أحدث الأخبار مع #الوعي_الجمعي


الغد
١٤-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الغد
النكبة: اللحظة التأسيسية للانكسار العربي
لم تكن النكبة الفلسطينية العام 1948 حدثًا محليًا عابرًا. كانت بكل وضوح لحظة فارقة، أسست لمرحلة طويلة ما تزال ماثلة من الانكسار العربي الشامل. كانت، بالإضافة إلى اغتصاب أرض فلسطين العربية، اغتصابًا للوعي الجمعي العربي، وتحطيمًا لإرادة الفعل، وتكريسًا لحالة من العجز البنيوي في النظام السياسي العربي بطريقة سمحت بترسيخ كيان استعماري غريب في قلب المنطقة. وإذا مرض القلب فسد العقل، واضطرب الحكم، وغام البصر وعميت البصيرة. اضافة اعلان لم يكن العجز العربي الذي أدى إلى تضييع فلسطين تقنيًا بقدر ما كان في جوهره بنيويًا، ناجمًا عن غياب الديمقراطية، وتفكك الإرادة السياسية، وتقديم المصالح الضيقة على التطلعات القومية. وبعد النكبة تفجرت تناقضات العالم العربي، بلا انتهاء، بين شعارات التحرر وواقع التبعية؛ وبين خطابات السيادة وممارسات الخضوع. منذ تلك اللحظة، دخل العرب في دوامة من الانقسام والتآكل، وجرى بمرور الزمن تسليع فلسطين وتوظيفها كأداة في الصراعات الداخلية والخارجية، لتبرير القمع أو للمساومة السياسية. اليوم، بعد مرور ما يقرب من ثمانية عقود، ما تزال النكبة تُختزل في «ذكرى» سنوية تُستعاد ربما للتظاهر وليس للتأمل. وهي تُعامل، كما يريد لها العدو أن تكون: كلحظة منتهية وماضٍ تام. لكنها لم تكن كذلك في أي لحظة، سواء بالنسبة للفلسطينيين أو العرب. كانت في الواقع بداية عملية شكلت الحاضر العربي كما هو الآن. لا يمكن فهم واقع الانحدار، ولا الهزائم المتلاحقة، ولا التفكك الاجتماعي والسياسي، من دون الإحالة إلى النكبة كمفتاح لتحليل الانهيار القومي، وتعطيل مشروع النهضة العربي لصالح تكريس وجود الكيان الصهيوني وتوسّعه. إن ما نراه في راهن العالم العربي من صراعات طائفية، وضعف السيادة، وتفكك داخلي، يرتبط بشكل مباشر بتلك اللحظة التأسيسية في العام 1948، حين فُرض المشروع الاستعماري– الصهيوني بقوة السلاح وبغطاء دولي، في غياب مقاومة عربية موحدة وفاعلة. ومنذ ذلك الحين، تحوّلت فلسطين إلى رمز للمأساة والتواطؤ الدولي، وتم استخدام الصراع لتفكيك بنية الأمة من الداخل، بينما عزز فشل النظام العربي شعور الشعوب بالخذلان وفقدان الثقة. لم يكن التفوق العسكري للعصابات الصهيونية وحده هو الذي أنتج النكبة. كانت النكبة نتاجًا لتآمر استعماري دولي وتواطؤ داخلي رسمي. وقد مهدت هشاشة النظام العربي الطريق أمام العصابات الصهيونية، وأدخلت المنطقة في مرحلة طويلة من القبول الضمني بالهزيمة، سواء بالتسويات الفاشلة أو التطبيع المجاني. وبذلك، لا يُقتصر فهم النكبة على سرد وقائع النكبة نفسها بقدر ما يتطلب فهم السياق الذي جعلها ممكنة، والواقع الذي يجعلها مستمرة. لم تنته النكبة بخروج الفلسطينيين في العام 1948. وليس ما يجري في غزة والضفة، وفي القدس والمخيمات من اضطهاد وإذلال وإبادة؛ وما نراه من تهويد واستيطان وفقر وتهميش، سوى امتداد مباشر لتلك اللحظة الأصلية. وهي تتعمق وتترسخ كلما تم تغييبها عن الوعي العربي واختزالها في خطاب مناسباتي من دون مشروع وعي ولا تحليل ولا مقاومة. وكان حذف تاريخ النكبة من المناهج المدرسية وتهميشها في الخطاب العام جهدًا غير بريء للتبرؤ من اللوم وقطع السياق عن مقدماته. ولذلك، على المثقفين