logo
ثورة الذكاء الاصطناعي.. هل تنقذ الصحافة أم تزيحها؟

ثورة الذكاء الاصطناعي.. هل تنقذ الصحافة أم تزيحها؟

في زمن تتسارع فيه التحولات ويشهد منافسة شرسة لا تأخذ بالاً بمن تخلف عن الركب، تتقدم الصحافة الحديثة نحو منعطف تاريخي قد يعيد تشكيل ملامحها.
فمع اقتحام الذكاء الاصطناعي غرف الأخبار، لم تعد صناعة الإعلام كما عهدناها في مراحلها التقليدية من إنتاج المحتوى وتحريره ونشره، بل بدأت رحلة إعادة تشكيل جوهرها وصياغة آلياتها، من أول حرف يُكتب حتى آخر خبر يُبث، فالثورة الرقمية الراهنة تعيد تعريف الصحافة التقليدية من جذورها.
فما كان يعتبر يوماً من ضروب الخيال العلمي، أضحى اليوم واقعاً يفرض نفسه في كل مفصل من مفاصل العمل الصحفي، أدوات ذكية تحرر وتدقق وتنتج وتنشر، في سرعة تكاد تدهش أكثر المتفائلين بتقدم التقنية، وفي ظل هذا العالم سريع التطور والتغير، لم تعد الصحافة بمنأى عن هذا التأثير، وهو ما أكدته دراسة حديثة لوكالة "أسوشيتد برس" نُشرت عام 2024، أظهرت أن 70% من المؤسسات الإعلامية حول العالم باتت تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتعزيز الكفاءة، ابتداء من تحرير مقاطع الفيديو، ومروراً بكتابة المسودات الأولية، وانتهاء بتصميم الرسوم البيانية التفاعلية، بل إن بعض المؤسسات العريقة كـ"رويترز" و"بي بي سي" خفضت زمن الإنتاج بنسبة تصل إلى 20% بفضل هذه الأدوات.
ولم يكن هذا التحول سطحياً، بل عميقاً إلى حد أن واحداً من كل أربعة صحفيين بات يستخدم الذكاء الاصطناعي في جمع المعلومات وصياغة المحتوى، بحسب ذات الدراسة، أما تقرير "ماكينزي" فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ توقع أن تزداد إنتاجية غرف الأخبار بنسبة 30% إذا ما أُحسن استخدام الأتمتة في المهام المتكررة كتحرير النصوص العاجلة، والتحقق الأولي من الأخبار.
ومع كل ذلك، لم تقف الفائدة عند حدود السرعة والإنتاجية، بل امتدت إلى ساحة دقة المعلومات، إذ بات بمقدور الخوارزميات تحليل كم هائل من البيانات في لحظات، ما مكنها من رصد الأخبار الكاذبة بدقة متزايدة، في وقت تشير فيه تقارير مركز "بيو" إلى أن 62% من مستخدمي الإنترنت تعرضوا لمعلومات مضللة على الأقل مرة واحدة.
أما عن الجانب الاقتصادي فحدث ولا حرج، فقد بلغ حجم سوق الذكاء الاصطناعي في قطاع الإعلام والترفيه نحو 13.34 مليار دولار في عام 2023، ومن المتوقع أن ينمو بمعدل سنوي مركب يبلغ 26.9% ليصل إلى أكثر من 55 مليار دولار بحلول عام 2030، وفقاً لتقرير "برايس ووترهاوس كوبرز"، الذي أكد أيضاً أن 85% من شركات الإعلام تخطط لزيادة استثماراتها في الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الثلاث المقبلة.
لكن كما هي الحال في كل ثورة، لا يخلو الطريق من عراقيل، فالتحديات الأخلاقية باتت تفرض نفسها بقوة لا يمكن تجاهلها، بدءاً من قضية التحيز الخوارزمي، مروراً بحماية الخصوصية، وليس انتهاء بالملكية الفكرية، إذ أظهرت دراسة لمعهد "ماساتشوستس للتكنولوجيا" أن بعض الخوارزميات قد تتأثر بانحيازات ضمنية تؤثر في زوايا التغطية الصحفية لبعض القضايا أو الفئات، لهذا تتزايد الدعوات لرقابة بشرية دقيقة.
