
الطعن على الوجود
يعثر جميع الكتّاب والمفكرين والمحللين على حلول يقترحونها في ختام تحاليلهم، لعل وعسى، أما الكتابة عن لبنان، فعندما تنتهي من قراءة أي مقال سوف تقف متسائلاً: أي الطرق أفضل للهرب. وأي نوع من الأدوية يجب ألا تنسى؟ وأي عكاز أكثر عملياً من سواه؟
كل ما يتعلق بلبنان وجودي. كل شيء آخر له حل منظور: باب المندب، والصومال، ووحدة سوريا، وحكومة ليبيا، والنزاع الأميركي الإيراني، والمسألة الصينية التايوانية، وكل موضوع مدرج على جداول الأمم المتحدة منذ تأسيسها، إلا لبنان. تشكيل الحكومة وجودي، وقد لا يؤدّي إلى الانهيار. وحصر السلاح تحت سلطة الدولة يؤدي إلى حرب أهلية، حتى لو لم نعرف بين مَن ومَن. المهم حرب أهلية ليس إلاّ.
ما هو سر هذا البلد؟ لماذا يعامله الجميع كأنه عبء عليهم؟ وكأنه سبب كل أخطاء العالم، وعند أصغر خلاف سياسي بين أفرقائه، يقفز فوراً الحل الأسهل: الوجود.
لا ندري كم مرة دُمرت غزة إلى الآن، ولا كم مرة سوف تُدمّر بعدُ. لكن المتعاطين في شؤونها وهجرانها ومجازرها، لا يخشون على «وجودها».
منذ قيام لبنان قبل مائة عام، والناس تعامل وجوده وكأنه علّة بلا سبب. فمنهم منقسمون به، ومنهم منقسمون عليه، ومنهم متبرئون منه.
عندما تقرأ صحف الصباح، تجد أن «وجود» لبنان، وموسم التفاح، في الأهمية نفسها. ليس دائماً، أحياناً يثير الموسم غيرة أشدّ، أو أصدق. وأحياناً تقرأ ما يقوله بعض الكتّاب، أو النواب، أو السياسيين، فتقول في نفسك: الجماعة على حق.
لماذا الوجود، إذا كان هذا هو الوجود؟ لجان بول سارتر، الكاتب الشهير، مؤلف «الوجود والعدم».
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
سمومُ موازينِ القوى
أولُ الحكمةِ القراءةُ الدَّقيقةُ في موازين القوى. لا بدَّ منهَا إذا تعلَّق الأمر بحرب أو ثورةٍ أو انقلاب. ميزانُ القوى حكم شبه مبرم يصعب شطبه من الحساب. تجاهله يقودُ غالباً إلى نتائج كارثية. لكن القوة التي تصنعُ الانتصارَ ليست قادرة بالضرورة على ضمان الاستقرار. قرأَ فلاديمير بوتين ميزانَ القوى. سيرتفع صراخُ الغربِ حين يستيقظ على رؤيةِ الدبابات الروسية تشطبُ ما يسمونه الحدودَ الدولية مع أوكرانيا. لكنَّ حلفَ «الناتو» لن يغامرَ بإرسال قوات للدفاع عن دولة ليست بين أعضائه. ستفرض أميركا عقوباتٍ وتطلق تهديداتٍ، لكنَّها لن ترسل قواتِها لأنَّ قراراً من هذا النوع يوقظ شبحَ الحرب العالمية الثالثة. كانت حساباتُه دقيقةً وها هوَ جيشه يلتهمُ مزيداً من الأراضي بعدما ضمن سيطرتَه على تلك التي ضمَّها إلى روسيا. لكنَّ التجاربَ تقول إنَّ القسرَ والقهر لا يمكن أن يشكلا قاعدةً لاستقرار طويل أو دائم. لأهلِ الشرق الأوسط حكاياتٌ طويلةٌ مع موازين القوى. في 1967 لم يتوقَّف جمال عبد الناصر طويلاً عند ميزان القوى ومعادلاته. أعلنَ إغلاق مضائق تيران وحشدَ الجيش. كانتِ النتيجة الحرب التي شنتها إسرائيل وأسفرت عن احتلالِ سيناء والضفةِ الغربية ومرتفعاتِ الجولان. ضاعفتِ الحرب الخللَ الفاضح في ميزان القوى. استنتج أنور السادات أنَّ مصرَ لا تستطيع التعايش مع احتلال سيناء. أعدَّ مع حافظ الأسد حرب 1973. ورغم إنجازات الجيش المصري، أعادت مجرياتُ الحرب تذكيرَه بالحقائق المؤلمة لميزان القوى. أدرك السادات أنَّ استعادة سيناء بالقوة متعذرة، فاختار التَّسليمَ بالتعامل مع وقائع ميزان القوى واستعادَ الأرض من بوابة كامب ديفيد. شنَّ حافظ الأسد حملة قاسية على السادات. لكنَّه سلّم في داخله بقسوة ميزان القوى الذي يمنعه من استعادة الجولان، فاختار التَّعويضَ المتاح وهو «استعادة» لبنان وإدارته والمرابطة فيه. حين أطلقت حركةُ «فتح» رصاصتَها الأولى في اليوم الأول من