أحدث الأخبار مع #عليعبدالرازق،


نافذة على العالم
منذ 6 أيام
- سياسة
- نافذة على العالم
أخبار العالم : كيف مهد كتاب لشيخ أزهري للجدل حول الإسلام والعلمانية؟
الخميس 15 مايو 2025 07:00 مساءً نافذة على العالم - صدر الصورة، دار التنوير للنشر التعليق على الصورة، الكتاب الذي صدر عام 1925 أثار نقاشات كبيرة على مر عقود وأعيد طبعه أكثر من مرة Article information هل ينبغي أن تكون الدولة مدنية علمانية أم دينية؟ سؤال يثير منذ عقودٍ جدلاً واسعاً بين المثقفين والمهتمين بالسياسة في العالم العربي، حيث يطرح كل فريق حججه التي غالباً ما لا تُقنع الطرف الآخر، في مشهد تكرر كثيراً في سياقات متباينة، وإن كان يمكن تتبع تاريخه إلى مئة عام خلت. ففي أبريل/نيسان عام 1925 صدر في مصر كتاب يحمل عنوان "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ الأزهري علي عبد الرازق، الذي سعى للترويج لفكرة الدولة المدنية قائلاً إن الإسلام كرسالة دينية لم يحدد شكل الحكم السياسي الأمثل، ومشدداً على أن مؤسسة الخلافة التي هيمنت على مصير المسلمين لمئات السنين ليست من أصول العقيدة الإسلامية. الكتاب أثار معركة فكرية كبيرة في مصر وخارجها، وتسبب في فصل صاحبه من الأزهر وتعرضه للكثير من الاتهامات وصلت إلى درجة أن البعض ادعى أن علي عبد الرازق ليس هو المؤلف الحقيقي للكتاب. فمن هو علي عبد الرازق؟ وما الأفكار التي طرحها؟ وما الظروف التي نُشر فيها الكتاب؟ إلغاء الخلافة جاء توقيت صدور الكتاب في عام 1925 ليزيد من حدة النقاشات حوله. إذ صدر بعد عام واحد فقط من إلغاء البرلمان التركي مؤسسة الخلافة، وهي التي كانت مجرد منصب شرفي منذ عام 1909. وخلال تلك الفترة، كان العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، خاضعاً خلال تلك الفترة بشكل أو آخر لقوى استعمارية غربية بعد أن ظل لمدة قرون تابعاً للعثمانيين. وكانت نخب تلك البلدان المثقفة تتطلع إلى تأسيس دول حديثة قائمة على أفكار الديمقراطية والفصل بين السلطات وإجراء الانتخابات، فيما بدا تأثراً بالأنظمة السياسية الغربية. كانت مصر في قلب تلك التحولات الكبرى، فثورة عام 1919 التي طالبت بالاستقلال عن الاستعمار البريطاني، أسفرت عن استقلال صوري غير كامل ودستور جديد وانتخابات برلمانية أفضت عام 1924 إلى تولي سعد زغلول، زعيم حزب الوفد، رئاسة أول حكومة منتخبة في تاريخ البلاد. لكن "حكومة الشعب" لم تستمر طويلاً إذ استقالت بعد أقل من عام على تشكيلها، لتتشكل حكومة من أحزاب وشخصيات مقربة من الملك من دون أن يكون لها نفس شعبية حزب الوفد، ومن بين تلك الأحزاب، حزب الأحرار الدستوريين، الذي سيكون له فيما بعد دور مهم في المعركة التي دارت حول الكتاب. وفي نفس الفترة التي تعرضت خلالها التجربة الديمقراطية المصرية الوليدة لانتكاسة كبيرة، بدأت تظهر دعوات تطالب باستعادة الخلافة، وطُرح اسم الملك فؤاد من بين المرشحين لكي يكون خليفة محتملاً للمسلمين. وفي تلك الأجواء خرج كتاب "الإسلام وأصول الحكم" إلى النور ليتحول صاحبه من مجرد قاضٍ شرعي في مدينة المنصورة إلى محور جدل ونقاشات استمرت لعشرات الأعوام بعد وفاته. صدر الصورة، Getty Images التعليق على الصورة، صدر الكتاب بعد عام من إلغاء الخلافة العثمانية/ صورة أرشيفية للسلطان العثماني محمد السادس حزب الأحرار الدستوريين وُلِدَ علي عبد الرازق لعائلة من كبار مُلّاك الأراضي الزراعية في محافظة المنيا بصعيد مصر عام 1887، وتلقّى تعليماً أزهرياً ثم سافر إلى إنجلترا للدراسة في جامعة أوكسفورد، قبل أن يعود إلى مصر وينضم إلى سلك القضاء الشرعي. كان