مسؤولية تثقيف الأجيال بالنكبة كضرورة استراتيجية لفهم آليات السيطرة التي ما تزال تحكم الإقليم: من الحدود المصطنعة، إلى الأنظمة المفروضة، إلى الخطاب الإعلامي المشوَّه، وصولًا إلى تطبيع الوحشية الإبادية التي يمثلها الوجود الاستعماري نفسه. لا يمكن أن ينجح أي مشروع نهضوي عربي حقيقي ما لم تتم استعادة الوعي بالنكبة باعتبارها لحظة كاشفة لجذور التبعية، والنفسية المهزومة، وفقدان السيادة، والقطوع الأفقية والعمودية في بنية المجتمعات العربية. ولم يكن تحويل فلسطين إلى «قضية فلسطينية» فقط، سوى مساهمة في تغطية الكارثة، وطريقة للتخلي عن المسؤولية التاريخية والجمعية. وكما لم تكن النكبة ممكنة من دون الغطاء الدولي، فإن استمرارها اليوم غير ممكن من دون الصمت العربي عن ذبح العرب وتعميق تدجينه وتطبيع عجزه –وهو كله من نتاجات النكبة. ينبغي استعادة مركزية النكبة لا كاستغراق في الماضي، بل كضرورة لفهم الحاضر وتفسير اختلالاته: من تصاعد الاستبداد، إلى انهيار التضامن العربي، إلى الوقوع في فخ الاستعمار الجديد. وكما كانت النكبة لحظة تأسيسية للانحدار، فإن استعادتها بهذه الصفة ستكون لحظة تأسيسية لتغيير المسار وتصحيح الخلل -وشفاء القلب.


الجزيرة
١٣-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
"سد الذرائع".. فخ لخنق المقاومة
عبر تاريخ النضال ضد الاستعمار، سعت القوى المهيمنة إلى استخدام إستراتيجيات متعددة لضبط المقاومة والحد من تأثيرها. لم تقتصر هذه الإستراتيجيات على القمع المباشر أو البطش العسكري، بل امتدت لتشمل محاولات أكثر تعقيدًا تستهدف الوعي والإرادة الجماعية للشعوب المناضلة. ضمن هذا الإطار، يظهر مفهوم "سد الذرائع" كأداة سياسية يُراد منها كبح الفعل المقاوم؛ بحجة الحفاظ على الاستقرار أو تجنب التصعيد. في السياق الفلسطيني، تأخذ هذه السياسات بُعدًا خاصًا نظرًا لتداخل العوامل السياسية والاجتماعية في ظل واقع استعماري طويل الأمد. يتجلى مفهوم "سد الذرائع" هنا كآلية لضبط الفعل النضالي، حيث يتحوّل من وسيلة لحماية المجتمع إلى ذريعة لتجميد أي تحرك يهدد الاحتلال. وبينما نجحت حركات تحررية في العالم – كجنوب أفريقيا والجزائر – في كسر هذه الإستراتيجيات عبر خطاب تحرري يعيد تشكيل الوعي، لا يزال التحدي في الحالة الفلسطينية قائمًا: كيف يمكن تجاوز سياسات ضبط المقاومة بكافة أشكالها، وبناء إرادة شعبية تتحدى الاحتلال بفاعلية. سد الذرائع في السياق الاستعماري رغم أن المصطلح لم يستخدم حرفيًا في العديد من دراسات ما بعد الاستعمار، فإن السلطات الاستعمارية كثيرًا ما مارست سياسة "سد الذرائع" لمنع نشوء مقاومة أو وعي وطني، عبر مجموعة من الإجراءات، مثل منع التعليم الوطني أو تعليم لغة السكان الأصليين: بحجة أن نشر لغات السكان الأصليين يُمكن أن يُستخدم لنشر أفكار استقلالية، وكالرقابة على الصحافة والمطبوعات، لوأد تشكيل وعي جمعي نحو الاستعمار، أو من خلال محاربة الرموز الثقافية أو الدينية أو التاريخية للسكان الأصليين؛ لأنها تعبر عن الهوية الجمعية للمجتمعات المستعمَرة. أدبيات ما بعد الاستعمار تنتقد بشدة هذا النوع من "المنع الوقائي" بوصفه شكلًا من المراقبة والسيطرة الأيديولوجية. فإدوارد سعيد دعا لتعزيز القدرة الشخصية والجماعية في مواجهة الأفكار المعدّة مسبقًا من قبل الاستعمار، وأيضًا ما أشار إليه فرانز فانون حول آليات الاستعمار، الذي يتجاوز