هذه المخاوف لم تأتِ من فراغ، فقد عبر 56% من الصحفيين عن تأييدهم لفرض قيود على استخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى بالكامل، مطالبين بالإبقاء على الدور البشري ضماناً للمعايير المهنية، فيما رأى 45% من مديري غرف الأخبار ضرورة إعداد الصحفيين لمواجهة هذه المرحلة بتدريبات مكثفة، تضمن فهماً أخلاقياً دقيقاً لأدوات الذكاء الاصطناعي.
وطبعاً مع ازدياد اعتماد غرف الأخبار على الذكاء الاصطناعي، يبرز تحدٍّ أخلاقي آخر متمثل في تحقيق التوازن بين الأتمتة والإنسانية، وقد يؤدي الاعتماد المفرط على الآلة إلى استبدال الوظائف التقليدية، ما يثير القلق بشأن مستقبل الصحفيين.
وبين هذه المعطيات، تتبلور رؤية واضحة مفادها أن الذكاء الاصطناعي ليس عدواً، بل شريكاً محتملاً، داعماً لكن ليس بديلاً، نعم، قد تكتب الخوارزميات نصاً مترابطاً، لكنها لا تملك نبض الإنسان، ولا شغفه، ولا قدرته على التقاط لحظات الصدق في زوايا الحكايات، من هنا يأتي الحس الإنساني في السرد والتفسير، لتبقى القيم الصحفية كالدقة والنزاهة والاستقلالية مسؤولية بشرية بامتياز، لا تقبل التنازل أو التلقين.
وفي هذا الإطار، أظهرت دراسة لمؤسسة "بوينتر" أن أقل من 7% من الصحفيين يشعرون بخطر فقدان وظائفهم لصالح الذكاء الاصطناعي، ما يدل على أن هذه التكنولوجيا يمكن أن تستخدم كشريك مساند، لا كبديل، بل إن صحفاً كـ"الجارديان" البريطانية قررت احتضان هذه الثورة التكنولوجية عبر إشراك صحفييها في ورش متخصصة، ما أسفر عن رفع جودة التغطيات بنسبة 15% وتقليص الأخطاء التحريرية بنسبة 20%.
لهذا سيظل دوماً التحدي الحقيقي هو المحافظة على البعد الإنساني في العمل الصحفي، فمهما بلغت سرعة الذكاء الاصطناعي في معالجة البيانات، فإن القلم البشري هو وحده القادر على منح القصة روحها، وعلى إيصال الحقيقة لا بوصفها رقماً، بل بوصفها تجربة تحمل ألماً وأملاً.
الصحافة، في جوهرها، ليست مهنة فقط، بل رسالة تتصل بالوجدان الإنساني، والذكاء الاصطناعي رغم قوته في تقديم الأخبار بشكل أكثر دقة وسرعة، لكن لا يمكنه أن يحل محل الروح الإنسانية للصحفي التي تمنح القصة معناها الحقيقي وتأثيرها الدائم، فالصحافة ليست مجرد نقل معلومات فقط، بل هي إيصال الحقيقة بشكل واقعي وإنساني، لتبقى الصحافة بمثابة العمود الفقري للتعبير عن القضايا الإنسانية.
لذا فإن المسألة ليست في منازعة بين آلة وإنسان، بل في كيفية بناء شراكة ذكية، يقودها الوعي، وتحكمها الأخلاق، ويتصدرها الإنسان، وبينما تعيد الخوارزميات رسم الخارطة الإعلامية، تبقى القيم الصحفية والضمير المهني هما البوصلة التي تحفظ للصحافة صدقها، وتدفع بها إلى مستقبل أكثر إنسانية، وعمقاً، وابتكاراً.
في نهاية المطاف، لا يجب أن يشكل الذكاء الاصطناعي تهديداً للصحافة، بل فرصة لتطويرها وإعادة تعريفها بما يتماشى مع متغيرات العصر، ولكن نجاح هذا التحول مرهون بتحقيق توازن دقيق بين التقدم التكنولوجي والمسؤولية الأخلاقية.
نقلا عن "CNN الاقتصادية"

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

صفقة بين Telegram وxAI لجلب Grok للتطبيق: تعرّف إلى تفاصيل الصفقة!
صفقة بين Telegram وxAI لجلب Grok للتطبيق: تعرّف إلى تفاصيل الصفقة!

