
الغلاء يحرم التونسيين من الأضاحي
لا تزال تداعيات أزمة
الجفاف
التي عاشتها تونس في السنوات الخمس الأخيرة تُلقي بظلالها على أسواق المواشي، حيث تظهر آثار أزمة نقص المراعي في أسعار الخرفان المعدّة للتسويق بمناسبة عيد الأضحى. ويشكو التونسيون منذ أسابيع من تواصل
غلاء
الأضاحي هذا العام، رغم تحسّن العوامل المناخية وتساقط الأمطار بكميات هامة، ما قد يؤدي إلى حرمان طيف واسع من المواطنين من فرحة العيد. عيد الأضحى، بالإضافة إلى مكانته الدينية، مناسبة لاستهلاك لحم الضأن الذي تحوّل إلى غذاء عصيّ على موائد التونسيين بسبب الغلاء المشطّ لأسعاره وانهيار القدرة الشرائية للتونسيين.
وعلى مدى السنوات العشر الأخيرة، ارتفعت أسعار اللحوم أسرع بكثير من رواتب الموظفين، إذ تضاعف ثمن لحم الضأن بأكثر من ثلاث مرات ونصف المرة ما بين سنوات 2010 و2025، ليصعد من 14 ديناراً (4.5 دولارات) للكيلوغرام إلى نحو 55 ديناراً (17.7 دولاراً)، في المقابل لم يتطوّر الحد الأدنى للأجور بالسرعة ذاتها خلال نفس الفترة، إذ ارتفع من 272 ديناراً (88 دولاراً) إلى 528 ديناراً (170 دولاراً).
ويقول نصيب الزغواني، وهو مربٍّ للمواشي، إن تحسّن العوامل المناخية وتساقط الأمطار هذا العام ساهما في تحسين نوعية المواشي، غير أن الأسعار لا تزال مرتفعة بسبب نقص العرض وفقدان جزء كبير من القطيع خلال أعوام الجفاف. وأكد نصيب الزغواني في تصريح لـ"العربي الجديد" أن آثار الجفاف كانت قاسية جدّاً على مربي المواشي، ولا سيما الصغار منهم، حيث فرّط العديد منهم في القطعان، سواء بالبيع أو ذبح الإناث، ما يجعل تجدّد القطيع أمراً صعباً ويبقي الأسعار في مستويات عالية لسنوات مقبلة.
أسواق
التحديثات الحية
لحوم التجزئة تعوض الأضاحي في تونس.. وانفلات بالأسعار
وحسب بيانات حديثة للمرصد التونسي للفلاحة، يبلغ عدد مربّي الأغنام حوالي 274 ألف مربٍّ، ومربّي الأبقار 112 ألف مربٍّ. ويتكوّن المربّون بنسبة 73% من صغار المربّين (من خمس إلى ست أبقار). ويتوزع إنتاج اللحوم الحمراء أساساً بين 50 ألف طن لحوم أبقار، و60 ألف طن لحم ضأن محلي.
تقسيط ثمن الأضاحي
ويعتبر المربي نصيب الزغواني أن قانون العرض والطلب يحكم بورصة أسواق الأضاحي، مرجحاً أن تلجأ العديد من الأسر إلى الاكتفاء بشراء كميات قليلة من اللحوم ومقاطعة عادات العيد، خاصة في غياب إمكانيات الدفع بالتقسيط. وأضاف: "يتم تداول أسعار الخرفان الجيدة في أسواق الدواب أو لدى مربي الماشية ما بين 1000 و1200 دينار (333 و400 دولار)، وهو ما يعادل متوسط أجر الموظف الحكومي تقريباً".
شهد استهلاك اللحوم الحمراء في تونس انخفاضاً مطرداً في السنوات الأخيرة، حيث انخفض من 11 كيلوغراماً للفرد سنويّاً عام 2015 إلى 8.3 كيلوغرامات عام 2021، مع توقعات بتراجع مستوى الاستهلاك إلى سبعة كيلوغرامات فقط حاليّاً، وفق بيانات حكومية. يُعزى هذا الاتجاه المُقلق إلى عدة عوامل مترابطة، منها التضخم، والمضاربة، والمشاكل الهيكلية في قطاع اللحوم الحمراء.
