logo
#

أحدث الأخبار مع #عليعبدالرازق

أخبار العالم : كيف مهد كتاب لشيخ أزهري للجدل حول الإسلام والعلمانية؟
أخبار العالم : كيف مهد كتاب لشيخ أزهري للجدل حول الإسلام والعلمانية؟

نافذة على العالم

timeمنذ 6 أيام

  • سياسة
  • نافذة على العالم

أخبار العالم : كيف مهد كتاب لشيخ أزهري للجدل حول الإسلام والعلمانية؟

الخميس 15 مايو 2025 07:00 مساءً نافذة على العالم - صدر الصورة، دار التنوير للنشر التعليق على الصورة، الكتاب الذي صدر عام 1925 أثار نقاشات كبيرة على مر عقود وأعيد طبعه أكثر من مرة Article information هل ينبغي أن تكون الدولة مدنية علمانية أم دينية؟ سؤال يثير منذ عقودٍ جدلاً واسعاً بين المثقفين والمهتمين بالسياسة في العالم العربي، حيث يطرح كل فريق حججه التي غالباً ما لا تُقنع الطرف الآخر، في مشهد تكرر كثيراً في سياقات متباينة، وإن كان يمكن تتبع تاريخه إلى مئة عام خلت. ففي أبريل/نيسان عام 1925 صدر في مصر كتاب يحمل عنوان "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ الأزهري علي عبد الرازق، الذي سعى للترويج لفكرة الدولة المدنية قائلاً إن الإسلام كرسالة دينية لم يحدد شكل الحكم السياسي الأمثل، ومشدداً على أن مؤسسة الخلافة التي هيمنت على مصير المسلمين لمئات السنين ليست من أصول العقيدة الإسلامية. الكتاب أثار معركة فكرية كبيرة في مصر وخارجها، وتسبب في فصل صاحبه من الأزهر وتعرضه للكثير من الاتهامات وصلت إلى درجة أن البعض ادعى أن علي عبد الرازق ليس هو المؤلف الحقيقي للكتاب. فمن هو علي عبد الرازق؟ وما الأفكار التي طرحها؟ وما الظروف التي نُشر فيها الكتاب؟ إلغاء الخلافة جاء توقيت صدور الكتاب في عام 1925 ليزيد من حدة النقاشات حوله. إذ صدر بعد عام واحد فقط من إلغاء البرلمان التركي مؤسسة الخلافة، وهي التي كانت مجرد منصب شرفي منذ عام 1909. وخلال تلك الفترة، كان العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، خاضعاً خلال تلك الفترة بشكل أو آخر لقوى استعمارية غربية بعد أن ظل لمدة قرون تابعاً للعثمانيين. وكانت نخب تلك البلدان المثقفة تتطلع إلى تأسيس دول حديثة قائمة على أفكار الديمقراطية والفصل بين السلطات وإجراء الانتخابات، فيما بدا تأثراً بالأنظمة السياسية الغربية. كانت مصر في قلب تلك التحولات الكبرى، فثورة عام 1919 التي طالبت بالاستقلال عن الاستعمار البريطاني، أسفرت عن استقلال صوري غير كامل ودستور جديد وانتخابات برلمانية أفضت عام 1924 إلى تولي سعد زغلول، زعيم حزب الوفد، رئاسة أول حكومة منتخبة في تاريخ البلاد. لكن "حكومة الشعب" لم تستمر طويلاً إذ استقالت بعد أقل من عام على تشكيلها، لتتشكل حكومة من أحزاب وشخصيات مقربة من الملك من دون أن يكون لها نفس شعبية حزب الوفد، ومن بين تلك الأحزاب، حزب الأحرار الدستوريين، الذي سيكون له فيما بعد دور مهم في المعركة التي دارت حول الكتاب. وفي نفس الفترة التي تعرضت خلالها التجربة الديمقراطية المصرية الوليدة لانتكاسة كبيرة، بدأت تظهر دعوات تطالب باستعادة الخلافة، وطُرح اسم الملك فؤاد من بين المرشحين لكي يكون خليفة محتملاً للمسلمين. وفي تلك الأجواء خرج كتاب "الإسلام وأصول الحكم" إلى النور ليتحول صاحبه من مجرد قاضٍ شرعي في مدينة المنصورة إلى محور جدل ونقاشات استمرت لعشرات الأعوام بعد وفاته. صدر الصورة، Getty Images التعليق على الصورة، صدر الكتاب بعد عام من إلغاء الخلافة العثمانية/ صورة أرشيفية للسلطان العثماني محمد السادس حزب الأحرار الدستوريين وُلِدَ علي عبد الرازق لعائلة من كبار مُلّاك الأراضي الزراعية في محافظة المنيا بصعيد مصر عام 1887، وتلقّى تعليماً أزهرياً ثم سافر إلى إنجلترا للدراسة في جامعة أوكسفورد، قبل أن يعود إلى مصر وينضم إلى سلك القضاء الشرعي. كان عبد الرازق ينتمي فكرياً إلى حزب الأحرار الدستوريين، وهو حزب ضم العديد من الباشوات وأفراد الطبقة الثرية، وكان يميل إلى معسكر الملك في خصومته مع حزب الوفد ذي الشعبية الجارفة. ومن اللافت أن حزب الأحرار الدستوريين كان وقتها يضم ويحظى بدعم أسماء بارزة في عالم الثقافة المصرية بجانب علي عبد الرازق، كطه حسين، الذي كان هو الآخر محور جدل مشابه في عام 1926 بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي"، ومنصور فهمي، ومحمد حسين هيكل، ومصطفى عبد الرازق، شقيق علي عبد الرازق. لكن ما أبرز الأفكار التي جاءت في الكتاب وأثارت ضجة كبيرة؟ الكتاب يستهل عبد الرازق كتاب "الإسلام وأصول الحكم - بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام" بالإشارة إلى أن الأبحاث التي قام بها حول القضاء الشرعي هي التي دفعته إلى تأليف الكتاب. والفكرة الأساسية للكتاب أن النبي محمد "لم يكن إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك أو حكومة". كما يقول عبد الرازق إنه لا توجد نصوص دينية إسلامية تؤيد الحديث عن وجوب الخلافة. ويستشهد عبد الرازق بنصوص تاريخية لتأكيد حديثه عن أن الخلافة "لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وإن تلك القوة كانت - إلا في النادر - قوة مادية مسلحة". كما يشير إلى أن تفرّق المسلمين إلى ممالك ودويلات في زمن ضعف الخلافة لم يسفر عن ضياع الدين أو توقف المؤمنين عن ممارسة شعائر عقيدتهم. ويدعو عبد الرازق المسلمين في الكتاب إلى بناء قواعد ملكهم ونظام حكومتهم "على أحدث ما أنتجت العقول البشرية". المعركة كانت الأفكار التي حملها الكتاب غير تقليدية بشكل أثار عاصفة من الجدل والانتقادات