السيطرة الجسدية ليصل إلى السيطرة على الوعي، حيث يستبطن المستعمَر مفاهيم وديناميات الهيمنة ويعيد إنتاجها داخل مجتمعه، حيث يتحول النضال والفعل الثوري إلى فعل يثير الخوف والارتباك بدلًا من أن يكون تعبيرًا عن إرادة التحرر. يمكن أيضًا النظر إلى "سد الذرائع" في تجارب الحركات التحررية، كما في تجربة جنوب أفريقيا، والجزائر، والهند. ففي جنوب أفريقيا، استخدم نظام الفصل العنصري ذرائع قانونية للحفاظ على النظام والقمع السياسي ضد السود. فيما في الجزائر كانت ممارسات الاستعمار الفرنسي تستخدم ذرائع مثل "الحفاظ على النظام"؛ لتبرير قمع جبهة التحرير الوطني. وفي الهند، استخدمت بريطانيا ذرائع مشابهة لتصوير المقاومة كقوى "رجعية". في كل هذه الحركات، كان كسر "سد الذرائع" يتطلب بناء خطاب تحرري متماسك يعارض السرديات الاستعمارية، ويُعيد بناء الشرعية التحررية على أسس شعبية ودولية. إعادة التأطير لسياسة "سد الذرائع" من منظور تحرّري لا يوجد لدى حركات التحرر في العالم إشكالية في فكرة "سد الذرائع"، ففي تجربة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا، كان هناك ميل في بعض الفترات إلى تهدئة الفعل النضالي؛ بحجة عدم إعطاء ذريعة للنظام العنصري لتكثيف القمع. وكذلك في تجارب أخرى، ولكن كان ذلك في سياق تبني إستراتيجية نضالية شاملة تقوم على دمج الفعل الدبلوماسي مع المقاومة الشعبية والكفاح المسلح، لا أن تترك فراغًا يستغله الاستعمار في إعادة ترتيب أجندته. تكمن المعضلة الأساسية في الجمع بين "سد الذرائع" والعمل التحرري في الاستخدام المزدوج لهذا المفهوم. فمن جهة، تُقدَّم فكرة "سد الذرائع" كإجراء وقائي يهدف إلى منع التصعيد، أو إثارة ردود فعل عنيفة من قبل المحتل. ومن جهة أخرى، يمكن أن يتحول هذا المفهوم إلى أداة تقييدية تعمل على شلّ الحركة النضالية، وتحويل الفعل التحرري إلى مجرد ردود فعل محكومة بشروط الاحتلال. فعندما تُتبنى سياسة "سد الذرائع" بشكل مطلق وغير مرن، تتحول إلى قيد دائم على الفعل التحرري. ومن هنا، يأتي التحدي في إعادة صياغة المفهوم ليتحول من كونه مجرد إجراء يُعنى بتفادي ردود الفعل القمعية، إلى أداة إستراتيجية واعية تُعنى بتوقيت الفعل ومكانه وتضمن أكبر قدر من التأثير بأقل تكلفة سياسية أو اجتماعية. الاستخدام المطلق لسياسة "سد الذرائع" يحيد الفعل النضالي، ويضعه في خانة الفعل المؤجل؛ بحجة الحفاظ على الاستقرار أو تفادي التصعيد، لذلك، من الضروري إعادة تأطير المفهوم ليصبح جزءًا من إستراتيجية نضالية شاملة، فالثورات المناهضة للاستعمار انطلقت من إرادة تحريرية جذرية، وليس من منطق التكيف مع شروط المستعمِر. فمحاولة التفاوض أو التماهي مع منطق السلطة الاستعمارية تضعف الفعل النضالي التحرري، لأن الاحتلال يتبنى مفهوم الهيمنة، وما يسعى إليه المُحتلون هو كسره. لكن التحول الأصعب هو أن تتحول سياسة "سد الذرائع" لأيدولوجيا وبرنامج سياسي، يستعدي كل فعل مناضل وتحرري مهما كان نوعه، ويصبح فلسفة قمع لا فلسفة ضبط. سد الذرائع الفلسطينية: حواجز في وجه الثورة الشعبية تطورت سياسة "سد الذرائع" في السياق الفلسطيني لتتجاوز مجرد التهدئة وضبط الفعل المقاوم، أو ضبط الإيقاع بين السياسي والنضالي، لتصبح نهجًا وإستراتيجية شاملة ومركبة قيدت العمل النضالي في عدة اتجاهات أبرزها ما يلي: الأول: استخدام سياسة "سد الذرائع" كآلية لتقييد الفعل النضالي