ويشكّل سعر الكيلوغرام الواحد من لحم الضأن 10% من الأجر الأدنى المضمون، بينما لا يتجاوز السعر 3% في المغرب و4% في الأردن. ويبلغ الإنتاج الوطني للحوم الحمراء في تونس 127 ألف طن سنويّاً، وهو ما لا يكفي لتغطية الاحتياجات المقدّرة بـ130 ألف طن.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 7 ساعات
- العربي الجديد
الغلاء يحرم التونسيين من الأضاحي
لا تزال تداعيات أزمة الجفاف التي عاشتها تونس في السنوات الخمس الأخيرة تُلقي بظلالها على أسواق المواشي، حيث تظهر آثار أزمة نقص المراعي في أسعار الخرفان المعدّة للتسويق بمناسبة عيد الأضحى. ويشكو التونسيون منذ أسابيع من تواصل غلاء الأضاحي هذا العام، رغم تحسّن العوامل المناخية وتساقط الأمطار بكميات هامة، ما قد يؤدي إلى حرمان طيف واسع من المواطنين من فرحة العيد. عيد الأضحى، بالإضافة إلى مكانته الدينية، مناسبة لاستهلاك لحم الضأن الذي تحوّل إلى غذاء عصيّ على موائد التونسيين بسبب الغلاء المشطّ لأسعاره وانهيار القدرة الشرائية للتونسيين. وعلى مدى السنوات العشر الأخيرة، ارتفعت أسعار اللحوم أسرع بكثير من رواتب الموظفين، إذ تضاعف ثمن لحم الضأن بأكثر من ثلاث مرات ونصف المرة ما بين سنوات 2010 و2025، ليصعد من 14 ديناراً (4.5 دولارات) للكيلوغرام إلى نحو 55 ديناراً (17.7 دولاراً)، في المقابل لم يتطوّر الحد الأدنى للأجور بالسرعة ذاتها خلال نفس الفترة، إذ ارتفع من 272 ديناراً (88 دولاراً) إلى 528 ديناراً (170 دولاراً). ويقول نصيب الزغواني، وهو مربٍّ للمواشي، إن تحسّن العوامل المناخية وتساقط الأمطار هذا العام ساهما في تحسين نوعية المواشي، غير أن الأسعار لا تزال مرتفعة بسبب نقص العرض وفقدان جزء كبير من القطيع خلال أعوام الجفاف. وأكد نصيب الزغواني في تصريح لـ"العربي الجديد" أن آثار الجفاف كانت قاسية جدّاً على مربي المواشي، ولا سيما الصغار منهم، حيث فرّط العديد منهم في القطعان، سواء بالبيع أو ذبح الإناث، ما يجعل تجدّد القطيع أمراً صعباً ويبقي الأسعار في مستويات عالية لسنوات مقبلة. أسواق التحديثات الحية لحوم التجزئة تعوض الأضاحي في تونس.. وانفلات بالأسعار وحسب بيانات حديثة للمرصد التونسي للفلاحة، يبلغ عدد مربّي الأغنام حوالي 274 ألف مربٍّ، ومربّي الأبقار 112 ألف مربٍّ. ويتكوّن المربّون بنسبة 73% من صغار المربّين (من خمس إلى ست أبقار). ويتوزع إنتاج اللحوم الحمراء أساساً بين 50 ألف طن لحوم أبقار، و60 ألف طن لحم ضأن محلي. تقسيط ثمن الأضاحي ويعتبر المربي نصيب الزغواني أن قانون العرض والطلب يحكم بورصة أسواق الأضاحي، مرجحاً أن تلجأ العديد من الأسر إلى الاكتفاء بشراء كميات قليلة من اللحوم ومقاطعة عادات العيد، خاصة في غياب إمكانيات الدفع بالتقسيط. وأضاف: "يتم تداول أسعار الخرفان الجيدة في أسواق الدواب أو لدى مربي الماشية ما بين 1000 و1200 دينار (333 و400 دولار)، وهو ما يعادل متوسط أجر الموظف الحكومي تقريباً". شهد استهلاك اللحوم الحمراء في تونس انخفاضاً مطرداً في السنوات الأخيرة، حيث انخفض من 11 كيلوغراماً للفرد سنويّاً عام 2015 إلى 8.3 كيلوغرامات عام 2021، مع توقعات بتراجع مستوى الاستهلاك إلى سبعة كيلوغرامات فقط حاليّاً، وفق بيانات حكومية. يُعزى هذا الاتجاه المُقلق إلى عدة عوامل مترابطة، منها التضخم، والمضاربة، والمشاكل الهيكلية في قطاع اللحوم الحمراء. ويشكّل سعر الكيلوغرام الواحد من لحم الضأن 10% من الأجر الأدنى المضمون، بينما لا يتجاوز السعر 3% في المغرب و4% في الأردن. ويبلغ الإنتاج الوطني للحوم الحمراء في تونس 127 ألف طن سنويّاً، وهو ما لا يكفي لتغطية الاحتياجات المقدّرة بـ130 ألف طن.


