١٢-٠٧-٢٠٢٥
كاتبة إسبانية تكتشف أحوال اليابان بعد نصف قرن من التعافي
تُسرب كاتبة أدب الرحلات الإسبانية باتريثيا ألمارثيغي بين ثنايا كتابها "اكتشاف اليابان" شذرات من سيرتها الذاتية، تتعلق بمرض والدتها بالـ "ألزهايمر" وعلاقتها بشريكها في السفر إلى اليابان والذي تتعمد عدم ذكر اسمه، وبعض خفايا ما وراء كتاباتها الروائية وولعها بالسفر، خصوصاً إلى الشرق، للتعرف على ثقافته عن كثب من دون الوقوع في أسر التصورات الاستشراقية التقليدية.
وهنا تتكئ ألمارثيغي على يوميات دونتها خلال رحلتي سفر إلى بلد ياسوناري كاواباتا وأكيرا كوروساوا، الأولى كانت عام 2008 والثانية 2019، كما تتكئ على ذاكرتها بعدما فقدت بعض يوميات الرحلتين، وتستند إلى كثير من المراجع المتصلة باليابان قديماً وحديثاً، وتورد مقتطفات منها خصوصاً في النواحي الثقافية لهذا البلد الذي تمكن من التعافي بعد الهزيمة المدوية في الحرب العالمية الثانية حتى بات اقتصاده يحتل المرتبة الثالثة عالمياً.
ومن تلك المراجع كتاب "متعة الأدب الياباني" لدونالد كين، وكتاب "حكايات اليابان القديمة" لتاكيغيرو هاسيغاوا، و"كتاب الساموراي"، وفيلم "شارع العار" ميزوغوتشي، ورسائل من ميشيما إلى كواباتا، وخطاب الأخير لدى تلقيه جائزة نوبل في الأدب عام 1968، وكتاب "في الطريق إلى أوكو ويوميات سفر أخرى" للشاعر باشو.
كتاب الرحلة (دار العربي)
والكتاب ترجمته من الإسبانية إلى العربية آية عبدالرحمن أحمد لحساب "دار العربي" في القاهرة التي سبق أن نشرت لباتريثيا ألمارثيغي ترجمة روايتها "ذكريات الجسد" تحت عنوان "راقصة الباليه"، وترجمة كتابها في أدب الرحلات "اكتشاف إيران".
تأثير الصين
وفي سياق سعيها إلى التعافي شيدت اليابان خلال الخمسينيات والستينيات مساكن الـ "دانشي" أو المباني السكنية العامة في ضواحي المدن، لكن لم يعد يسكنها الآن سوى ذوي الدخل المنخفض من كبار السن، ورأت ألمارثيغي أنه بفضل استضافة طوكيو أولمبياد عام 1964 تجددت البنية التحتية للمدينة، وبدأ تحول البلاد إلى قوة تكنولوجية رائدة وسلمية حول العالم.
ولاحظت ألمارثيغي أن أقدم أخبار عن اليابان وصلت إلى العالم عبر سجلات صينية تعود للقرنين الثاني والثالث الميلاديين، وأن الحضارة الصينية كانت ذات تأثير في هذا البلد خلال العصور الكلاسيكية، لدرجة أن الشعراء في البلاط الياباني ومن الطبقة الأرستقراطية اليابانية كانوا يفضلون الكتابة باللغة الصينية، والأمر نفسه كان ينطبق على دراسة الآداب في الجامعة حتى القرن الثامن الميلادي، أما اللغة اليابانية فقد اكتفى اليابانيون قديماً باستخدامها في الأنواع الأدبية الثانوية مثل القصص القصيرة والحكايات الشعبية، وشكل قديم من الشعر يدعى "واكا"، أما في الوقت الراهن فتقول ألمارثيغي إن هناك قلقاً عبرت عنه الكاتبة ميناي ميزمورا في روايتها "عندما تختفي اللغة اليابانية" (2015) من ظاهرة انتشار اللغة الإنجليزية بين اليابانيين بسبب العولمة وتراجع لغتهم الأم.
وضع المرأة
ودونت ألمارثيغي في يومياتها كذلك أنه خلال فترة ازدهار الأدب الياباني المعروفة باسم فترة "هييآن"، والتي تمتد من القرن السابع إلى القرن الـ 12، لم يعتد الناس تسمية المرأة عند ولادتها بل كانت تحصل على اسم لاحقاً، وكان عليها أن تتعلم الموسيقى والكتابة الأدبية والرقص، مضيفة أن هناك أسطورة مفادها أنه كان من غير اللائق أن تتعلم المرأة القراءة والكتابة بصورة صحيحة، أي بالصينية، على رغم أنه لاحقاً اكتشفت بعض الحالات لنساء تعلمن الكتابة بالصينية، مثل سي شوناغون مؤلفة كتاب "وسادة النوم" وموراساكي شيكيبو مؤلفة "حكايات غنغي".
وحتى هذه اللحظة، تقول ألمارثيغي، يرى المجتمع الياباني أنه من غير المفيد أن تحصل النساء على مؤهلات أعلى من أزواجهن، "فالزواج لا يزال الهدف الأكبر لمعظمهن" (ص 153)، وحالياً لا تشغل النساء سوى 10 في المئة من المناصب القيادية في الشركات اليابانية.