الجماهيري والشعبي، تحت ذرائع "الحفاظ على الأمن"، أو "تجنب التصعيد"، وفرض قيود قسرية على الحراكات الجماهيرية، فمن منظور تحليلي، يمكن القول إن سياسة "سد الذرائع" في الضفة الغربية تُعزز مناخًا سياسيًا ينزع عن المقاومة بكافة أنواعها مشروعيتها من جهة، بينما يُفسح المجال أمام المستوطنين لمواصلة تمددهم بدعم كامل من حكومة الاحتلال. يشير ذلك إلى أن الاحتلال لا يحتاج فعليًا إلى ذرائع لتوسيع استيطانه، بل يعتبر ذلك جزءًا من إستراتيجيته بعيدة المدى لضم الأرض وتهويدها. فالاحتلال دائمًا في حالة إنتاج لذرائعه الخاصة لتبرير الإبادة، إذ لا يمكن لسياسات ضبط الحراك الجماهيري أن توقف مشروعًا استيطانيًا يتغذى على منطق الإبادة والإحلال. بالتالي، فإن استمرار التمسك بسياسة "سد الذرائع" يعكس قراءة غير دقيقة للواقع، ويضعف القدرة على حشد مقاومة شعبية فاعلة قادرة على مواجهة الاستيطان كخطر وجودي، والتجارب التاريخية أثبتت أن الانتفاضات الشعبية كانت عامل ضغط على الاحتلال لتقييد أنشطته وليس العكس. وبدليل أنه لولا الانتفاضة الأولى لما كان هناك "سلطة وطنية فلسطينية". الاتجاه الثاني: الامتناع عن اتخاذ إجراءات كان من شأنها أن تُقيّد الاحتلال وتحدّ من قدرته على الإبادة. فقد تحوّل هذا المفهوم إلى ذريعة لعدم اتباع السبل الممكنة لتقييد الاحتلال ومحاسبته على جرائمه، خشية ردة فعل الاحتلال. فعلى مدى سنوات ما قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لم تُحسن القيادة الفلسطينية استثمار أدواتها السياسية والقانونية، في وقت كانت فيه بحاجة ملحّة إلى خلق رافعة دولية تقوّي موقفها وتُقيد حركة الاحتلال. ورغم امتلاكها ملفات مهمة قابلة للتدويل مثل قضية اغتيال الشهيد ياسر عرفات، أو المجازر المتكررة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن السلطة لم تبادر إلى تحريكها بجدّية على الساحة الدولية. تلك الملفات كان يمكن أن تشكل نقاط تحول رمزية وقانونية تحمل الاحتلال المسؤولية، وتؤسس لـ"ردع أخلاقي وقانوني" يُضعف منطق الإفلات من العقاب. الاتجاه الثالث: بالإضافة للأسباب المركبة لموقف السلطة السلبي تجاه ترتيب البيت الفلسطيني والتقارب مع حركة حماس، إلا أن أحد هذه الأسباب هو تبني إستراتيجية "سد ذرائع" الاحتلال، وسكون السلطة بتخوّفات الخشية من ردة فعل الاحتلال تجاه السلطة نفسها. الاتجاه الرابع: سياسة "سد الذرائع" أثرت أيضًا على بناء التحالفات الدولية. في كثير من الأحيان، يتم تجنب الانخراط في شراكات مع حركات تحرر أو دول داعمة للمقاومة خشية "إثارة غضب" الدول الغربية أو التعرض لضغوط سياسية واقتصادية. هذه الإستراتيجية أدت إلى عزلة نسبية، خاصة في المحافل الدولية حيث تُقدّم القضية الفلسطينية أحيانًا ضمن خطاب "إنساني" بحت يتجنب تسليط الضوء على البعد التحرري، مما أضعف التحالفات مع الحركات المناهضة للاستعمار في الجنوب العالمي. في الختام، فـ"سد الذريعة" لا يكون بتبنّي مبررات خطاب الاحتلال في الإبادة، أو تهميش الفعل الشعبي، أو الصمت على الجرائم، بل ببناء مشروع سياسي تحرري، وسياسات توحيدية، ومبادرات قانونية ودبلوماسية تُحرج الاحتلال وتُقيده أمام العالم. أما حين تغيب تلك السياسات، فإن الفراغ الذي تتركه السلطة يتحول إلى ساحة مفتوحة يتحرك فيها الاحتلال بلا رادع، وتصبح السلطة – ولو ضمنيًا – طرفًا يُسهّل العدوان لا من يضع حدًا له.