العربي الجديد
منذ 7 ساعات
- العربي الجديد
العنوان "التكييش" في غزة.. 40% عمولة الحصول على السيولة
تفاقمت أزمة السيولة النقدية في غزة كثيراً بعد قرابة عامين على منع سلطات الاحتلال الإسرائيلي إدخال النقود إلى أسواق قطاع غزة، بالتزامن مع انهيار العملة الورقية التي تعرّضت للتلف، خاصة فئة العشرين شيكلاً (نحو 6 دولارات) وما سبقها من رفض التعامل بفئة عشرة شواكل، التي باتت مرفوضة من التجار والمواطنين على حد سواء، وسط غياب أي بوادر لحلول قريبة. ونتيجة لذلك، وصلت عمولة الحصول على السيولة، المعروفة محلياً بـ"التكييش"، إلى أكثر من 37%، في مشهد يعكس عمق الأزمة المالية التي يعيشها القطاع، وهو ما يستنزف جيوب المواطنين الذين باتوا يخسرون أكثر من ثلث المبالغ المالية الموجودة في حساباتهم المصرفية للحصول على النقد. ويرجع السبب الأساسي بحسب مختصين إلى رفض إسرائيلي صارم إدخال كميات جديدة من النقد إلى غزة منذ ما يقارب عامين، ما أدى إلى تآكل العملة الموجودة وازدياد الاعتماد على السوق السوداء بعد أن أغلقت البنوك أبوابها بفعل الحرب الإسرائيلي المستمرة على القطاع. شكاوى دون حلول وبينما أبدى الفلسطيني تامر الأسمر من مخيّم النصيرات وسط قطاع غزة استياءه من تفاقم أزمة السيولة النقدية، قال لـ"العربي الجديد": "في كل مرة أحاول فيها شراء احتياجاتي اليومية وأدفع بورقة من فئة عشرين شيكلاً، يرفض الباعة التعامل بها، للأسف سيناريو العشرة شواكل يتكرّر مجدّداً، حتى وإن لم تكن الورقة ممزقة يرفض معظم الباعة قبولها، ما ساهم في تعميق أزمة السيولة داخل الأسواق". وأضاف الأسمر أن "الوضع بات خانقاً ولا نمتلك السيولة الكافية والبنوك مغلقة، ما يدفعنا إلى مناشدة الباعة بقبول العملات التالفة، ورغم حجم الأزمة، لم يصدر أي توضيح أو توجيه من سلطة النقد أو البنوك حول كيفية التصرف أو التعامل مع هذا الوضع، ما جعلنا رهائن لتجار التكييش المنتشرين في الأسواق". وذكر الأسمر كذلك أنّ البيع والشراء بات أقرب إلى المقايضة، حتى المصروف اليومي لأطفاله لم يعد يستطيع إعطاءه بسهولة، فكل بائع يشترط فكة ومع رفض العشرين شيكلاً تضاعف الضغط على العملات المعدنية. انتشار التكييش من جانبه، تحدث بائع المخللات في سوق الصحابة، أبو علاء نسمان، عن الأثر المباشر لأزمة العملة على نشاطه التجاري، مشيراً إلى أنّ "أزمة فئة العشرين شيكلاً تعيق جزءاً كبيراً من عمليات البيع اليومية، فأغلب أوراق هذه الفئة تالفة ومهترئة، وفي حال قبلتها، يرفض تجار الجملة استلامها مني لاحقاً"، وأوضح نسمان لـ"العربي الجديد" أنه يحتفظ بما يزيد عن 2400 شيكل من العملات المهترئة غير القابلة للتداول، وهو مبلغ كبير بالنسبة له كان من المفترض أن يستخدمه في شراء بضاعته، ما تسبب في تعطيل جزء من عمله اليومي. أسواق التحديثات الحية إسرائيل جمعت 5 مليارات دولار بسندات أميركية لتمويل عدوانها على غزة وأشار إلى أن الأزمة لا تقتصر على فئة العشرين شيكلاً فحسب، بل تشمل أيّ عملة ورقية يظهر عليها التلف، حتى وإن كانت من الطبعة الحديثة، مضيفاً أنه "إذا استمر الوضع على ما هو عليه، ستختفي العملات المعدنية من السوق، لأن الناس بدأت تتجه نحو تخزينها، باعتبارها الوسيلة الأكثر أماناً في التعاملات اليومية". تداعيات كارثية تعود جذور أزمة السيولة النقدية الراهنة في قطاع غزة إلى نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2023، إذ بدأت ملامحها الأولى بالظهور عقب الانكماش التدريجي في عمل القطاع المصرفي، بدءاً من شمال القطاع، ثم سرعان ما امتدت التداعيات إلى مناطق الجنوب. وازداد الوضع سوءاً مع تعرض عدد من البنوك للاستهداف المباشر والتدمير، ما أدى إلى توقفها الكامل عن العمل. ومع توالي الشهور وتواصل تعطل الخدمات المصرفية، تفاقمت الأزمة المالية على نحوٍ متصاعد، وبرزت ظاهرة "التكييش" بوصفها خياراً شبه وحيد للمواطنين والتجار. وشهدت نسبة العمولة في التكييش في أسواق غزة قفزات متلاحقة، لتصل في الآونة الأخيرة إلى ما بين 37% و40%، وهي أعلى مستوياتها منذ بدء الأزمة، مع الإشارة إلى أنّ لنسبة العمولة ارتباط مباشر بحركة المعابر، إذ تنخفض مؤقتاً في الفترات التي يفتح فيها المعبر أمام البضائع التجارية بسبب حاجة التجار لضخ الأموال عبر الحسابات البنكية لتسديد مدفوعاتهم أثناء عمليات الاستيراد. السوق السوداء تسيطر. ووفق مصدر مطّلع من سلطة النقد الفلسطينية، فإنّ إسرائيل تنفذ خطة محكمة لضرب النظام النقدي في غزة، عبر أدوات مالية غير تقليدية تهدف إلى تقويض دور سلطة النقد وعرقلة عمل البنوك التي لا تقوى على السحب والإيداع منذ الأسابيع الأولى للحرب على غزة، وأكّد المصدر لـ"العربي الجديد" أن أهداف الخطة الإسرائيلية تعطيل عمل البنوك عبر تقييد وصول النقد، ومنع ضخ عملة جديدة إلى أسواق غزة خصوصاً من الفئات الكبيرة، مشيراً إلى أنّ هناك افتعالاً داخلياً من التجار للتحكم في سوق الصرف، مع غياب الدور الفعلي للبنوك في توفير النقد واستمرار عمليات السحب والإيداع. اقتصاد الناس التحديثات الحية مهن أفرزتها الحرب على غزة لمواجهة كارثة الجوع والسيولة المتواجدة حالياً في قطاع غزة تكفي بالحد الأدنى لتسيير حاجيات المواطنين والعمليات التجارية في الأسواق، إلّا أن احتكار النقد من فئة معينة من التجار يعقد الأزمة ويخلق سوقاً سوداء بنسب عمولة مرتفعة، وفق ذات المصدر. بدوره، عزا المختصّ في الشأن الاقتصادي عماد لبد أسباب الأزمة السيولة إلى منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال السيولة النقدية إلى غزة منذ نحو عامين، بجانب اهتراء العملات الورقية، خاصّة فئتي 10 و20 شيكلاً، ورفض السوق المحلية التعامل بها، بالتزامن مع إغلاق البنوك في غزة بسبب الأوضاع الأمنية، وهو ما أفقد سلطة النقد دورها الرقابي والإشرافي. وقال لبد في حديث مع "العربي الجديد" إنّ عمولة الحصول على السيولة أو ما يطلق عليها "التكييش" وصلت حالياً إلى نحو 40%، مرجحاً أن تصل إلى 50% خلال شهرين أو ثلاثة على الأكثر إذا استمرت الأزمة دون انفراجة حقيقية تتمثل بإدخال السيولة وعودة عمل البنوك وفتح المعابر أمام الحركة التجارية. وأوضح أن الوضع أصبح حالياً أقرب لاقتسام المال بين صاحب المال من جهة ومن يملك السيولة من جهة أخرى، في سيطرة مطلقة للسوق السوداء واستغلال واضح، مع بدء تلاشي العدالة الاقتصادية التي سيكون لها تداعيات كبيرة تتمثل في خلل خطير بتوزيع الموارد والدخل، ما يفضي إلى تعميق الفجوة بين الفئات الاجتماعية، ويمنح الأفضلية لفئة ضيقة تحتكر السيولة وتفرض شروطها على السوق. وتجدر الإشارة إلى أن بروز سوق موازية تستنزف المواطنين وتحوّل النقود من وسيلة تبادل إلى سلعة بحد ذاتها تخضع للعرض والطلب و"العمولة"، يفرّغ مفهوم العملة من معناها الاقتصادي الطبيعي، وهو ما يهدّد بانهيار متسارع للثقة في النظام الاقتصادي بأكمله.