عبد الرازق ينتمي فكرياً إلى حزب الأحرار الدستوريين، وهو حزب ضم العديد من الباشوات وأفراد الطبقة الثرية، وكان يميل إلى معسكر الملك في خصومته مع حزب الوفد ذي الشعبية الجارفة. ومن اللافت أن حزب الأحرار الدستوريين كان وقتها يضم ويحظى بدعم أسماء بارزة في عالم الثقافة المصرية بجانب علي عبد الرازق، كطه حسين، الذي كان هو الآخر محور جدل مشابه في عام 1926 بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي"، ومنصور فهمي، ومحمد حسين هيكل، ومصطفى عبد الرازق، شقيق علي عبد الرازق. لكن ما أبرز الأفكار التي جاءت في الكتاب وأثارت ضجة كبيرة؟ الكتاب يستهل عبد الرازق كتاب "الإسلام وأصول الحكم - بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام" بالإشارة إلى أن الأبحاث التي قام بها حول القضاء الشرعي هي التي دفعته إلى تأليف الكتاب. والفكرة الأساسية للكتاب أن النبي محمد "لم يكن إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك أو حكومة". كما يقول عبد الرازق إنه لا توجد نصوص دينية إسلامية تؤيد الحديث عن وجوب الخلافة. ويستشهد عبد الرازق بنصوص تاريخية لتأكيد حديثه عن أن الخلافة "لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وإن تلك القوة كانت - إلا في النادر - قوة مادية مسلحة". كما يشير إلى أن تفرّق المسلمين إلى ممالك ودويلات في زمن ضعف الخلافة لم يسفر عن ضياع الدين أو توقف المؤمنين عن ممارسة شعائر عقيدتهم. ويدعو عبد الرازق المسلمين في الكتاب إلى بناء قواعد ملكهم ونظام حكومتهم "على أحدث ما أنتجت العقول البشرية". المعركة كانت الأفكار التي حملها الكتاب غير تقليدية بشكل أثار عاصفة من الجدل والانتقادات خاصة في ظل إلغاء مؤسسة الخلافة. فالكاتب الإسلامي البارز محمد رشيد رضا شن هجوماً عنيفاً على الكتاب ومؤلفه في مجلة المنار، واصفاً الأفكار التي جاءت فيه بـ"البدعة" التي ظهرت في وقتٍ تتضافر الجهود لعقد مؤتمر إسلامي عامّ لإحياء منصب الخلافة. كذلك صدرت كتب عدة تتعرض لـ"الإسلام وأصول الحكم" وتنتقد ما جاء فيه، لعل من أبرزها كتاب الشيخ محمد الخضر حسين- الذي تولى منصب شيخ الأزهر بعد ذلك بأكثر من 25 عاماً - "نقد الإسلام وأصول الحكم". صدر الصورة، Getty Images التعليق على الصورة، صدر الكتاب في وقت كان يحكم مصر الملك فؤاد (في مركز الصورة) وسعى الرافضون لأفكار علي عبد الرازق إلى طرح حجج مضادة لما جاء في "الإسلام وأصول الحكم" مستلهمين هم أيضاً نصوصاً دينية وتاريخية. تتسم العديد من الكتابات المعارضة لعلي عبد الرازق باتهامه إما بـ "الجهل بحقيقة الإسلام" أو "التضليل المتعمد" أو "تقليد الغرب بشكل كامل". لم تقتصر قائمة منتقدي عبد الرازق على الشيوخ وأصحاب التوجهات الإسلامية المطالبة بعودة الخلافة، فقد كان لافتاً أن الزعيم الوفدي سعد زغلول استنكر بشدة ما جاء في الكتاب ووجه نقداً لاذعاً لصاحبه، بحسب ما جاء في دراسة الكاتب محمد عمارة "الإسلام وأصول الحكم: دراسة ووثائق". في المقابل، نشرت صحف مصرية العديد من المقالات التي يدافع أصحابها عن علي عبد الرازق وآرائه، كمحمد حسين هيكل، وسلامة موسى. كذلك دافع عباس العقاد - وهو الذي كان وقتها مؤيداً لحزب الوفد - عن حق الكاتب في التعبير عن رأيه سواء كان مصيباً أو مخطئاً. المحاكمة المعركة حول الكتاب لم تقتصر على الصحف والمجلات بل وصلت إلى أروقة الأزهر. إذ انعقدت هيئة كبار علماء الأزهر في شهر يوليو/تموز عام 1925 ووجهت إلى علي عبد الرازق سبع "تهم" من بينها حديثه عن كون الإسلام شريعة روحية محضة وقوله إن حكومة أبي بكر ومن خلفه كانت حكومة