عرب هاردوير

timeمنذ 38 دقائق

  • عرب هاردوير

صفقة بين Telegram وxAI لجلب Grok للتطبيق: تعرّف إلى تفاصيل الصفقة!

أعلنت شركة Telegram عن شراكة جديدة مع xAI المملوكة لإيلون ماسك وذلك بهدف دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي الخاصة بالأخيرة في تطبيق المراسلة الشهير وجلب مساعد الذكاء الاصطناعي Grok لأكثر من مليار مستخدم حول العالم ودمجه بشكل مباشر في التطبيق. عام واحد= 300 مليون دولار وأسهمًا في xAI ونصف عائدات الاشتراك بموجب الصفقة التي ستمتد لعام واحد، ستحصل Telegram على 300 مليون دولار نقدًا وأسهمًا من xAI، إضافة إلى نصف عائدات اشتراكات xAI التي يتم بيعها عبر منصة Telegram. المدير التنفيذي لـ Telegram، بافل دوروف، قال بخصوص هذه الصفقة: 'معًا، سنحقق الفوز'، في إشارة واضحة إلى رهانه على تقنيات الذكاء الاصطناعي لتوسيع مكانة تطبيق المراسلة، وذلك في وقت تتسابق فيه منصات التواصل الكبرى نحو دمج الذكاء الاصطناعي في خدماتها. على سبيل المثال، رأينا Meta تدمج الذكاء الاصطناعي الخاص بها "Meta AI" في تطبيقاتها المختلفة مثل Messenger، وWhatsApp، وInstagram، وغيرهم. ومع ذلك، لا يزال كثير من المحللين يرون أن دمج الذكاء الاصطناعي في تطبيقات الدردشة لا يتماشى دومًا مع ما يبحث عنه المستخدمون الذين يلجؤون لهذه المنصات في الأصل للتواصل، لا لمحادثة الذكاء الاصطناعي أو لأي شيء آخر. الجدير بالذكر أن Telegram ظلت تحت المجهر في السنوات الأخيرة بسبب الانتقادات التي تطال سياساتها في الإشراف على المحتوى، حيث تعرض دوروف نفسه للاعتقال في فرنسا العام الماضي بعد اتهامات بتقصير المنصة في مواجهة أنشطة غير قانونية، لكن Telegram رفضت هذه الاتهامات وأكدت أنها تتعاون مع السلطات في مكافحة الجرائم الرقمية. في روايةٍ أخرى، يحاول ماسك الآن أن يجعل شركته xAI منافسًا مباشرًا لعمالقة الذكاء الاصطناعي، في وقت تواجه فيه شركاته الأساسية، مثل Tesla، ضغوطًا بسبب انخراطه في السياسة بشكلٍ رئيسي.

«الإمارات لبحوث الاستمطار» يعتمد 16 مقترحاً بحثياً أولياً
«الإمارات لبحوث الاستمطار» يعتمد 16 مقترحاً بحثياً أولياً

