
تقرير أسيل نسمَّان... ريشة تقاوم الغياب في زمن الحرب
غزة/ مريم الشوبكي:
في مفترق رئيس من مفترقات مدينة غزة التي ترزح تحت وطأة الحرب والدمار، نُصبت خيمة بلاستيكية متواضعة، تبدو للوهلة الأولى كمأوى مؤقت، لكن ما يجري داخلها يحمل في طياته من المعنى أكثر مما يوحي به مظهرها البسيط.
هناك بين الألوان الباهتة والفرش المستهلكة، تقيم الفنانة التشكيلية الفلسطينية أسيل نسمان (22 عامًا) مرسمًا صغيرًا تحوّل إلى مساحة نابضة بالحياة، تنسج من خلالها الذاكرة الفلسطينية على قماش لوحاتها، وتحوّل وجع الحرب إلى فعل إبداع ومقاومة ناعمة.
أسيل، وهي طالبة في قسم التربية الفنية وتصميم الغرافيك في جامعة الأقصى، فقدت منزلها خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة.
منزلها في حيّ النصر، الذي كانت تحتفظ فيه بعشرات اللوحات التي أنجزتها على مدار سنوات، لم يتبقّ منه شيء. رُدم الحلم تحت الركام، ومعه ضاعت كل الأعمال التي شاركت بها في معارض وفعاليات فنية، لكنها لم تستسلم للخذلان.
تقول لصحيفة "فلسطين": "كنت أرسم داخل غرفتي، وكنت مولعة بتفاصيل الجمال والأنوثة. كانت لوحاتي واقعية، تحمل ملامح الحياة الهادئة، أما اليوم فكل شيء تغيّر… بتُّ أرسم الشهداء، الأسرى، الفقد، ومشاهد الدمار التي باتت جزءًا من يومياتنا".
بعد فقدان بيتها، نزحت أسيل مع أسرتها إلى خان يونس، ثم إلى رفح جنوب القطاع، حيث واجهت ظروفًا معيشية قاسية. لم يكن لديها حتى ورقة ترسم عليها.
ومع ذلك، بدأت بالرسم على طاولة خشبية صغيرة في الشارع، مستخدمة أدوات بسيطة جمعتها من هنا وهناك، قبل أن تعود إلى غزة مع عائلتها، وتنصب إلى جانب خيمة المعيشة خيمتها الخاصة، التي حولتها إلى مرسم رغم غياب الجدران والإنارة المناسبة، أو حتى المواد الفنية الكافية.
ورغم قساوة الظروف، استطاعت أسيل أن تحوّل هذه المساحة البدائية إلى ملاذ فني، تستقبل فيه أهالي الشهداء والأسرى، وتوثّق وجوه أحبّائهم.
قبل أن تبدأ بالرسم، تستمع طويلًا لقصصهم. تقول: "في كل وجه أحاول رسمه، أرى حزنًا دفينًا، وحنينًا موجعًا، وأملًا لا ينكسر". فالفن، بالنسبة لها، ليس مجرد صورة، بل سردية بصرية، وذاكرة موثّقة، ووسيلة لتضميد الجراح.
تتنوع طلبات العائلات التي تقصدها بين رسم صور شهداء قضَوا في القصف، أو أسرى خلف القضبان، أو أطفال فقدوا آباءهم. وغالبًا ما تكون الصور الأصلية غير متوفرة أو متضررة، فتكون مهمة أسيل أكثر حساسية، إذ تحاول إعادة تشكيل الملامح من وصف الأمهات والزوجات، ومن ذكريات الأحبة، لترسم ما يشبه معجزة حضور في زمن الغياب.
ورغم شحّ المواد، وغياب الكهرباء، وافتقار المكان لأدنى شروط العمل الفني، تواصل أسيل الرسم يوميًا. تحمل فرشاتها كما لو كانت سلاحًا، وتغمسها في ألوان ممتزجة بالدمع والحنين، وتقول: "أرسم من أجل البقاء. الريشة أصبحت وسيلتي لإعالة عائلتي، ورسالة أوجّهها للعالم بأننا نحب الحياة رغم كل ما يُرتكب بحقنا".
لوحاتها، التي تتراوح بين الواقعية الدقيقة والبورتريه العاطفي، تحمل ألوانًا قاتمة في بعض الأحيان، وألوانًا ترابية دافئة في أحيان أخرى. في كل لوحة، تظهر ملامح الوجع الفلسطيني المتوارث، إلى جانب لحظات خفيفة من الأمل والتشبث بالحياة.
