logo
عودة الروح في زمن الافتراس

عودة الروح في زمن الافتراس

العرب اليوم٠٦-٠٤-٢٠٢٥

في الوقت الذي يتواصل انشغال البال العربي عموماً من الأحوال اللبنانية وجارتها الأحوال السورية ويتواصل السعي من أهل القرار العربي لتسكين الصراعات بأمل أن يستقر لبنان فلا تعود إسرائيل تنغصّ عيش أبنائه، وهي دأبت على ذلك طوال الشهر الفضيل الذي مضى غير عابئة حكومتها بأصول احترام المناسبات الروحية، فترسل الطائرات تحوم في سماء بعض المناطق اللبنانية، ثم تقصف صواريخ كي لا يقال عنها إنها لم تؤد واجب التعرض للصائمين قبل ساعة الإفطار وللمصلين طالبي رحمة رب العالمين وللأطفال النائمين علَّها تلحقهم بأطفال غزة، وتلاحق سيارات أناس في طريقهم إلى منازلهم لتحضير وجبة الإفطار مرفقة بالحمد والشكر لرب العالمين، وتقصف بيوتاً بمَن فيها وعلى النحو المتواصل قصفاً وتدميراً لمنازل في مناطق من غزة.
وفي الوقت الذي ينشط أولو أمر الحكم الجديد في سوريا عربياً وأوروبياً ويصغون بكثير من الاهتمام لما تبديه الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية من بوادر مطمئنة وكفيلة بأن يأخذ السعي لتحقيق استقرار ثابت، وتتكاثر الزيارات والمحادثات عربياً ودولياً ومضمونها عموماً أن تستقر سوريا التي يكفيها ما سبق وعانته وتبدأ جني مواردها النفطية والزراعية التي استأثرت بها «منظمات ثورية جهادية»...
في الوقتيْن المشار إليهما تصدر إشارات مشجعة، من بينها تلك الإشارة اللبنانية التي تفيد بأنَّ لبنان الذي يتباهى بأنَّ الكتاب تأليفاً ونشراً، فيه سمة من سمات رونقه الحضاري الذي يتآكل منذ بضع سنوات، نتيجة الجنوح نحو التحزب والسلاح والولاءات الخارجية؛ الأمر الذي ينعكس تراجعاً ملحوظاً في ظاهرة التأليف والنشر، والذي كان «معرض بيروت الدولي للكتاب» بمثابة المؤشر إلى أهمية هذه الظاهرة التي يتميز بها لبنان. وتحضرنا تذكيراً حول أهمية كيف أنَّ الراحل الدكتور طه حسين خاض حواراً في العمق لدى زيارة قام بها إلى لبنان، مع نظير له في الشأن الفكري الكاتب رئيف الخوري، وذلك بترتيب من جانب مجلة «الآداب» التي أنشأها الدكتور سهيل إدريس، وكانت منبراً ثقافياً مضيئاً ولم تكن ظاهرة «معرض بيروت الدولي للكتاب» بدأت. وعلى هامش ذلك الحوار كانت للدكتور طه حسين تحية للوطن الذي كان منارة في عام 1955 تمثلت بعبارة: «إن شوقي إلى تحية لبنان وما أسداه إليَّ من الخير، ألقى في روعي أن أجيب الأستاذ سهيل إدريس بأني موافق على كل ما يريد ما دامت النتيجة أن أزور لبنان...»