
د. ثروت إمبابي يكتب: الإدارة المستدامة للموارد المائية في مصر
ومن هذا المنطلق، فإن تحقيق إدارة رشيدة ومستدامة للمياه لم يعد ترفًا، بل ضرورة ملحّة تفرضها طبيعة المرحلة، ويجب أن تُبنى على أسس علمية وتشاركية تضمن الحق في المياه للأجيال الحالية والمقبلة.
ورغم أن مصر حققت تقدمًا في بعض مسارات إدارة الموارد المائية، إلا أن حجم التحديات ما زال كبيرًا، ويتطلب نظرة شاملة تدمج بين الحلول التقنية والإصلاحات المؤسسية والوعي المجتمعي. فالواقع المائي يواجه ضغطًا مزدوجًا؛ من جهةٍ تتعرض البلاد لتغيرات مناخية أفضت إلى ارتفاع معدلات التبخر وتراجع كميات المياه المتجددة، ومن جهة أخرى، ما زالت بعض القطاعات، وعلى رأسها الزراعة، تعتمد على أساليب ري تقليدية تهدر كميات ضخمة من المياه دون تحقيق مردود إنتاجي يتناسب مع هذا الهدر. وهنا يبرز التساؤل: كيف يمكن لمصر أن تعبر هذه المرحلة الحرجة بنجاح وتبني نموذجًا فعالًا للإدارة المستدامة للمياه؟
الإجابة تتطلب أولًا تغييرًا في نمط التفكير، والانتقال من فكرة 'التعامل مع المياه باعتبارها متوفرة' إلى 'إدارتها كسلعة نادرة يجب تعظيم الاستفادة منها'. من هذا المنطلق، تمثل مشروعات تحديث نظم الري الزراعي نقطة انطلاق ضرورية، إذ إن التحول من الري بالغمر إلى نظم أكثر كفاءة، كالري بالتنقيط أو الرش، يساهم في ترشيد الاستهلاك بنسبة كبيرة. وبالتوازي مع ذلك، فإن التوسع في زراعة الأصناف قصيرة الدورة وعالية التحمل للجفاف يعزز من كفاءة استخدام المياه دون التأثير سلبًا على الأمن الغذائي.
ولأن الإدارة الفعالة لا تقتصر على تقليل الاستهلاك فقط، فقد بات من المهم أيضًا تعظيم الموارد المائية غير التقليدية. ومن أبرز هذه الموارد: مياه الصرف الزراعي والصحي المعالجة، والتي يمكن استخدامها في ري الغابات الشجرية أو زراعة المحاصيل غير الغذائية بعد المعالجة الثلاثية. وقد قطعت مصر شوطًا ملحوظًا في هذا المجال، لا سيما من خلال إنشاء محطات عملاقة، مثل محطة معالجة مياه 'بحر البقر'، والتي تعد نموذجًا يحتذى به في الاستفادة من المياه المعالجة في أغراض تنموية.
وإذا كانت المياه المعالجة تمثل موردًا بديلًا، فإن تحلية مياه البحر تمثل خيارًا استراتيجيًا لا بد من التوسع فيه، خاصة في المناطق الساحلية. وقد اتجهت الدولة إلى إنشاء عدة محطات لتحلية المياه على سواحل البحرين الأحمر والمتوسط، وهو توجه صائب يقلل من الضغط على المياه النيلية ويوفر مصدرًا مستدامًا للمياه الصالحة للشرب.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل ما يمكن تحقيقه من تعاون مشترك مع دول المنبع لتقليل الفاقد المائي في المناطق العليا من حوض النيل، خصوصًا في مناطق المستنقعات. فهناك كميات ضخمة من المياه تضيع سنويًا بسبب التبخر والتسرب في مناطق مثل مستنقعات السدود بجنوب السودان. ويمكن من خلال مشروعات هندسية مشتركة، كتوسيع وتعميق المجاري المائية، وشق قنوات ملاحية صناعية مثل مشروع 'قناة جونقلي' (الذي توقف منذ عقود)، تقليل هذا الفاقد واستعادة كميات معتبرة من المياه كانت تذهب هدرًا. كما أن إقامة محطات تجميع وخزانات مطرية على روافد النيل الأبيض في أوغندا والكونغو يمكن أن يحقق فائدتين معًا: تحسين تصريف المياه، وتقليل التبخر، بما يعود بالنفع على دول الحوض كافة. غير أن هذه المشاريع لا يمكن تنفيذها إلا في إطار من الثقة والتعاون الإقليمي طويل المدى، الذي يراعي مصالح جميع الأطراف ويقوم على مبدأ 'المنفعة المشتركة وعدم الضرر'.