العربي الجديد
منذ 16 ساعات
- العربي الجديد
دمشق الأبد في زمن ما بعد الأسد
"وفي الشام شام لكل زمان"، قال الشاعر محمود درويش. رؤيا تتأمل في حاضر راسخ ومجاز وجداني عريق. جاءت القصيدة من تاريخ بعيد، يروي حكاية أم المدن على هذه الأرض، التي منها بدأ التبشير بالمسيحية، وتوجه الإسلام إلى العالم، وسافر على طرقها الحجاج والتجار، وسكنها المتصوفة الكبار واليمام. دمشق القديمة أول الحكاية، التي تشكلت بجوار الجامع الأموي، وتمددت إلى حي القيمرية، حيث أسرار جمال وبقاء الحرف اليدوية، ومن ثم انتقلت إلى باب توما، ذي الأغلبية المسيحية، بكنائسه وأديرته ومدارسه الخاصة، وهو يتواصل في باب شرقي، والحي اليهودي، الذي هجرته الغالبية العظمى من سكّانه منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، ورحل القسم الأكبر منهم إلى الولايات المتحدة. حيوية لافتة في دمشق يبدأ حي القيمرية من مقهى النوفرة، عند نهاية سوق الحميدية، أو من الطرف الأيسر للجامع الأموي، عن طريق ما يعرف بـ"مقام الست رقية" بنت الحسين، الذي تحول إلى مزار يقصده شيعة قادمون من إيران والعراق على نحو خاص، لكن حركة هؤلاء تراجعت بعد سقوط نظام بشار الأسد، بسبب عدم الترحيب بهم من قبل الوسط العام، الذي عانى من التمييز الطائفي، واستغلال إيران للرموز الدينية. ويعتبر بعض أهل الحي أن اهتمام إيران ببعض المظاهر الدينية في سورية، يرجع لأسباب سياسية، وتحول نشر التشيع، وإقامة حسينيات وأضرحة، إلى وسيلة لتغيير الهوية الدينية لجزء من السوريين ، وذريعة للتدخل العسكري، وإسناد رئيس نظام الأسد، سواء بخبرات أمنية وعسكرية وأموال إيرانية، أو عن طريق مليشيات لبنانية، عراقية، باكستانية، وأفغانية، تتبع للحرس الثوري الإيراني، وأهمها حزب الله اللبناني، الذي تجاوز حدود الدفاع عن المراقد الدينية، إلى اجتياح مدن بأكملها، ووصلت قواته حتى الحدود السورية العراقية في مدينة البوكمال، حيث أقامت قاعدة عسكرية تحت إشراف الحرس الثوري باسم الإمام علي بن أي طالب. يمتاز حي القيمرية بحيوية لافتة. هو يعج بالمطاعم والمقاهي المتخصصة بتقديم النركيلة. ويقول النادل أبو حسن في مقهى النوفرة، إن الحي شهد تحولاً بدأ منذ أعوام عدة، حين اكتشف التجار أهمية الأحياء القديمة في جذب السيّاح من داخل البلد وخارجه، وصاروا يحولون البيوت القديمة إلى فنادق، بعضها من خمس نجوم مثل "بيت الوالي" في باب شرقي، الذي يعد من بين أغلى الفنادق في العاصمة، حيث يتجاوز مقابل منام الليلة الوحدة، في الأحوال العادية، 250 دولاراً. حركة الزوّار الشيعة تراجعت بعد سقوط نظام الأسد، بسبب عدم الترحيب بهم من قبل الوسط العام حمل الحي في القرن التاسع عشر اسم "الهند الصغرى"، كونه يمتاز بحضور كبير لمشاغل أصحاب المهن والصناعات اليدوية، التي تختص بها دمشق، وتتفوق بها على غيرها من المدن السورية . بعضها تمّ توارثه منذ عدة أجيال، ومن ذلك حياكة الحرير والنسيج والصدفيات وفن الزخرفة وصناعة الصابون وتطعيم الخشب، والعطارة والطباعة. اللافت هنا، تمسك سكّان الحي ببيوتهم التي أضفوا عليها لمسات من