خاصة في ظل إلغاء مؤسسة الخلافة. فالكاتب الإسلامي البارز محمد رشيد رضا شن هجوماً عنيفاً على الكتاب ومؤلفه في مجلة المنار، واصفاً الأفكار التي جاءت فيه بـ"البدعة" التي ظهرت في وقتٍ تتضافر الجهود لعقد مؤتمر إسلامي عامّ لإحياء منصب الخلافة. كذلك صدرت كتب عدة تتعرض لـ"الإسلام وأصول الحكم" وتنتقد ما جاء فيه، لعل من أبرزها كتاب الشيخ محمد الخضر حسين- الذي تولى منصب شيخ الأزهر بعد ذلك بأكثر من 25 عاماً - "نقد الإسلام وأصول الحكم". صدر الصورة، Getty Images التعليق على الصورة، صدر الكتاب في وقت كان يحكم مصر الملك فؤاد (في مركز الصورة) وسعى الرافضون لأفكار علي عبد الرازق إلى طرح حجج مضادة لما جاء في "الإسلام وأصول الحكم" مستلهمين هم أيضاً نصوصاً دينية وتاريخية. تتسم العديد من الكتابات المعارضة لعلي عبد الرازق باتهامه إما بـ "الجهل بحقيقة الإسلام" أو "التضليل المتعمد" أو "تقليد الغرب بشكل كامل". لم تقتصر قائمة منتقدي عبد الرازق على الشيوخ وأصحاب التوجهات الإسلامية المطالبة بعودة الخلافة، فقد كان لافتاً أن الزعيم الوفدي سعد زغلول استنكر بشدة ما جاء في الكتاب ووجه نقداً لاذعاً لصاحبه، بحسب ما جاء في دراسة الكاتب محمد عمارة "الإسلام وأصول الحكم: دراسة ووثائق". في المقابل، نشرت صحف مصرية العديد من المقالات التي يدافع أصحابها عن علي عبد الرازق وآرائه، كمحمد حسين هيكل، وسلامة موسى. كذلك دافع عباس العقاد - وهو الذي كان وقتها مؤيداً لحزب الوفد - عن حق الكاتب في التعبير عن رأيه سواء كان مصيباً أو مخطئاً. المحاكمة المعركة حول الكتاب لم تقتصر على الصحف والمجلات بل وصلت إلى أروقة الأزهر. إذ انعقدت هيئة كبار علماء الأزهر في شهر يوليو/تموز عام 1925 ووجهت إلى علي عبد الرازق سبع "تهم" من بينها حديثه عن كون الإسلام شريعة روحية محضة وقوله إن حكومة أبي بكر ومن خلفه كانت حكومة لا دينية. وفي أغسطس/آب مثُل علي عبد الرازق أمام الهيئة التي قررت بالإجماع إخراجه من زمرة العلماء ومحو اسمه من سجلات الأزهر وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية، وهو ما تبعه قرار حكومي بفصله من وظيفته كقاضٍ شرعي. صدر الصورة، Getty Images التعليق على الصورة، قرر علماء الأزهر فصل علي عبد الرازق بعد أشهر من صدور الكتاب السياسة لم يشكّل قرار فصل عبد الرازق من الأزهر نهاية المعركة حول الكتاب بل كان أحد تبعاتها. فكثير من الكتابات والدراسات التاريخية التي تناولت القضية لاحقاً، تظهر أن الأزمة كانت مرتبطة أيضاً بالسياسة كما كانت متعلقة بالأفكار التي طرحها، مثلما جاء في كتاب محمد عمارة "الإسلام وأصول الحكم - دراسة ووثائق"، وكتاب الكاتب الصحفي المصري أحمد بهاء الدين "أيام لها تاريخ". فالكتاب، بحسب هذا الفريق، كان بمثابة صرخة احتجاج ضد مساعي الملك فؤاد لمواصلة الاستبداد بالحكم عبر ادعاء لقب الخليفة بما له من ثقل ديني. وتشير الأكاديمية سعاد علي في كتابها "A Religion, Not a State: Ali 'Abd al-Raziq's Islamic Justification of Political Secularism" إلى أن عبد الرازق استخدم في الكتاب لفظتي ملك وسلطان ومرادفاتهما نحو 150 مرة. فالملك فؤاد، عند هذا الفريق من الباحثين، لعب دوراً في التنكيل بصاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، بل إن عدداً ممن هاجموا الكتاب كان من بين دوافعهم إرضاء ملك مصر. فبينما قال عبد الرازق في مقدمة كتابه إنه "لا يخشى سوى الله. له القوة والعزة. وما سواه ضعيف ذليل"، نجد الشيخ محمد الخضر حسين يهدي كتابه إلى "إلى خزانة حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم". أما الحزب الذي ينتمي إليه عبد الرازق فكرياً، حزب الأحرار الدستوريين، فهو لم يكن حزباً جماهيرياً بل وارتضى المشاركة في حكومات غير ديمقراطية موالية للملك وصلت إلى الحكم من دون أن يكون لها ظهير شعبي كبير. لكن المفارقة أن الحزب نفسه وقف إلى جانب علي عبد الرازق لينتهي الأمر بأزمة سياسية أسفرت في النهاية عن خروج وزراء الحزب من الحكومة. أسئلة مشابهة ومع مرور السنوات توارى علي عبد الرازق عن الأنظار لفترة طويلة قبل أن يقرر الأزهر إعادته إلى زمرة علمائه في الأربعينيات خلال تولي شقيقه مصطفى عبد الرازق منصب شيخ الأزهر. ثم أسند إليه منصب وزير الأوقاف في إحدى حكومات الأقليات في نهاية الأربعينيات. أما جهود إعادة إحياء الخلافة الإسلامية فسرعان ما باءت بالفشل. وبدا بعد فترة ليست بالكبيرة أن الانشغال بقضايا الاستقلال والديمقراطية طغى على حماس الكثير من عناصر النخبة المصرية لمناقشة قضية مشروع الخلافة. وليس أدل على ذلك التغير سوى تلك الأزمة التي جرت في عام 1937 خلال الإعداد لتتويج الملك فاروق، نجل الملك فؤاد. فمصطفى النحاس، رئيس الوزراء المنتخب وخليفة سعد زغلول في زعامة حزب الوفد، أجهض خطة طرحها مقربون من الملك لإضفاء صبغة دينية على حفل التتويج. لكن في المقابل، وبعد ثلاث سنوات من صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، يؤسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تدعو إلى مواجهة التغريب والعودة إلى الأصول الدينية للمجتمعات الإسلامية حتى يصير من الممكن "إحياء الخلافة المفقودة". ومع مرور الزمن أمسى الكتاب مثار نقاشات حادة بين أنصار العلمانية والمدافعين عن الحكم ذي الطابع الإسلامي، وأعيد طبعه أكثر من مرة. تجدر الملاحظة أن كلمة "علمانية" لم ترد في الكتاب، فعلي عبد الرازق كان يدافع عن حكم مدني في مقابل المطالبين بعودة نظام الخلافة.