، وزاد التحية لاحقاً في مقابلة معه في «الأهرام» أضاء فيها وبإعجاب على الدور الثقافي والصحافي للبنان في مصر وبالذات إنشاء شقيقيْن من عائلة تقلا صحيفة «الأهرام» المتواصلة الصدور يومياً وورقياً بعد مرور قرن على إنشائها. ثم نرى خسوفاً متدرجاً لهذه الظاهرة بفعل تحوُّل لبنان وطناً مستباحاً بنسبة ملحوظة. والآن، وفي حين لبنان الوطن يواصل بالتدرج استرداد عافيته وخصوصيته وطائفه (أي مؤتمر الطائف) الذي كان السراج الذي يعينه على سلامة التعايش والحفاظ على الخصوصية، والنأي عن الصراعات والولاءات الخارجية، يأتي النبأ السار بأن «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» ستُستأنف دوراته التي أوجبت الظروف الأمنية عدم عقدها في عام 2024، ويقيم الدورة السادسة والستين من 15 إلى 25 مايو (أيار) 2025.
وطوال الست والستين سنة أمدَّ لبنان عالمه العربي بالكم النوعي من المؤلفات، لكن في الوقت نفسه كان لظاهرة «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» واستمراريته على مدى ست وستين سنة دور تحفيزي يتمثل في أن بعض الدول العربية استحدثت معارض سنوية للكتاب، حتى أن «معرض الرياض» و«معرض جدة» و«معرض أبوظبي» و«معرض القاهرة» و«معرض بغداد» و«معرض الكويت» بات على سبيل المثال كل منها يشكِّل ظاهرة ثقافية وفكرية... هذا إلى جانب جوائز استحدثها البعض.
لكن، هذه المعارض عموماً تحتاج إلى تطوير، وهذا يتم بالتعاون والتنسيق وبالإكثار من الندوات التي تناقش مستقبل الأمة والحرص على الكتاب الورقي من الغلاف إلى الغلاف؛ وذلك لأن ظاهرة الاستعاضة عن القراءة المألوفة للكتاب بقراءة من خلال أجهزة الهواتف اليدوية المتطورة لا تحقق المبتغى من القراءة، فضلاً عن أن فيها من إضاعة الوقت وإضعاف النظر ما يغني وجوباً عن القراءة... وتلك في أي حال وجهة نظر قابلة للنقاش.
ما يأمله المرء هو ألا يصيب بيروت ما سبق وأصابها من إسرائيل نتنياهو، خصوصاً أن الشهية الإسرائيلية مفتوحة (على نحو التشبيه الشعبي) على افتراس ما يمكن افتراسه وتدمير ما من السهل تدميره، وأن يتوقف الافتراس في غزة رحمةً بالأطفال الذين ينتهون مبتورين... هذا في حال كُتبت لهم النجاة. والأمل المنشود يشمل سوريا التي تجدد نفسها وتحاول إدارتها الجديدة لأمور البلاد والعباد إصلاح ما حفلت به سنوات خلت من المآسي. وهذا مرهون بأن يتوقف الافتراس البنياميني في سوريا كما حاله في غزة ولبنان. والأمل معقود على صحوة أميركية - أوروبية ترى إداراتها وحكوماتها الراهنة بالذات أنَّ العرب عموماً كانوا من خيرة الراغبين في تمتين أواصر العلاقة مع الولايات المتحدة ودول أوروبا. ثم ها هم يرون أنَّ رغبة التمتين تأتي من جهة واحدة بأمل أن ينتهي الافتراس ويصحو العالم على فجر جديد.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

