لكي لا نزرع في الماء ونُحارب طواحين الهواء
التمييز بين ما هو كائن (الواقع) وما ينبغي أن يكون (المثال) وبين ما يُمكن أن يتحقق مما ينبغي أن يكون (الممكن) في ضوء الإمكانات والمرحلة التاريخية وفقه الواقع والأولويات وفهم الواجب فيهما، تمييز ضروري لكل مثقف أو سياسي يتصدى للعمل العام، ويسعى لأن يكون فاعلًا ومؤثرًا وفارقًا في سياق عمله ومجتمعه وعصره. وبغياب هذا التمييز يُصبح المثقف أو السياسي- رغم عدالة قضيته ونبل دوافعه وغاياته- مثل مَن يحرث في الماء لتنتهي جهوده بالفشل وحياته بخيبة الأمل وسخرية أو شفقة المحيطين به.
أكبر دليل على ذلك هو «النبيل دون كيشوت» بطل الرواية الإسبانية الشهيرة التي حملت اسم «النبيل البارع دون كيشوت دالامنتشا»، التي تُعد إحدى أهم كلاسيكيات الأدب العالمي، وقد كتبها الأديب الإسباني «ميغيل دي ثيربانتس» في الربع الأول من القرن السابع عشر الميلادي ليحكي بشكل خفي وساخر بعضًا من سيرته الذاتية، وجوانب من مظاهر خيبة أمله وفشل في عيش وتحقيق أحلامه ومثله العليا في الحياة.تتناول الرواية علاقة الإنسان المسكون بالمثل العليا وقيم الفروسية وفكرة البطولة والواجب مع عالمه ومتغيرات الواقع الذي يعيش فيه؛ فالبطل دون كيشوت رجل تشبع بالمثل العليا والقيم النبيلة نتيجة إدمانه منذ صباه وشبابه قراءة كتب البطولة والفروسية، ولهذا خرج ممتطيًا صهوة جواده ومعه سيفه، برفقة مساعده وحامل رمحه الفلاح البسيط «سانشو بانثا» ليدافع عن المظلومين، ويواجه العمالقة وقوى الشر والقبح حوله، وليصنع بطولاته وأساطيره الشخصية ومجده الذي سوف يُخلد اسمه.ورغم أنه عاش في عصر فرغ من العمالقة المتجبرين الذين تحدثت عنهم كتب وحكايات القدماء، ولم يعد في بيئته كائنات ضخمة سوى طواحين الهواء؛ فقد أصر دون كيشوت على ممارسة دور الفارس النبيل المدافع عن حياة وحقوق الجماهير، وقام بمصارعة طواحين الهواء متصورًا أنهم عمالقة؛ فخاض بذلك معارك صفرية لم تؤدِ إلى شيء سوى إثارة سخرية وشفقة المحيطين به.وفي حقيقة الأمر، إن صديقنا دون كيشوت- رغم سمو دوافعه وغايته، ورغم أنه يمثل كل ما هو رقيق ونقي وغير أناني وشهم- هو إنسان غافل عن عصره وواقعه ومتغيرات عالمه، وقد ضللته قراءة الكتب، ولهذا خاض المعركة الخطأ مع العدو الخطأ في الزمان الخطأ، فأضاع عمره فيما لا منفعة منه، وجعل سيرته وحكايته دراما إنسانية مثيرة للضحك والشفقة والتأمل والتعلم.والمفارقة العجيبة أن رواية «دون كيشوت» التي كتبها «ميغيل دي ثيربانتس» ليسخر من ذاته وخياراته ومثله العليا، قد صنعت نجومية وشهرة البطل والمؤلف، وخلدت اسمهما في تاريخ الآداب العالمية بعد أن أصبحت من أهم الأعمال الأدبية على مر العصور وميراثًا أدبيًا وإنسانيًا.وأظن اليوم أن قراءة الرواية والتأمل في حياة بطلها ومصيره، واستخلاص الدروس الإنسانية والفكرية منها أمر لا غنى عنه لكل مفكر ومثقف وسياسي يطمح إلى التأثير والتغير في مجتمعه وعصره، وجعل ما ينبغي أن يكون هو الكائن بالفعل.من أهم تلك الدروس أن نبل الشخصية ونبل الدوافع والغايات غير كافيان لنصرة القضايا العادلة ونصرة الحق وأهله، وأن الذكاء والدهاء وشمول الرؤية ودقة فهم الواقع وتفاصيله، والعالم ومتغيراته، وحساب موازين القوى فيهما، والتمييز بين الأهداف الاستراتيجية والتكتيكية، واختيار لغة وآليات التعبير والنضال المناسبة للعصر، ضرورة لا غنى عنها لكل صاحب قضية وطنية وإنسانية، حتى لا يُبدد حياته وأحلامه بلا طائل في معارك طواحين الهواء.