منذ 6 أيام
بين أقصى المعرفة وأقصى الجهل.. قفزةٌ في المجهول
"لإثبات تفوّق الآلة على الإنسان، لا تكفي الإنجازات المذهلة
للتكنولوجيا
، بل يلزم أيضاً تبنّي رؤية قاتمة ومروّعة لماهية الكائن البشري". بهذه الكلمات يستهلّ الباحث الإيطالي–السويسري جيوليانو دا أمبولي كتاب "إمبراطورية الظلّ: الحرب والأرض في زمن الذكاء الاصطناعي"، الصادر عن دار غاليمار الباريسية، وهو عمل لا يختزل العلاقة بين الإنسان والآلة فحسب، بل يتناول كذلك علاقة
المجتمعات البشرية
بعضها ببعض.
لم يكن العالم على حافة هاوية كما الحال الآن، ونحن في مرحلة مفصليّة من التاريخ
الإنساني
، تضعنا بين نوازع عنف آتية من أزمنة سحيقة، وتطوُّر تكنولوجي هائل يرسم خريطة جديدة لم يعرفها الجنس البشري من قبل. الذكاء الاصطناعي هو المحطة الرابعة ضمن تحوُّل كبير تَجسَّد في ثورات تكنولوجيّة ثلاث، في الزراعة والصناعة والمعلوماتيّة. وستكون الثورة الرابعة التي بدأت تتحقّق أكثر أهمية وأعمق أثراً من جميع ما تحقّق منذ اكتشاف النار والكهرباء والمحرّكات البخاريّة حتى اليوم. وهي تُنذر بتغيُّر في طبيعة العمل، التعليم، الثقافة، الاقتصاد، الحرب، الإدراك، حتى في تعريف "الإنسان" نفسه.
كيف لا وحاسوب "نيكسوس" الفائق القدرة، الذي سينطلق ربيع العام المقبل، سيُجري حسابات بسرعة تفوق ما يتمكّن منه 8 مليارات شخص مجتمعين، ما يكفي لإحداث ثورة في العلم على المستوى العالمي. وسيوفّر هذا الحاسوب إمكانية الوصول إلى أقوى أدوات الحَوسَبة على هذا الكوكب. ذلك كلّه يستدعي تحضيراً لاستيعاب هذا التحوُّل، وللتعامل مع هذه الوسائط المعقّدة، حتى لا يصبح المتلقّي، على غفلة منه، كأنه داخل لعبة مرايا ضخمة أشبه بالمتاهات.
نقف على عتبة ثورة رابعة تعيد تعريف الإنسان نفسه
تقتضي الإشارة، هنا، إلى أنّ مقاربة عالم الذكاء الاصطناعي تختلف عن التعامل مع الفضاء الأزرق (مثل فيسبوك وغيرها من منصّات التواصل الاجتماعي)، حيث الأفكار المتداولة لا تتحاور في ما بينها، بل تتقاطع وتتصادم، ويمضي كلّ منها في سبيله، كأمواج ترتفع عالياً، ثمّ تخبط في الماء وتتلاشى. الفضاء الأزرق مملكة الزبد، وإن ادّعى أنه مكان للتفاعل والتواصل. نلمح فيه الأشياء التي سرعان ما تختفي وفقَ معادلة بسيطة: تقليب الصفحات لا قراءتها، تمرير الصور لا التبحُّر فيها. كأنّ تيّاراً غامضاً هو الذي يحدّد مسارنا ويجرفنا في الاتجاهات كلّها في آن واحد، ونحن في ما يشبه الدُّوار. نُسرع ولا نعرف إلى أين!
في رواية "البطء"، ينتقد ميلان كونديرا تَسارع الحياة المعاصرة التي تُفرغ التجربة من عمقها وتُحوّل كلّ شيء إلى سطح زَلِق وعابر. أما التعامل مع الذكاء الاصطناعي فهو من طبيعة أخرى. الذكاء الاصطناعي يُحاكي الذكاء البشري ويتطلّب نماذج معقّدة للتعلّم الآلي، والرؤية الحاسوبية، وعلوم بيانات عميقة. تَعامُلنا معه هو تَعامُل مع تقنية ذكية قادرة على التطوير، وبإمكانها التأثير على بنية المجتمع كلّه. لذلك هو شريك معرفي عملي دائم التعلّم. وجود الذكاء الاصطناعي محرّض على أسئلة لم نطرحها من قبل، منها مثلًا ما يتعلّق بحدود إمكاناته، وبما يبقى للإنسان أن يحتفظ به لنفسه. قد يبقى الخلاف الأساسي بيننا أنه لا يشعر بالقلق ولا يخاف الموت.
بين طَرَفَي نقيض، يعيش البشر اليوم. بين الانغلاق وصعود التطرّف والعودة إلى العنف الخالص، وكذلك الحروب بما هي ظاهرة بدائيّة متوحّشة وقديمة، من جهة، وآلة مُبَرمَجة تتطوّر يومًا بعد آخر، تخترق الزمان وتفوق التصوُّر، من جهة أُخرى. بين هذه وتلك، نبحث عن ضفاف ترسو فيها مراسينا.