الاتحاد

timeمنذ ساعة واحدة

  • الاتحاد

«الإمارات لبحوث الاستمطار» يعتمد 16 مقترحاً بحثياً أولياً

أبوظبي (وام) أعلن برنامج الإمارات لبحوث علوم الاستمطار، التابع للمركز الوطني للأرصاد، ترشح 16 مقترحاً بحثياً أولياً للمرحلة المقبلة ضمن دورته السادسة، وذلك من بين 140 مقترحاً تم تسلمها في المرحلة الأولية من عملية التقييم. جاء الإعلان بعد عملية تقييم دقيقة امتدت لمدة شهر، وانتهت باجتماع لجنة المراجعة الفنية الدولية التي تضم عدداً من الخبراء والمتخصصين من مختلف أنحاء العالم. وعقدت اللجنة اجتماعاً افتراضياً يومي 20 و21 مايو الجاري، لاختيار أفضل العروض البحثية، من حيث مدى مواءمتها مع مجالات البحث الرئيسة، وتميزها العلمي وتأثيرها المحتمل، وخبرة الباحث وإمكانية نجاح المشروع، وفرص التعاون، إضافة إلى فرص تطوير قطاع أبحاث الاستمطار. وتغطي المقترحات البحثية المقدمة المجالات البحثية الرئيسة ذات الأولوية بالنسبة للدورة السادسة، والتي تشمل تطوير مواد التلقيح المحسنة، أنظمة تكوين السحب وتعزيز الاستمطار، تطوير الأنظمة الجوية المستقلة، دراسة التدخل المناخي المحدود، وتطوير النماذج والبرمجيات والبيانات المتقدمة. ودعا البرنامج الباحثين المتأهلين للمرحلة المقبلة، إلى تقديم البحوث الكاملة في موعد أقصاه 28 أغسطس 2025، على أن يتم الإعلان عن فائزي المنح البحثية في يناير 2026. ويدعم البرنامج ضمن دورته السادسة لما يصل إلى ثلاثة مشاريع بحثية مبتكرة، من خلال تقديم منح مالية بقيمة 1.5 مليون دولار أميركي (5.511 مليون درهم) لكل مشروع فائز موزعة على ثلاث سنوات، بواقع 550 ألف دولار كحد أقصى سنوياً. وقال الدكتور عبدالله المندوس، مدير عام المركز الوطني للأرصاد رئيس المنظمة العالمية للأرصاد الجوية: إن دولة الإمارات تواصل من خلال المركز الوطني للأرصاد جهودها الريادية في دعم أبحاث الاستمطار، وذلك تماشياً مع رؤية القيادة الرشيدة في مواجهة تحديات ندرة المياه وتعزيز العمل المناخي، حيث تعكس المقترحات الأولية، التي تم اختيارها للمرحلة المقبلة مستوى التميز العلمي، الذي يسعى برنامج الإمارات لبحوث علوم الاستمطار إلى تحقيقه ضمن التزامه بدعم الأبحاث القادرة على إحداث أثر حقيقي في تعزيز موارد المياه، مشيراً إلى أن المركز يسهم من خلال دعم المشاريع الواعدة وتعزيز التعاون الدولي، في تطوير حلول مستدامة ترسّخ مكانة دولة الإمارات كمركز عالمي في أبحاث علوم الاستمطار. وقالت علياء المزروعي، مديرة برنامج الإمارات لبحوث علوم الاستمطار، إن المقترحات البحثية المرشحة للمرحلة المقبلة تميزت بجودتها العالية ومواءمتها مع الأولويات البحثية الإستراتيجية للبرنامج، مشيرة إلى أن مناقشات اللجنة التي امتدت على مدار شهر كامل، أبرزت أهمية أن تتسم الحلول البحثية المقدمة بقدر عالٍ من التميز العلمي. جودة عالية كان المركز الوطني للأرصاد قد استقبل 140 مقترحاً بحثياً مبتكراً، وبنسبة زيادة وصلت إلى 47 %، مقارنة بالدورة الخامسة ضمن مرحلة تقديم المقترحات الأولية للدورة السادسة، وشهدت هذه الدورة مشاركة 96 فريقاً بحثياً و44 باحثاً مستقلاً من 48 دولة عبر خمس قارات. واستقطبت الدورة السادسة من البرنامج مشاركة واسعة من العديد من الجامعات والمراكز البحثية الرائدة على مستوى دولة الإمارات والعالم، من بينها جامعة كاليفورنيا «إيرفين ولوس أنجلوس»، جامعة كولومبيا، جامعة برينستون، جامعة فيكتوريا، المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ، جامعة ستوكهولم، جامعة كيوتو، جامعة تسينغهوا، جامعة البوليتكنيك في ميلانو، جامعة خليفة، جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، الجامعة الأميركية في الشارقة، وشركة جلوبال إيروسبيس لوجيستكس.

