطنة مستضعفة في هُويّاتها كلّها: كفلسطينية أولاً، وغزاوية ثانيًا، وامرأة ثالثاً، وصيادة رابعاً.
كنت قد التقيت مادلين، وهي لم تتجاوز بعد الثمانية عشر عاماً، في القطاع المحاصر العام 2012. كانت الثورة المصرية قد فتحت، أو سهّلت جزئياً، فتح معبر رفح بين مصر والقطاع. كانت فرصة ذهبية لا تصدّق للبنانية مثلي لزيارة جزء من فلسطين، خصوصاً أنّ السلطة على المعبر، أقصد معبر رفح، مصرية بالكامل من جهة وفلسطينية من الجهة الأخرى. بمعنى آخر: معبر نقي من التلوّث الإسرائيلي.
العديد من الزملاء الغزاويين الذين استشرتهم حين كنت أخطّط لما سأكتب عنه في غزّة، نصحوني بالتعرّف إلى مادلين، الفتاة التي لم تجد بدّاً من اقتحام عالم الصيادين لتحصيل قوت عائلتها، بعد أن أقعد المرض والدها. وفهمت أنّه لكونها الصيادة الوحيدة، فقد تلقت دعماً من مؤسّسة أهدتها قارباً لتشجيعها. لكن ذلك تسبّب بغيرة زملائها شديدي الفقر. فصيادو غزّة محاصرون أصلاً في رزقهم، وإسرائيل ضيّقت المسافة التي يسمح لهم الاصطياد فيها تدريجياً، من تسعة أميال هي من حقّهم، إلى سبعة، فمجرّد ثلاثة! أي؟ تقريباً بالقرب من الشاطئ حيث يضع السمك عادة بيوضه، وبالتالي فإنّ العدو يجبرهم في الواقع على إبادة ثروتهم السمكية شيئاً فشيئاً، أي تدمير رزقهم القليل الذي كان لا يزال مُتاحاً.
مادلين كلّاب مواطنة مُستضعفة في هُويّاتها كلّها: كفلسطينية أولاً، وغزاوية ثانياً، وامرأة ثالثاً، وصيادة رابعاً
هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت هناك منافسة مع مهرّبي السمك من مصر إلى القطاع عبر الأنفاق. وبالنتيجة لم تكن تنقصهم منافسة فتاة ضئيلة تحظى بالاهتمام الإعلامي. هكذا، وجدوا فيها هدفاً سهلاً للتنفيس عن غضبهم، ولم يقصّروا.
بالطبع، لو كان البحر مفتوحاً، أي غير مُحتل بالحصار الإسرائيلي الذي كان، إضافة لتضييق البحر، يصطاد من خرجوا للصيد بالرصاص أو تحطيم القوارب وسرقة المعدات والغلّة، لما كان التنافس بهذه الشراسة. وهي شراسة أقعدت الصيادة الغزاوية الوحيدة عن نيل رزقها في النهاية. "فالفقر يورث النقار"، كما يقول المثل.
لكن، كان هناك أيضاً عامل آخر: الغيرة. فمادلين أصبحت، في قطاع جرى التعتيم على مصائبه، "نجمة" إعلامية. توفّرت فيها عناصر القصّة الصحافية المُثيرة لاهتمام الرأي العام، الغربي خاصة، وهذا ما صرف الانتباه عن مصائب زملائها بدلًا من تسليط الضوء عليها. لكن هذا ليس ذنبها.
هكذا، كنا كلّما سألنا عنها، كلّما تنبهنا إلى مدى التواطؤ ضدّها. من يعرف مكانها، يشير إلى الاتجاه المعاكس، مبتسماً بمكر. أما "زملاؤها" الصيادون؟ فقد اشتكوا عليها للسلطات!
الصورة
(مادلين كلّاب (يمين) مع الصحافية ضحى شمس على شاطئ غزّة 2012. تصوير: ريهام الغزالي)
يومها قصدت نقيب الصيادين للحصول على إجابة. فقال لي "إنهم" لم يشتكوا عليها لمنعها من الصيد. لم إذاً؟. يكرّر سؤالي مستهجناً: "لم؟ فتاة صبية تذهب مع بحار إلى عرض البحر... وين بدها تقضي حاجتها!". جمدت لوهلة. ثم عانيت بشدّة أمام وجهه الجاد والغاضب، كي أتمالك نفسي من الضحك.