لا دينية. وفي أغسطس/آب مثُل علي عبد الرازق أمام الهيئة التي قررت بالإجماع إخراجه من زمرة العلماء ومحو اسمه من سجلات الأزهر وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية، وهو ما تبعه قرار حكومي بفصله من وظيفته كقاضٍ شرعي. صدر الصورة، Getty Images التعليق على الصورة، قرر علماء الأزهر فصل علي عبد الرازق بعد أشهر من صدور الكتاب السياسة لم يشكّل قرار فصل عبد الرازق من الأزهر نهاية المعركة حول الكتاب بل كان أحد تبعاتها. فكثير من الكتابات والدراسات التاريخية التي تناولت القضية لاحقاً، تظهر أن الأزمة كانت مرتبطة أيضاً بالسياسة كما كانت متعلقة بالأفكار التي طرحها، مثلما جاء في كتاب محمد عمارة "الإسلام وأصول الحكم - دراسة ووثائق"، وكتاب الكاتب الصحفي المصري أحمد بهاء الدين "أيام لها تاريخ". فالكتاب، بحسب هذا الفريق، كان بمثابة صرخة احتجاج ضد مساعي الملك فؤاد لمواصلة الاستبداد بالحكم عبر ادعاء لقب الخليفة بما له من ثقل ديني. وتشير الأكاديمية سعاد علي في كتابها "A Religion, Not a State: Ali 'Abd al-Raziq's Islamic Justification of Political Secularism" إلى أن عبد الرازق استخدم في الكتاب لفظتي ملك وسلطان ومرادفاتهما نحو 150 مرة. فالملك فؤاد، عند هذا الفريق من الباحثين، لعب دوراً في التنكيل بصاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، بل إن عدداً ممن هاجموا الكتاب كان من بين دوافعهم إرضاء ملك مصر. فبينما قال عبد الرازق في مقدمة كتابه إنه "لا يخشى سوى الله. له القوة والعزة. وما سواه ضعيف ذليل"، نجد الشيخ محمد الخضر حسين يهدي كتابه إلى "إلى خزانة حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم". أما الحزب الذي ينتمي إليه عبد الرازق فكرياً، حزب الأحرار الدستوريين، فهو لم يكن حزباً جماهيرياً بل وارتضى المشاركة في حكومات غير ديمقراطية موالية للملك وصلت إلى الحكم من دون أن يكون لها ظهير شعبي كبير. لكن المفارقة أن الحزب نفسه وقف إلى جانب علي عبد الرازق لينتهي الأمر بأزمة سياسية أسفرت في النهاية عن خروج وزراء الحزب من الحكومة. أسئلة مشابهة ومع مرور السنوات توارى علي عبد الرازق عن الأنظار لفترة طويلة قبل أن يقرر الأزهر إعادته إلى زمرة علمائه في الأربعينيات خلال تولي شقيقه مصطفى عبد الرازق منصب شيخ الأزهر. ثم أسند إليه منصب وزير الأوقاف في إحدى حكومات الأقليات في نهاية الأربعينيات. أما جهود إعادة إحياء الخلافة الإسلامية فسرعان ما باءت بالفشل. وبدا بعد فترة ليست بالكبيرة أن الانشغال بقضايا الاستقلال والديمقراطية طغى على حماس الكثير من عناصر النخبة المصرية لمناقشة قضية مشروع الخلافة. وليس أدل على ذلك التغير سوى تلك الأزمة التي جرت في عام 1937 خلال الإعداد لتتويج الملك فاروق، نجل الملك فؤاد. فمصطفى النحاس، رئيس الوزراء المنتخب وخليفة سعد زغلول في زعامة حزب الوفد، أجهض خطة طرحها مقربون من الملك لإضفاء صبغة دينية على حفل التتويج. لكن في المقابل، وبعد ثلاث سنوات من صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، يؤسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تدعو إلى مواجهة التغريب والعودة إلى الأصول الدينية للمجتمعات الإسلامية حتى يصير من الممكن "إحياء الخلافة المفقودة". ومع مرور الزمن أمسى الكتاب مثار نقاشات حادة بين أنصار العلمانية والمدافعين عن الحكم ذي الطابع الإسلامي، وأعيد طبعه أكثر من مرة. تجدر الملاحظة أن كلمة "علمانية" لم ترد في الكتاب، فعلي عبد الرازق كان يدافع عن حكم مدني في مقابل المطالبين بعودة نظام الخلافة.