وأظن أن الخطأ التراجيدي الذي ارتكبه دون كيشوت، ويجب التوقف عنده والاستفادة منه، أنه رغم سمو دوافعه وغاياته كان غافلًا عن واقعه، ولم يستوعب متغيرات عصره، ولم يفهم أن زمن الفروسية القديم قد أصبح من الماضي، وأن شكل العدو وآليات الصراع وآليات نصرة الحق ونشر الحقيقة قد تغيروا بالكامل عن العصور الماضية التي أدمن قراءة قصص وحكايات أبطالها.ولهذا فقد عاش دون كيشوت وخاض معارك عصره بتصورات وأفكار ولغة وآليات عصر سابق؛ فاخترع أعداءً متوهمين، ودخل في معارك مع طواحين الهواء، فابتذل قضيته العادلة وهزمها بيده، ولم يجن سوى ضياع العمر وخيبة الأمل، وسخرية الأعداء وشفقة المحبين له.وفصل المقال؛ إن دون كيشوت في حقيقة الأمر ليس شخصية أدبية أو تاريخية من الماضي، بل هو شخصية مفهومية ونموذجًا إنسانيًا موجود بيننا ويعيش في كل العصور والمجتمعات؛ ويجب على «دون كيشوت الجديد» أن يتعلم من حياة ومصير «دون كيشوت القديم»، بأن يتخلص من الأوهام، وأن يُعيد فهم ذاته وإمكاناته وحقيقة دوره، وفهم متغيرات العصر والواقع والعالم من حوله، وأن يتحرر من سجن الكتب واعتبارها المصدر الوحيد للمعرفة، وأن يفهم ويتعلم من التجربة والممارسة العملية والانغماس في تيار الحياة ذاتها، ليميز بدقة بين الواقع والمثال والممكن وهو يسعى للتأثير والإصلاح.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


بوابة ماسبيرو
منذ 20 ساعات
- بوابة ماسبيرو
"مارلين" و"الوحش" و"البؤساء" يتصدرون جوائز "دورة الأساتذة" بمهرجان المسرح
أسدل الستار على فعاليات الدورة الأربعين من مهرجان المسرح العالمي، الذي نظمه المعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون، تحت عنوان "دورة الأساتذة"، تكريما لرواد المسرح المصري، وسط أجواء احتفالية مبهرة وتوزيع جوائز بلغت قيمتها 80 ألف جنيه. وجاء حفل الختام بحضور الدكتورة غادة جبارة رئيس أكاديمية الفنون، والدكتور أيمن الشيوي عميد المعهد العالي للفنون المسرحية، ولفيف من أساتذة المعهد وطلابه، بجانب شخصيات فنية وأكاديمية بارزة. وفي كلمته، وجه "الشيوي" الشكر لكل من ساهم في إنجاح هذه الدورة.. مؤكدا أن "حيطان المعهد تعلم فنا"، كما أثنى على لجنة التحكيم التي تبرعت بقيمة الجوائز كاملة. وشهدت الجوائز منافسة قوية، وحصد عرض "الوحش" جائزة أفضل عرض أول، بينما نال "البؤساء" المركز الثاني، و"مارلين" المركز الثالث. وفي فئة الإخراج، فاز عبد الله سعد بجائزة أفضل إخراج عن عرض "مارلين"، وتقاسم كل من محمد عادل النجار ومحمود عبد الرازق جائزة المركز الثاني عن عرضي "الوحش" و"البؤساء"، فيما حصدت لبنى المنسي جائزة المركز الثالث عن "الدور الأخير". أما جوائز التمثيل، فقد ذهبت جائزة أفضل ممثل إلى سعيد سلمان عن "الوحش"، وتقاسم جائزة المركز الثاني عبد الفتاح الدبركي وعبد الرحمن محسن، فيما نال المركز الثالث كل من جورج أشرف وشادي هجرس. وفي فئة أفضل ممثلة، فازت ياسمين عمر بالمركز الأول عن عرض "ثريا"، وحصدت يارا المليجي المركز الثاني عن "مارلين"، بينما تقاسمت هبة الكومي ونيلي الشرقاوي المركز الثالث. أفضل إعداد: ساندي أشرف (مارلين)، والمركز