لماذا فاز البلشى فى نقابة الصحفيين؟
لماذا فاز البلشى فى نقابة الصحفيين؟

العرب اليوم

time٠٥-٠٥-٢٠٢٥

  • العرب اليوم

لماذا فاز البلشى فى نقابة الصحفيين؟

لماذا فاز خالد البلشى بمنصب نقيب الصحفيين المصريين متفوقًا بفارق ٧٨٤ صوتًا على منافسه الرئيسى عبدالمحسن سلامة؟ لو سألت هذا السؤال لعدد كبير من الصحفيين الذين تابعوا انتخابات نقابة الصحفيين يوم الجمعة الماضى، فسوف تتلقى إجابات متباينة بحسب قائلها وموفقه، وبالتالى يصعب الوصول لإجابات دقيقة. يقول البعض إن غالبية أعضاء الجمعية العمومية اختاروا خالد البلشى، لأنه معارض، ضد سلامة القريب من الحكومة والدولة. وظنى أن هذا سبب غير دقيق، فالجميع أبناء الدولة التى تضم المؤيد والمعارض وما بينهما. وثانيًا: إذا كان هذا السبب صحيحًا فلماذا اختار الناخبون أربعة من الزملاء القريبين تمامًا من موقف عبدالمحسن سلامة السياسى فى مجلس النقابة وهو ما أعاد التوازن إلى المجلس مرة أخرى؟! يقول البعض الآخر، إن أحد أسباب عدم توفيق عبدالمحسن سلامة. هو المشاكل الضخمة التى تعانى منها الصحف القومية، وأهمها توقف التعيينات منذ عام ٢٠١٣، وهذا تفسير غير كافٍ أيضًا، لأن هناك ثلاثة من الناجحين من أعضاء مجلس النقابة ينتمون للمؤسسات القومية، وهم: محمد شبانة وحسين الزناتى من «الأهرام» وأيمن عبدالمجيد من «روزاليوسف». يقول البعض الثالث: إن عدم توفيق سلامة يعود إلى أنه ركز فى خطابه الانتخابى على تقديم الخدمات من شقق وأراضٍ وبدل نقدى فقط فى حين أن البلشى ركز على خطاب الحريات والمهنة، ورغم أن هذا كلام يبدو معقولًا، لكن كيف يمكن أن نفسر نجاح عبدالمحسن سلامة قبل ذلك فى منصب النقيب بنفس مضمون البرنامج الانتخابى الخدمى فى الأساس؟ وكيف يمكن أن نفسر نجاح العديد من النقباء السابقين، وكانوا قريبين من الحكومة وجوهر برنامجهم خدمى من الأساس مع استثناءات قليلة؟! يقول البعض الرابع إن المؤسسات القومية لم تساند سلامة بصورة قوية، وهذا أمر لا يمكن تأكيده، أو نفيه لحين توافر بيانات توضح كيفية تصويت كل مؤسسة قومية على حدة للبلشى أو سلامة. هذه هى الأسباب الأربعة التى سمعتها وقرأتها لزملاء مختلفين عن تحليلهم لنتيجة الانتخابات، وفى ظنى أنها ربما تتضمن بعض الأسباب وليس كلها. وفى تقديرى أن هناك عوامل أخرى مهمة لا يمكن إغفالها لتفسير نتيجة يوم الجمعة الماضى. السبب الأول أن خالد البلشى نقيب حالى، وفرص فوز أى نقيب حالى كبيرة فى غالبية انتخابات النقابة خصوصًا أن فترة العامين الأولى للبلشى لم تتضمن مشاكل ضخمة، وكانت علاقته بمختلف مؤسسات الدولة طيبة إلى حد كبير. السبب الثانى: ونتيجة للسبب الأول فإن البلشى دخل السباق متفوقًا بنقاط كثيرة، ويحسب لعبدالمحسن سلامة أنه ظل يضيق الفارق الكبير بجهد خرافى، حتى تمكن من تحقيق نحو ٤٥٪ من الأصوات، وهو جهد كبير بالنظر إلى ظروف المعركة الانتخابية. وبالنظر أيضًا إلى عامل مهم جدًا وهو عدم خروج أى مسئول حكومى ليعلن رسميًا أنه يؤيد هذا المرشح أو ذاك، أو أنه سيعطية «مكافأة البدل» التى يعتبرها كثيرون عاملًا حاسمًا فى مرات كثيرة، وهو أمر يحسب للحكومة بعدم انحيازها بصورة سافرة. السبب الثالث: إن هناك تغيرًا حاسمًا فى تركيبة الأصوات، فلم تعد الصحف والمؤسسات القومية تمثل أكثرية الأصوات، كما كان الأمر سابقًا، وصارت المؤسسات غير القومية تمثل الأغلبية، بسبب كثرتها، ولتوقف التعيينات داخل المؤسسات القومية منذ عام ٢٠١٣ تقريبًا. السبب الرابع: إنه ثبت يقينًا عدم قدرة رؤساء التحرير ورؤساء مجالس الإدارة على حشد المحررين خلف مرشح معين، فقد تمتلئ قاعات الصحف بالمحررين خلف مرشح بعينه، وقد يأتون فى أفواج يوم التصويت، لكن فى لحظة التصويت يكون الأمر لرغبة وضمير ومزاج وتفضيلات كل صحفى على حدة. وأظن أن تجربة الانتخابات الأخيرة وما قبلها تجعل الجميع يتوقف عن التعامل بهذه الطريقة التى صارت مستهجنة. السبب الخامس: إن هناك تغيرًا مهمًا فى مزاج وقيم وسلوك الأجيال الجديدة من الصحفيين، وينبغى على أى مرشح أن يفهم هذه الأمور ويتعامل معها بصورة صحيحة. هو قد يهتم بالبدل والخدمات، لكنه يهتم أيضًا بطريقة التعامل معه، حتى لو كان فى صحف قومية، وأظن أن التصويت على أساس الانتماء للمؤسسة يشهد تراجعًا ملحوظًا فى كل انتخابات، وهذا تطور مهم ينبغى دراسته. السبب السادس: هو دخول وسائل التواصل الاجتماعى كعنصر حاسم فى العملية الانتخابية على حساب الوسائل التقليدية، فصورة أو فيديو أو حكاية أو منشور يمكن أن يغير بعض الاتجاهات.