"إخوان" الأردن وإخوانهم!
"إخوان" الأردن وإخوانهم!

النهار

time٢٩-٠٤-٢٠٢٥

  • سياسة
  • النهار

"إخوان" الأردن وإخوانهم!

قامت الحكومة الأردنية بتفعيل حكم صدر قبل سنوات ضدّ "جماعة الإخوان المسلمين"، وكان الحكم الذي صدر في تموز/ يوليو عام 2020 من محكمة التمييز الأردنية قد نصّ على أن "جماعة الإخوان الأردنية فقدت الصفة القانونية" وتمهّل النظام في تفعيل الحكم، حتى نيسان/ أبريل 2025 بعد الكشف عن خلية العسكرة! قصة "الإخوان المسلمين" في الأردن هي واحدة من أبرز قصص التيارات الإسلامية في المنطقة العربية لما لها من خصوصية في العلاقة مع الدولة، وتقلبات في المواقف بين المعارضة والمشاركة والانقسامات الداخلية. الصورة الأوسع هي المحاولات المتعددة في عدد من الدول العربية، إقامة تنظيمات سياسية مستندة إلى الإسلام. وقد وُلدت الحركة في مصر، في مجملها مناقضة للتطور التاريخي. وُلدت مع أفول الإمبراطوريات (من بينها الخلافة العثمانية) ومع ولادة الدولة الوطنية الحديثة، فأرادت أن تعيد "الإمبراطورية" في شكل مصطلحها عن "الأمة". هذا التناقض لازمها في كل مناطق نموّها، كما لازمتها العسكرة. حلّ النقراشي في مصر الحركة، بعدما تعسكرت، وحاولت الدخول في الجيش، فقتل بعد عشرين يوماً من الحلّ في 28 كانون الأول/ ديسمبر 1948 على يد النظام الخاص للجماعة. وما إن تقوى الحركة في أيّ مكان، حتى يتسلل أفرادها إلى الجيش، ومن ثم يتم الانقلاب، والانقلابية طبيعة ثانية للحركة، ومنسجمة مع دعوتها لعودة "الخلافة" وبناء الإمبراطورية!! تجربة الإسلاميين في الحكم تجربة قاسية وسلبية، فكانت تجربة فاشلة في السودان وتجربة قصيرة أيضاً في مصر، وأخرى في تونس، وأيضاً في المغرب، إلا أن الإشكالية التي تواجه هذه الجماعات وغيرها القريبة منها أنها تستند إلى مقولات تراثية منتقاة من التاريخ العربي الإسلامي الذهبي في رأيها! مبكراً أي قبل مئة عام تقريباً، أصدر الرجل الأزهري علي عبد الرازق كتابه المشهور "الإسلام وأصول الحكم"، وكان عبد الرازق مزامناً لحسن البنّا وحركته الناشئة وقتذاك ("الإخوان المسلمون")... وكان الزمن في مصر في ذلك الوقت زمن قلق. مبكراً انتبه علي عبد الرازق، لتفنيد عدد من الافتراضات، من بينها أن الإسلام دين لا دولة، وأن النبوّة ليست سلطة سياسية، وبالتالي فإن الخلافة ليست جزءاً من الدين الإسلامي، بل هي اجتهاد بشري سياسي. ودعا إلى فصل الدين عن السياسة، وأن وظيفة الدين هي الهداية والأخلاق، لا الحكم والإدارة، وأن دمج الدين بالسلطة يؤدّي إلى الاستبداد باسم الدين، وقدّم نقداً لتجربة الخلافة سواء الخلافة التاريخية، أو الخلافة العثمانية. وبعد تجارب مريرة، ثبتت وجهة نظر علي عبد الرازق. أهمية الكتاب أنه من أولى المحاولات في العالم العربي أو الثقافة العربية الذي يدعو إلى علم الدولة من منظور إسلامي. أثّر هذا الكتاب في تفكير مفكرين كثر مثل طه حسين ومحمد أركون وجمال البنا وعبد الوهاب المؤدب وحسن حنفي، ومفكرين آخرين عرب وغير عرب. التجربة التاريخية التي حدثت في العقود الأخيرة تثبت ما قاله علي عبد الرازق في كتابه ذاك؛ فقد وصلت إلى السودان مثلاً مجموعة سمّت نفسها "الإنقاذ" معتمدة على مقولات إسلامية، ولم تكتف بالحيّز السوداني، ولكنها أيضاً دعت مجاميع مختلفة من الجماعات التي تنتمي إلى ذلك الفكر إلى الالتحاق بها، وبعد سنوات من الحكم، تبيّن فقر أدوات الحكم المستندة إلى المفاهيم التراثية القديمة، ودخل السودان بعد ذلك في معترك حروب أهلية نشهدها حتى اليوم. في تونس بعد الربيع العربي، بدأت تجربة قصيرة الأمد، تحاول أيضاً المواءمة بين الفكر الديني والعمل السياسي في الدولة الحديثة، إلى درجة أنه في بداية الثورة التونسية، عندما وصل حمادي الجبالي إلى أرض تونس من المنفى، هو الذي أصبح أول رئيس للوزراء، وصرّح تصريحاً لافتاً: "لقد جئنا لإقامة الخلافة الراشدة السادسة"!! سقط ذلك الحكم بسرعة، وتسبّب أيضاً بردّة فعل اجتماعية – وسياسية، جعلت من فكرة الانتخابات والديموقراطية فكرة غير شعبية في تونس التي لا تزال تعاني من الفعل وردات الفعل. في المغرب حدث التوجّه نفسه فجاء حزب العدالة والتنمية بعد 2011 صاعداً على المقولات نفسها، ولكنه خلال عقد كامل لم يحقق ما يُرجى في إدارة الدولة، لذلك خسر الانتخاب خسارة فادحة. ربما الإطلالة أيضاً على تجربة "حماس" في غزة، وما آلت إليه من نتائج كارثية بسبب الاعتماد على مقولات تراثية لمعالجة مستجدات اجتماعية وسياسية واقتصادية لم تكن معروفة في وقت سابق. في الحالة الأردنية الأخيرة، من جديد تتكرر الأخطاء نفسها؛ فقامت مجموعة صغيرة بالتسلح خارج الدولة من أجل "إقامة الخلافة"! وهو هدف غير عقلاني، وإن استخدمت في الداخل أو الجوار. أصبح لدينا بعد فترة مشاهد غزة الكارثية، ولكن هذه المرة في عمّان العاصمة الأردنية، وبالتالي أضفنا إلى جروحنا الغائرة جروحاً أخرى أكثر ألماً وأشد مرارة. إنه وقت التفكير العقلاني، والعمل على إقامة الدولة الوطنية العادلة، دون توسّل العسكرة للانقلاب عليها، من خلال دين الناس، فكل التجارب التي قامت أودت إلى الخسارة. وبالتالي، فإن تجربة الإسلام السياسي، بدرجاته المختلفة، تحتاج إلى إعادة زيارة فكرية شجاعة، وإلى فك الاشتباك بين المقدس الديني والسياسة، فالأخيرة متغيرة، وتحتاج إلى أدوات ومنهج لفهم ما يحيط بنا من أزمات، وما أخّر الأمة هو الخلط المرضي بين هذا وذاك. ربما تستحق هذه التجربة عموماً أن تسمّى "التديّن المرضي" وهو محاولة تفسير النصوص، أو ما قام به الأولون وإعطاؤه صورة يمكن أن تتكرر في العصر الحديث، بدلاً من التديّن الطبيعي الذي يعتنقه كثيرون. تحاول دول عربية كثيرة أن تنتج المجتمع الحديث، الذي يعتمد على دولة مدنية حديثة وعادلة ولها قوانين نابعة من حاجات الناس، ومتسقة أيضاً مع القوانين الدولية والأعراف الدولية، كما تؤكد حقوق الأفراد، وحقوق الدولة في الأمن والسلامة، وتسمح بالمنافسة السياسية في حدود القوانين المرعيّة، لا عسكرة مكوّن منها باسم الدين وتكفير الآخرين وإقصائهم ثم القفز على السلطة!!

قصة الكتاب الذي مهّد للجدل حول الإسلام والعلمانية في مصر
قصة الكتاب الذي مهّد للجدل حول الإسلام والعلمانية في مصر