التجميل. يتوارث ذلك الأولاد والأحفاد، بالتوازي مع نقل المهن من الآباء والأجداد، ما أسهم في ترسيخ وحفظ التقاليد المهنية، والخبرات اليدوية التقليدية، وازدهارها مع الزمن. ومع ذلك تعاني الثروة التراثية الهائلة من إهمال رسمي. يطمح أصحاب المهن والحرف وساكنو المنطقة، إلى اعتبارها تراثاً مادياً، يستلزم الحفظ والصيانة والدعم والحماية من طغيان الأنماط السياحية، التي بدأت بالزحف على أحيائها، وتحويل بعض بيوتها ومشاغلها إلى مطاعم وحانات ومقاهي النارجيلة، التي تشكل ظاهرة تستحق الدراسة، كونها منتشرة على نحو كبير في الأحياء كافة، بلا استثناء، ويقدم عليها الرجال والنساء بالنهم ذاته. هناك ملاحظة مهمة وهي أن عدد النساء المحجبات من بين مدخنات النرجيلة، لا يقل عن عددهن من غير المحجبات، وهن في الحالين تجاوزن سن الثلاثين، وهذا يشير إلى أن الحجاب ليس دليلاً على التشدد أو التعصب، بل هو خيار اجتماعي ثقافي. ومن الملاحظ أن الحي لا يختلف، على مستوى الملابس، عن بقية أحياء دمشق. هناك نسبة قليلة من النساء ترتدي النقاب. وعلى خلاف ما يظن البعض أن هذه الظاهرة قدمت إلى دمشق بعد سقوط النظام، بالتزامن مع دخول مقاتلين من فصائل ذات خلفية جهادية، وبعض هؤلاء النساء من أرياف دمشق، والبعض الآخر قدمن من محافظات أخرى، ولكن الغالب هو أن المرأة الدمشقية التقليدية، لم تغير عاداتها في الملبس الذي درجت عليه منذ زمن طويل، وهو لا يحمل أي مظهر للتشدد، وهي منخرطة في مجرى الحياة العام، تعمل وتتسوق وتركب الحافلات المكتظة بالرجال، من دون شعور بالحرج. في دمشق القديمة، مهن وصناعات يدوية تمّ توارثها منذ عدة أجيال الطراز العمراني يتراوح بين بيوت طينية قديمة، وأخرى من الحجر الأسود، وهو في الحالين يتطلب عناية كبيرة من قبل هيئات دولية، تتولى الترميم، وتوظف أدوات الحداثة لصيانة هذا التراث من التلف، ومن ثم الانهيار، أو القيام بأعمال صيانة تخالف الأصول، وتؤدي مع الزمن إلى نتائج سلبية على البيئة العامة. قضايا وناس التحديثات الحية عيد الأضحى في دمشق.. لقاءات تعيد الأمل وسط العادات المتوارثة أحياء عصرية وأخرى محافظة باب توما هو الحي المسيحي الدمشقي بامتياز. يضم العديد من الكنائس والأديرة المهمة، ليس على مستوى سورية فقط، بل الشرق، وفيه تقع أهم كنيستين للروم الأرثوذكس، الأولى الكنيسة المريمية المبنية على الطراز الروماني، والتي تعد ثاني كنيسة تمّ بناؤها في تاريخ كنائس الشرق بعد كنيسة القدس، وكنيسة حنانينا التي يقترب عمرها من ألفي عام، وتعود إلى الفترة الرومانية، وتم تجديدها مرات عدة، وآخر عملية توسعة جرت في عام 1815. هناك كنائس أخرى للسريان والأرمن والطوائف المسيحية الأخرى، والتي تتميز بأنها حافظت على دورها بوصفها بيوت عبادة من جهة، ومن جهة ثانية حفظ تراث المسيحية الشرقية، التي عانت بدورها من النظام السابق، الذي كان يقدم نفسه حامياً للأقليات، لكنه كان يزج الشباب المسيحيين بقتال أشقائهم السوريين، ولذلك هاجر جيل بأكمله خلال العقد الأخير، كي لا ينخرط في المقتلة بين السوريين، التي نظمها الأسد من أجل الدفاع عن