عودة الروح في زمن الافتراس
عودة الروح في زمن الافتراس

العرب اليوم

time٠٦-٠٤-٢٠٢٥

  • العرب اليوم

عودة الروح في زمن الافتراس

في الوقت الذي يتواصل انشغال البال العربي عموماً من الأحوال اللبنانية وجارتها الأحوال السورية ويتواصل السعي من أهل القرار العربي لتسكين الصراعات بأمل أن يستقر لبنان فلا تعود إسرائيل تنغصّ عيش أبنائه، وهي دأبت على ذلك طوال الشهر الفضيل الذي مضى غير عابئة حكومتها بأصول احترام المناسبات الروحية، فترسل الطائرات تحوم في سماء بعض المناطق اللبنانية، ثم تقصف صواريخ كي لا يقال عنها إنها لم تؤد واجب التعرض للصائمين قبل ساعة الإفطار وللمصلين طالبي رحمة رب العالمين وللأطفال النائمين علَّها تلحقهم بأطفال غزة، وتلاحق سيارات أناس في طريقهم إلى منازلهم لتحضير وجبة الإفطار مرفقة بالحمد والشكر لرب العالمين، وتقصف بيوتاً بمَن فيها وعلى النحو المتواصل قصفاً وتدميراً لمنازل في مناطق من غزة. وفي الوقت الذي ينشط أولو أمر الحكم الجديد في سوريا عربياً وأوروبياً ويصغون بكثير من الاهتمام لما تبديه الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية من بوادر مطمئنة وكفيلة بأن يأخذ السعي لتحقيق استقرار ثابت، وتتكاثر الزيارات والمحادثات عربياً ودولياً ومضمونها عموماً أن تستقر سوريا التي يكفيها ما سبق وعانته وتبدأ جني مواردها النفطية والزراعية التي استأثرت بها «منظمات ثورية جهادية»... في الوقتيْن المشار إليهما تصدر إشارات مشجعة، من بينها تلك الإشارة اللبنانية التي تفيد بأنَّ لبنان الذي يتباهى بأنَّ الكتاب تأليفاً ونشراً، فيه سمة من سمات رونقه الحضاري الذي يتآكل منذ بضع سنوات، نتيجة الجنوح نحو التحزب والسلاح والولاءات الخارجية؛ الأمر الذي ينعكس تراجعاً ملحوظاً في ظاهرة التأليف والنشر، والذي كان «معرض بيروت الدولي للكتاب» بمثابة المؤشر إلى أهمية هذه الظاهرة التي يتميز بها لبنان. وتحضرنا تذكيراً حول أهمية كيف أنَّ الراحل الدكتور طه حسين خاض حواراً في العمق لدى زيارة قام بها إلى لبنان، مع نظير له في الشأن الفكري الكاتب رئيف الخوري، وذلك بترتيب من جانب مجلة «الآداب» التي أنشأها الدكتور سهيل إدريس، وكانت منبراً ثقافياً مضيئاً ولم تكن ظاهرة «معرض بيروت الدولي للكتاب» بدأت. وعلى هامش ذلك الحوار كانت للدكتور طه حسين تحية للوطن الذي كان منارة في عام 1955 تمثلت بعبارة: «إن شوقي إلى تحية لبنان وما أسداه إليَّ من الخير، ألقى في روعي أن أجيب الأستاذ سهيل إدريس بأني موافق على كل ما يريد ما دامت النتيجة أن أزور لبنان...»