شفق نيوز

time٢٥-٠٤-٢٠٢٥

  • سياسة
  • شفق نيوز

قصة الكتاب الذي مهّد للجدل حول الإسلام والعلمانية في مصر

هل ينبغي أن تكون الدولة مدنية علمانية أم دينية؟ سؤال يثير منذ عقودٍ جدلاً واسعاً بين المثقفين والمهتمين بالسياسة في العالم العربي، حيث يطرح كل فريق حججه التي غالباً ما لا تُقنع الطرف الآخر، في مشهد تكرر كثيراً في سياقات متباينة، وإن كان يمكن تتبع تاريخه إلى مئة عام خلت. ففي أبريل/نيسان عام 1925 صدر في مصر كتاب يحمل عنوان "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ الأزهري علي عبد الرازق، الذي سعى للترويج لفكرة الدولة المدنية قائلاً إن الإسلام كرسالة دينية لم يحدد شكل الحكم السياسي الأمثل، ومشدداً على أن مؤسسة الخلافة التي هيمنت على مصير المسلمين لمئات السنين ليست من أصول العقيدة الإسلامية. الكتاب أثار معركة فكرية كبيرة في مصر وخارجها، وتسبب في فصل صاحبه من الأزهر وتعرضه للكثير من الاتهامات وصلت إلى درجة أن البعض ادعى أن علي عبد الرازق ليس هو المؤلف الحقيقي للكتاب. فمن هو علي عبد الرازق؟ وما الأفكار التي طرحها؟ وما الظروف التي نُشر فيها الكتاب؟ جاء توقيت صدور الكتاب في عام 1925 ليزيد من حدة النقاشات حوله. إذ صدر بعد عام واحد فقط من إلغاء البرلمان التركي مؤسسة الخلافة، وهي التي كانت مجرد منصب شرفي منذ عام 1909. وخلال تلك الفترة، كان العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، خاضعاً خلال تلك الفترة بشكل أو آخر لقوى استعمارية غربية بعد أن ظل لمدة قرون تابعاً للعثمانيين. وكانت نخب تلك البلدان المثقفة تتطلع إلى تأسيس دول حديثة قائمة على أفكار الديمقراطية والفصل بين السلطات وإجراء الانتخابات، فيما بدا تأثراً بالأنظمة السياسية الغربية. كانت مصر في قلب تلك التحولات الكبرى، فثورة عام 1919 التي طالبت بالاستقلال عن الاستعمار البريطاني، أسفرت عن استقلال صوري غير كامل ودستور جديد وانتخابات برلمانية أفضت عام 1924 إلى تولي سعد زغلول، زعيم حزب الوفد، رئاسة أول حكومة منتخبة في تاريخ البلاد. لكن "حكومة الشعب" لم تستمر طويلاً إذ استقالت بعد أقل من عام على تشكيلها، لتتشكل حكومة من أحزاب وشخصيات مقربة من الملك من دون أن يكون لها نفس شعبية حزب الوفد، ومن بين تلك الأحزاب، حزب الأحرار الدستوريين، الذي سيكون له فيما بعد دور مهم في المعركة التي دارت حول الكتاب. وفي نفس الفترة التي تعرضت خلالها التجربة الديمقراطية المصرية الوليدة لانتكاسة كبيرة، بدأت تظهر دعوات تطالب باستعادة الخلافة، وطُرح اسم الملك فؤاد من بين المرشحين لكي يكون خليفة محتملاً للمسلمين. وفي تلك الأجواء خرج كتاب "الإسلام وأصول الحكم" إلى النور ليتحول صاحبه من مجرد قاضٍ شرعي في مدينة المنصورة إلى محور جدل ونقاشات استمرت لعشرات الأعوام بعد وفاته. حزب الأحرار الدستوريين وُلِدَ علي عبد الرازق لعائلة من كبار مُلّاك الأراضي الزراعية في محافظة المنيا بصعيد مصر عام 1887، وتلقّى تعليماً أزهرياً ثم سافر إلى إنجلترا للدراسة في جامعة أوكسفورد، قبل أن يعود إلى مصر وينضم إلى سلك القضاء الشرعي. كان عبد الرازق ينتمي فكرياً إلى حزب الأحرار الدستوريين، وهو حزب ضم العديد من الباشوات وأفراد الطبقة الثرية، وكان يميل إلى معسكر الملك في خصومته مع حزب الوفد ذي الشعبية الجارفة. ومن اللافت أن حزب الأحرار الدستوريين كان وقتها يضم ويحظى بدعم أسماء بارزة في عالم الثقافة المصرية بجانب علي عبد الرازق، كطه حسين، الذي كان هو الآخر محور جدل مشابه في عام 1926 بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي"، ومنصور فهمي، ومحمد حسين هيكل، ومصطفى عبد الرازق، شقيق علي عبد الرازق. لكن ما أبرز الأفكار التي جاءت في الكتاب وأثارت ضجة كبيرة؟ الكتاب يستهل عبد الرازق كتاب "الإسلام وأصول الحكم - بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام" بالإشارة إلى أن الأبحاث التي قام بها حول القضاء الشرعي هي التي دفعته إلى تأليف الكتاب. والفكرة الأساسية للكتاب أن النبي محمد "لم يكن إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك أو حكومة". كما يقول عبد الرازق إنه لا توجد نصوص دينية إسلامية تؤيد الحديث عن وجوب الخلافة. ويستشهد عبد الرازق بنصوص تاريخية لتأكيد حديثه عن أن الخلافة "لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وإن تلك القوة كانت - إلا في النادر - قوة مادية مسلحة". كما يشير إلى أن تفرّق المسلمين إلى ممالك ودويلات في زمن ضعف الخلافة لم يسفر عن ضياع الدين أو توقف المؤمنين عن ممارسة شعائر عقيدتهم. ويدعو عبد الرازق المسلمين في الكتاب إلى بناء قواعد ملكهم ونظام حكومتهم "على أحدث ما أنتجت العقول البشرية". المعركة كانت الأفكار التي حملها الكتاب غير تقليدية بشكل أثار عاصفة من الجدل والانتقادات خاصة في ظل إلغاء مؤسسة الخلافة. فالكاتب الإسلامي البارز محمد رشيد رضا شن هجوماً عنيفاً على الكتاب ومؤلفه في مجلة المنار، واصفاً الأفكار التي جاءت فيه بـ"البدعة" التي ظهرت في وقتٍ تتضافر الجهود لعقد مؤتمر إسلامي عامّ لإحياء منصب الخلافة. كذلك صدرت كتب عدة تتعرض لـ"الإسلام وأصول الحكم" وتنتقد ما جاء فيه، لعل من أبرزها كتاب الشيخ محمد الخضر حسين- الذي تولى منصب شيخ الأزهر بعد ذلك بأكثر من 25 عاماً - "نقد الإسلام وأصول الحكم". وسعى الرافضون لأفكار علي عبد الرازق إلى طرح حجج مضادة لما جاء في "الإسلام وأصول الحكم" مستلهمين هم أيضاً نصوصاً دينية وتاريخية. تتسم العديد من الكتابات المعارضة لعلي عبد الرازق باتهامه إما بـ "الجهل بحقيقة الإسلام" أو "التضليل المتعمد" أو "تقليد الغرب بشكل كامل". لم تقتصر قائمة منتقدي عبد الرازق على الشيوخ وأصحاب التوجهات الإسلامية المطالبة بعودة الخلافة، فقد كان لافتاً أن الزعيم الوفدي سعد زغلول استنكر بشدة ما جاء في الكتاب ووجه نقداً لاذعاً لصاحبه، بحسب ما جاء في دراسة الكاتب محمد عمارة "الإسلام وأصول الحكم: دراسة ووثائق". في المقابل، نشرت صحف مصرية العديد من المقالات التي يدافع أصحابها عن علي عبد الرازق وآرائه، كمحمد حسين هيكل، وسلامة موسى. كذلك دافع عباس العقاد - وهو الذي كان وقتها مؤيداً لحزب الوفد - عن حق الكاتب في التعبير عن رأيه سواء كان مصيباً أو مخطئاً. المحاكمة المعركة حول الكتاب لم تقتصر على الصحف والمجلات بل وصلت إلى أروقة الأزهر. إذ انعقدت هيئة كبار علماء الأزهر في شهر يوليو/تموز عام 1925 ووجهت إلى علي عبد الرازق سبع "تهم" من بينها حديثه عن كون الإسلام شريعة روحية محضة وقوله إن حكومة أبي بكر ومن خلفه كانت حكومة لا دينية. وفي أغسطس/آب مثُل علي عبد الرازق أمام الهيئة التي قررت بالإجماع إخراجه من زمرة العلماء ومحو اسمه من سجلات الأزهر وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية، وهو ما تبعه قرار حكومي بفصله من وظيفته كقاضٍ شرعي. السياسة لم يشكّل قرار فصل عبد الرازق من الأزهر نهاية المعركة حول الكتاب بل كان أحد تبعاتها. فكثير من الكتابات والدراسات التاريخية التي تناولت القضية لاحقاً، تظهر أن الأزمة كانت مرتبطة أيضاً بالسياسة كما كانت متعلقة بالأفكار التي طرحها، مثلما جاء في كتاب محمد عمارة "الإسلام وأصول الحكم - دراسة ووثائق"، وكتاب الكاتب الصحفي المصري أحمد بهاء الدين "أيام لها تاريخ". فالكتاب، بحسب هذا الفريق، كان بمثابة صرخة احتجاج ضد مساعي الملك فؤاد لمواصلة الاستبداد بالحكم عبر ادعاء لقب الخليفة بما له من ثقل ديني. وتشير الأكاديمية سعاد علي في كتابها "A Religion, Not a State: Ali 'Abd al-Raziq's Islamic Justification of Political Secularism" إلى أن عبد الرازق استخدم في الكتاب لفظتي ملك وسلطان ومرادفاتهما نحو 150 مرة. فالملك فؤاد، عند هذا الفريق من الباحثين، لعب دوراً في التنكيل بصاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، بل إن عدداً ممن هاجموا الكتاب كان من بين دوافعهم إرضاء ملك مصر. فبينما قال عبد الرازق في مقدمة كتابه إنه "لا يخشى سوى الله. له القوة والعزة. وما سواه ضعيف ذليل"، نجد الشيخ محمد الخضر حسين يهدي كتابه إلى "إلى خزانة حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم". أما الحزب الذي ينتمي إليه عبد الرازق فكرياً، حزب الأحرار الدستوريين، فهو لم يكن حزباً جماهيرياً بل وارتضى المشاركة في حكومات غير ديمقراطية موالية للملك وصلت إلى الحكم من دون أن يكون لها ظهير شعبي كبير. لكن المفارقة أن الحزب نفسه وقف إلى جانب علي عبد الرازق لينتهي الأمر بأزمة سياسية أسفرت في النهاية عن خروج وزراء الحزب من الحكومة. أسئلة مشابهة ومع مرور السنوات توارى علي عبد الرازق عن الأنظار لفترة طويلة قبل أن يقرر الأزهر إعادته إلى زمرة علمائه في الأربعينيات خلال تولي شقيقه مصطفى عبد الرازق منصب شيخ الأزهر. ثم أسند إليه منصب وزير الأوقاف في إحدى حكومات الأقليات في نهاية الأربعينيات. أما جهود إعادة إحياء الخلافة الإسلامية فسرعان ما باءت بالفشل. وبدا بعد فترة ليست بالكبيرة أن الانشغال بقضايا الاستقلال والديمقراطية طغى على حماس الكثير من عناصر النخبة المصرية لمناقشة قضية مشروع الخلافة. وليس أدل على ذلك التغير سوى تلك الأزمة التي جرت في عام 1937 خلال الإعداد لتتويج الملك فاروق، نجل الملك فؤاد. فمصطفى النحاس، رئيس الوزراء المنتخب وخليفة سعد زغلول في زعامة حزب الوفد، أجهض خطة طرحها مقربون من الملك لإضفاء صبغة دينية على حفل التتويج. لكن في المقابل، وبعد ثلاث سنوات من صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، يؤسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تدعو إلى مواجهة التغريب والعودة إلى الأصول الدينية للمجتمعات الإسلامية حتى يصير من الممكن "إحياء الخلافة المفقودة". ومع مرور الزمن أمسى الكتاب مثار نقاشات حادة بين أنصار العلمانية والمدافعين عن الحكم ذي الطابع الإسلامي، وأعيد طبعه أكثر من مرة. تجدر الملاحظة أن كلمة "علمانية" لم ترد في الكتاب، فعلي عبد الرازق كان يدافع عن حكم مدني في مقابل المطالبين بعودة نظام الخلافة. وبعد مرور قرن على صدور "الإسلام وأصول الحكم"، لا تزال الأسئلة التي أثارها علي عبد الرازق وأنصاره ومنتقدوه حاضرة بقوة في النقاش العربي المعاصر: هل الدين يحدد شكل الدولة؟ هل يمكن التوفيق بين المرجعية الإسلامية والدولة المدنية؟ وهل الجدل حول "الخلافة" انتهى فعلاً، أم أنه يعاود الظهور بأشكال جديدة؟