الجزيرة
١٣-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
فخ لخنق المقاومة
عبر تاريخ النضال ضد الاستعمار، سعت القوى المهيمنة إلى استخدام إستراتيجيات متعددة لضبط المقاومة والحد من تأثيرها. لم تقتصر هذه الإستراتيجيات على القمع المباشر أو البطش العسكري، بل امتدت لتشمل محاولات أكثر تعقيدًا تستهدف الوعي والإرادة الجماعية للشعوب المناضلة. ضمن هذا الإطار، يظهر مفهوم "سد الذرائع" كأداة سياسية يُراد منها كبح الفعل المقاوم؛ بحجة الحفاظ على الاستقرار أو تجنب التصعيد. في السياق الفلسطيني، تأخذ هذه السياسات بُعدًا خاصًا نظرًا لتداخل العوامل السياسية والاجتماعية في ظل واقع استعماري طويل الأمد. يتجلى مفهوم "سد الذرائع" هنا كآلية لضبط الفعل النضالي، حيث يتحوّل من وسيلة لحماية المجتمع إلى ذريعة لتجميد أي تحرك يهدد الاحتلال. وبينما نجحت حركات تحررية في العالم – كجنوب أفريقيا والجزائر – في كسر هذه الإستراتيجيات عبر خطاب تحرري يعيد تشكيل الوعي، لا يزال التحدي في الحالة الفلسطينية قائمًا: كيف يمكن تجاوز سياسات ضبط المقاومة بكافة أشكالها، وبناء إرادة شعبية تتحدى الاحتلال بفاعلية. سد الذرائع في السياق الاستعماري رغم أن المصطلح لم يستخدم حرفيًا في العديد من دراسات ما بعد الاستعمار، فإن السلطات الاستعمارية كثيرًا ما مارست سياسة "سد الذرائع" لمنع نشوء مقاومة أو وعي وطني، عبر مجموعة من الإجراءات، مثل منع التعليم الوطني أو تعليم لغة السكان الأصليين: بحجة أن نشر لغات السكان الأصليين يُمكن أن يُستخدم لنشر أفكار استقلالية، وكالرقابة على الصحافة والمطبوعات، لوأد تشكيل وعي جمعي نحو الاستعمار، أو من خلال محاربة الرموز الثقافية أو الدينية أو التاريخية للسكان الأصليين؛ لأنها تعبر عن الهوية الجمعية للمجتمعات المستعمَرة. أدبيات ما بعد الاستعمار تنتقد بشدة هذا النوع من "المنع الوقائي" بوصفه شكلًا من المراقبة والسيطرة الأيديولوجية. فإدوارد سعيد دعا لتعزيز القدرة الشخصية والجماعية في مواجهة الأفكار المعدّة مسبقًا من قبل الاستعمار، وأيضًا ما أشار إليه فرانز فانون حول آليات الاستعمار، الذي يتجاوز السيطرة الجسدية ليصل إلى السيطرة على الوعي، حيث يستبطن المستعمَر مفاهيم وديناميات الهيمنة ويعيد إنتاجها داخل مجتمعه، حيث يتحول النضال والفعل الثوري إلى فعل يثير الخوف والارتباك بدلًا من أن يكون تعبيرًا عن إرادة التحرر. يمكن أيضًا النظر إلى "سد الذرائع" في تجارب الحركات التحررية، كما في تجربة جنوب أفريقيا، والجزائر، والهند. ففي جنوب أفريقيا، استخدم نظام الفصل العنصري ذرائع قانونية للحفاظ على النظام والقمع السياسي ضد السود. فيما في الجزائر كانت ممارسات الاستعمار الفرنسي تستخدم ذرائع مثل "الحفاظ على النظام"؛ لتبرير قمع جبهة التحرير الوطني. وفي الهند، استخدمت بريطانيا ذرائع مشابهة لتصوير المقاومة كقوى "رجعية". في كل هذه الحركات، كان كسر "سد الذرائع" يتطلب بناء خطاب تحرري متماسك يعارض السرديات الاستعمارية، ويُعيد بناء الشرعية التحررية على أسس شعبية ودولية. إعادة التأطير لسياسة "سد الذرائع" من منظور تحرّري لا يوجد لدى حركات التحرر في العالم إشكالية في فكرة "سد