، وزاد التحية لاحقاً في مقابلة معه في «الأهرام» أضاء فيها وبإعجاب على الدور الثقافي والصحافي للبنان في مصر وبالذات إنشاء شقيقيْن من عائلة تقلا صحيفة «الأهرام» المتواصلة الصدور يومياً وورقياً بعد مرور قرن على إنشائها. ثم نرى خسوفاً متدرجاً لهذه الظاهرة بفعل تحوُّل لبنان وطناً مستباحاً بنسبة ملحوظة. والآن، وفي حين لبنان الوطن يواصل بالتدرج استرداد عافيته وخصوصيته وطائفه (أي مؤتمر الطائف) الذي كان السراج الذي يعينه على سلامة التعايش والحفاظ على الخصوصية، والنأي عن الصراعات والولاءات الخارجية، يأتي النبأ السار بأن «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» ستُستأنف دوراته التي أوجبت الظروف الأمنية عدم عقدها في عام 2024، ويقيم الدورة السادسة والستين من 15 إلى 25 مايو (أيار) 2025. وطوال الست والستين سنة أمدَّ لبنان عالمه العربي بالكم النوعي من المؤلفات، لكن في الوقت نفسه كان لظاهرة «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» واستمراريته على مدى ست وستين سنة دور تحفيزي يتمثل في أن بعض الدول العربية استحدثت معارض سنوية للكتاب، حتى أن «معرض الرياض» و«معرض جدة» و«معرض أبوظبي» و«معرض القاهرة» و«معرض بغداد» و«معرض الكويت» بات على سبيل المثال كل منها يشكِّل ظاهرة ثقافية وفكرية... هذا إلى جانب جوائز استحدثها البعض. لكن، هذه المعارض عموماً تحتاج إلى تطوير، وهذا يتم بالتعاون والتنسيق وبالإكثار من الندوات التي تناقش مستقبل الأمة والحرص على الكتاب الورقي من الغلاف إلى الغلاف؛ وذلك لأن ظاهرة الاستعاضة عن القراءة المألوفة للكتاب بقراءة من خلال أجهزة الهواتف اليدوية المتطورة لا تحقق المبتغى من القراءة، فضلاً عن أن فيها من إضاعة الوقت وإضعاف النظر ما يغني وجوباً عن القراءة... وتلك في أي حال وجهة نظر قابلة للنقاش. ما يأمله المرء هو ألا يصيب بيروت ما سبق وأصابها من إسرائيل نتنياهو، خصوصاً أن الشهية الإسرائيلية مفتوحة (على نحو التشبيه الشعبي) على افتراس ما يمكن افتراسه وتدمير ما من السهل تدميره، وأن يتوقف الافتراس في غزة رحمةً بالأطفال الذين ينتهون مبتورين... هذا في حال كُتبت لهم النجاة. والأمل المنشود يشمل سوريا التي تجدد نفسها وتحاول إدارتها الجديدة لأمور البلاد والعباد إصلاح ما حفلت به سنوات خلت من المآسي. وهذا مرهون بأن يتوقف الافتراس البنياميني في سوريا كما حاله في غزة ولبنان. والأمل معقود على صحوة أميركية - أوروبية ترى إداراتها وحكوماتها الراهنة بالذات أنَّ العرب عموماً كانوا من خيرة الراغبين في تمتين أواصر العلاقة مع الولايات المتحدة ودول أوروبا. ثم ها هم يرون أنَّ رغبة التمتين تأتي من جهة واحدة بأمل أن ينتهي الافتراس ويصحو العالم على فجر جديد.

