أحدث الأخبار مع #بننبي


الشروق
منذ 14 ساعات
- سياسة
- الشروق
في عصر الشعوذة… ما أحوج الجزائريين إلى فكر بن نبي!
عاشت الجزائر، خلال الأيام الأخيرة، حدثين بارزيّن في اتجاهين متعاكسين، لكن أحدهما استأثر باهتمام الجمهور على نطاق واسع، خاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بينما توارى الثاني في زحمة الأخبار وزخم الحياة اليومية للجزائريين. يتعلق الحدث الأول بحملات تطوّع قادها شباب وجمعيات لتنظيف المقابر عبر الوطن، وهي مبادرة رائعة يقينا، تستحق الإشادة والتشجيع، غير أن اللافت فيها هو الإفراط في حديث الأوهام عن أعمال الشعوذة، حتى يظن المتابع أن هؤلاء السحرة لهم القدرة الخارقة على تعطيل حياة الناس خارج الأسباب السّننيّة والإرادة الإلهيّة. إن مثل هذه المعتقدات الخرافيّة ليست إلا تجليات ثقافيّة واجتماعيّة لحالة التخلّف العقلي والدّرك الحضاري، بل هي من صور الاهتزاز العقدي والإيماني لدى المسلم، حين يصبح تفكيره السلبي يتماهى مع منطق العبثيّة في خلق الكون، أي أنّ البارئ، جلّى في علاه، قد خلق الحياة بكل أبعادها، ثم تركها سبهللا، من غير قوانين سببيّة ضابطة، حيث تؤول فيها مصائر العباد إلى شياطين الإنس والجان، وفق تصوّر الخرافييّن! لكن دعونا نعود إلى الحدث الأهمّ، وإن كان خافت الصدى تحت صخب الدروشة، وهو إطلاق 'الكرسي العلمي مالك بن نبي للدراسات الحضارية'، بمبادرة راقية من مؤسسة 'آفاق للدراسات والتدريب'، لأجل مناقشة ونشر وتسليط الضوء على الرجل من منظور حديث. نحن على يقين جازم بأنّ ما أصاب عقولنا الكليلة من علل فكرية وقلوبنا السقيمة من أدواء إيمانيّة، سببه الابتعاد عن قراءة مثل أفكار بن نبي والعمل بها في تمثّل الإسلام عقيدة وفهما وسلوكا فرديّا واجتماعيّا، حتى وقع المجتمع في عمومه ضحيّة الدروشة والتفكير البدائي الساذج. في أحد مؤلفاته الزاخرة فكرا وعمقا وتأملا في التخلّف الحضاري للأمة العربية الإسلامية، صرحت نجلة مالك بن نبي، رحمه الله، أن والدها أسرّ لها، مطلع سبعينيّات القرن العشرين، أنه لا يكتب لجيله، لكن ستأتي أجيال أخرى بعد 30 سنة تقرأه وتفهم أطروحاته. نحن اليوم تجاوزنا نصف قرن من رحيل العقل الملهم فكريّا والقلب المهموم وجدانيّا بمصير الأمة، ولا شكّ أن استشرافه باحتفاء الأجيال اللاحقة بأفكاره قد صدق نسبيّا، بل إنه انتقل أبعد من المستوى المحلّي، حتى صار بن نبي في صدارة المفكّرين الكبار من العرب والمسلمين، بينما لا نزال عن ذخائره غافلين؟ ها هي أعماله وتراثه النفيس الذي 'جمع بين ثقافتي الشرق والغرب، وبين الفهم والحكم الشرعي وبين عمق الفكرة وإشراق الروح'، يملأ المكتبات من طنجة إلى جاكرتا وعبر جامعات العالم في أقطاره الخمس، مثلما يتردّد صداها في المنتديات الثقافية والفكرية والأكاديمية الدولية، لأنّ الفكر الأصيل المنطلق والرصين النهج والعميق النظر والدقيق التحليل والتشخيص والاستشراف لا تحدّه الأقطار ولا يحول دون انتشاره الحصار. كم ضايق الاستعمار الفرنسي بن نبي كي يحرمه من العلم أولا، ثم من نشر فكره الواعي ثانيا، مثلما ظلّ 'مضطهدا' معنويّا في دولة الاستقلال، خوفا من إشعاع ثورة العقل والروح التي حمل لواءها عبر كتبه ومقالاته، لكن التاريخ كتب لها في النهاية القبول والصدى بين النخب وأفراد الأمّة، بل إنها أضحت مرجعا رئيسا في تفكيك أزمة التخلّف العربي ورسم معالم الاستئناف الحضاري الإسلامي. ينبغي الإشارة إلى أن المؤسسة الرسمية في الجزائر بدأت، منذ سنوات، تعيد الاعتبار لمالك بن نبي عبر ملتقيات متخصّصة، وهي كلها مبادرات محمودة وخطوات مهمة على طريق محاربة التنكّر والنسيان، غير أنها تبقى جهودا محدودة وغير كافية لإيفاء هذه القامة الفكريّة العالمية حقها من الامتنان والتقدير والاستفادة من فتوحاتها العقليّة في التخلّص من معضلة التخلّف القومي عن مواكبة الركب الحضاري الإنساني. إن الاهتمام الجادّ بفكر بن نبي لا تترجمه ندوات موسمية مغلقة أو ومضات إعلامية في نشرات الأخبار، لتغطية نشاطات ثقافية هنا وهناك، بل ينبغي أن يتوجّه رأسا إلى طبع كل مؤلفاته، وتدارسها وإعادة قراءتها نقديّا في ضوء التحوّلات والرهانات الطارئة، خاصة منها ما تعلق بشروط النهضة والصراع الفكري والمسألة الثقافية والقضايا الكبرى التي اشتغل عليها دهرا من الزمن والمكابدة النفسيّة، وما تعلق بها من أبحاث ودراسات نقدية رصينة. وليس المقصود بذلك استنهاض القطاع التجاري الخاص ولا حتّى المؤسسات الجمعويّة، وقد قامت، مشكورة، بجهد معتبر في هذا الاتجاه، ومبادرة 'الكرسي العلمي' تصبّ ضمن المسعى المبارك، لكن إحياء فكر شخصية في مقام بن نبي وترويجه، يقع في أعراف الأمم التي تحترم أعلامها على عاتق الدولة مباشرة، فهل تكفلت، حتى الآن، بهذا الواجب العلمي والوطني والأخلاقي والحضاري؟ حان الوقت ليدرك المخطئون في تصوراتهم أن بن نبي ليس زعيم طائفة أيديولوجيّة ولا فصيل سياسي، بل هو من مراجع الأمة الجزائرية والعربية والإسلامية في تاريخها المعاصر، وأنّ الاحتفاء بتراثه من مقتضيات الأمن القومي بمفهومه الشامل، في أبعاده الفكريّة والثقافيّة والدينيّة، أمّا الاستمرار في سلوكيات الإقصاء الممنهج أو العفوي ضدّه، فليس أبدا في مصلحة الجزائر والهويّة الوطنية، بل إنه سيفتح الباب واسعا أمام تيارات الاختراق والتبعيّة والتغريب الاستعماري في عصر العولمة العابرة لكل الحدود.