يناير (كانون الثاني) 1965، كان ياسر عرفات يحلم باستعادة كامل الأرض المحتلة بفوهة رشاشِه. معاركه الطويلة والمريرة شرحت له وبقسوة، حقيقةَ ميزان القوى الممتد من تل أبيب إلى واشنطن. لهذا رأينا ياسر عرفات يصافح إسحقَ رابين في حديقة الورود بالبيت الأبيض. لهذا رأيناه يقبل بحلم دولة على بعض الأرض رغم قسوة التنازل عن بعضها الآخر. في مقره الفرنسي، صارحَ الخميني مبعوث صدام حسين. قالَ له إنَّ إسقاط «نظام البعث الكافر» هو البند الثاني في برنامجه بعد إسقاط نظام الشاه. وكانَ حلم الخميني اقتلاع نظام صدام خصوصاً حين رجحت كفة إيران في الحرب مع العراق. لم يسمح ميزان القوى الدولي للخميني بتحقيق حلمه، فوافق على تجرّع سمّ القبول بوقف النار. في المقابل، لم يلتفت صدام إلى وقائع ميزان القوى حين غزت قواتُه الكويت. لم يلتفت أيضاً إلى ضرورة محاولة تفادي الغزو الأميركي للعراق، معتبراً الأمرَ «معركة كرامة الأمة»، كما قال لصحيفتنا وزيرُ الخارجية اليمني الأسبق أبو بكر القربي. لنتركِ الماضي إلى الحاضر. حين راح سلاحُ الجو الإسرائيلي يدمر أسلحة «جيش الأسد»، لم يكن أمام الرئيس أحمد الشرع غير التعاطي مع ميزان القوى. لقد تضاعف الخلل في ميزان القوى بعدما تمكَّنت إسرائيل من إخراج إيران من سوريا، ووجهت ضربةً موجعة إلى «حزب الله» اللبناني وقيادته. وحين اندلعتِ الأزمة الأخيرة في السويداء، لم يكن أمام الشرع أيضاً غير الالتفات إلى ما يمليه ميزان القوى. الرئيس جوزيف عون يختبر مع حكومته قسوةَ ميزان القوى وما طرأ عليه بعد «الطوفان». المسيّرات الإسرائيلية لا تكفُّ عن انتهاك أجواء لبنان وتنفيذ اغتيالات. ويعرف الرئيس أنَّ نزع سلاح «حزب الله» شرط أميركي ودولي لدخول لبنان مرحلة الحصول على المساعدات لإعادة الإعمار. هذا من دون أن ننسى سموم ميزان القوى وما تفرضه على السلطة الفلسطينية. في الفترة التي أعقبت هجوم «حماس» الشهير في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أصيبت إسرائيل بجنون الثأر والانتصار. ولا مجال لإنكار أنَّ آلتها الحربية، المدعومة أميركياً، تمكَّنت من تدمير غزة وفرض سيطرتها في أجواء خرائط عدة، كما تمكَّنت من تنفيذ توغلات في أراضي سوريا ولبنان. ميزان القوى الحالي واضح. لا قدرة للفلسطينيين على استعادة حقوقهم بالقوة؛ لا الآن ولا في مستقبل قريب. يمكن قول الشيء نفسه عن سوريا التي لا بدَّ أن تعطي الأولوية لبناء دولة مؤسسات تحفظ الوحدة والتعايش، وتفتح باب الاستقرار والازدهار. «حزب الله» اللبناني ليس قادراً على إطلاق حرب جديدة ضد إسرائيل، لا الآن ولا في مستقبل قريب. أمام خللٍ بهذا الحجم في ميزان القوى، لا يملك الفريق الأضعف خياراً غير اللجوء إلى الشرعية الدولية. مبادئ الشرعية الدولية تساعد في الاحتماء من الظلم الذي يفرضه ميزان القوى. ولا بد أيضاً من الذهاب إلى جوهر الموضوع، أي إلى معالجة الظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني، والذي كانَ أساس زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط. لا يمكن خفض سموم ميزان القوى إلا بالرجوع إلى مبادئ الشرعية الدولية التي تضمن قيام السلام العادل. من هنا أهمية معركة الدولتين التي تلعب فيها السعودية دوراً نشطاً ومؤثراً، كان من آخر نتائجه إعلان الرئيس الفرنسي أن بلاده ستعترف بالدولة الفلسطينية. سياسات البطش والقوة والإلغاء ستبقي الشرق الأوسط نائماً على براميل البارود، في حين تحتاج دوله إلى التقاط الأنفاس لمحاربة الفقر واستعادة النازحين وخوض معركة التنمية واللحاق بالعصر. الحلّ ليس الاستسلام لإملاءات ميزان القوى. الحلّ هو توظيف كل الأوراق لإنعاش دور الشرعية الدولية.