عبير الكتب: الفتنة وهشام جعيط
عبير الكتب: الفتنة وهشام جعيط

العرب اليوم

time١٤-٠٣-٢٠٢٥

  • العرب اليوم

عبير الكتب: الفتنة وهشام جعيط

تحدثنا عن مسألة «الفتنة الكبرى» بالأمس، أي الحرب الأهلية التي اندلعت في العقود الأولى من التاريخ الإسلامي في المدينة ثم في العراق والشام ومصر، وهي الحقبة التي اصطلح المؤرخون المسلمون والفقهاء أيضاً على نعتها بالفتنة. وأشرنا إلى كتاب الدكتور طه حسين بجزأيه عن هذه الحقبة، وأضيف، اليوم، القول إن من المؤخذات على كتاب طه حسين النغمة الأدبية أكثر من العلمية فيه، رغم ما فيه من علم ونقد وجرأة «مبكرة». اليوم، نذهب لمدى أرحب ونقد أوثق صلة بالنهج العلمي المتعدد التراكيب بين تراثي وحديث، عن مسألة الفتنة الكبرى. كتاب «الفتنة-جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكّر» للمؤرخ والمفكر التونسي الراحل هشام جعيّط، صدرت طبعته العربية عن دار الطليعة ببيروت 1991، وكانت نسخته الأصلية، بالفرنسية، صدرت عام 1989. هذا كتاب من أعمدة مؤلفات هذا العالِم التونسي الكبير، إضافة لكتابه عن الكوفة وسلسلته عن الوحي والنبوة. لكن هذا الكتاب كان أثيراً لديه، قال عنه: «من بين جميع كتبي، يظلّ (الفتنة) الأكثر مقروئية؛ ربما لأن المسلمين يحسون أنهم في حالة فتنة دائمة». ينتمي هشام جعيط، المولود بتونس العاصمة في السادس من شهر ديسمبر (كانون الأول) 1936، إلى عائلة من البورجوازية المحافظة. وكان والده من كبار شيوخ جامع الزيتونة، وفيه درّس الفقه وعلوم اللغة. وقد اختار الشيخ الوالد أن يدخل ابنه وهو في الخامسة من عمره إلى المدرسة العصرية المتمثلة في «المدرسة الصادقية»، راغباً في أن يتعلم اللغة الفرنسية، مثلما كانت حال أبناء البورجوازية في تلك الفترة. كما كتب عنه حسونة المصباحي. تأتي أهمية كتاب «الفتنة»، كما لاحظ أحد الباحثين، من خلال التشديد على الجدلية التي يجعل منها جعيّط عنواناً فرعياً لكتابه: الدين والسياسة وتداخلهما منذ نشأة الإسلام، التجاذبات بينهما منذ لحظة النبوة، مروراً بفتح مكة، وقيام نواة الإمبراطورية واصطفاف العرب، حضراً وبدواً، وراء مشروع الأمة الموحدة، وصولاً إلى حقبة التفكك والهدم التي يتناولها الكتاب بالسرد والتحليل: الفتنة. يرى جعيط أن لحظة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر، كانت هي اللحظة التأسيسية الخاصة، فـ«الثلاثة كلهم كانوا قد أسسوا التاريخية الجديدة، وبالتالي كانوا يرتفعون فوق الحالة البشرية العادية... مع عثمان ـ وبينما كان كل شيء قد شُيّد ـ دخل الإنسان العادي في اللعبة. إنها نهاية الحالة الاستثنائية المتعالية فوق القيم العادية لقرابة، وللمصالح، ولرغبة السلطة»، كما جاء في كتاب «الفتنة» لجعيط. كان مفكرنا التونسي دقيقاً وجديداً في كشط طبقات التاريخ عن جوهر أو جواهر محركات الفتنة، بعيداً عن القراءات الدينية والعقائدية، شيعية كانت أم سُنية، معيداً قراءة النصوص التاريخية وفق منهج جديد، وعدم الإحجام عن الولوج إلى مغارات الفتنة المظلمة وتوجيه المصابيح النقدية التحليلية في جوفها. منهج جعيط، كما قال هو في المدخل: القراءة السياسية الخالصة للتاريخ، بعيداً عن القراءة الدينية. لقد كانت مهمة كبرى في حياة المفكر التاريخيّ الكبير هشام جعيط، قال عنها هو نصاً: «إن إحياء جانب من التاريخ الإسلامي في حقيقته وكثافته إنما هو جزء من مسيرتي الوجودية الطويلة». هكذا يكون إحياء التاريخ وبعثه من مرقده على النحو الصحيح، ولك أن توافق أو تختلف، لكن بنفس روحية وشروط المؤلف المنهجية، وليس انقياداً للأهواء الطائفية أو القراءة الإسقاطية التوظيفية الحديثة، كما يصنع بعض العروبيين أو اليساريين في عسف حركة التاريخ عسفاً.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store