الحركات الإسلامية
١٣-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الحركات الإسلامية
بين علي عبد الرازق وسيد قطب: كيف تشكّلت رؤيتان متناقضتان للإسلام والدولة؟
تمرّ هذه الأيام مئة عام على صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، وهو كتاب لم يكن مجرد نص فكري أو اجتهادي عابر، بل صدمة فكرية بكل المقاييس. فقد جاء في لحظة بالغة الحساسية، عقب سقوط الخلافة العثمانية، ليُفجّر جدلًا غير مسبوق داخل الأزهر وخارجه حول طبيعة السلطة في الإسلام، وحول ما إذا كان الإسلام يتضمن نظامًا سياسيًا محددًا أم لا. وفي قلب هذا الجدل، وقف عبد الرازق موقفًا غير مسبوق: الإسلام ليس دولة، ولا خلافة، ولا إمامة، بل رسالة دينية روحية، والخلافة ليست من أصوله، بل من مُخرجات التاريخ البشري. كانت هذه الرؤية صادمة لمؤسسة دينية كانت، حتى ذلك الحين، تعتبر الخلافة واجبًا شرعيًا وركنًا من أركان وحدة الأمة الإسلامية. عبد الرازق، بكلمات قليلة ومباشرة، نسف هذا التصور من جذوره، واعتبر أن النبي محمد لم يكن حاكمًا سياسيًا، بل رسولًا يُبلّغ رسالة روحية وأخلاقية، وأن ما تبعه من نُظم حكم كان اجتهادًا تاريخيًا بشريًا لا علاقة له بجوهر الدين. هذه الأفكار، رغم بساطتها، أحدثت زلزالًا فكريًا استوجب محاكمته، وسحب شهادة العالمية الأزهرية منه، لكنه نجح في فتح الباب واسعًا أمام التفكير النقدي في علاقة الإسلام بالسلطة. لكن، بعد أقل من نصف قرن، ستظهر رؤية نقيضة تمامًا، أكثر جذرية وأشد تطرفًا، تمثلت في فكر سيد قطب، الذي خرج من عباءة الأدب إلى فضاء الجهاد العقائدي المسلح. ففي كتابه الشهير "معالم في الطريق"، أعاد قطب تعريف الإسلام ليس كدين تعبدي، بل كنظام شامل للحياة، لا يتحقق إلا بإقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة ومحاربة ما سمّاه "الجاهلية الحديثة". لم يكن قطب يطمح إلى مجرد إصلاح سياسي أو ديني، بل إلى انقلاب شامل على الواقع القائم، وتحقيق "حاكمية الله" بالقوة إن لزم الأمر. من هنا، تتقاطع فكرتان متضادتان بشكل جذري: الأولى، يمثلها عبد الرازق، تدعو لفصل الإسلام عن السلطة الزمنية وتحصره في المجال الأخلاقي والروحي؛ والثانية، يمثلها قطب، ترى أن الإسلام لا يكتمل إلا بالسلطة والدولة والسيف. وبين هاتين الرؤيتين المتصارعتين، لا يزال الفكر الإسلامي المعاصر يتأرجح حتى اليوم، غير قادر على الحسم في سؤال قديم متجدد: هل الإسلام دين أم دولة؟ رسالة أم نظام حكم؟ علي عبد الرازق: الدولة ليست من الإسلام في عام 1925، نشر الشيخ علي عبد الرازق، القاضي الشرعي الأزهري الشاب آنذاك، كتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم"، الذي أحدث زلزالًا فكريًا في الأوساط الدينية والسياسية العربية. جاء هذا الكتاب في لحظة دقيقة وحرجة؛ إذ كانت الخلافة العثمانية قد أُلغيت رسميًا على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924، بعد أن ظلت قائمة لقرون، وإن بشكل رمزي في السنوات الأخيرة من عمرها. وقد أعقب هذا السقوط صدمة لدى قطاعات واسعة من المسلمين الذين رأوا في الخلافة رمزًا لوحدة الأمة الإسلامية، وارتفعت أصوات كثيرة – خاصة في الأزهر ومجالس العلماء – تطالب بإعادة إحيائها بأي شكل، ولو رمزيًا. في هذا المناخ المتوتر، خرج عبد الرازق برأي صادم ومخالف للسائد: أن الخلافة ليست أصلًا من أصول الإسلام، بل ليست من الدين في شيء. بل ذهب أبعد من ذلك، مؤكدًا أن النبي محمد نفسه لم يُقم دولة بالمعنى السياسي، ولم يطلب من المسلمين من بعده إقامة نظام حكم ديني، وإنما كانت مهمته محصورة في الدعوة والتبليغ والتوجيه الروحي. واعتبر أن كل ما نشأ بعد وفاة النبي من نظم حكم – سواء الخلافة الراشدة أو ما تلاها من ملك عضوض – لا يمتّ إلى الوحي بصلة، بل هو محض اجتهاد سياسي خاضع لظروفه التاريخية. كان هذا الطرح بمثابة تفكيك للمسلمات التقليدية حول "الدولة الإسلامية"، وسحب للبساط من تحت محاولات تأسيس شرعية دينية لأي نظام حكم. فعبد الرازق لم يكتفِ بنقد الخلافة كنموذج تاريخي، بل جرّد الإسلام من أي بعد سلطوي، رافضًا فكرة أن يكون للدين سلطة تُفرض على الناس باسم الحاكمية أو الشريعة. دعا – ولو بصيغة غير مباشرة – إلى فصل واضح بين الدين والدولة، حيث تكون السياسة شأنًا دنيويًا يُدار وفق مصالح البشر، والدين مجالًا أخلاقيًا فرديًا يترك أثره في ضمير الإنسان لا في أجهزة الدولة. كما ميّز عبد الرازق بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، معتبرًا أن الربط بينهما قد أضرّ بالدين أكثر مما خدمه. وأوضح أن الخلط بين وظيفة النبي كرسول ووظيفة الحاكم كسياسي هو ما أنتج تاريخًا طويلًا من الاستبداد باسم الدين. وبذلك، فتح عبد الرازق أفقًا جديدًا للفكر الإسلامي، قائمًا على تحييد الإسلام عن الصراع على السلطة، ورفض استخدامه كأداة لتبرير الحكم أو تمرير السياسات. لكن هذا الموقف لم يمرّ دون تبعات. فقد تعرّض عبد الرازق لهجوم عنيف من الأزهر وهيئة كبار العلماء، وسُحب منه لقب "عالم" وتم فصله من منصبه. ومع ذلك، فإن ما طرحه ظلّ حجر زاوية في كل نقاش لاحق حول علاقة الإسلام بالسلطة، وساهم في بلورة خطاب إسلامي حديث يفصل بين العقيدة والمجتمع المدني، ويؤمن بأن الإسلام لا يحتاج إلى دولة كي يُمارس، بل إلى ضمير حيّ وعقل نقدي حرّ. سيد قطب: الإسلام عقيدة ومنهج حياة ظهر سيد قطب في المشهد الفكري الإسلامي في خمسينيات القرن العشرين، قادمًا من خلفية أدبية وثقافية غنية. فقد بدأ حياته كأديب وشاعر وناقد أدبي، وكان من أبرز الأصوات في المشهد الثقافي المصري، بل نُظر إليه كأحد ورثة طه حسين في نقده ونزعته التنويرية. لكن بعد رحلته إلى الولايات المتحدة، ثم انخراطه في جماعة الإخوان المسلمين، دخل