أحدث الأخبار مع #العصرالعباسيالأول


الشرق الأوسط
٠٤-٠٤-٢٠٢٥
- ترفيه
- الشرق الأوسط
العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي
إذا كانت نقاط التقاطع بين صخب الحياة العباسية المدينية، وبين بوادي الحجاز التي كانت مأهولة بالحرمان وشظف العيش في العصر الأموي، هي من الندرة بمكان، بحيث يصعب أن نعثر في العصر العباسي الأول على نسخ عذرية مماثلة لمجنون ليلى، وجميل بثينة، وكثيّر عزة. إلا أن ما تقدم لا يعني بالضرورة الغياب التام لحالات التتيم العاطفي وتجارب العشق الصادقة في ذلك العصر. ذلك أن الإشباع الجسدي لا يوقف وجيب القلوب، والحصول على المتعة لا يروي عطش الروح، ولا يوفر للشخص المعني ما يحتاج إليه من الحب والعاطفة الصادقة. وهي الفرضية التي تجد ضالتها المثلى في حالة العباس بن الأحنف، الذي لم تحل حياته المترفة ووسامته الظاهرة، وظرفه المحبب، دون وقوعه في حب «فوز»، المرأة التي شغلته عن كل ما عداها من النساء. ومع أن الرواة قد اختلفوا حول نشأة العباس ونسبه، حيث ذكر الأصفهاني أنه نشأ في بغداد وينتمي إلى بني حنيفة العرب، وقال الأخفش إنه كان من عرب خراسان، ورأى آخرون أنه نشأ في البصرة ثم وفد إلى بغداد، فقد أجمع المبرّد والصولي والأصمعي على تقريض شعره، ورأى الجاحظ أنه كان شاعراً غزِلاً شريفاً مطبوعاً، وله مذهب حسن ولديباجة شعره رونق وعذوبة، وأنه لم يتجاوز الغزل إلى مديح أو هجاء. لكن اللافت أن الأصفهاني لم يولِ العباس وأخباره الكثير من الاهتمام، ولم يركز إلا على أشعاره الصالحة للغناء، دون أن يأتي على ذكر فوز، أو أيٍّ من معشوقاته الأخريات. ورغم أن العباس يعرض في ديوانه للكثير من النساء، مثل ظلوم وذلفاء ونرجس ونسرين وسحر وضياء، ومعظمهن من الجواري، فإن فوز هي التي احتلت النصيب الأوفر من شعره الغزلي. ومع ذلك، فقد ظلت هويتها الحقيقية في دائرة الغموض واللبس. وحيث ذهب البعض إلى أنها والجارية ظلوم تسميتان لامرأة واحدة، إلا أن قصائد الشاعر تؤكد أن فوز لم تكن جارية، بل امرأة من الأشراف ذات نسب عريق. وفي مواضع عدة يشير العباس إلى أنه أخفى اسم حبيبته الحقيقي خشية على نفسه وعليها، كما في قوله: كتمتُ اسمها كتمان من صار عرضةً وحاذر أن يفشو قبيح التسمُّعِ فسمّيتها فوزاً ولو بحتُ باسمها لسُمِّيتُ باسمٍ هائل الذكْر أشنعِ وفي بحثها النقدي الاستقصائي عن العباس بن الأحنف، ترى الكاتبة العراقية عاتكة الخزرجي أن حبيبة الشاعر لم تكن «كائناً متخيلاً، بل امرأة من لحم ودم، وأن ديوانه الشعري كان سيرته وقصة قلبه». إلا أن الخزرجي تذهب إلى أبعد من ذلك، فترجح أن تكون فوز هي الاسم المعدل لعليّة بنت المهدي، أخت هارون الرشيد، وأن العباس أخفى هويتها الحقيقية خوفاً من بطش الخليفة، الذي كان الشاعر أحد جلسائه. وقد كان يمكن لاجتهاد الخزرجي حول هوية فوز، أن يكون أكثر مطابقة للحقيقة، لو لم يشر الشاعر في غير موضع إلى أن حبيبته قد انتقلت للعيش في الحجاز، في حين أن عليّة، ظلت ملازمة لبغداد ولقصر أخيها الرشيد بالذات. وأياً تكن هوية حبيبة العباس الحقيقية، فقد بدت المسافة الشاسعة التي تفصله عنها، بمثابة النقمة والنعمة في آن واحد. فهي إذ تسببت له بالكثير من الجروح العاطفية والروحية، إلا أنها منحته الفرصة الملائمة لإحالتها إلى خانة الشعر، ولتحويلها نداءً شجياً في صحراء الغربة الموحشة، كقوله فيها: أزيْنَ نساءِ العالمين