الذكاء الاصطناعي، بحسب مبتكريه ومهندسيه، سيكون أكبر قوّة يصنعها الإنسان منذ أن وُجدَ على الأرض، وأنّ طاقات هذا الذكاء ستتضاعف آلاف المرّات خلال السنوات المقبلة. لكن، ما معنى هذا التطوّر الخارق إذا لم يكن في خدمة البشرية جمعاء، لا في خدمة فريق واحد يستعمله من أجل المزيد من السلطة والهيمنة والاستئثار، ضمن أفق تتواصل فيه الحروب ويستمرّ الظلم إلى ما لا نهاية؟ ما معناه في هذه اللحظة بالذات، والمستفيد الأوّل منه هي الدول المتقدّمة علميًّا وسلطتها السياسيّة، ومعها، بالطّبع، السلطة الاقتصادية.
هذا ما نشره سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI للذكاء الاصطناعي، في مدوّنته الشخصيّة (في 16 مارس/ آذار 2021): "ستكون البرامج المعلوماتيّة قادرة على القيام بكلّ شيء تقريبًا، بما في ذلك اكتشافات علمية جديدة توسّع مفهومنا للعالم. الثورة التكنولوجية لا يمكن إيقافها. وستتسارع وتيرتها فتساعدنا الآلات الذكية بنفسها على صنع آلات أكثر ذكاءً، وسينتج عن هذه التغيّرات ثروات هائلة ممّا سيغيّر مستوى عيش البشر".
بين آلة لا تموت وعالم بلا كهرباء، يولد اضطراب المستقبل
يحقّ لألتمان أن يحلم، إلّا أنّ الواقع يقتضي تغيُّراً جذريّاً في عالم السياسة يواكب الثورة التكنولوجية التي سيتبدّل معها العالم. هذا العالم الذي لا تزال في جنوبه مناطق لم تصل إليها الكهرباء بعد. لذلك، لا بدّ من رؤية مستقبلية إنسانية تساهم في تشكيل علاقة جديدة بين البشر والذكاء الاصطناعي. ثمّة من يراهن على التوصُّل إلى سياسات تكون قادرة على مرافقة التقدّم العلمي. لكن، هل يمكن ذلك بدون إفساح المجال أمام العلماء والعُقَلاء، وبدون بناء هيئات دولية مستقلّة تُعنى بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وتضمّ ممثلين من مجتمعات متنوّعة، ثقافيّاً وجغرافيّاً؟
من المعروف أنّ السياسة، منذ القِدم، قلّما تُشرك الفلاسفة والمفكرين في صنع القرار، فما الذي يضمن إشراكهم الآن؟ هنا تكمن المفارقة التاريخية العميقة التي يعيشها العالم اليوم: كيف يمكن أن نطالب السلطة السياسية بأن تتخلّى عمّا اعتادت عليه منذ آلاف السنين؟ السياسة التقليدية لم تكن يوماً صديقة الفلاسفة والمفكّرين المتنوّرين، بل كثيراً ما رأت فيهم مصدر قلق بدل أن يكونوا فرصة للنجاة. من سقراط الذي حُكم عليه بالموت بتهمة "إفساد عقول الشباب" وتشجيعهم على التفكير النقدي بأسلوب مختلف عن التعاليم السائدة، إلى غاليليو الذي حوكم لأنه فكّر خارج النصّ المكرَّس، إلى كلّ مفكّر تمّ تجاهله أو تهميشه أو توظيفه.
لن يتحقق إذاً حلم سام ألتمان، وهو حلم علماء التكنولوجيا الحديثة، ما لم يتجاوب معه وعي سياسي جديد، يُشرك الفكر والفلسفة والإنسانيّات، ويأخذ في الاعتبار قيمة الأفراد، واختلاف الثقافات، وهشاشة الكوكب، وإلّا فإنّ الذكاء الاصطناعي، بدل أن يحرّر الإنسان، يصبح أداة استعمارية جديدة، ومرآة لسلطة غير مرئية تُعيد إنتاج القهر بأدوات أخرى.
يقول الكاتب الفرنسي فرانسوا رابليه، أحد أعلام الحركة الإنسانية في فرنسا: "العِلم بلا وعي أخلاقي ومعرفي ليس سوى هلاكٍ للروح". لذلك، فإنّ التحدّي التكنولوجي لا ينحصر في السياسة والاقتصاد فحسب، بل هو أيضاً تحدٍّ فلسفي وثقافي. أخيراً، إنّ التقدّم المذهل للتكنولوجيا لا يكفي وحده؛ ولكي يكون له معنى حقيقي، تنقصه دقّاتُ قلبٍ بشريّ.
* كاتب وشاعر لبناني مقيم في باريس
آداب
التحديثات الحية
"غيبة مي" لنجوى بركات.. رحلة في مجاهل الشيخوخة