تحوّلت خيمة أسيل إلى ما يشبه المزار الإنساني، يقصدها الناس من مختلف أنحاء غزة بحثًا عن عزاء بصري، أو صورة تخلّد أحبابًا غيّبهم القصف أو السجن.
وبين خطوط الرسم وظلال المعاناة، تؤكّد أسيل أن الفن لم يعُد ترفًا أو هواية، بل بات ضرورة للبقاء، ووسيلة لحفظ الذاكرة، وللتعبير عن حبّ للحياة لا ينكسر مهما اشتدّ الحصار.
وبينما يعلو الغبار في الخارج، ويضج الشارع بأصوات الحرب والبؤس، تنهمك أسيل في رسم ملامح من غابوا، وتمنحهم حضورًا جديدًا على قماش لوحاتها، كأنها تقول: "ما دام فينا ريشة، سيبقى الضوء ممكنًا".
المصدر / فلسطين أون لاين

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


فلسطين أون لاين
منذ يوم واحد
- فلسطين أون لاين
تقرير الاحتلال يقصف الحلم... خطيب شذَا شهيدًا قبل الموعد
غزة/ فاطمة العويني: سعادة غمرت قلب الشابة شذا عيشان حين تقدم لها من ارتضت دينه وخلقه. ورغم ظروف الحرب الطاحنة على غزة، إلا أنها خططت لإقامة حفل خطوبة بسيط في منزل عائلتها، تدعو إليه عددًا محدودًا من المقربين لإشهار خطبتها. تقول والدموع تسبق كلامها لصحيفة "فلسطين": "حددنا موعدًا أوليًا لحفل عقد القران، فتم تأجيله من قِبل عائلة خطيبي سعيد الصفطاوي بسبب استشهاد ابن عمه. ثم حددنا موعدًا آخر، ولكن القدر شاء أن يتم تأجيله مرة أخرى". وتشير إلى أن خطيبها كان فرحًا جدًا بالخطوبة، ومستعجلًا على إتمام مراسم الزواج بشكل كبير: "كان سعيد متشوقًا للاستقرار وبناء أسرة. اتفقنا على كل تفاصيل حفل الخطوبة، واتفقنا أن يُقام في منزل أسرتي، حيث إن خطيبي فقد منزله ويقيم في مدرسة الكرامة في حي التفاح". وبينما سهرت شذا على الإعداد لحفل خطوبتها، الذي كان مقررًا في التاسع من مايو، باغت الاحتلال الإسرائيلي مدرسة الكرامة بالقصف. وفوجئت برسالة تعزية من أحد زملائها في العمل. لم تدرك شذا في البداية معنى هذه التعزية المفاجئة، ليصدمها زميلها بالقول: "سعيد استُشهد". هرعت شذا إلى المستشفى تنتظر جثمان سعيد كي تُلقي عليه نظرة الوداع. مرت ساعات وساعات دون أن يأتي. ولاحقًا علمت أن الاحتلال منع أي أحد من دخول المدرسة وانتشال جثمانه. ولم يكتفِ الاحتلال بذلك، بل زاد وجع عائلة خطيبها، إذ قنصت طائرة "كواد كابتر" تابعة للاحتلال الإسرائيلي شقيقه في رأسه بعد أن تمكن من الوصول إليه. "قالوا لي إن سعيد كان على قيد الحياة عندما وصل إليه شقيقه، لكنهما استُشهدا معًا"، تضيف شذا. وتبدلت مظاهر الفرح في بيت "عيشان"، من عروس كانت تنتظر خطيبها بالورود والفرح، إلى بيت عزاء يؤمه المعزون لتعزيتها في خطيبها، بعد أن نشرت عائلتها منشورًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي تعتذر فيه لكل المدعوين عن عدم انعقاد حفل الخطوبة بسبب استشهاد العريس. وبثياب متشحة بالسواد، استقبلت شذا المعزين في سعيد، وتقول: "الإشهار تحول من إشهار بين الناس إلى إشهار عرفه كل الناس. انشهر في السما والأرض. كل الناس بتترحم عليه وبتدعيله". وتمضي بالقول: "كان مستعجل على كل إشي، وبالآخر سابنا وراح كلنا. كنا مجهزين كل إشي للخطوبة، مش ضايل بس إلا إنه ييجي سعيد... ما إجاش. راح عند أبوي الشهيد يطلبني منه". المصدر / فلسطين أون لاين