أجيبي دعاء مشوُقٍ بالعراق غريبِ أيا فوز لو أبصرتِني ما عرفْتني لطول نحولي دونكم وشحوبي أقول وداري بالعراق، ودارها حجازيةٌ في َحرّةٍ وسهوبِ أزوّار بيت الله مُرّوا بيثربٍ لحاجة متبولِ الفؤاد كئيبِ ولو تركنا هذه الأبيات غفلاً من الاسم، لذهب الظن إلى أن ناظمها الفعلي هو جميل بثينة أو مجنون ليلى. وليس من قبيل الصدفة أن ينسب الرواة إلى العباس، ما نُسب قبله إلى المجنون، ومن بينها مقطوعة «أسرْب القطا هل من يعير جناحه؟» المثبتة في ديوانَي الشاعرين. وإذا كان لذلك من دلالة، فهي أن هاجس العباس الأهم، كان يتمثل في إعادة الاعتبار للشعر العذري بوصفه الحلقة المفقودة في الحب العباسي، إضافة إلى أنه أراد في ظل القامات الشاهقة لأبي نواس وأبي تمام وغيرهما، أن يحقق عبر الحب العذري، ما يمنحه هويته الخاصة ويمهد له الطريق إلى الخلود. وهو ما يظهر في قوله إن التجربة التي اختبرها سوف تكون «سنناً للناس»، أو قوله: «وصرنا حديثاً لمن بعدنا، تحدّث عنا القرونُ القرونا». وإذ يقارب المستشرق الفرنسي جان كلود فاديه في كتابه «الغزل عند العرب»، تجربة العباس من زاوية كونها خروجاً على التجارب الحسية البحتة لمعاصريه، يتوقف ملياً عند حبه لفوز، متسائلاً عما إذا كانت الأخيرة قد وُجدت حقاً، أم أن الشاعر قد ألفها من عنديات توقه للمرأة الكاملة. وإذا كان فاديه قد رأى في فوز المعادل الشرقي لبياتريس، حبيبة دانتي في «الكوميديا الإلهية»، فإن النموذج الغزلي الذي راح العباس ينسج على منواله، هو نموذج عربي بامتياز. وحيث كانت البيئة الحاضنة لشعره خالية من البوادي المقفرة والفقر المدقع، فقد استعاض الشاعر عن الصحراء المحسوسة، بصحراء الحب المستحيل الذي يلمع كالسراب في أقاصي العالم، موفراً له ما يلزمه من بروق المخيلة ومناجم الإلهام. ومع أن العباس كان يسير عبر قصائده الغزلية والعاطفية، في اتجاه معاكس لنظرائه ومجايليه من الشعراء، فإن من يقرأ ديوانه لا بد أن ينتابه شعور ما، بأنه ليس إزاء شاعر واحد متجانس التجربة والمعجم والأسلوب، بل إزاء نسختين أو أكثر من الشخص إياه. فهناك القصائد الطويلة المترعة بالحسرة والوجد، التي تحتل فوز مكان الصدارة فيها، وهناك بالمقابل النصوص القصيرة ذات المعاني والمفردات المستهلكة، التي يدور معظمها حول مغامرات الشاعر العابرة مع القيان والجواري. إلا أن ما يدعو إلى الاستغراب هو أن يكون بين المنظومات المهداة إلى فوز ما هو متكلف ومستعاد وسطحي، كمثل قوله: أيا سيدة الناسِ لقد قطّعت أنفاسي يلوموني على الحبّ وما في الحب من باسِ ألا قد قدُمتْ فوزٌ فقرَّت عينُ عباسِ رغم أن العباس يعرض في ديوانه للكثير من النساء، ومعظمهن من الجواري فإن فوز هي التي احتلت النصيب الأوفر من شعره الغزلي ولعل الأمر يجد تفسيره في كون العباس لم يحصر اسم فوز في المرأة التي محضها قلبه، بل استعاره لغير واحدة من نسائه العابرات. إضافة إلى أن رغبته بأن تصدح بهذا الاسم حناجر المغنين والمغنيات، جعلته يتنازل عن سقف شعريته العالي، لمصلحة النصوص السهلة والصالحة للغناء، خصوصاً أن احتفاء عصره بهذا الفن، لم يكن موازياً لاحتفاء الأمويين به فحسب، بل كان متجاوزاً له بفعل التطور والرخاء واختلاط الشعوب والثقافات. وعلينا ألا نغفل أيضاً أن النزوع النرجسي للعباس، قد دفعه إلى أن يصيب بقصائده ومقطوعاته أكثر من هدف. فرغبته في أن يحاكي التجربة الفريدة لعمر بن أبي