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
«ربع ساعة تشاؤم وربع ساعة تفاؤل»... لغز توم برّاك
تُذكرنا تصريحاتُ ومواقفُ المبعوث الرئاسي الأميركي توم برّاك بمقولة الصحافي اللبناني الراحل ميشال أبوجودة، عندما كان يحتدمُ النقاش في مكتبِه ويأخذ منحى تشاؤمياً: «دعونا ننتقل من ربع ساعة تشاؤم إلى ربع ساعة تفاؤل». مواقف برّاك المتقلّبة بين التشاؤم والتفاؤل ليست بعيدة عن مواقف سابقيه؛ آموس هوكستين، ومورغان أورتيغوس، وعشرات المبعوثين الآخرين خلال عقود من الحروب والأزمات في لبنان، والعلة لا تكمن فيهم بل في المسؤولين والقادة السياسيين واللبنانيين بعامة. فزيارات برّاك الثلاث واجهت مواقفَ من الحكم الممثل بالثلاثي؛ رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة، مفادها شراء الوقت وتدوير الزوايا واللعب على التعابير والصيغ لقناعتهم، ولو باختلاف النسب، بأن نزع سلاح «حزب الله» قد يجر البلاد إلى نزاع معه لا تعرف نتائجه، إضافة إلى كون الحزب و«حركة أمل» يشكلان ثنائياً شيعياً لا يمكن تجاوزه في أي مقاربة للحل. يتجسّد هذا الموقف في تصريحات وأداء الرئيس جوزيف عون وبدرجة أقل رئيس الحكومة نواف سلام. أمام هذا الواقع الذي يتكرَّر عند كل زيارة، قد يكون برّاك يسعى إلى تفاهمات في الخفاء مع بري ومن ورائه «حزب الله»، كون بري لا يجرؤ على التفرد بتسويات أو حلول دون مباركة الحزب. طبعاً ليست هناك أدلة أو معلومات مؤكدة عن هذا السيناريو، إنما من غير المستبعد أن تكون هذه «السذاجة السياسية الظاهرة» عند السيد برّاك غطاءً لتحركات أكثر تعقيداً تتجاوز الأطر الرسمية، وتستند إلى تفاهمات ضمنية يجري نسجها بهدوء في الكواليس. بالطبع واشنطن لديها ثوابت أهمها ضمان أمن إسرائيل، وبالتالي موضوع نزع سلاح الحزب مطروح على الطاولة، إنما أيضاً التفاهم متاح إذا تمكن الحزب من الحصول على تعهدات أميركية بانسحاب إسرائيلي من المواقع الخمسة المحتلة، ووقف العمليات من الجانبين عبر الحدود. قد تحدث «تنازلات ميدانية مقابل ضمانات سياسية أميركية»: انسحابات تدريجية للطرفين مقابل تهدئة إسرائيلية في مرحلة أولى مع إمكانية التفاهم على نزع السلاح الثقيل الذي يشكل تهديداً لإسرائيل. هذه الصفقة تُقدم داخلياً على أنها مكسب للبيئة الشيعية وتحصين لمكانة وموقع الطائفة ضمن النظام اللبناني، لا سيما في زمن المساومات الكبرى على هوية الدولة ومستقبلها. هذا الطرح يعكس مقاربة أميركية براغماتية لا تسعى إلى تفكيك «حزب الله» في المدى المنظور، بل إلى احتوائه وتحييده في المرحلة الانتقالية، تمهيداً لإعادة تشكيل التوازنات الداخلية. فهل ثمّة توافق ضمني بين برّاك وبرّي؟ التقاطعات في المواقف والتصريحات توحي أحياناً بوجود قنوات تواصل أو تنسيق غير معلن، ما يعزز فرضية تلاقي مصالح، ولو بالحد الأدنى، بين ضغوط خارجية وإرادة داخلية تتلاقى في قراءة المخارج الممكنة للأزمة. مقابل هذا الاحتمال، تتحدث مراجع شيعية عليمة ورصينة عن الخشية من حصول تفاهم شيعي-ماروني لمواجهة المتغيرات في المنطقة، خصوصاً المتغيّر السوري والنزاعات في الساحل والسويداء. إضافة إلى ذلك، النظام الجديد برئاسة أحمد الشرع لا يزال يبحث عن تموضع إقليمي ودولي مستقر، لكنه يواجه تحديات داخلية. ما يشجع أصحاب هذا التوجه إضافة إلى الحدث السوري، شرذمة القوى السنية في لبنان، والأهم -وللأسف- الشعور الأقلي المتجذر عند شرائح مسيحية كثيرة وتقاطع مصالح متشابكة ومتناقضة، إسرائيل ليست بعيدة عنها، وإيران ترى في الشرع أنه يشكّل بنظرها نواة محور عربي–أميركي جديد يعيد رسم الخريطة السورية بعيداً عن نفوذها. هل يعي المسؤولون أهمية ما يحاك من دون بوادر وضع روزنامة عمل واضحة، وغياب الخطة التنفيذية مع العجز عن تفعيل خطاب القسم بشأن «حصرية السلاح»، ما يفرغها من مضمونها ويحوّلها إلى مجرد شعارات إعلامية. ورغم البهرجة الموسمية والاحتفالات الصيفية الصاخبة، فإن جذب الاستثمارات والمساعدات يبدو مؤجلاً إلى حين تحقيق الشروط الدولية، واستعادة الدولة سيادتها على كامل أراضيها. يبدو أن مهمة برّاك تُختزل بجملة واحدة: إدارة الأزمة. فهو لا يحمل مبادرة سلام شاملة، بل يسعى إلى تقليل التصعيد، تمهيداً لمرحلة انتقالية تنتظر تبلور المشهد الإقليمي، خصوصاً في سوريا. ومع كل «ربع ساعة تفاؤل» لا تلبث أن تُمحى بـ«ربع ساعة تشاؤم» مع بروز صعوبات التنفيذ، بانتظار أن يقول الزمن كلمته، ويظهر اختراق يعيد بعضاً من توازن مفقود.


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
مؤتمرُ نيويورك... إنقاذُ فكرةٍ وتأسيس مسار
مصطلحُ حلّ الدولتين تداوله العالمُ كله بوصفه حلاً سياسياً للصراع المزمن بين دولةٍ قامت بالفعل، وشعبٍ لم تقُم دولته بعد. وبفعل طولِ الزمن دون اقترانِه بجهدٍ يؤدي إلى إقامة الدولة الفلسطينية، تحوّل المصطلح إلى مجرد شعار رفع عتب، وكان للرئيس جو بايدن تصريح أوحَى بالاستحالة، حين قام بزيارةٍ لمدينة بيت لحم الفلسطينية أعلن فيها تعاطفه مع حاجة الفلسطينيين لقيام دولتهم، ولكنَّه أفصح عن أنَّ هذه الدولة المنشودة بكل أسف لن تقوم لا على المدى البعيد، ولا على المدى الأبعد. سنواتٌ وأحداثٌ كثيرة مرّت على تلك الزيارة وذلك التصريح، وخلالها ظلّ الشعار يُرفع في المناسبات والمحافل، دون أن يوضع على جدول أعمال العالم كبندٍ ملحٍ لإنتاج حل. ولكثرة تداوله دون بذل جهدٍ لتفعيله، اعترى الفكرةَ والمبدأ والشعار تآكلٌ أوصل العديد من دول العالم إلى يقينٍ باستحالة تحقيقه، ليبدأ البحث عن بديل، كما لو أن حلَّ القضية الفلسطينية سوف يبدأ من الصفر. ظهرت بدائل غير واقعية؛ مثل حل الدولة الواحدة، وقد جرى استخدام هذا البديل ليس في سياق سعيٍ لتحقيقه، وإنما لتخويف إسرائيل من مضاعفات رفضها لحل الدولتين، وفي تحليلٍ واقعي، أظهر أن فكرة حل الدولة الواحدة يشبه الاستجارة من الرمضاء بالنار، ذلك أنَّ إسرائيلَ التي ترفض مبدأ قيام دولةٍ فلسطينيةٍ منفصلةٍ عنها وملتزمةٍ بأمنها، ومعترفةٍ بحقها في