فلسطين أون لاين
منذ 5 أيام
- فلسطين أون لاين
تقرير أسيل نسمَّان... ريشة تقاوم الغياب في زمن الحرب
غزة/ مريم الشوبكي: في مفترق رئيس من مفترقات مدينة غزة التي ترزح تحت وطأة الحرب والدمار، نُصبت خيمة بلاستيكية متواضعة، تبدو للوهلة الأولى كمأوى مؤقت، لكن ما يجري داخلها يحمل في طياته من المعنى أكثر مما يوحي به مظهرها البسيط. هناك بين الألوان الباهتة والفرش المستهلكة، تقيم الفنانة التشكيلية الفلسطينية أسيل نسمان (22 عامًا) مرسمًا صغيرًا تحوّل إلى مساحة نابضة بالحياة، تنسج من خلالها الذاكرة الفلسطينية على قماش لوحاتها، وتحوّل وجع الحرب إلى فعل إبداع ومقاومة ناعمة. أسيل، وهي طالبة في قسم التربية الفنية وتصميم الغرافيك في جامعة الأقصى، فقدت منزلها خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة. منزلها في حيّ النصر، الذي كانت تحتفظ فيه بعشرات اللوحات التي أنجزتها على مدار سنوات، لم يتبقّ منه شيء. رُدم الحلم تحت الركام، ومعه ضاعت كل الأعمال التي شاركت بها في معارض وفعاليات فنية، لكنها لم تستسلم للخذلان. تقول لصحيفة "فلسطين": "كنت أرسم داخل غرفتي، وكنت مولعة بتفاصيل الجمال والأنوثة. كانت لوحاتي واقعية، تحمل ملامح الحياة الهادئة، أما اليوم فكل شيء تغيّر… بتُّ أرسم الشهداء، الأسرى، الفقد، ومشاهد الدمار التي باتت جزءًا من يومياتنا". بعد فقدان بيتها، نزحت أسيل مع أسرتها إلى خان يونس، ثم إلى رفح جنوب القطاع، حيث واجهت ظروفًا معيشية قاسية. لم يكن لديها حتى ورقة ترسم عليها. ومع ذلك، بدأت بالرسم على طاولة خشبية صغيرة في الشارع، مستخدمة أدوات بسيطة جمعتها من هنا وهناك، قبل أن تعود إلى غزة مع عائلتها، وتنصب إلى جانب خيمة المعيشة خيمتها الخاصة، التي حولتها إلى مرسم رغم غياب الجدران والإنارة المناسبة، أو حتى المواد الفنية الكافية. ورغم قساوة الظروف، استطاعت أسيل أن تحوّل هذه المساحة البدائية إلى ملاذ فني، تستقبل فيه أهالي الشهداء والأسرى، وتوثّق وجوه أحبّائهم. قبل أن تبدأ بالرسم، تستمع طويلًا لقصصهم. تقول: "في كل وجه أحاول رسمه، أرى حزنًا دفينًا، وحنينًا موجعًا، وأملًا لا ينكسر". فالفن، بالنسبة لها، ليس مجرد صورة، بل سردية بصرية، وذاكرة موثّقة، ووسيلة لتضميد الجراح. تتنوع طلبات العائلات التي تقصدها بين رسم صور شهداء قضَوا في القصف، أو أسرى خلف القضبان، أو أطفال فقدوا آباءهم. وغالبًا ما تكون الصور الأصلية غير متوفرة أو متضررة، فتكون مهمة أسيل أكثر حساسية، إذ تحاول إعادة تشكيل الملامح من وصف الأمهات والزوجات، ومن ذكريات الأحبة، لترسم ما يشبه معجزة حضور في زمن الغياب. ورغم شحّ المواد، وغياب الكهرباء، وافتقار المكان لأدنى شروط العمل الفني، تواصل أسيل الرسم يوميًا. تحمل فرشاتها كما لو كانت سلاحًا، وتغمسها في ألوان ممتزجة بالدمع والحنين، وتقول: "أرسم من أجل البقاء. الريشة أصبحت وسيلتي لإعالة عائلتي، ورسالة أوجّهها للعالم بأننا نحب الحياة رغم كل ما يُرتكب بحقنا". لوحاتها، التي تتراوح بين الواقعية الدقيقة والبورتريه العاطفي، تحمل ألوانًا قاتمة في بعض الأحيان، وألوانًا ترابية دافئة في أحيان أخرى. في كل لوحة، تظهر ملامح الوجع الفلسطيني