ربيعة، والتي جعلته يكرس بعضاً من النصوص لسرد فتوحاته ومغامراته العاطفية التي يواجه فيها المخاطر ليظفر بامرأته المعشوقة، لم تحل دون رغبته الموازية في التماهي مع تجارب العذريين الكبار، وما يستتبعها من بوح صادق وشفافية مفرطة. إلا أن المقارنة بين النموذجين الحسي والمتعفف في تجربة الشاعر، لا بد أن تصبح في مصلحة هذا الأخير، حيث يذهب العباس بعيداً في الشغف وحرقة النفس، وفي الأسئلة المتصلة بالحب واللغة والفراق والموت. وهو إذ يحول العناصر والمرئيات مرايا لروحه الظامئة إلى الحب، تتراءى له فوز في كل ما يلوح له من الأشياء وظواهر الطبيعة، حتى إذا أبصر السيل منحدراً من أعالي الهضاب، تذكر أن ثمة في مكان قريب، حبيبة له «مسيلة» للحنين والدموع وآلام الفراق، أنشد قائلاً: جرى السيلُ فاستبكانيَ السيلُ إذ جرى وفاضت له من مقلتيّ سروبُ وما ذاك إلا حيث أيقنتُ أنه يمرُّ بوادٍ أنتِ منه قريبُ يكون أجاجاً دونكمْ فإذا انتهى إليكمْ تلقَّى طيبكمْ فيطيبُ أيا ساكني شرقيّ دجلةَ كلُّكمْ إلى النفس من أجل الحبيب حبيبُ


موقع كتابات
٠١-٠٣-٢٠٢٥
- علوم
- موقع كتابات
مقامة الترجمة
شعر العرب بعد الفتح الإسلامي الكبير (شرقاً وغرباً) بحاجتهم الماسة إلى اقتباس العلوم والآداب , والتعرف إلى فكر وحضارات الأمم السابقة , ليستفيدوا من علومهم الطبيعية والفلكية والطبية والكيميائية والرياضيات وكل ما يمكن أن يستفاد منه في حياتهم اليومية , وكانت الترجمة إحدى البدايات الحقيقية لمعرفة المسلمين بعلوم الأوائل , ويقال إن حركة الترجمة والنقل من اليونانية والسريانية إلى العربية ظهرت بدايتها في عصر الدولة الأموية على يد خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85هـ) الذي كان مهتماً بالكيمياء فاستخدم من يترجم له كتب ذلك العلم , وكانت تلك البداية بطيئة , ولم تقو حركة الترجمة وتزدهر وتنطلق بقوة إلا في عهد الدولة العباسية. لم يغفل الأمويون عن الاعتناء بالعلوم و العلماء , و ظل كل من الخلفاء الأمويين يسهمون في إنماء العلوم الجديدة من خلال الترجمة و التعريف , يقول الدكتور عز الدين نجيب محمد : (( و خلال هذا العصر ظلت البلدان الأجنبية تعيش تحت لواء المسلمين , و اعتنقت شعوبها الدين الإسلامي , واختلط العرب بالشعوب المختلفة من الفرس و الروم و مصر, فازداد شعورهم بالاتصال بغيرهم لأغراض مختلفة من الدين و السياسة , رغم انشغالهم بالفتوحات و تثبيت أركان الدولة , اهتموا بالترجمة و مع ذلك فقد خطت الترجمة خلال عصرهم الخطوات الأولى , فقد توجهت إلى الطب و الفلك و الكيمياء و غيرها , و كانت أول ترجمة ذات طابع علمي في عهد الدولة الأموية على يد خالد بن يزيد بن معاوية الذي كان محبا للعلوم و الفلسفة )) . يكتب ابن النديم بهذا الصدد في كتابه المعروف بالفهرست : (( كان خالد بن يزيد بن معاوية يسمى حكيم آل مروان , وكان فاضلا في نفسه , وله همة و محبة للعلوم , خطر بباله الصنعة , فأمر بإحضار جماعة من الفلاسفة اليونانيين ممن كانوا ينزلون مدينة مصر , وقد تفصحوا بالعربية , وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني و القبطي إلى العربي و هذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة )). مورست الترجمة في العصر العباسي الأول , والذي كان من أزهى العصور في تاريخ العالم والعرب , وقد كان للترجمة دور كبير في الازدهار الذي طال كل أركان