«النفوذ التكنولوجي»..كيف أفل أميركياً؟
«النفوذ التكنولوجي»..كيف أفل أميركياً؟

الاتحاد

timeمنذ 3 ساعات

  • الاتحاد

«النفوذ التكنولوجي»..كيف أفل أميركياً؟

«النفوذ التكنولوجي»..كيف أفل أميركياً؟ بالنسبة للمثقفين من نمط فكري معين، لا يوجد ما هو أكثر إثارة من لعبة اكتشاف القوة «الحقيقية» وراء السلطة. من يُحرّك الخيوط؟ أي مصالح طبقية يخدمها النظام؟ من هو «المتحكم الفعلي»؟ مثل هذه الأسئلة تُلهم نقاشات متعمقة، ونظريات مؤامرة. حتى الآن، كان الهدف المفضل في إدارة ترامب هو صناعة التكنولوجيا. يتحدث «إيان بريمر»، رئيس مجموعة أوراسيا للاستشارات السياسية، عن «اللحظة التكنولوجية أحادية القطب» و«الاندماج المخيف بين قوة التكنولوجيا وقوة الدولة». ويأسف «ستيف بانون»، المستشار السابق لترامب، لتأثير «التكنولوجيين الإقطاعيين العالميين المصممين على تحويل الأميركيين إلى أقنان رقميين». أما الجلسة الافتتاحية لمؤتمر معهد أسبن إيطاليا حول مستقبل الرأسمالية، الذي عُقد في ميلانو في 16 مايو، فقد تناولت موضوع «رأسمالية التكنولوجيا: العصر الذهبي الجديد لأميركا». (التكنولوجيا الإقطاعية هو مصطلح يصف نظاماً اقتصادياً وسياسياً جديداً، حيث تتصرف شركات التكنولوجيا القوية، مثل جوجل وأمازون، مثل اللوردات الإقطاعيين، وتتحكم في الوصول إلى «الأرض الرقمية» (الحوسبة، والبيانات الضخمة، والمنصات) وتستخرج القيمة من المستخدمين، على غرار الطريقة التي استخرج بها اللوردات الإقطاعيون القيمة من الأقنان في العصور الوسطى. من السهل إدراك جاذبية هذه الحجة. تمارس صناعة التكنولوجيا الأميركية نفوذاً استثنائياً على الاقتصاد الأميركي: تُمثل الشركات السبعة الكبرى ما يقارب ثلث قيمة مؤشر ستاندرد آند بورز 500. وقد ساهم رواد التكنولوجيا بسخاء في حملة إعادة انتخاب ترامب وحفل تنصيبه. حتى أن إيلون ماسك اكتسب لقب «الرئيس المشارك»، وهو يجول في المكتب البيضاوي. لكن كلما تعمقنا أكثر في تحليل «اللحظة التكنولوجية أحادية القطب»، كلما بدت أقرب إلى السراب. وربما أكثر ما يثير الدهشة في الصناعة التكنولوجية الأميركية، رغم هيمنتها الاقتصادية، هو افتقارها النسبي إلى النفوذ السياسي. يبدو أن ماسك لم يعد ضمن الدائرة المقربة لترامب رغم إنفاقه ما يقارب 300 مليون دولار لدعم إعادة انتخابه. كان بريقه السياسي قصيراً وغير مثمر. ولم تكن وزارة الكفاءة الحكومية (DOGE) سوى ضجيج بلا نتائج. أما وعده بخفض 2 تريليون دولار من الإنفاق الحكومي فقد تقلص إلى 150 مليار دولار، وربما يتقلص أكثر. وليس السبب في ذلك فقط أن المحاكم أبطلت حملة الإقالات التي شنّها ماسك، بل أيضاً لأن المشروع برمته كان سيء التخطيط: وكما اعترف «ماسك» نفسه، فإن الطريقة الوحيدة لتوفير مبالغ كبيرة هي عبر إصلاح نظام الاستحقاقات الاجتماعية – وهو أمر يتطلب سنوات من بناء التحالفات. وفشل «ماسك» أيضاً في إقناع ترامب بإلغاء التعريفات الجمركية. وحتى الآن، مغامرة «ماسك» السياسية الديمقراطية كلفته نحو ربع ثروته، بعد انهيار أسهم تسلا وتخلي جمهورها عنه. فلا عجب أن ماسك أعلن مؤخراً رغبته في التراجع والانسحاب، ما يعكس فشل قطاع التكنولوجيا بشكل أوسع في تحديد الأجندة الاقتصادية. إن اهتمام ترامب بالتعريفات يضر بطبيعة الحال بصناعة تعتمد