لكن، ومع أهمية الجهود الحكومية، فإن الإدارة المستدامة للموارد المائية لن تؤتي ثمارها دون مشاركة مجتمعية حقيقية. إذ إن ترسيخ ثقافة الترشيد يبدأ من الفرد، ويتجذر في الأسرة، ويتعزز عبر التعليم والإعلام. فحين يدرك المواطن أن كل قطرة ماء لها ثمن، وأن الإسراف في استخدامها ليس فقط إهدارًا للثروة، بل إضرارٌ بالمستقبل، يصبح جزءًا من الحل بدلًا من أن يكون سببًا في تفاقم الأزمة. ولهذا، فإن حملات التوعية، وربط استهلاك المياه بالفاتورة العادلة، وتمكين المجتمعات المحلية من المشاركة في مبادرات الحفاظ على المياه، كلها أدوات فعالة لإحداث التغيير المطلوب.
ومن أجل إحكام المنظومة، لا بد من وجود إطار تشريعي صارم ومنضبط ينظم استخدام المياه، ويحد من التعديات، ويحاسب على المخالفات. ويأتي صدور قانون الموارد المائية والري الجديد كمؤشر على وجود إرادة سياسية تسعى لتقنين إدارة المياه وتعزيز الكفاءة في توزيعها واستخدامها، ما يخلق بيئة قانونية تدعم جهود الاستدامة وتحفّز الالتزام المجتمعي.
وبينما نمضي نحو المستقبل، لا يمكن إغفال الدور المحوري الذي تلعبه التكنولوجيا الحديثة في دعم إدارة الموارد المائية. فقد أصبح الاعتماد على نظم المعلومات الجغرافية، وأجهزة الاستشعار، والتطبيقات الرقمية، جزءًا لا يتجزأ من آليات التخطيط والرصد والتقييم. بل إن توظيف الذكاء الاصطناعي بات يتيح فرصًا جديدة للتنبؤ بأوقات الشح المائي، وتحسين توزيع الموارد، ومتابعة الاستخدام الفعلي بدقة متناهية.
في نهاية المطاف، فإن نجاح مصر في تحقيق الإدارة المستدامة للموارد المائية مرهون بمدى قدرتها على الدمج بين المعرفة العلمية، والإرادة السياسية، ووعي المواطن. فالمياه، كما يقول المثل الشعبي، 'زي الذهب إن ما حافظتش عليه هيروح منك'، ومن ثم فإن كل قطرة يجب أن تُدار بعقل، وتُستهلك بحكمة، وتُحاط بمنظومة حماية تضمن استمرارها كمصدر للحياة والنماء.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


روسيا اليوم
منذ 8 دقائق
- روسيا اليوم
حاكم مصرف سوريا المركزي يلغي كافة القيود المفروضة على نقل الأموال بين المحافظات
وأوضح القرار أنه يمكن الآن نقل الأموال داخل الدولة بحرية، دون الحاجة إلى تقديم طلب أو الحصول على موافقة مسبقة. كما شمل القرار الجديد إلغاء القرار السابق الذي كان يُلزم المواطنين والشركات بتقديم طلبات مسبقة لنقل الأموال. ويأتي هذا القرار في إطار دعم الحركة الاقتصادية وتسهيل المعاملات التجارية والمصرفية، مع التأكيد على استمرار الجهات الرقابية في متابعة أي أنشطة مشبوهة أو غير قانونية. ويهيب المركزي بالجميع الالتزام بالشفافية في التعاملات المالية، واستخدام القنوات الرسمية والآمنة. المصدر: RT أقرت لجنة الخدمات المالية في مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون يقضي بتعديل "قانون قيصر" بدلا من إلغائه، وصوت لصالحه31 نائبا مقابل 23. صرح محافظ مصرف سوريا المركزي عبد القادر حصرية بأن سوريا نفذت هذا الأسبوع أول تحويل مصرفي دولي عبر نظام "سويفت" للمدفوعات الدولية منذ اندلاع الحرب قبل 14 عاما في البلاد. أصدر مصرف سوريا المركزي قررا ألغى بموجبه تراخيص شركتي الفاضل والمتحدة لممارسة أعمال الصرافة دون الإشارة للأسباب.