قصة الكتاب الذي مهد للجدل حول الإسلام والعلمانية في مصر
قصة الكتاب الذي مهد للجدل حول الإسلام والعلمانية في مصر

الوسط

time٢٥-٠٤-٢٠٢٥

  • سياسة
  • الوسط

قصة الكتاب الذي مهد للجدل حول الإسلام والعلمانية في مصر

هل ينبغي أن تكون الدولة مدنية علمانية أم دينية؟ سؤال يثير منذ عقود جدلا واسعا بين المثقفين والمهتمين بالسياسة في العالم العربي، حيث يطرح كل فريق حججه التي غالبا ما لا تُقنع الطرف الآخر، في مشهد تكرر كثيرا في سياقات متباينة، وإن كان يمكن تتبع تاريخه إلى مئة عام. ففي أبريل/ نيسان عام 1925 صدر في مصر كتاب يحمل عنوان "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ الأزهري علي عبد الرازق، الذي سعى للترويج لفكرة الدولة المدنية قائلا إن الإسلام كرسالة دينية لم يحدد شكل الحكم السياسي الأمثل، ومشددا على أن مؤسسة الخلافة التي هيمنت على مصير المسلمين لمئات السنين ليست من أصول العقيدة الإسلامية. الكتاب أثار معركة فكرية كبيرة في مصر وخارجها، وتسبب في فصل صاحبه من الأزهر وتعرضه للكثير من الاتهامات وصلَت إلى درجة أن البعض ادعى أن علي عبد الرازق ليس هو المؤلف الحقيقي للكتاب. فمن هو علي عبد الرازق؟ وما الأفكار التي طرحها؟ وما الظروف التي نُشر فيها الكتاب؟ إلغاء الخلافة جاء توقيت صدور الكتاب في عام 1925 ليزيد من حدة النقاشات حوله. إذ صدر بعد عام واحد فقط من إلغاء البرلمان التركي مؤسسة الخلافة، وهي التي كانت مجرد منصب شرفي منذ عام 1909. وخلال تلك الفترة، كان العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، خاضعا خلال تلك الفترة بشكل أو آخر لقوى استعمارية غربية بعد أن ظل لمدة قرون تابعا للعثمانيين. وكانت نخب تلك البلدان المثقفة تتطلع إلى تأسيس دول حديثة قائمة على أفكار الديمقراطية والفصل بين السلطات وإجراء الانتخابات، فيما بدا تأثرا بالأنظمة السياسية الغربية. كانت مصر في قلب تلك التحولات الكبرى، فثورة عام 1919 التي طالبت بالاستقلال عن الاستعمار البريطاني، أسفرت عن استقلال صوري غير كامل ودستور جديد وانتخابات برلمانية أفضت عام 1924 إلى تولي سعد زغلول، زعيم حزب الوفد، رئاسة أول حكومة منتخبة في تاريخ البلاد. لكن "حكومة الشعب" لم تستمر طويلا إذ استقالت بعد أقل من عام على تشكيلها، لتتشكل حكومة من أحزاب وشخصيات مقربة من الملك من دون أن يكون لها نفس شعبية حزب الوفد، ومن بين تلك الأحزاب، حزب الأحرار الدستوريين، الذي سيكون له فيما بعد له دور مهم في المعركة التي دارت حول الكتاب. وفي نفس الفترة التي تعرضت فيها التجربة الديمقراطية المصرية الوليدة لانتكاسة كبيرة، بدأت تظهر دعوات تطالب باستعادة الخلافة، وطُرح اسم الملك فؤاد من بين المرشحين لكي يكون خليفة محتملا للمسلمين. وفي تلك الأجواء خرج كتاب "الإسلام وأصول الحكم" إلى النور ليتحول صاحبه من مجرد قاض شرعي في مدينة المنصورة إلى محور جدل ونقاشات استمرت لعشرات الأعوام بعد وفاته. Getty Images صدر الكتاب بعد عام من إلغاء الخلافة العثمانية/ صورة أرشيفية للسلطان العثماني محمد السادس حزب الأحرار الدستوريين وُلِدَ علي عبد الرازق لعائلة من كبار ملاك الأراضي الزراعية في محافظة المنيا بصعيد مصر عام 1887 وتلقى تعليما أزهريا ثم سافر إلى إنجلترا للدراسة في جامعة أوكسفورد، قبل أن يعود إلى مصر وينضم إلى سلك القضاء الشرعي. كان عبد الرازق ينتمي فكريًا إلى حزب الأحرار الدستوريين، وهو حزب ضم العديد من الباشوات وأفراد الطبقة الثرية، وكان يميل إلى معسكر الملك في خصومته مع حزب الوفد ذي الشعبية الجارفة. ومن اللافت أن حزب الأحرار الدستوريين كان وقتها يضم ويحظى بدعم أسماء بارزة في عالم الثقافة المصرية بجانب علي عبد الرازق، كطه حسين، الذي كان هو الآخر محور جدل مشابه في عام 1926 بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي"، ومنصور فهمي، ومحمد حسين هيكل، ومصطفى عبد الرازق، شقيق علي عبد الرازق. لكن ما أبرز الأفكار التي جاءت في الكتاب وأثارت ضجة كبيرة؟ الكتاب يستهل عبد الرازق كتاب "الإسلام وأصول الحكم - بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام" بالإشارة إلى أن الأبحاث التي قام بها حول القضاء الشرعي هي التي دفعته إلى تأليف الكتاب. والفكرة الأساسية للكتاب أن النبي محمد "لم يكن إلا رسولا لدعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك أو حكومة". كما يقول عبد الرازق إنه لا توجد نصوص دينية إسلامية تؤيد الحديث عن وجوب الخلافة. ويستشهد عبد الرازق بنصوص تاريخية لتأكيد حديثه عن أن الخلافة "لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وإن تلك القوة كانت – إلا في النادر – قوة مادية مسلحة". كما يشير إلى أن تفرق المسلمين إلى ممالك ودويلات في زمن ضعف الخلافة لم يسفر عن ضياع الدين أو توقف المؤمنين عن ممارسة شعائر عقيدتهم. ويدعو عبد الرازق المسلمين في الكتاب إلى بناء قواعد ملكهم ونظام حكومتهم "على أحدث ما أنتجت العقول البشرية". المعركة كانت الأفكار التي حملها الكتاب غير تقليدية بشكل أثار عاصفة من الجدل والانتقادات خاصة في ظل إلغاء مؤسسة الخلافة. فالكاتب الإسلامي البارز محمد رشيد رضا شن هجوماً عنيفاً على الكتاب ومؤلفه في مجلة المنار، واصفاً الأفكار التي جاءت فيه بـ"البدعة" التي ظهرت في وقت تتضافر فيه الجهود إلى عقد مؤتمر إسلامي عام لإحياء منصب الخلافة. كذلك صدرت كتب عدة تتعرض لـ"الإسلام وأصول