نظام حكمه. الحجاب في دمشق ليس دليلاً على التشدد أو التعصب، بل هو خيار اجتماعي ثقافي يقول أحد الآباء المسيحيين، ورعاة الكنيسة، إن رصيد مسيحيي الشرق يتمثل في أنهم دعاة محبة بين الأديان، ولم يسبق لهم أن انخرطوا عبر التاريخ في أي نزاع سياسي داخلي. ويعترف بأن بعض الرموز سكتوا على القمع وهادنوا النظام السابق، لكنهم عارضوا مشاركة أبناء الطائفة بالقتل والتهجير والاستيلاء على أملاك الآخرين. وعلى هذا فإنهم ينتظرون من الدولة الجديدة أن تراعي ذلك، وتتعامل مع أبناء الطائفة على أساس المساواة في المواطنة، والحد من الخطاب الذي بدأ يشيع في بعض الأوساط حول تكفير بعض معتنقي الأديان الأخرى. ويضيف أن المرجو من الإدارة السورية فتح صفحة جديدة مع الطوائف المسيحية تؤدي إلى طمأنتها وتشجع عودة عشرات آلاف الشباب الذين غادروا البلد لرفضهم الخدمة في جيش النظام لقتل إخوتهم السوريين. يعد باب توما من بين أحياء دمشق التي تتميز بالحيوية والانفتاح الاجتماعي، ورغم ما يشاع عن أجواء تشدد في بعض مناطق العاصمة، ترافق مع وصول الإدارة الجديدة، فإن باب توما يقدم صورة تنفي ذلك كلياً. يقول إلياس وهو صاحب مطعم يقدم المشروبات الكحولية، إن الحي لم يشهد تغييرات، وكما ترون هناك زبائن يتناولون بعض المشروبات، ولا أحد يتعرض لهم. ويعترف بحصول بعض التجاوزات، ولكنها طفيفة جداً، وليست مبنية على سياسات عامة، ويقول إن المطاعم التي تمّ إغلاقها لم تكن تحمل رخصة رسمية لتقديم المشروبات الكحولية، وما أن تلائم وضعها مع القانون حتى تعاود العمل، مشيراً إلى محل لبيع المشروبات يقع مقابل مطعمه، وهو مفتوح ويعرض بضاعته بصورة علنية، خلافاً للشائعات التي تتحدث عن خوف ومنع، ومثله هناك العديد من المحلات في شارع 29 أيار، ومنطقة شارع العابد، وفي أحياء المالكي وأبو رمانة والقصاع. ينتظر المسيحيون من الدولة الجديدة أن تتعامل مع أبناء الطائفة على أساس المساواة في المواطنة تقول قصيدة الشاعر محمد الماغوط "جميلة عيون النساء في باب توما". هنا تسير النساء بكامل الحرية في الملبس، لم يتغير شيء. ملابس الصيف تعري الشائعات التي تتحدث عن التشدد. هناك نساء بألبسة تقليدية ومحجبات والغالبية بملابس عصرية ومن دون حجاب، وليس بالضرورة انتماء كل هؤلاء النسوة إلى الفئات المسيحية. عكس جانباً من ذلك جو الاختلاط في حفل مسائي، أقيم في باب شرقي، لإحياء أول ذكرى سنوية للسينمائي باسل شحادة، الذي قتله النظام السابق هو وأربعة من رفاقه في 28 مايو/أيار 2013. اللافت هو حضور نسبة ملحوظة من الشابات المحجبات للحفل التأبيني، رغم أن شحادة ينتمي إلى اليسار، ومن الطائفة المسيحية. قبل كل شيء هو فنان معارض، سقط وهو يصور مجازر جيش الأسد في حمص. باب شرقي الذي كان حيّاً شعبياً قبل نصف قرن، تحول إلى حي عصري، وقد تجددت الكثير من بيوته، وصارت من بين أغلى الأحياء المطلوبة للسكن، وذلك بفضل الانتشار الكبير لأماكن الترفيه الشبابية الخاصة بالسهر والطعام، حيث تنتشر المقاهي والمطاعم ومحلات الوجبات السريعة والساندويش، بالإضافة إلى "الغاليريهات" التي تعرض الفنون