الشروق
٠٣-٠٣-٢٠٢٥
- منوعات
- الشروق
الحلقة الرّابعة: أصول القراءة الشّحرورية
يمكننا – دون وجل- أن نعتبر الحداثة التي ينتمي إليها محمد شحرور حركة رجعية، بالنظر إلى ما بعد الحداثة أو إلى بعد ما بعد الحداثة، حيث غدت تحيل إلى أشياء قديمة تعود في بعض الأحيان إلى القرن السادس عشر أو حتى إلى القرن الذي قبله؛ فهي تناقِض اسمها 'الحداثة'، وتناقِض روحها على أساس أننا يمكن أن نعرّف الحداثة تعريف بسيطا فنقول: 'إنها رفض كل القديم'. والحداثة الغربية لم تكن -في منظور تاريخي- واعية بنفسها في بداياتها الأولى، ولم يكن الغرب -ونحن هنا نتحدث عن مفكرين فضلا عن عامة الناس- واعيا بشيء اسمه الحداثة، بل بالعكس! فقد ظهرت أسماء أخرى أكثر حضورا كفلسفة الأنوار والربوبية والديمقراطية والليبرالية وغيرها، لكن مصطلح الحداثة لم يكن متداولا كطرح في الفلسفة ولا يزال تداوله قليلا حتى اليوم. في حين أن الحداثة في الفن أو في الهندسة أو في الأدب كانت مطروحة أكثر. ومن هنا نلحظ أن لفظ 'الحداثة' أكثر طغيانا في العالم العربي، والقراءة الحداثية أكثر طغيانا بالنسبة للغرب الذي لا يستعمل هذا المصطلح إلا قليلا. هم يستعملون كلمة القراءات الحديثة (modern) للتعبير عن كل القراءات غير القديمة أو التي جاءت معارضة لقراءة الكنيسة بدءا من الهيرمينوطيقا وانتهاء إلى التفكيكية، التي هي قراءة ما بعد حداثية. أما استعمال كلمة modernisme في القراءة بمعنى حداثية فهو قليل جدا أو نادر. ندرك من هذا العرض أن القراءة الحداثية قد بلغت حد الهوس الإيديولوجي في العالم العربي، وأنها تعني عندنا كل المناهج القرائية الجديدة التي ظهرت منذ الإصلاح الديني بدءا بالهرمينطيقها وانتهاء إلى التفكيكية، وندرك أنها لم تنبثق من مطلب نهضوي محلي، كما أنها لا تؤمن كثيرا بالهم المنهجي والنقد الذاتي الذي هو أحد أسسه، والرابط الذي يجمع بينها جميعا أنها قراءات غربية مورّدة خرجت من محاضن غير دينية أو ضد دينية في الأغلب، وأنها في العالم العربي قائمة على أساس الخصومة مع القراءات التراثية للوحي، فالمنطلق إيديولوجي منذ البداية والهدف كيدي عدائي في النهاية. إذا لم يكن منطلق القراءة الحداثية نهضويا، بمعنى أن تتناول التراث وتفهمه وتفهم معوقات النهضة، ومن ثم نفكك إشكالاتنا بأنفسنا في سياق سيروري ثقافي خاص بنا. لم تكن تلك القراءة تُعنى بالمصالحة مع الدين ولا الحوار مع القراءات الدينية المعاصرة غير المخاصمة للدين وما أكثرها (مالك بن نبي في الظاهرة القرآنية، عزت دروزة في النبأ العظيم، أبو يعرب المرزوقي في التفسير…). لقد كانت حركة الإصلاح في القرن الماضي والذي قبله جريئة جدا متمثلة في خطاب محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا كما لاحظ ذلك الحداثيون أنفسهم فرحبوا بها وهللوا، لكن هذه القراءات لم تكن سوى متكئا للقراءات الحداثية للانطلاق بها إلى أبعد من ذلك، وجاءت الحركات الإسلامية المعاصرة كالسنوسية في ليبيا وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين فقدمت الإسلام في قالب يستوعب الحداثة العلمية والتقنية كلها دون إشكال، بل وجعلت منها واجبا دينيا وضرورة وجودية كما يأمر الإسلام نفسه، ووجد الناسُ في ظل هذه الحركات أنفسهم فجأة مسلمين معاصرين بأتم ما في الكلمة من معنى، لكن القراءة الحداثية ناصبت هذا التجديد الديني العداء لأنها تريد أمرا آخرا مختلفا!