الذرائع"، ففي تجربة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا، كان هناك ميل في بعض الفترات إلى تهدئة الفعل النضالي؛ بحجة عدم إعطاء ذريعة للنظام العنصري لتكثيف القمع. وكذلك في تجارب أخرى، ولكن كان ذلك في سياق تبني إستراتيجية نضالية شاملة تقوم على دمج الفعل الدبلوماسي مع المقاومة الشعبية والكفاح المسلح، لا أن تترك فراغًا يستغله الاستعمار في إعادة ترتيب أجندته. تكمن المعضلة الأساسية في الجمع بين "سد الذرائع" والعمل التحرري في الاستخدام المزدوج لهذا المفهوم. فمن جهة، تُقدَّم فكرة "سد الذرائع" كإجراء وقائي يهدف إلى منع التصعيد، أو إثارة ردود فعل عنيفة من قبل المحتل. ومن جهة أخرى، يمكن أن يتحول هذا المفهوم إلى أداة تقييدية تعمل على شلّ الحركة النضالية، وتحويل الفعل التحرري إلى مجرد ردود فعل محكومة بشروط الاحتلال. فعندما تُتبنى سياسة "سد الذرائع" بشكل مطلق وغير مرن، تتحول إلى قيد دائم على الفعل التحرري. ومن هنا، يأتي التحدي في إعادة صياغة المفهوم ليتحول من كونه مجرد إجراء يُعنى بتفادي ردود الفعل القمعية، إلى أداة إستراتيجية واعية تُعنى بتوقيت الفعل ومكانه وتضمن أكبر قدر من التأثير بأقل تكلفة سياسية أو اجتماعية. الاستخدام المطلق لسياسة "سد الذرائع" يحيد الفعل النضالي، ويضعه في خانة الفعل المؤجل؛ بحجة الحفاظ على الاستقرار أو تفادي التصعيد، لذلك، من الضروري إعادة تأطير المفهوم ليصبح جزءًا من إستراتيجية نضالية شاملة، فالثورات المناهضة للاستعمار انطلقت من إرادة تحريرية جذرية، وليس من منطق التكيف مع شروط المستعمِر. فمحاولة التفاوض أو التماهي مع منطق السلطة الاستعمارية تضعف الفعل النضالي التحرري، لأن الاحتلال يتبنى مفهوم الهيمنة، وما يسعى إليه المُحتلون هو كسره. لكن التحول الأصعب هو أن تتحول سياسة "سد الذرائع" لأيدولوجيا وبرنامج سياسي، يستعدي كل فعل مناضل وتحرري مهما كان نوعه، ويصبح فلسفة قمع لا فلسفة ضبط. سد الذرائع الفلسطينية: حواجز في وجه الثورة الشعبية تطورت سياسة "سد الذرائع" في السياق الفلسطيني لتتجاوز مجرد التهدئة وضبط الفعل المقاوم، أو ضبط الإيقاع بين السياسي والنضالي، لتصبح نهجًا وإستراتيجية شاملة ومركبة قيدت العمل النضالي في عدة اتجاهات أبرزها ما يلي: الأول: استخدام سياسة "سد الذرائع" كآلية لتقييد الفعل النضالي الجماهيري والشعبي، تحت ذرائع "الحفاظ على الأمن"، أو "تجنب التصعيد"، وفرض قيود قسرية على الحراكات الجماهيرية، فمن منظور تحليلي، يمكن القول إن سياسة "سد الذرائع" في الضفة الغربية تُعزز مناخًا سياسيًا ينزع عن المقاومة بكافة أنواعها مشروعيتها من جهة، بينما يُفسح المجال أمام المستوطنين لمواصلة تمددهم بدعم كامل من حكومة الاحتلال. يشير ذلك إلى أن الاحتلال لا يحتاج فعليًا إلى ذرائع لتوسيع استيطانه، بل يعتبر ذلك جزءًا من إستراتيجيته بعيدة المدى لضم الأرض وتهويدها. فالاحتلال دائمًا في حالة إنتاج لذرائعه الخاصة لتبرير الإبادة، إذ لا يمكن لسياسات ضبط الحراك الجماهيري أن توقف مشروعًا استيطانيًا يتغذى على منطق الإبادة والإحلال. بالتالي، فإن استمرار التمسك بسياسة "سد الذرائع" يعكس قراءة غير دقيقة للواقع، ويضعف