المتوارث، إلى جانب لحظات خفيفة من الأمل والتشبث بالحياة. تحوّلت خيمة أسيل إلى ما يشبه المزار الإنساني، يقصدها الناس من مختلف أنحاء غزة بحثًا عن عزاء بصري، أو صورة تخلّد أحبابًا غيّبهم القصف أو السجن. وبين خطوط الرسم وظلال المعاناة، تؤكّد أسيل أن الفن لم يعُد ترفًا أو هواية، بل بات ضرورة للبقاء، ووسيلة لحفظ الذاكرة، وللتعبير عن حبّ للحياة لا ينكسر مهما اشتدّ الحصار. وبينما يعلو الغبار في الخارج، ويضج الشارع بأصوات الحرب والبؤس، تنهمك أسيل في رسم ملامح من غابوا، وتمنحهم حضورًا جديدًا على قماش لوحاتها، كأنها تقول: "ما دام فينا ريشة، سيبقى الضوء ممكنًا". المصدر / فلسطين أون لاين


معا الاخبارية
٠٦-٠٥-٢٠٢٥
- معا الاخبارية
رسالةٌ فلسطينية إلى فناني العرب ومطربيهم
ليس لدينا أدنى شك بأن فناني العرب ومطربيهم، والمبدعين وأصحاب المواهب الفنية، وكل العاملين في مجالات الفن المختلفة، إخراجاً وتمثيلاً وغناءً وكتابَ نصوصٍ فنية ورسامين ونحاتين وغيرهم، هم جزءٌ أصيلٌ من هذه الأمة العربية الأصيلة، وإليها ينتمون نسباً وعرقاً، ولها يدعون وبها يتمسكون، وبلغتها العربية يغنون وبضادها يتميزون، ويقدمون بها أجمل اللوحات الفنية، وعنها لا ينبتون أو ينقطعون، ولا يخرجون منها ولا ينقلبون عليها، ولا يقومون بأعمالٍ فنية تضر بها وتسيء إليها، بل إنهم يراكمون المجد فوق المجد، تمجيداً بأمتهم، وتحصيناً لها، وحفظاً لفنها وتراثها الحضاري القديم، وحرصاً على قيمها القومية ومفاهيمها الوطنية. يقدر أبناء الأمة العربية المواقف القومية الصادقة للفنانين العرب بجميع انتماءاتهم الدينية والطائفية والفكرية والعرقية، وبكل ألوانهم الفنية وتخصصاتهم العملية، الذين يرفضون التطبيع مع العدو الإسرائيلي، ويستبرؤون من أي عملٍ مشتركٍ معه أو مع الجهات الداعمة له، ويقاطعون المهرجانات والاحتفالات التي يشارك فيها إسرائيليون معادون لأمتنا، وقاتلون لشعبنا، ومعتدون على أرضنا، ومغتصبون لحقوقنا، رغم ما قد يلحق ببعضهم من خسائر مادية وعقوباتٍ مؤثرة وحرمانٍ من فعالياتٍ أكبر، إلا أنهم يصرون على الاصطفاف إلى جانب شعبهم وأمتهم، ويتمسكون بقيمهم وموروثاتهم القومية، وينتصرون لقضايا أمتهم العادلة، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية. رغم المواقف المشرفة التي يتخذها الفنانون العرب على اختلاف مجالات عملهم، وهي تحفظ لهم وتقدر، إلا أنهم مقصرون جداً مع قطاع غزة، ومع الشعب الفلسطيني المحاصر فيه، ولم يسجل لهم أعمالاً تواكب ملحمتهم البطولية، وصمودهم الأسطوري، وتساندهم في الحرب المجنونة التي يشنها عليهم العدو الإسرائيلي، فقد مضى على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عامٌ ونصف العام، لم نشهد خلالها أعمالاً فنية تحاكي قضيتهم، وتجسد معاناتهم، وتسلط الضوء على الجرائم التي ترتكب في حقهم، ولدى أهلنا في قطاع غزة الكثير من الجوانب التي يمكن الحديث عنها وتسليط الضوء عليها، بما حقق هدفهم في التألق والتميز والنجاح، في الوقت الذي يساهمون فيه في معركة الأمة ومساندة الفلسطينيين في مقاومتهم ونضالهم في سبيل قضيتهم. في قطاع غزة اليوم، وعلى مدى عامٍ ونصف عامٍ مضيا، وأكثر من ثماني عشرة