الحكم" وتنتقد ما جاء فيه، لعل من أبرزها كتاب الشيخ محمد الخضر حسين- الذي تولى منصب شيخ الأزهر بعد ذلك بأكثر من 25 عاماً - "نقد الإسلام وأصول الحكم". Getty Images صدر الكتاب في وقت كانت مصر يحكمه الملك فؤاد (في مركز الصورة) وسعى الرافضون لأفكار علي عبد الرازق إلى طرح حجج مضادة لما جاء في "الإسلام وأصول الحكم" مستلهمين هم أيضاً نصوصاً دينية وتاريخية. تتسم العديد من الكتابات المعارضة لعلي عبد الرازق باتهامه إما بـ "الجهل بحقيقة الإسلام" أو "التضليل المتعمد" أو "تقليد الغرب بشكل كامل". لم تقتصر قائمة منتقدي عبد الرازق على الشيوخ وأصحاب التوجهات الإسلامية المطالبة بعودة الخلافة، فقد كان لافتاً أن الزعيم الوفدي سعد زغلول استنكر بشدة ما جاء في الكتاب ووجه نقداً لاذعاً لصاحبه، بحسب ما جاء في دراسة الكاتب محمد عمارة "الإسلام وأصول الحكم: دراسة ووثائق". في المقابل، نشرت صحف مصرية العديد من المقالات التي يدافع أصحابها عن علي عبد الرازق وآرائه، كمحمد حسين هيكل، وسلامة موسى. كذلك دافع عباس العقاد - وهو الذي كان وقتها مؤيداً لحزب الوفد - عن حق الكاتب في التعبير عن رأيه سواء كان مصيباً أو مخطئاً. المحاكمة المعركة حول الكتاب لم تكن قاصرة على الصحف والمجلات بل وصلت إلى أروقة الأزهر. إذ انعقدت هيئة كبار علماء الأزهر في شهر يوليو/تموز عام 1925 ووجهت إلى علي عبد الرازق سبع "تهم" من بينها حديثه عن كون الإسلام شريعة روحية محضة وقوله إن حكومة أبي بكر ومن خلفه كانت حكومة لادينية. وفي أغسطس/ آب مثل علي عبد الرازق أمام الهيئة التي قررت بالإجماع إخراجه من زمرة العلماء ومحو اسمه من سجلات الأزهر وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية، وهو ما تبعه قرار حكومي بفصله من وظيفته كقاض شرعي. Getty Images قرر علماء الأزهر فصل علي عبد الرازق بعد اشهر من صدور الكتاب السياسة لم يشكل قرار فصل عبد الرازق من الأزهر نهاية المعركة حول الكتاب بل كان أحد تبعاتها. فكثير من الكتابات والدراسات التاريخية التي تناولت القضية لاحقاً، تظهر أن الأزمة كانت مرتبطة أيضاً بالسياسة كما كانت متعلقة بالأفكار التي طرحها، كما جاء في كتاب محمد عمارة "الإسلام وأصول الحكم - دراسة ووثائق"، وكتاب الكاتب الصحفي المصري أحمد بهاء الدين "أيام لها تاريخ". فالكتاب بحسب هذا الفريق كان بمثابة صرخة احتجاج ضد مساعي الملك فؤاد مواصلة الاستبداد بالحكم عبر ادعاء لقب الخليفة بما له من ثقل ديني. وتشير الأكاديمية سعاد علي في كتابها "A Religion, Not a State: Ali 'Abd al-Raziq's Islamic Justification of Political Secularism" إلى أن عبد الرازق استخدم في الكتاب لفظتي ملك وسلطان ومرادفتهما نحو 150 مرة. فالملك فؤاد، عند هذا الفريق من الباحثين، لعب دوراً في التنكيل بصاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، بل أن عدداً ممن هاجموا الكتاب كان من بين دوافعهم إرضاء ملك مصر. فبينما قال عبد الرازق في مقدمة كتابه إنه "لا يخشى سوى الله. له القوة والعزة. وما سواه ضعيف ذليل"، نجد الشيخ محمد الخضر حسين يهدي كتابه إلى "إلى خزانة حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم". أما الحزب الذي ينتمي إليه عبد الرازق فكرياً، حزب الأحرار الدستوريين، فهو لم يكن حزباً جماهيرياً بل وارتضى المشاركة في حكومات غير ديمقراطية موالية للملك وصلت إلى الحكم من دون أن يكون لها ظهير شعبي كبير. لكن المفارقة أن الحزب نفسه وقف إلى جانب علي عبد الرازق لينتهي الأمر بأزمة سياسية أسفرت في النهاية عن خروج وزراء الحزب من الحكومة. أسئلة مشابهة ومع مرور السنوات توارى علي عبد الرازق عن الأنظار لفترة طويلة قبل أن يقرر الأزهر إعادته إلى زمرة علمائه في الأربعينات خلال تولي شقيقه مصطفى عبد الرازق منصب شيخ الأزهر. ثم أسند إليه منصب وزير الأوقاف في إحدى حكومات الأقليات في نهاية الأربعينيات. أما جهود إعادة إحياء الخلافة الإسلامية فسرعان ما باءت بالفشل. وبدا بعد فترة ليست بالكبيرة أن الانشغال بقضايا الاستقلال والديمقراطية طغى على حماس الكثير من عناصر النخبة المصرية لمناقشة قضية مشروع الخلافة. وليس أدل من ذلك التغير تلك الأزمة التي جرت في عام 1937 خلال الإعداد لتتويج الملك فاروق، نجل الملك فؤاد. فمصطفى النحاس، رئيس الوزراء المنتخب وخليفة سعد زغلول في زعامة حزب الوفد، أجهض خطة طرحها مقربون من الملك لإضفاء صبغة دينية على حفل التتويج. لكن في المقابل، فإنه وبعد ثلاث سنوات من صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" سيؤسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تدعو إلى مواجهة التغريب والعودة إلى الأصول الدينية للمجتمعات الإسلامية حتى يصير من الممكن "إحياء الخلافة المفقودة". ومع مرور الزمن أمسى الكتاب مثار نقاشات حادة بين أنصار العلمانية والمدافعين عن الحكم ذي الطابع الإسلامي، وأعيد طبعه أكثر من مرة. تجدر الملاحظة أن كلمة "علمانية" لم ترد في الكتاب، فعلي عبد الرازق كان يدافع عن حكم مدني في مقابل المطالبين بعودة نظام الخلافة. وبعد مرور قرن على صدور "الإسلام وأصول الحكم"، لا تزال الأسئلة التي أثارها علي عبد الرازق وأنصاره ومنتقديه حاضرة بقوة في النقاش العربي المعاصر: هل الدين يحدد شكل الدولة؟ هل يمكن التوفيق بين المرجعية الإسلامية والدولة المدنية؟ وهل الجدل حول "الخلافة" انتهى فعلًا، أم أنه يعاود الظهور بأشكال جديدة؟