والصناعات التقليدية. يمتاز باب شرقي بأنه حي مختلط، يعيش فيه سوريون من مختلف الطوائف والمدن، وكذلك الأجانب، على خلاف باب توما ذي الغالبية المسيحية. ويبدو واضحاً أن هناك حركة ترميم للكثير من البيوت التي تحولت إلى استثمار، يتم تأجيرها بالغرفة وخصوصاً للطلبة، ومن بينهم الأجانب القادمون لتعلم اللغة العربية، حيث تعد دمشق أفضل وجهة على هذا المستوى، فيتحول البيت إلى شبه فندق صغير، يتشارك سكانه الحمّامات والمطبخ، في تجربة تتيح المجال للتعارف والتبادل الثقافي. حي اليهود، أو حارة اليهود كما يحلو للبعض تسميتها، تتداخل مع باب شرقي. ولولا بعض الكتابات القديمة على جدران شبه مهدمة، لكان من الصعب تمييز البيوت اليهودية عن غيرها من تلك التي عاش فيها جيران مسلمون أو مسيحيون. وبحسب أكثر من مصدر، فإن بعض ممتلكات اليهود الذين غادروا لا تزال قائمة، لكن بعضها الآخر تمّ الاستيلاء عليه بطرق غير مشروعة. بعض المتورطين في الاستيلاء كانوا على صلة بالنظام السابق، حيث زوّروا الوثائق للاستيلاء على الممتلكات. بحسب أكثر من مصدر، فإن عدد اليهود الباقين في دمشق لا يتجاوز عشرة أشخاص، بعد أن هاجر حوالي 5 آلاف في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد تدخل من الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب، لدى الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد. ويتحدث سكان من الحي عن إعادة فتح أماكن العبادة اليهودية. هناك كنيس، وأحياناً يأتي رئيس الطائفة ويفتحه، فيجتمع 2-3 أشخاص، لكن لا تُقام الصلوات فيه بشكل مستمر. وهناك تقديرات عن عودة بعض يهود سورية من المقيمين في الولايات المتحدة وأوروبا، بعد سقوط الخوف وانتهاء التمييز، الذي مارسه النظام السابق ضدهم. وما يشجع على ذلك زيارة الحاخام الأكبر يوسف حمرا للعاصمة السورية في 18 فبراير/شباط الماضي، وتفقد الكنيس اليهودي في منطقة جوبر المدمرة، وما بقي لليهود من ممتلكات. هناك ملاحظات عدة حول أسرار جاذبية دمشق وبقائها، تتشكل لدى من يقوم بجولة في المدينة القديمة. الأولى، تعدد الألوان والأحوال في الشخصية الدمشقية. الجذر شامي، لكن الفروع ترجع إلى الحي والعائلة والطائفة. الجوهر هو الانفتاح واللطف والعقل التجاري، وهذا ما يفسّر عدم تضرر اقتصاد المدن الكبرى على غرار الأرياف، فبالإضافة إلى المرونة التي يتحلى بها سكان الأحياء القديمة، فهم يتصفون بالقدرة على التجدد والابتكار. لا يقبلون لتجارتهم أن تفسد، يغيرون نمط الإنتاج بسرعة، يجدون بضاعة وزبائن بسهولة. الثانية، الذكاء المديني الفطري، الذي يلم بتفاصيل لا تخطر على بال الزائر، وهو ما يمكن تعريفه حسب ما هو دارج من مفاهيم بذكاء التاجر الشامي، الذي يجتهد دائماً لكسب رضا الزبون وتحقيق الربح المناسب. الثالثة، التضامن بين أبناء المهن، وتوريثها من جيل إلى آخر. وهذا يوفر أمرين، عدم خروجها من الدائرة، والثاني أنه يتوجب على كل جيل أن يضع لمسته الخاصة، بما يحافظ على الأصول، ويتماشى مع التطورات. أسواق التحديثات الحية أسواق دمشق تتنفس من جديد... "التجار الشوام" يعودون للحياة