على الإمداد العالمي. فكرت أمازون لفترة وجيزة في إدراج تكلفة الرسوم الجمركية ضمن تفاصيل الأسعار، قبل أن يتصل ترامب بالرئيس التنفيذي جيف بيزوس غاضباً. والأسوأ من الرسوم ذاتها هو تقلب ترامب المستمر في تعديلها، مما جعل من الصعب على الشركات التخطيط للمستقبل. كما أن سياساته المعادية للهجرة تعرقل قدرة الشركات على توظيف العمال المهرة الأجانب الذين تعتمد عليهم. وتشير الإحصاءات الحديثة إلى أن الولايات المتحدة لم تعد مستورداً صافياً للمواهب المتخصصة في الذكاء الاصطناعي.أما حرب ترامب على الجامعات – والتي تشمل تجميد أو إلغاء المنح، وتغيير صيغ التمويل – فإنها تهدد النظام الابتكاري الأميركي المزدهر. وقد تتصاعد هذه الحرب. فميزانية ترامب المقترحة لعام 2026 تتضمن خفض تمويل المعاهد الوطنية للصحة بنسبة تقارب 40%، ومؤسسة العلوم الوطنية بنسبة 57%. كما أن مقترحاته لفرض ضرائب على عائدات الوقف الجامعي بنسبة 14% أو 21%، أو إلغاء الإعفاء الضريبي لها، من شأنها أن تعيق محاولات الجامعات سد فجوة التمويل. تدين رئاسة ترامب أكثر للشعبوية منها لقوة التكنولوجيا. صحيح أن الشعبويين من أنصار ترامب يصفقون لماسك عندما يتحدث عن إدخال أجزاء من الحكومة في «ماكينة الفرم»، لكنهم لم ينسوا أنه حتى وقت قريب، كان العديد من رموز التكنولوجيا ليبراليين اجتماعياً وتبرعوا بسخاء للديمقراطيين، كما أنهم نقلوا الوظائف الأميركية إلى الخارج. كانت صناعة التكنولوجيا تتوقع أن يؤدي انتخاب ترامب إلى تفكيك منظومة مكافحة الاحتكار التي أطلقها جو بايدن. لكن العكس هو ما حدث: لجنة التجارة الفيدرالية لا تزال تتابع قضيتها ضد ميتا بسبب شرائها إنستجرام وواتساب لقمع المنافسة الناشئة، ووزارة العدل مصممة على إجبار جوجل على بيع متصفح كروم. وقد تم رفع هاتين القضيتين خلال ولاية ترامب الأولى، واستمرت في عهد بايدن، مما يشير إلى توافق متزايد ضد هيمنة شركات التكنولوجيا. بقدر ما يمتلك ترامب سياسة اقتصادية، فإنه يركز على إعادة التصنيع إلى الداخل أكثر من دعم التكنولوجيا. يريد ترامب إعادة التصنيع لأنه يخدم العمال ذوي الياقات الزرقاء الذين يعتقد أنهم جعلوا أميركا عظيمة، وأيضاً لأن أميركا تحتاج إلى تصنيع المزيد لمواجهة منافستها الصينية. عموماً، لم يفتح كبار التنفيذيين في قطاع التكنولوجيا جيوبهم لترامب لأنهم يشاركونه رؤيته، بل لأنهم أدركوا أن «الديمقراطيين» يسيرون نحو الهزيمة بقيادة بايدن، وكانوا يخشون من أن ينقلب ترامب ضدهم. إذا كان لترامب قاعدة طبقية، وفقاً للمصطلحات الماركسية القديمة، فهي في الشركات العائلية أكثر من عمالقة التكنولوجيا في الساحل الغربي. بيئته الطبيعية هي بين رجال الأعمال الذين ورثوا شركاتهم، والذين يعملون في العقارات والصناعات الاستخراجية. لكن حتى ارتباط ترامب برجال الأعمال التقليديين محدود. فالأمر الأهم لفهم رئاسة ترامب هو أنه لا يمثل مصالح أي قوة اقتصادية، بل يمثل مصالحه الشخصية. والمثير للقلق بشأن رئاسته ليس أن هناك قوى اقتصادية مظلمة تسحب الخيوط من وراء الكواليس، بل إن رجل الأعمال الذي يسحب الخيوط (ويحصد الغنائم) هو ترامب نفسه. *كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية العالمية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store