قصة الكتاب الذي مهد للجدل حول الإسلام والعلمانية في مصر
قصة الكتاب الذي مهد للجدل حول الإسلام والعلمانية في مصر

سيدر نيوز

time٢٥-٠٤-٢٠٢٥

  • سياسة
  • سيدر نيوز

قصة الكتاب الذي مهد للجدل حول الإسلام والعلمانية في مصر

هل ينبغي أن تكون الدولة مدنية علمانية أم دينية؟ سؤال يثير منذ عقود جدلا واسعا بين المثقفين والمهتمين بالسياسة في العالم العربي، حيث يطرح كل فريق حججه التي غالبا ما لا تُقنع الطرف الآخر، في مشهد تكرر كثيرا في سياقات متباينة، وإن كان يمكن تتبع تاريخه إلى مئة عام. ففي أبريل/ نيسان عام 1925 صدر في مصر كتاب يحمل عنوان 'الإسلام وأصول الحكم' للشيخ الأزهري علي عبد الرازق، الذي سعى للترويج لفكرة الدولة المدنية قائلا إن الإسلام كرسالة دينية لم يحدد شكل الحكم السياسي الأمثل، ومشددا على أن مؤسسة الخلافة التي هيمنت على مصير المسلمين لمئات السنين ليست من أصول العقيدة الإسلامية. الكتاب أثار معركة فكرية كبيرة في مصر وخارجها، وتسبب في فصل صاحبه من الأزهر وتعرضه للكثير من الاتهامات وصلَت إلى درجة أن البعض ادعى أن علي عبد الرازق ليس هو المؤلف الحقيقي للكتاب. فمن هو علي عبد الرازق؟ وما الأفكار التي طرحها؟ وما الظروف التي نُشر فيها الكتاب؟ إلغاء الخلافة جاء توقيت صدور الكتاب في عام 1925 ليزيد من حدة النقاشات حوله. إذ صدر بعد عام واحد فقط من إلغاء البرلمان التركي مؤسسة الخلافة، وهي التي كانت مجرد منصب شرفي منذ عام 1909. وخلال تلك الفترة، كان العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، خاضعا خلال تلك الفترة بشكل أو آخر لقوى استعمارية غربية بعد أن ظل لمدة قرون تابعا للعثمانيين. وكانت نخب تلك البلدان المثقفة تتطلع إلى تأسيس دول حديثة قائمة على أفكار الديمقراطية والفصل بين السلطات وإجراء الانتخابات، فيما بدا تأثرا بالأنظمة السياسية الغربية. كانت مصر في قلب تلك التحولات الكبرى، فثورة عام 1919 التي طالبت بالاستقلال عن الاستعمار البريطاني، أسفرت عن استقلال صوري غير كامل ودستور جديد وانتخابات برلمانية أفضت عام 1924 إلى تولي سعد زغلول، زعيم حزب الوفد، رئاسة أول حكومة منتخبة في تاريخ البلاد. لكن 'حكومة الشعب' لم تستمر طويلا إذ استقالت بعد أقل من عام على تشكيلها، لتتشكل حكومة من أحزاب وشخصيات مقربة من الملك من دون أن يكون لها نفس شعبية حزب الوفد، ومن بين تلك الأحزاب، حزب الأحرار الدستوريين، الذي سيكون له فيما بعد له دور مهم في المعركة التي دارت حول الكتاب. وفي نفس الفترة التي تعرضت فيها التجربة الديمقراطية المصرية الوليدة لانتكاسة كبيرة، بدأت تظهر دعوات تطالب باستعادة الخلافة، وطُرح اسم الملك فؤاد من بين المرشحين لكي يكون خليفة محتملا للمسلمين. وفي تلك الأجواء خرج كتاب 'الإسلام وأصول الحكم' إلى النور ليتحول صاحبه من مجرد قاض شرعي في مدينة المنصورة إلى محور جدل ونقاشات استمرت لعشرات الأعوام بعد وفاته. حزب الأحرار الدستوريين وُلِدَ علي عبد الرازق لعائلة من كبار ملاك الأراضي الزراعية في محافظة المنيا بصعيد مصر عام 1887 وتلقى تعليما أزهريا ثم سافر إلى إنجلترا للدراسة في جامعة أوكسفورد، قبل أن يعود إلى مصر وينضم إلى سلك القضاء الشرعي. كان عبد الرازق ينتمي فكريًا إلى حزب الأحرار الدستوريين، وهو حزب ضم العديد من الباشوات وأفراد الطبقة الثرية، وكان يميل إلى معسكر الملك في خصومته مع حزب الوفد ذي الشعبية الجارفة. ومن اللافت أن حزب الأحرار الدستوريين كان وقتها يضم ويحظى بدعم أسماء بارزة في عالم الثقافة المصرية بجانب علي عبد الرازق، كطه حسين، الذي كان هو الآخر محور جدل مشابه في عام 1926 بسبب كتابه 'في الشعر الجاهلي'، ومنصور فهمي، ومحمد حسين هيكل، ومصطفى عبد الرازق، شقيق علي عبد الرازق. لكن ما أبرز الأفكار التي جاءت في الكتاب وأثارت ضجة كبيرة؟ الكتاب يستهل عبد الرازق كتاب 'الإسلام وأصول الحكم – بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام' بالإشارة إلى أن الأبحاث التي قام بها حول القضاء الشرعي هي التي دفعته إلى تأليف الكتاب. والفكرة الأساسية للكتاب أن النبي محمد 'لم يكن إلا رسولا لدعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك أو حكومة'. كما يقول عبد الرازق إنه لا توجد نصوص دينية إسلامية تؤيد الحديث عن وجوب الخلافة. ويستشهد عبد الرازق بنصوص تاريخية لتأكيد حديثه عن أن الخلافة 'لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وإن تلك القوة كانت – إلا في النادر – قوة مادية مسلحة'. كما يشير إلى أن تفرق المسلمين إلى ممالك ودويلات في زمن ضعف الخلافة لم يسفر عن ضياع الدين أو توقف المؤمنين عن ممارسة شعائر عقيدتهم. ويدعو عبد الرازق المسلمين في الكتاب إلى بناء قواعد ملكهم ونظام حكومتهم 'على أحدث ما أنتجت العقول البشرية'. المعركة كانت الأفكار التي حملها الكتاب غير تقليدية بشكل أثار عاصفة من الجدل والانتقادات خاصة في ظل إلغاء مؤسسة الخلافة. فالكاتب الإسلامي البارز محمد رشيد رضا شن هجوماً عنيفاً على الكتاب ومؤلفه في مجلة المنار، واصفاً الأفكار التي جاءت فيه بـ'البدعة' التي ظهرت في وقت تتضافر فيه الجهود إلى عقد مؤتمر إسلامي عام لإحياء منصب الخلافة. كذلك صدرت كتب عدة تتعرض لـ'الإسلام وأصول