روسيا اليوم
منذ 8 دقائق
- روسيا اليوم
"حكومة آكلي الموت".. مصافحة تقود قائد سلاح الجو الإسرائيلي للتحقيق (صور + فيديو)
وأفاد نائب الوزير عضو الكنيست ألموغ كوهين، بأنه لا أصدق أن قائد سلاح الجو يوافق على فحوى لافتة تحرض ضد حكومة يعمل جنوده تحت إمرتها. وأضاف كوهين: "لقد تقدمت الآن بطلب إلى وزير الدفاع لاستدعاء قائد سلاح الجو تومر بار، للتحقيق معه بعد الفيديو الذي نشر صباح اليوم في مظاهرة أمام منزله والذي يظهر فيه وهو يصافح محرضة كان تحمل لافتة كتب عليها "حكومة آكلي الموت". وأشار نائب الوزير "أجد صعوبة في تصديق أن قائد سلاح الجو يوافق على ما كتب هناك، بينما يعمل جنوده وقادته للدفاع عن البلاد نيابة عن تلك الحكومة". وذكر أنه "يعتقد أنه من المناسب أن أذكر أن قادة وجنود الجيش الإسرائيلي يجب أن يحافظوا على الحياد السياسي باسم الديمقراطية ومن أجل الحفاظ على الدولة التي أقمناها بفضل شهداء وأبطال الحرب". كما أثار هذا الأمر غضب المعلق السياسي أميت سيغال في "قناة 12" العبرية، حيث تساءل: "هل كان قائد القوات الجوية مجنونا ليصافح متظاهرة أمام منزله تحمل لافتة تصف الحكومة بـ"آكلي الموت؟". وتم تصوير قائد القوات الجوية اللواء تومر بار يوم الثلاثاء وهو يصافح أمهات أسرى أمام منزله. وذكرت وسائل إعلام عبرية أن المتظاهرة كانت تحمل لافتة كتب عليها "حكومة آكلي الموت.. اختارت القتل". وقال الإعلام العربي إن بار توجه لمصافحة الأمهات وتشجيعهن، وطالبت الأمهات بار بالخروج إلى العلن والمطالبة بإنهاء القتال. إلى ذلك، نفذ عدد من منتسبي سلاح الجو الإسرائيلي من الاحتياط وقفة احتجاجية أمام مقر وزارة الدفاع للمطالبة بإبرام صفقة تبادل. وصلرح قائد سلاح الجو الإسرائيلي السابق بأنه كان بالإمكان إنهاء هذه الحرب في غزة وإعادة الرهائن منذ سنة. المصدر: RT + إعلام عبري


روسيا اليوم
منذ 8 دقائق
- روسيا اليوم
قطاع غزة.. الدم مقابل الغذاء
قطاع غزة.. الدم مقابل الغذاء تتفاقم الأزمة الإنسانية في غزة في ظل تواصل المجاعة ودخولها مراحل متقدمة، مع عجز الموطنين عن الوصول إلى الطعام، الأمر الذي يدفعهم للتوجه نحو مراكز المساعدات وحاجز زكيم شمال قطاع غزة