الثاني محمد عادل النجار (الوحش). أفضل ديكور: ميرنا سعيد (مارلين)، والثاني سهيلة الهواري (البؤساء). أفضل أزياء: رحمة عمر (مارلين)، والثانية أميرة صابر (البؤساء). أفضل دعاية: هشام صبرة (مارلين)، والثاني سعد علي (صيد الفئران). أفضل مكياج: مارينا برزي (الدور الأخير). أفضل موسيقى: سمير عوض (دون كيشوت). أفضل استعراضات: إبراهيم كابو عن عرضي "دون كيشوت" و"البؤساء". كما منحت جائزة لجنة التحكيم الخاصة لعرض "الدور الأخير"، تقديرا لما قدمه من رؤية مسرحية متميزة. وكرم المعهد أعضاء لجنة التحكيم، التي ضمت نخبة من صناع المسرح والدراما، وأساتذة المعهد العالي للفنون المسرحية، وقد أطلقت أسماء كبار رواد المسرح المصري: كرم مطاوع، نبيل الألفي، جلال الشرقاوي، وسعد أردش على الدورة، وفاء وعرفانا بدورهم في بناء الحركة المسرحية. وشهد المهرجان عروضا مسرحية متنوعة، منها: "الوحش"، "مارلين"، "الدور الأخير"، "البؤساء"، "صيد الفئران"، "نابولي مليونيرة"، "دون كيشوت"، "ثريا"، وغيرها، بمشاركة فرق طلابية قدمت نماذج مسرحية ناضجة وعميقة. وقد تزامن ختام المهرجان مع زيارة لجنة الجودة لاعتماد المعهد، ما يعكس تميز الأكاديمية وحرصها على تطوير الأداء الأكاديمي والفني. واختتمت "دورة الأساتذة" بجملة فنية واضحة: الماضي يلهم، والحاضر يبدع، والمستقبل يبنى هنا، في أكاديمية الفنون.


مستقبل وطن
منذ يوم واحد
- مستقبل وطن
عروض «مارلين» و«الوحش» و«البؤساء» تتصدر جوائز دورة الأساتذة
أسدل الستار على فعاليات الدورة الأربعين من مهرجان المسرح العالمي، الذي نظمه المعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون، تحت عنوان "دورة الأساتذة"، تكريمًا لرواد المسرح المصري، وسط أجواء احتفالية مبهرة وتوزيع جوائز بلغت قيمتها 80 ألف جنيه. وجاء حفل الختام بحضور الدكتورة غادة جبارة رئيس أكاديمية الفنون، والدكتور أيمن الشيوي عميد المعهد العالي للفنون المسرحية، ولفيف من أساتذة المعهد وطلابه، بجانب شخصيات فنية وأكاديمية بارزة. وفي كلمته، وجّه "الشيوي" الشكر لكل من ساهم في إنجاح هذه الدورة.. مؤكدًا أن "حيطان المعهد تعلم فنًا"، كما أثنى على لجنة التحكيم التي تبرعت بقيمة الجوائز كاملة. وشهدت الجوائز منافسة قوية، وحصد عرض "الوحش" جائزة أفضل عرض أول، بينما نال "البؤساء" المركز الثاني، و"مارلين" المركز الثالث. وفي فئة الإخراج، فاز عبدالله سعد بجائزة أفضل إخراج عن عرض "مارلين"، وتقاسم كل من محمد عادل النجار ومحمود عبدالرازق جائزة المركز الثاني عن عرضي "الوحش" و"البؤساء"، فيما حصدت لبنى المنسي جائزة المركز الثالث عن "الدور الأخير". أما جوائز التمثيل، فقد ذهبت جائزة أفضل ممثل إلى سعيد سلمان عن "الوحش"، وتقاسم جائزة المركز الثاني عبدالفتاح الدبركي وعبدالرحمن محسن، فيما نال المركز الثالث كل من چورچ أشرف وشادي هجرس. وفي فئة أفضل ممثلة، فازت ياسمين عمر بالمركز الأول عن عرض "ثريا"، وحصدت يارا المليجي المركز الثاني عن "مارلين"، بينما تقاسمت هبة الكومي ونيلي الشرقاوي المركز الثالث. أفضل إعداد: ساندي أشرف (مارلين)، والمركز الثاني محمد عادل النجار (الوحش). أفضل ديكور: ميرنا سعيد (مارلين)، والثاني سهيلة الهواري (البؤساء). أفضل أزياء: رحمة عمر (مارلين)، والثانية أميرة صابر (البؤساء). أفضل دعاية: هشام صبرة (مارلين)، والثاني سعد علي (صيد الفئران). أفضل مكياج: مارينا برزي (الدور الأخير). أفضل موسيقى: سمير عوض (دون كيشوت). أفضل استعراضات: إبراهيم كابو عن عرضي "دون كيشوت" و"البؤساء". كما منحت جائزة لجنة التحكيم الخاصة لعرض "الدور الأخير"، تقديرًا لما قدمه من رؤية مسرحية متميزة. وكرّم المعهد أعضاء لجنة التحكيم، التي ضمت نخبة من صناع المسرح والدراما، وأساتذة المعهد العالي للفنون المسرحية، وقد أُطلقت أسماء كبار رواد المسرح المصري: كرم مطاوع، نبيل الألفي، جلال الشرقاوي، وسعد أردش على الدورة، وفاءً وعرفانًا بدورهم في بناء الحركة المسرحية. وشهد المهرجان عروضًا مسرحية متنوعة، منها: "الوحش"، "مارلين"، "الدور الأخير"، "البؤساء"، "صيد الفئران"، "نابولي مليونيرة"، "دون كيشوت"، "ثريا"، وغيرها، بمشاركة فرق طلابية قدّمت نماذج مسرحية ناضجة وعميقة. وقد تزامن ختام المهرجان مع زيارة لجنة الجودة لاعتماد المعهد، ما يعكس تميز الأكاديمية وحرصها على تطوير الأداء الأكاديمي والفني. واختُتمت "دورة الأساتذة" بجملة فنية واضحة: الماضي يُلهم، والحاضر يُبدع، والمستقبل يُبنى هنا، في أكاديمية الفنون.


الدولة الاخبارية
٢٢-٠٤-٢٠٢٥
- الدولة الاخبارية
سفارة إسبانيا فى مصر تحتفل باليوم العالمى للكتاب وحقوق المؤلف
الثلاثاء، 22 أبريل 2025 04:40 مـ بتوقيت القاهرة يصادف يوم 23 أبريل اليوم العالمى للكتاب وحقوق المؤلف، وهو تاريخ تتحد فيه العديد من المؤسسات حول العالم لتعزيز القيم التى تنقلها القراءة. و يُقام هذا الاحتفال على مستوى عالمى منذ عام 1988، وفى إسبانيا يُحتفل به منذ عام 1930 كتكريم رمزى لكبار المؤلفين العالميين، من بينهم ميجيل دى ثربانتس (1547-1616)، مؤلف رواية "دون كيشوت دى لا مانشا". "دون كيشوت للجميع" هو نشاط للقراءة الإفتراضية عبر الإنترنت يهدف إلى زيادة الوعى فى مصر بهذا العمل ذائع الصيت ذو القيم العالمية. وفى عام 2020، وفى ظل استحالة تنظيم قراءة رواية 'دون كيشوت' وجهًا لوجه فى بداية جائحة كوفيد-19، نظمت سفارة إسبانيا فى مصر أول قراءة افتراضية عبر الإنترنت بهدف خلق الروابط وتقريب المسافات أثناء فترة الحجر الصحى، وهى مبادرة تعكس أهمية الثقافة فى توحيد وخلق روابط بين الشعوب. ومنذ ذلك الحين، يقوم أساتذة وطلاب من الجامعات المصرية التى تضم أقسامًا باللغة الإسبانية بقراءة العمل باللغة العربية، وذلك بالتنسيق مع سفارة إسبانيا فى مصر، و تعتمد القراءة على الترجمة الشهيرة التى قام بها الباحث والمترجم البارز الدكتور سليمان العطار (1945-2020). تشمل الجامعات المشاركة جامعة المنيا، وجامعة بدر بالقاهرة وأسيوط، وجامعة الأزهر، وجامعة فاروس بالإسكندرية، وجامعة القاهرة، وجامعة الفيوم، و مدينة الثقافة العلوم بجامعة 6 أكتوبر، وجامعة الزقازيق، وجامعة الأقصر، وجامعة حلوان. وقد اتخذت ثمرة هذا المشروع شكل فيديو، مع رسوم جرافيك للمصممة المصرية آية مرزوق وموسيقى من تأليف الفنان المصرى مهاب سامي. الفيديو متاح على قناة اليوتيوب الخاصة بسفارة إسبانيا فى مصر. تأتى هذه القراءة الافتراضية مكملة للأنشطة التى ينظمها معهد ثرفانتس فى القاهرة والإسكندرية، والتى تشمل القراءة وجها لوجه لـ 'دون كيشوت' باللغتين العربية والإسبانية فى مقر المعهدين..