الحكم' وتنتقد ما جاء فيه، لعل من أبرزها كتاب الشيخ محمد الخضر حسين- الذي تولى منصب شيخ الأزهر بعد ذلك بأكثر من 25 عاماً – 'نقد الإسلام وأصول الحكم'. وسعى الرافضون لأفكار علي عبد الرازق إلى طرح حجج مضادة لما جاء في 'الإسلام وأصول الحكم' مستلهمين هم أيضاً نصوصاً دينية وتاريخية. تتسم العديد من الكتابات المعارضة لعلي عبد الرازق باتهامه إما بـ 'الجهل بحقيقة الإسلام' أو 'التضليل المتعمد' أو 'تقليد الغرب بشكل كامل'. لم تقتصر قائمة منتقدي عبد الرازق على الشيوخ وأصحاب التوجهات الإسلامية المطالبة بعودة الخلافة، فقد كان لافتاً أن الزعيم الوفدي سعد زغلول استنكر بشدة ما جاء في الكتاب ووجه نقداً لاذعاً لصاحبه، بحسب ما جاء في دراسة الكاتب محمد عمارة 'الإسلام وأصول الحكم: دراسة ووثائق'. في المقابل، نشرت صحف مصرية العديد من المقالات التي يدافع أصحابها عن علي عبد الرازق وآرائه، كمحمد حسين هيكل، وسلامة موسى. كذلك دافع عباس العقاد – وهو الذي كان وقتها مؤيداً لحزب الوفد – عن حق الكاتب في التعبير عن رأيه سواء كان مصيباً أو مخطئاً. المحاكمة المعركة حول الكتاب لم تكن قاصرة على الصحف والمجلات بل وصلت إلى أروقة الأزهر. إذ انعقدت هيئة كبار علماء الأزهر في شهر يوليو/تموز عام 1925 ووجهت إلى علي عبد الرازق سبع 'تهم' من بينها حديثه عن كون الإسلام شريعة روحية محضة وقوله إن حكومة أبي بكر ومن خلفه كانت حكومة لادينية. وفي أغسطس/ آب مثل علي عبد الرازق أمام الهيئة التي قررت بالإجماع إخراجه من زمرة العلماء ومحو اسمه من سجلات الأزهر وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية، وهو ما تبعه قرار حكومي بفصله من وظيفته كقاض شرعي. السياسة لم يشكل قرار فصل عبد الرازق من الأزهر نهاية المعركة حول الكتاب بل كان أحد تبعاتها. فكثير من الكتابات والدراسات التاريخية التي تناولت القضية لاحقاً، تظهر أن الأزمة كانت مرتبطة أيضاً بالسياسة كما كانت متعلقة بالأفكار التي طرحها، كما جاء في كتاب محمد عمارة 'الإسلام وأصول الحكم – دراسة ووثائق'، وكتاب الكاتب الصحفي المصري أحمد بهاء الدين 'أيام لها تاريخ'. فالكتاب بحسب هذا الفريق كان بمثابة صرخة احتجاج ضد مساعي الملك فؤاد مواصلة الاستبداد بالحكم عبر ادعاء لقب الخليفة بما له من ثقل ديني. وتشير الأكاديمية سعاد علي في كتابها 'A Religion, Not a State: Ali 'Abd al-Raziq's Islamic Justification of Political Secularism' إلى أن عبد الرازق استخدم في الكتاب لفظتي ملك وسلطان ومرادفتهما نحو 150 مرة. فالملك فؤاد، عند هذا الفريق من الباحثين، لعب دوراً في التنكيل بصاحب كتاب 'الإسلام وأصول الحكم'، بل أن عدداً ممن هاجموا الكتاب كان من بين دوافعهم إرضاء ملك مصر. فبينما قال عبد الرازق في مقدمة كتابه إنه 'لا يخشى سوى الله. له القوة والعزة. وما سواه ضعيف ذليل'، نجد الشيخ محمد الخضر حسين يهدي كتابه إلى 'إلى خزانة حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم'. أما الحزب الذي ينتمي إليه عبد الرازق فكرياً، حزب الأحرار الدستوريين، فهو لم يكن حزباً جماهيرياً بل وارتضى المشاركة في حكومات غير ديمقراطية موالية للملك وصلت إلى الحكم من دون أن يكون لها ظهير شعبي كبير. لكن المفارقة أن الحزب نفسه وقف إلى جانب علي عبد الرازق لينتهي الأمر بأزمة سياسية أسفرت في النهاية عن خروج وزراء الحزب من الحكومة. أسئلة مشابهة ومع مرور السنوات توارى علي عبد الرازق عن الأنظار لفترة طويلة قبل أن يقرر الأزهر إعادته إلى زمرة علمائه في الأربعينات خلال تولي شقيقه مصطفى عبد الرازق منصب شيخ الأزهر. ثم أسند إليه منصب وزير الأوقاف في إحدى حكومات الأقليات في نهاية الأربعينيات. أما جهود إعادة إحياء الخلافة الإسلامية فسرعان ما باءت بالفشل. وبدا بعد فترة ليست بالكبيرة أن الانشغال بقضايا الاستقلال والديمقراطية طغى على حماس الكثير من عناصر النخبة المصرية لمناقشة قضية مشروع الخلافة. وليس أدل من ذلك التغير تلك الأزمة التي جرت في عام 1937 خلال الإعداد لتتويج الملك فاروق، نجل الملك فؤاد. فمصطفى النحاس، رئيس الوزراء المنتخب وخليفة سعد زغلول في زعامة حزب الوفد، أجهض خطة طرحها مقربون من الملك لإضفاء صبغة دينية على حفل التتويج. لكن في المقابل، فإنه وبعد ثلاث سنوات من صدور كتاب 'الإسلام وأصول الحكم' سيؤسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تدعو إلى مواجهة التغريب والعودة إلى الأصول الدينية للمجتمعات الإسلامية حتى يصير من الممكن 'إحياء الخلافة المفقودة'. ومع مرور الزمن أمسى الكتاب مثار نقاشات حادة بين أنصار العلمانية والمدافعين عن الحكم ذي الطابع الإسلامي، وأعيد طبعه أكثر من مرة. تجدر الملاحظة أن كلمة 'علمانية' لم ترد في الكتاب، فعلي عبد الرازق كان يدافع عن حكم مدني في مقابل المطالبين بعودة نظام الخلافة. وبعد مرور قرن على صدور 'الإسلام وأصول الحكم'، لا تزال الأسئلة التي أثارها علي عبد الرازق وأنصاره ومنتقديه حاضرة بقوة في النقاش العربي المعاصر: هل الدين يحدد شكل الدولة؟ هل يمكن التوفيق بين المرجعية الإسلامية والدولة المدنية؟ وهل الجدل حول 'الخلافة' انتهى فعلًا، أم أنه يعاود الظهور بأشكال جديدة؟

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store