ويعتمد المجتمع نفسه على مفهوم الـ "آي" الذي يتعلق بالنسب والتسلسل الهرمي، وتتميز العلاقات في العائلات بالوفاء واللطف، وواجب الأبناء تجاه آبائهم والنساء تجاه الرجال، ولا يزال الولاء للإمبراطور يحتل مكانة بارزة في أولويات اليابانيين الذين عادوا للوطن باعتباره عائلة كبيرة، لكن هذا لا يمنع التمسك بتراتبية طبقية تضع الـ "بوراكو" في مرتبة تجعلهم أقرب إلى المنبوذين، فهم ينحدرون من الطبقة الدنيا في عصر الإقطاع ويميزهم فقرهم وأداؤهم الدراسي المنخفض، وعلى رغم الإعلان رسمياً عام 1871 أنهم متساوون مع باقي طبقات المجتمع، فإن الأحياء التي يعيشون فيها معروفة، وفي نهاية القرن الـ 20 اكتشف وجود شركات تشتري معلومات عن موظفيها لمعرفة إذا كانوا منتمين إلى تلك الطبقة أم لا.
وعلى رغم منع الدعارة رسمياً في اليابان عام 1956 أثناء الاحتلال الأميركي، باعتبارها من وجهة نظر المحتل نموذجاً لسلوك منحرف وحرية مفرطة، جرى تقنين أنواع من الممارسات الجنسية باتت تشكل حالياً جزءاً من صناعة الترفيه اليابانية، والتي تعد أكبر صناعة إباحية في العالم بربح يزيد على 30 ألف مليون يورو، وتعد هذه الصناعة المصدر الثاني للدخل في البلاد وأهم مظاهرها رسوم الـ "مانغا" والـ "إنيمي" وألعاب الفيديو، ومع ذلك يظل الاقتصاد الياباني أكثر اقتصادات العالم ديوناً.
تجانس روحي
وفي ضوء حقيقة أن أكثر من 37 في المئة من اليابانيين تزيد أعمارهم على 65 سنة، فقد تزايدت الحاجة إلى الاعتماد في العمل على الروبوتات بأقصى درجة ممكنة، كما أرست الحكومة سياسة هجرة لجذب العمال المؤهلين، ومع ذلك لم يحصل سوى 600 عامل على تأشيرة عام 2019، مع أن المطلوب 65 ألف عامل سنوياً، ومع ذلك يعاني المجتمع الياباني ظاهرة الـ "نيت"، وهم الشبان العاطلون الين تتراوح أعمارهم ما بين 14 و35 سنة، و في عام 2014 كان هناك 600 ألف شخص من الـ "نيت"، ويقدر أن هناك مليوني "فريتر" أو العاطلين من الشباب المتعلمين والذين يعملون في وظائف غير ثابتة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتخلص ألمارثيغي في هذا الصدد إلى أن أكثر ما يقلق اليابانيين في الوقت الراهن هو التفاوت الاجتماعي والتطور الصيني، ورأت الكاتبة الإسبانية أن الثقافة اليابانية متجانسة بما أن اليابان لم تشهد غزواً منذ محاولة المغول غزوها خلال القرن الـ 13، والاحتلال الأميركي عام 1945، أما ديانة اليابان الـ "شنتوية" فتعترف بعدد كبير من الآلهة أو أرواح الطبيعة "كامي ساما"، منهم "أماتيراسو" إلهة الشمس مصدر الضوء والحرارة والرحمة، والتي تنحدر منها العائلة الإمبراطورية، وتقول ألمارثيغي "يلجأ اليابانيون إلى الـ 'شنتوية' للحصول على المساعدة في هذه الحياة، وإلى البوذية للوصول إلى الخلود في الحياة الأخرى".
تناقضات التقدم
ومن واقع زياراتها لكثير من المدن اليابانية مستخدمة القطار، لاحظت ألمارثيغي أن محطات القطار هي بمثابة المركز في عالم اليابانيين، إذ يدور كل شيء حولها ويمكن هناك العثور على أي شيء، وهناك قطار فائق السرعة يسمى "كوداما"، وهو كما تقول الكاتبة يحمل اسم زوجة خورخي لويس بورخيس، ماريا كوداما، التي ترجمت مع زوجها مختارات من "كتاب الوسادة" لسي شوناغون التي كانت خادمة في القصر الياباني خلال القرن الـ 18، ووفقاً لشوناغون فإن "أفضل ما في قضاء ليلة مع من تحب هو الرسائل التي يرسلها لك في اليوم التالي".
وفي مكاتب المعلومات هناك دائماً من يتحدث الإنجليزية "ويقدم الإرشادات بأدب لا متناه" (ص 47)، ودوّنت الكاتبة في يومياتها ملاحظة مفادها أن "الدخول إلى مركز منتدى طوكيو الدولي يشبه ابتلاعك من قبل حوت يونس" (ص 51)، كما نشرت مقتطفات من قصائد كتبها رهبان وشعراء من طائفة الـ "زن" البوذية وهم يتجهزون للموت، ويبرز على لوحة صانع الأفلام ياسوغيرو أوزو، شعار "مو" و يعني اللاشيء.
يتركز 80 في المئة من سكان اليابان بين طوكيو وفوكوكا، وتعد اليابان ثاني أكبر اقتصاد في آسيا وثالث أكبر اقتصاد في العالم، ومع ذلك ففي شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2009 نشرت وزارة العدل تقريراً يقول إن 22 مليون شخص يعانون الفقر، وكشفت دراسة أخرى أن واحدة من كل ثلاث نساء يابانيات تتراوح أعمارهن بين 20 و64 سنة تعشن وحيدات، ووفق لتقرير لـ "يونيسف" فإن اليابان تعاني أعلى معدلات الفقر لدى الأطفال في العالم المتقدم، وتملك في الوقت نفسه أعلى معدل للمتعلمين في العالم بنسبة 98 في المئة.
ومع أن اليابان انحازت خلال تسعينيات القرن الماضي رسمياً إلى الاقتصاد الليبرالي لكن "العاطفة لا تزال أكثر أهمية بالنسبة إلى اليابانيين من الربح الاقتصادي" (ص 111).