القدرة على حشد مقاومة شعبية فاعلة قادرة على مواجهة الاستيطان كخطر وجودي، والتجارب التاريخية أثبتت أن الانتفاضات الشعبية كانت عامل ضغط على الاحتلال لتقييد أنشطته وليس العكس. وبدليل أنه لولا الانتفاضة الأولى لما كان هناك "سلطة وطنية فلسطينية". الاتجاه الثاني: الامتناع عن اتخاذ إجراءات كان من شأنها أن تُقيّد الاحتلال وتحدّ من قدرته على الإبادة. فقد تحوّل هذا المفهوم إلى ذريعة لعدم اتباع السبل الممكنة لتقييد الاحتلال ومحاسبته على جرائمه، خشية ردة فعل الاحتلال. فعلى مدى سنوات ما قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لم تُحسن القيادة الفلسطينية استثمار أدواتها السياسية والقانونية، في وقت كانت فيه بحاجة ملحّة إلى خلق رافعة دولية تقوّي موقفها وتُقيد حركة الاحتلال. ورغم امتلاكها ملفات مهمة قابلة للتدويل مثل قضية اغتيال الشهيد ياسر عرفات، أو المجازر المتكررة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن السلطة لم تبادر إلى تحريكها بجدّية على الساحة الدولية. تلك الملفات كان يمكن أن تشكل نقاط تحول رمزية وقانونية تحمل الاحتلال المسؤولية، وتؤسس لـ"ردع أخلاقي وقانوني" يُضعف منطق الإفلات من العقاب. الاتجاه الثالث: بالإضافة للأسباب المركبة لموقف السلطة السلبي تجاه ترتيب البيت الفلسطيني والتقارب مع حركة حماس، إلا أن أحد هذه الأسباب هو تبني إستراتيجية "سد ذرائع" الاحتلال، وسكون السلطة بتخوّفات الخشية من ردة فعل الاحتلال تجاه السلطة نفسها. الاتجاه الرابع: سياسة "سد الذرائع" أثرت أيضًا على بناء التحالفات الدولية. في كثير من الأحيان، يتم تجنب الانخراط في شراكات مع حركات تحرر أو دول داعمة للمقاومة خشية "إثارة غضب" الدول الغربية أو التعرض لضغوط سياسية واقتصادية. هذه الإستراتيجية أدت إلى عزلة نسبية، خاصة في المحافل الدولية حيث تُقدّم القضية الفلسطينية أحيانًا ضمن خطاب "إنساني" بحت يتجنب تسليط الضوء على البعد التحرري، مما أضعف التحالفات مع الحركات المناهضة للاستعمار في الجنوب العالمي. في الختام، فـ"سد الذريعة" لا يكون بتبنّي مبررات خطاب الاحتلال في الإبادة، أو تهميش الفعل الشعبي، أو الصمت على الجرائم، بل ببناء مشروع سياسي تحرري، وسياسات توحيدية، ومبادرات قانونية ودبلوماسية تُحرج الاحتلال وتُقيده أمام العالم. أما حين تغيب تلك السياسات، فإن الفراغ الذي تتركه السلطة يتحول إلى ساحة مفتوحة يتحرك فيها الاحتلال بلا رادع، وتصبح السلطة – ولو ضمنيًا – طرفًا يُسهّل العدوان لا من يضع حدًا له.


روسيا اليوم
١١-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- روسيا اليوم
لماذا يسعى الغرب لتزوير ذكرى النصر على النازية؟
والإعلام والأفلام ورسوم الأطفال والمقررات الدراسية وصولا إلى الحروب الفعلية و النفسية هي آلة تعتمد على ما يسمى بالهندسة الاجتماعية و هي إعادة برمجة الفرد و الوعي الجمعي للشعوب المستهدفة ولعل هذه المناسبة اسبوع عيد النصر الثمانين على النازية تعد مثالا صارخا حيث تستبعد البعثات الدبلوماسية الروسية من الاحتفالات في دول أوروبية ويمنع رفع العلم الروسي في بعض العواصم و يغيب دور الجيش الأحمر لينسب النصر للغرب زورا..