الدولة وعلومها في شتى المجالات , والحق أنّ الخلفاء العباسيين كانوا من أهم الدوافع التي أدت إلى هذا الازدهار , وذلك بسبب تشجيعهم الدائم للعلم والعلماء والأدب. كان لتشجيع خلفاء الدولة العباسية لحركة الترجمة دور بارز في إنماء عملية الترجمة وتقدمها ونجاحها , وكان الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور أول من اهتم بالترجمة والعلوم من خلفاء بني العباس وطلب من بيزنطة ما عندها من مخطوطات وكتب يونانية , ثم جاء الخليفة السابع (عبد الله المأمون) تمم ما بدأه جده , فأقبل على طلب العلم من مواضعه , فكاتب ملوك الروم وسألهم ما لديهم من كتب فلسفية , فبعثوا إليه منها بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطو وأبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس , وغيرهم , وأحضر لهم مهرة المترجمين فترجموها له ,كذلك كان يطلب من أمراء البلاد المفتوحة الكتب بدلاً من الغرامة المفروضة عليهم , ولما انتصر المأمون على الروم عام 215هـ , وكان يعلم أن اليونان حينما انتشرت النصرانية في بلادهم جمعوا كتب الفلسفة من المكتبات وألقوا بها في السراديب , طلب من ملك الروم أن يعطيه هذه الكتب بدلاً من الغرامة. ازدهر في عهد المأمون (بيت الحكمة) الذي أصبح لاحقاً أهم وأعظم معهد ثقافي نشأ بعد المتحف الإسكندري الذي أسس في القرن الثالث قبل الميلاد , وشجع الخلفاء المترجمين على نقل مختلف أنواع العلوم والمعارف التي كانت لدى الأمم التي سبقتهم , فاستفاد العرب منها أيما فائدة حتى نبغوا بل تفوقوا على غيرهم بعد أن أضافوا إلى تلك العلوم مبتكرات جديدة , وكان (بيت الحكمة) حجر أساس لمدرسة بغداد التي ظل تأثيرها حتى النصف الثاني من القرن الخامس عشر, ويرجع الفضل إلى هذه المدرسة الزاهرة في الحفاظ على استمرار الحضارة , وإصلاح سلسلة المعارف الإنسانية التي حطمها بقسوة في القرن السادس الميلادي اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها. ويقال إن الرشيد والد المأمون أنشأ (دار الحكمة) وبعث عماله إلى الإمبراطورية الرومانية , وعين عالماً مسيحيا مسؤولاً عن الترجمة وهو ماسويه والد يوحنا بن ماسويه , وكان يوحنا يجيد اليونانية , وهوأستاذ حنين بن إسحاق أشهر المترجمين في العصر العباسي , وعين المأمون يوحنا بن ماسويه أميناً على الترجمة في بيت الحكمة , وكان المأمون معجباً بحنين بن إسحاق ومقدراً لعلمه وفضله فاختاره لتقليده رئاسة بيت الحكمة , وكان يعمل في (دار الحكمة) أيضاً بن نوبخت الذي كان يترجم من الفارسية إلى العربية. عام 1976 تأسس أول كيان قانوني للترجمة في العراق , كان يعرف (بهيئة الترجمة المركزية) للإشراف على حركة الترجمة ورعايتها , وكان ذلك الكيان البذرة التي نشأت منها دار المأمون للترجمة والنشر في منتصف عام 1980 نظراً للحاجة الماسة إلى دائرة متخصصة تستوعب التطور الحاصل في الترجمة , وقد ازدهرت هذه الدائرة فترة الثمانينات عندما رأسها ألأستاذ ناجي الحديثي , وتمكن من تعيين الخريجين ألأوائل في اقسام اللغات المختلفة , وأستصدر لهم قرارا بأنتدابهم من الخدمة العسكرية , ليقوموا بمهام الترجمة حيث أستطاعوا من ترجمة اعداد كبيرة من المؤلفات الروسية والأسبانية وألأنكليزية والفرنسية والبرتغالية وألأيطالية , ونجحوا في نقل ثقافات تلكم البلدان الى القراء العراقيين , مما عكس جوا ثقافيا مزدهرا في البلاد .


الدستور
٢٠-٠٢-٢٠٢٥
- سياسة
- الدستور
الترجمة والثقافة والأيديولوجيا
الأستاذ الدكتور مجد الدين خمش/ عميد كلية الآداب الأسبق- الجامعة الأردنية ينظر إلى الأيديولوجيا على أنها علم الأفكار الذي يدرس نشوئها ووظائفها، وتأثيراتها على الوعي الفردي، والمجتمع بمؤسساته المتنوعة، وعلى المجتمعات الأخرى. وبالمعنى السياسي هي عقيدة دولة، أو حزب سياسي، أو مجموعة من الأفراد تتكون من مجموعة القيم والتبريرات والرؤى التي تتبناها هذه البنى الاجتماعية والسياسية. ويرى عبد الله العروي في كتابه (مفهوم الأيديولوجيا) الصادر عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء، في طبعته الثامنة عام 2012 أن الأيديولوجيا هي «رؤية العالم بحسب رغبات وتفضيلات ومصالح دولة معينة أو فئة معينة، وليس كما هو العالم في ذاته». ويتداخل هذا المفهوم للأيديولوجيا مع مفهوم الثقافة المجتمعية التي هي أيضا رؤية الجماعة للعالم، ولنفسها، وهُويتها، وطريقة حياتها المنسجمة مع هذه الرؤية. وبالتالي، غالبًا ما تكون العلاقة بين الأيديولوجيات، كما هي بين الهُويات، والثقافات المجتمعية علاقة تنافس أو صراع كامن أو مكشوف بهدف الهيمنة على المعلومات والأفكار والرؤى بواسطة وسائل الإعلام الجماهيرية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وبرامج الذكاء الاصطناعي، والديبلوماسية السياسية، والصراع العسكري في نهاية المطاف. والأيديولوجيا قد تكون معرفية وإعلامية تتغلغل في ثنايا الآداب والفنون والعلوم ومناهج التعليم تعمد لنشر تحليلات ومعلومات تخدم مصالح من يقدمها بشكل مباشر كما في أدبيات الاستشراق، وفي خطابات الإعلام الإسرائيلية بشكل خاص. أو بشكل غير مباشر كما في ترجمات العديد من الروايات والدراسات الاجتماعية التي توثّق طريقة حياة الطبقة الوسطى الغربية. ومن الأمثلة على ذلك استخدام السرد الروائي في تعليم الفلسفة وتاريخها، والبحث عن الهُوية وتطوير الذات من خلال الفلسفة، كما فعل جوستاين غارود، النرويجي في كتابه (عالم صوفي) الصادر عام 1991، وقد ترجم إلى عدة لغات عالمية من بينها العربية. كذلك فإن ترجمة كتاب ماكس فيبر من الألمانية والإنجليزية إلى العربية (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) دعم توجهات قيمية ودينية إيجابية مهمة يمكن الاستفادة منها، مثل: الشغف بالعمل، وإتقان العمل وتجويد الصنعة، وعدم الغش، والعقلانية، والسلطة القانونية، والتوجهات الاستثمارية، ودافع تحقيق الربح المعتدل، والمشاركة في تنمية الاقتصاد والمجتمع. معتبرّا إياها من الحسنات التي تشفع للمؤمن يوم القيامة. ولفئة المترجمين أهمية كبيرة، فهم جسور حضارية بين الشعوب يدعمون التواصل بين الأسواق وبين الثقافات والفنون، ويوسّعون الآفاق ويزيدون المعرفة بالثقافات الأخرى خصوصًا قبل ثورة تكنولوجيا الاتصالات، ووسائل التواصل الاجتماعي. وقد كان للمترجمين القدماء عن اليونانية والفارسية من أمثال يعقوب الزهاوي، وحنين بن إسحق، وعمر ابن فرخان الطبري ابن سينا، والفارابي- وكان أغلبهم ضمن مؤسسة بيت الحكمة في بغداد أيام الخليفة العباسي المأمون- دورهم الكبير في تطور الحضارة العربية والإسلامية. ويتضح في كتاب شوقي ضيف (سلسلة تاريخ الأدب العربي: العصر العباسي الأول) الأثر الكبير لهم في نقل المعارف والعلوم والتقنيات والفنون من اليونانية والفارسية إلى الحضارة العربية والإسلامية مما أسهم في زيادة قوتها ومنعتها العسكرية. وتكررت عملية شبيهة بها فيما بعد في اليابان حيث قام