وقابلتها. أمام كوخها الصغير المُحاذي لعشش الصيادين الآخرين المبنية من زينكو وسعف نخيل وبقايا سجاجيد؛ صبية محجّبة ذات سمرة غامقة كما يليق بابنة البحر المالح والرمال الملتهبة. عينان واسعتان ونظرات صريحة وواضحة كانبساط غزّة. استغربت للوهلة الأولى كونها محجّبة، ربّما كان ذلك لارتباط البحر والشاطئ في مخيّلتي بعري الجسد ورياضة السباحة. بدا لي أنّ طبيعة عملها تتعارض مع حجابها، مع أنّ المنطق يقول عكس ذلك. فما الفارق، للحماية من العناصر، بين القبعة القش والحجاب؟
تحدّثنا عن عملها وعن العقبات في طريقها، وحكت لي كيف حاولت تجاوز تلك العقبات المُخترعة تارة بالخروج مع محرم، هو أخوها الصغير، إضافة إلى "البحري" الذي يساعدها بنشر الشباك ولمّها. وتارة أخرى باستفتاء شيخ أفتى لها بشرعية خروجها لرزقها مع بحري. وعلى الرغم من ذلك، بقي قاربها مركوناً في الميناء على اليابسة، بالقرب من نصب تذكاري أقامه الغزاويون تخليداً لشهداء سفينة كسر الحصار "مرمرة" الذين قتلوا أثناء محاولتهم، كما القارب مادلين، كسر الحصار.
ما تزال مادلين كلْاب سجينة الإبادة المهدّدة لحياة كلّ فلسطيني ما زال على قيد الحياة
لذا، لم يتبق لها إلا أن تصطاد بحسكتها الضئيلة التي لا تستطيع الإبحار بعيداً عن الشاطئ، بضع سمكات تقدّمها لعائلتها.
ثم صمتت، وأخذت تنظر الى الأفق البعيد، ذلك الصمت الذي يعرفه من يقضون ساعات لوحدهم في البحر صابرين بانتظار أن تهتزّ شباكهم.
جلسنا طويلاً أمام البحر الممنوع عليها. وخلال الحديث لم تكف عن اللعب بالرمل الدافئ والرطب، فتعمر منه أشكالاً ثم تمحوها وهي تتحدّث.
يومها، كانت مادلين سجينة الاحتلال وحصاره للقطاع، ثم سجينة مهنتها ثم أنوثتها. واليوم؟ هي سجينة الإبادة المهدّدة لحياة كلّ فلسطيني ما زال على قيد الحياة. وحين نشرت منذ أيّام صورًا جمعتنا على صفحتي في منصّة فيسبوك، سألني كثيرون إن كانت مادلين لا تزال على قيد الحياة بعد كلّ ما حصل هناك وما زال يحصل. لم يكن هؤلاء قد شهدوا مقابلات أُجريت معها منذ أيّام بسبب القارب المسمّى باسمها. وأصلاً فإنّ خبر من ما زال حيّاً في القطاع قد ينقلب عكسه بين لحظة وأخرى.
لذا، وحتى كتابة هذه السطور، نعم، مادلين لا تزال حيّة ترزق. لا بل إنها سترزق مولوداً في القريب. طبعاً، إن كتبت لهما النجاة من حرب الإبادة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


القدس العربي
منذ 17 دقائق
- القدس العربي
بعد إلغاء مباحثات مسقط.. الرئيس الإيراني: لن نفاوض بشأن الملف النووي اذا استمرت الهجمات الإسرائيلية- (تدوينة)
طهران: أكد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في اتصال مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون السبت، أن طهران لن تفاوض بشأن ملفها النووي اذا واصلت إسرائيل ضرباتها التي بدأت الجمعة على الجمهورية الإسلامية. ونقلت الرئاسة الإيرانية عن بزشكيان قوله إن طهران 'لن تقبل طلبات غير عقلانية تحت الضغط ولن تجلس الى طاولة المفاوضات بينما يواصل النظام الصهيوني هجماته'. من جهته، كتب ماكرون عبر إكس انه حثّ نظيره على 'العودة سريعا الى طاولة المفاوضات'. من جانبه، قال ماكرون إنه طلب من الرئيس الإيراني استئناف المحادثات النووية. وأضاف في منشور عبر منصة إكس 'مسألة القدرة النووية لإيران خطيرة، ويجب التوصل إلى حل لها عبر التفاوض. ولذلك، دعوت الرئيس بزشكيان للعودة سريعا إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى اتفاق، وهو السبيل الوحيد الممكن لتهدئة الوضع'. Je viens de parler avec le Président libanais Joseph Aoun. En ces heures d'inquiétudes, j'ai réaffirmé le plein soutien de la France au Liban, à sa sécurité, à sa stabilité et à sa souveraineté. — Emmanuel Macron (@EmmanuelMacron) June 14, 2025 وفي وقت سابق السبت، اتهمت إيران إسرائيل بتقويض المباحثات النووية بين طهران وواشنطن من خلال مهاجمة الجمهورية الإسلامية. وقال وزير الخارجي الإيراني عباس عراقجي خلال اتصال هاتفي مع نظيره الروسي سيرغي لافروف 'عدوان الكيان الصهيوني على إيران الذي أتى في خضم مفاوضات' بين إيران والولايات المتحدة 'مؤشر إضافي إلى العدائية الدفينة للنظام (الإسرائيلي)'. وسبق أن صرّح وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي في منشور على إكس إنه تقرر إلغاء جولة المحادثات النووية الأمريكية الإيرانية المقررة غدا في مسقط. وتضطلع سلطنة عمان بالوساطة في المحادثات. يأتي تصريح البوسعيدي بعد يوم من شن إسرائيل هجوما جويا كاسحا على إيران، أسفر عن مقتل قادة وعلماء وقصف مواقع نووية، في محاولة معلنة لمنعها من تطوير سلاح نووي. The Iran US talks scheduled to be held in Muscat this Sunday will not now take place. But diplomacy and dialogue remain the only pathway to lasting peace. — Badr Albusaidi – بدر البوسعيدي (@badralbusaidi) June 14, 2025 (وكالات)


القدس العربي
منذ 17 دقائق
- القدس العربي
نتنياهو: سنضرب 'كل هدف تابع للنظام' في إيران
القدس: توعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، السبت، بضرب 'كل هدف تابع للنظام' في إيران، مشيرا الى أن الغارات التي نفذتها تل أبيب منذ الجمعة ألحقت 'ضربة فعلية' ببرنامج طهران النووي. وقال نتنياهو في كلمة مصورة 'قريبا جدا سترون طائرات سلاح الجو الإسرائيلي فوق سماء طهران، سنضرب كل موقع، كل هدف تابع للنظام'، مضيفا 'وجهنا ضربة فعلية لبرنامجهم النووي'. وأشار نتنياهو إلى أنّ الجيش الإسرائيلي 'تمكن من استهداف الفريق القيادي للمشروع النووي الإيراني'. وتابع 'ما فعلناه بإيران حتى الآن لا يقارن بما سنفعله في الأيام المقبلة'. (وكالات)


القدس العربي
منذ 18 دقائق
- القدس العربي
مقتل الرئيسة السابقة لمجلس نواب ولاية مينيسوتا وزوجها في هجوم مسلح- (فيديو)
بلين (مينيسوتا): قُتلت مشرّعة محلية في مينيسوتا وزوجها، كما أصيب زميل لها وزوجته، في حادث 'عنف سياسي' صباح السبت، على ما أعلن تيم والز حاكم الولاية، الواقعة في شمال الولايات المتحدة، مضيفا أن البحث جارٍ عن المشتبه به. وقال الحاكم في مؤتمر صحافي إن ميليسا هورتمان وزوجها 'قتلا بالرصاص في وقت مبكر من صباح اليوم في ما يبدو أنه اغتيال بدوافع سياسية'، مضيفا أن مسؤولا منتخبا ثانيا وزوجته أصيبا أيضا بجروح بعد استهدافهما. وأضاف والز 'كان ذلك عملا متعمدا من أعمال العنف السياسي'. ويجري البحث عن المشتبه به الذي كان يرتدي زي عنصر في قوات الأمن. وأعلن مارك برولي، قائد شرطة بروكلين بارك في الضاحية الشمالية لمينيابوليس خلال المؤتمر الصحافي أن عملية مطاردة المشتبه به جارية 'ويشارك فيها مئات عناصر الشرطة'. كانت ميليسا هورتمان عضوا في مجلس النواب في مينيسوتا ورئيسة سابقة له. وأفاد تيم والز بأن المشرع الثاني الذي استهدف هو السيناتور المحلي جون هوفمان وزوجته إيفيت، و'أُصيبا بطلقات نارية متعددة' وخضعا لعمليات جراحية. وأضاف 'نحن متفائلون بأنهما سينجوان من محاولة الاغتيال هذه'. وقال حاكم الولاية الذي كان نائبا للمرشحة الديموقراطية كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، إن 'الحوار السياسي السلمي هو أساس ديموقراطيتنا. لا نحل صراعاتنا بإطلاق النار'. وندد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بـ'إطلاق النار المروع'، مشيرا في بيان 'يبدو أنه اعتداء متعمد على مشرّعي الولاية… لن يتم التسامح مع عنف مروع كهذا في الولايات المتحدة'. ويأتي هذا الهجوم على مشرّعَين في خضم مناخ سياسي متوتر. BREAKING: Manhunt is underway after Minnesota Sen. John Hoffman and Rep. Melissa Hortman were shot overnight. Both lawmakers and their spouses have reportedly been shot. A shelter-in-place alert was sent out at 5:30 am for a three-mile radius around the Edinburgh Golf Course in… — Collin Rugg (@CollinRugg) June 14, 2025 وفي خطوة نادرة، حشد ترامب آلاف العسكريين لمواجهة تظاهرات ضد سياسته المتعلقة بالهجرة في لوس أنجلس. والسبت، تُنظَّم تظاهرات حاشدة لمعارضة سياسات الرئيس الجمهوري، بينما من المقرر أن يرأس عرضا عسكريا نادرا في وقت لاحق من هذا اليوم، وهو الأول منذ أكثر من 30 عاما في واشنطن. وشهدت الولايات المتحدة مؤخرا عدة هجمات استهدفت قادة السياسيين. ونجا ترامب من محاولة اغتيال في تموز/يوليو خلال تجمع انتخابي في بنسلفانيا. وفي العام 2022، تعرض زوج زعيمة الديموقراطيّين في الكونغرس الأميركي آنذاك نانسي بيلوسي لهجوم بمطرقة في منزله في كاليفورنيا. (أ ف ب)