سنةً مضت هي عمر الحصار الإسرائيلي الظالم عليه، الكثير من القصص والحكايات، والحوادث والمشاهد والصور الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن مشاهد الحرب والقتال، والصمود والمقاومة، والتهجير والنزوح، والخيام وافتراش الأرض في الشوارع والطرقات، وقصص الأطفال الذين قتلوا، والآلاف الذين يتموا وأصبحوا بلا أبٍ أو أمٍ أو بلا كليهما معاً، وحكايات الأسرى الذين تم تجميعهم في مناطق مختلفة، وسوقهم إلى السجون والمعتقلات الإسرائيلية، وفيها لاقوا صنوف العذاب المختلقة، وواجهوا الموت مراراً، وقد استشهد المئات منهم أثناء التعذيب، أو إعداماً في السجون أو خلال مسرحيات الافراج عنهم ثم قتلهم على الطرقات. في غزة صور كثيرة عن مشاهد المواطنين وهم يقفون في طوابير طويلة أمام مطابخ الهيئات الخيرية، ينتظرون دورهم للحصول على ما يملأ قصعتهم البسيطة من طعامٍ بسيطٍ ربما لا يحبونه، إلا أنه يسد بعض رمقهم، وآلاف الأطفال الذين يتضورون جوعاً ويبكون، ويصرخون من الخوف والجوع والمرض والألم، وهم يتدافعون للحصول على بضعة مغارف من الطعام، يعودون به إلى عائلاتهم المشردة، التي قد لا يجد بعضها خياماً تؤويهم وتسترهم، في الوقت الذي لا تسلم من القصف الجوي الإسرائيلي. وسيجد العاملون في المجالات الفنية العربية مشاهد دراماتيكية لصور المعونات الغذائية التي كانت طائرات الولايات المتحدة الأمريكية تلقيها على أهلنا في مناطق القطاع المختلفة، ونتيجتها استشهد عشرات المواطنين، وهم يتدافعون نحو طرود المساعدات أملاً في الحصول عليها، أو نتيجة لقنص جنود العدو لهم، وإطلاق النار عليهم وهم في طريقهم إلى أماكن الطرود الغذائية، أو خلال عودة بعضهم وهم يحملون الطرود على أكتافهم، إلا أن رصاص جنود العدو كان يترقبهم ويترصدهم، فقتل العشرات وسقطت أجسادهم النحيلة فوق الطرود الغذائية التي كانوا يحملونها، إضافة إلى مشاهد قنص الفلسطينيين خلال محاولاتهم الخروج من أماكنهم الخطرة واللجوء إلى أماكن يظنون أنها أقل خطراً. لن يعدم الفنانون، والمغنون والمطربون، والممثلون والمخرجون، وكاتبو النصوص وناظمو الأشعار وكلمات الأغاني، إمكانية الحصول على بعض الأفكار والمشاهد والصور، التي تساعد في تسليط الضوء على القضية الفلسطينية عموماً، وعلى معاناة شعبنا في قطاع غزة خصوصاً، مع التأكيد بنوعٍ من الحزن والحسرة، والإحساس بالإهمال والتقصير، أنهم لم يقوموا بما يجب القيام به، ولم يساهموا بالقدر الذي يقدرون عليه، وهم يقدرون على الكثير، ويستطيعون الوصول إلى ما لا يصل إليه الآخرون، فهم يدخلون كل بيتٍ، ويحضرون في كل مناسبة، ويشاركون في كل حدث، ويتابعهم ويسمعهم ويشاهدهم عشرات ملايين العرب وغيرهم في كل مكان. فهلا قاموا بالدور المنوط بهم، وأدوا الواجب الملقى على عاتقهم، وليتذكروا السابقين من رفاقهم وزملائهم، الذين كانت لهم مساهماتٌ كبيرة في قضايا الأمة ونكباتها، فغنوا لها، وأنشدوا من أجلها، وعرضوا عشرات الأفلام والمسلسلات التي تخلد قضية فلسطين وتتضامن مع أهلها، فخلدوا أسماءهم، وحفروا لأنفسهم مكانةً في قلوب أمتهم، وما زالت أغانيهم تسمع، وأفلامهم تشاهد، في الوقت الذي ساهموا فيه مع أمتهم نضالها ضد العدو الإسرائيلي.