المترجمون اليابانيون وبشغف قومي عميق بترجمة العلوم وأساليب صناعة التقنيات والمحركات البخارية عن اللغة الهولندية واللغات الأوروبية الأخرى. مما كان له أثره الكبير في نقل التقنيات والعلوم الحديثة، والصناعات الميكانيكية إلى الحضارة اليابانية الإقطاعية وتوطينها يابانيًا في ذلك الوقت مما أسهم في تقدمها السريع إلى الرأسمالية الصناعية. وفي المرحلة الراهنة يتوقع ازدياد أهمية المترجمين المدربين في حقول الذكاء الاصطناعي AI والثورة الصناعية الرابعة في مختلف البلدان العربية. وقد يتم تطوير قاموس جديد لهذا الحقل التقني، إضافة إلى القواميس الكلاسيكية المهمة مثل: قاموس أكسفورد الذي يقدم عدة مرادفات للكلمة باللغة الإنجليزية، وقاموس المورد (إنجليزي- عربي)، وقاموس جوجل الإلكتروني Google Translate الذي يترجم النص إلى عدة لغات بما فيها العربية. وكذلك برامج الذكاء الاصطناعي مثل نموذج ChatGPT الذي طورته شركة Open AI الأمريكية، ونموذج Meta الذي طورته شركة مايكروسوفت، ونموذج Deep Seek الذي طورته شركة صينية، ونموذج Reverso لجميع الاحتياجات اللغوية، وطورته شركة فرنسية متخصصة في الذكاء الاصطناعي. هذا وقد تحولت الترجمة من المبادرات الفردية التي ميزت المترجمين العرب في بدايات عصر النهضة الحديثة إلى مهنة لها قواعدها، وبرامجها التدريبية، ومؤسساتها، وجوائزها التشجيعية والتكريمية، وجمعياتها المتخصصة التي تقوم مقام النقابات في تنظيم المهنة وضمان الالتزام بأخلاقياتها. كما تهتم مجامع اللغة العربية بالترجمة وضبط المصطلحات المتدفقة من البلدان الصناعية المتقدمة. وسواء أكان المترجم يمارس الترجمة الأدبية، أو السياسية، أو القانونية، أو الترجمة الفورية في المنتديات والمؤتمرات، وعلى شاشات القنوات الفضائية فإن عليه أن يتقن بشكل تام العديد من المهارات اللغوية والثقافية، وأن يتحلى بالموضوعية والدقة في نقل الخطاب، خصوصا في مواقف الترجمة الفورية، بدون حذف أو تعديل، ولكن بمرونة بلاغية مناسبة بحيث يهتم بالتشبيهات والاستعارات، ولغة الجسد. إضافة إلى أمثلة التناصّ، وتفاعل الأنظمة الأسلوبية بما يشمل إعادة الترتيب، والتلميح والإيحاءات، والمحاكاة. وعند الاستعانة ببرامج الذكاء الاصطناعي في الترجمة عليه أن ينتبه لميكانيكية الترجمة في هذه البرامج، ويعمل على تداركها. وتقوم مهنة الترجمة على امتلاك المترجم المتدرب والممارس لمهارات أساسية تشمل: الحياد الأيديولوجي، ومعرفة قواعد اللغة العربية وقواعد الترقيم فيها، والتقنيات البلاغية، ودلالاتها اللغوية والثقافية. واعتبار هذه العلامات والتقنيات جزءًا من اللغة تؤثر على المعنى، وقواعد اللغة الأخرى، أو اللغات الأخرى، وعلامات الترقيم فيها ودلالاتها اللغوية والثقافية. وضرورة قراءة النص المراد ترجمته سواء أكان أدبيَا، أم سياسيَا، أم اقتصاديَا، أم دينيَا والتعمق فيه لحسن اختيار المصطلحات والمفاهيم المناسبة لكل حقل من هذه الحقول. إضافة إلى تفهم المعنى الأساسي لكل جملة ضمن سياقاتها الثقافية للوقوف على المعني الصحيح الذي قصده المؤلف الأصلي، ونقل ذلك إلى القارئ. وضرورة عدم الوقوع في شرك الميل للترجمة الحرفية الميكانيكية لإن ذلك يضعف عملية إيصال المعنى الأصلي في النص بما في ذلك إيحاءات وإيماءات المؤلف الأصلي، ويقلل من بلاغة الترجمة ومستواها. ولا شك أن انضمام المترجم لجمعيات الترجمة ومراكزها في المؤسسات الأكاديمية يزيد من كفاءة المترجم، ويعّمق معرفته وامتلاكه لهذه المهارات المهنية. [email protected]