الوجود، كيف تقبل بمشاركةٍ فلسطينيةٍ لها في تل أبيب مثلاً! إنَّ أي فكرةٍ سياسيةٍ، ومهما كانت منطقية يمكن أن تذوب وتتلاشى في الواقع، إن لم تُخدم بجهدٍ يجعلها الحل الوحيد الممكن، وهذا ما حدث فعلاً، ذلك أن الفلسطينيين الذين تحمّسوا لفكرة حل الدولتين، على أمل أن تقام دولتهم من خلاله، فقدوا الأمل من تحقيق ما يصبون إليه، ذلك بعد أن تأكد لهم أن ما هو أقل من الدولة بكثير وهو الحكم الذاتي، لم يعُد مقبولاً لدى إسرائيل، فكيف لها أن تقبل بدولةٍ مستقلةٍ كاملة السيادة، خصوصاً في زمن تنامي نفوذ القوى الإسرائيلية الرافضة لمجرد وجود الفلسطينيين، فكيف بالتفاوض معهم على إقامة دولتهم؟ زلزالان وقعا في زمنٍ واحد؛ الأول أبعدَ إمكانية بقاء حل الدولتين على الأجندتين الإقليمية والدولية، وهو ما اصطلح على تسميته الربيع العربي، إذ لم يعُد حل الدولتين هو المستبعد فقط؛ بل فتح ملف القضية الفلسطينية من أساسه، وذلك بفعل ولادة قضايا موازية أو منافسة، والثاني حرب السنتين التي بدأت بغزة، وتطورت واتسعت لتطال جغرافياتٍ عدة في الشرق الأوسط، وهنا عاد حل الدولتين إلى التداول بوصفه مخرجاً من تواتر الحروب والاضطرابات في منطقةٍ رُتّب لها مشروع تغيير إيجابي هو الشرق الأوسط الجديد، وكان أن التقطت السعودية الخيطَ المناسبَ في الوقت المناسب، ذلك بتزامنٍ مع تطور الدولة السعودية واتساع نفوذها في المنطقة والعالم، ودخولها الفعّال على جهود حل القضايا الدولية، بما في ذلك أزمات الطاقة والحرب الأوكرانية - الروسية وغيرها. المملكة التي نجحت في استقطاب فرنسا شريكاً، درست كل إخفاقات المراحل السابقة التي مرّت بها محاولات الحلول من زمن كامب ديفيد إلى تسوية أوسلو الفلسطينية، إلى وادي عربة الأردنية، وما تلاها جميعاً من تطوراتٍ أبعدت فرص التسوية الشاملة، وأحلّت محلها صراعاً أشد مرارة، بلغ حد الحرب، وفي الواقع لم تكُن السعودية بعيدةً عن جميع هذه التطورات، إلا أنَّها لم تكُن متوغلةً فيها، وذلك وفّر لها وضعاً نموذجياً لتأسيس تجربةٍ سلمية، أساسها مبادرتها للسلام، التي تحوّلت إلى عربية - إسلاميةٍ شاملة، بحيث تم تجديدها وإضافة شركاء فيها، وذلك من خلال المؤتمر العالمي الذي يُعقد في نيويورك. المملكة لم تؤسس مع شريكتها فرنسا مؤتمراً في هذا التوقيت وبهذا الحجم وهذا العنوان، ليكون تظاهرةً تضامنيةً استعراضية، عُمل مثلها الآلاف في كل زمانٍ ومكان، بقدر ما هو فعاليةٌ من عيار ثقيل لا يُنتظر منه نتائج فورية، أو دراماتيكية بحكم تعقيد الحالة، بل يُراهن عليه واقعياً وعملياً في إنقاذ فكرة حل الدولتين ووضعها على المسار العملي، الذي ينقلها من حالة المبدأ والشعار، إلى حالة تتحول فيها الفكرة إلى فعل، وهذا ما يريده العالم، وما يُفترض أن تنظر إليه أميركا بعين الرضا، وليس بعين المواقف القديمة المسبقة خصوصاً بعد كل الأهوال التي وقعت، والتي وعد الرئيس ترمب بمعالجتها على قاعدة إنهاء الحروب. إن مؤتمر نيويورك العالمي يوفر فرصة قوية لذلك.