قطب في تحول فكري حادّ من الفكر الليبرالي إلى الراديكالية الإسلامية. لم يكن هذا التحول مجرد تغيير في القناعات، بل انقلاب شامل في الرؤية إلى العالم والمجتمع والدولة. في كتابه الأشهر "معالم في الطريق"، الذي كتبه أثناء وجوده في السجن، يضع قطب نظريته الكاملة حول الإسلام كمنهج حياة شامل. يطرح فيه تصورًا للصراع بين "الإسلام الحقيقي" و"الجاهلية المعاصرة"، ويعتبر أن العالم المعاصر – شرقًا وغربًا، مسلمًا وغير مسلم – يعيش في جاهلية، لأنها تقوم على سلطة البشر، لا على حاكمية الله. وبالنسبة له، الإسلام ليس مجرد دين أو شعائر، بل نظام شامل للحياة يجب أن يحكم كل صغيرة وكبيرة في المجتمع، من التشريع والقضاء إلى الاقتصاد والتعليم، ولا يتحقق إلا بإقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة بحذافيرها. يؤسس قطب في هذا الكتاب لما يُعرف لاحقًا بـ"فقه الحاكمية"، حيث يُصنّف أي نظام لا يستمد شرعيته من "شريعة الله" بأنه نظام كافر. ويذهب أبعد من ذلك في تقسيم العالم إلى "معسكرين متصارعين": دار إسلام ودار كفر، لا توسط بينهما. هذا التصور يغلق باب التعددية، ويرفض فكرة الدولة الوطنية الحديثة التي تقوم على العقد الاجتماعي أو الإرادة الشعبية. فالديمقراطية عند قطب مرفوضة، لأنها تعني – في رأيه – أن البشر يشرّعون لأنفسهم، في حين أن الحاكمية لله وحده. من هنا جاءت شرعنة العنف الثوري في فكر قطب. فبما أن المجتمعات القائمة تعيش في جاهلية، فلا بد من "التصفية" و"التربية": تصفية الجاهلية بالقوة، ثم تربية "الطليعة المؤمنة" القادرة على إقامة المجتمع الإسلامي. وقد أصبح هذا الفكر لاحقًا مصدر إلهام للحركات الجهادية المعاصرة، من جماعات العنف في مصر في السبعينات، إلى تنظيم القاعدة وداعش في الألفية الجديدة. ففي منظومة قطب، يصبح الجهاد ليس وسيلة للدفاع، بل أداة لتغيير المجتمع بالقوة، واستئصال ما يسميه بالحكم البشري. على عكس علي عبد الرازق الذي رأى في الدولة خطرًا على الدين، وفصلًا ضروريًا بين الدين والسياسة، رأى سيد قطب في الدولة وسيلة لتحقيق الدين بالقوة، إن لزم الأمر. ولم تكن رؤيته تأملية أو روحية، بل حركية وعسكرية، تعيد تعريف الإسلام كمنظومة حكم قبل أن يكون منظومة إيمان. وبين هذين القطبين – قطب وعبد الرازق – نرى مفترق طرق حاسمًا في الفكر الإسلامي الحديث: أحدهما ينزع القداسة عن الدولة باسم الدين، والآخر يقدّس الدولة باعتبارها ذروة التديّن. رؤيتان... وسؤالان متناقضان يمكن القول إن علي عبد الرازق وسيد قطب قدّما رؤيتين متناقضتين جذريًا لموقع الإسلام من السلطة السياسية. فكل منهما طرح إجابة على سؤال ظل يؤرق الفكر الإسلامي الحديث: هل الإسلام دين يُكتفى بمبادئه الأخلاقية والروحية، أم هو أيضًا مشروع سياسي وسلطة حاكمة؟ وبينما قدّم عبد الرازق إجابة تنزع الطابع السياسي عن الدين، رأى قطب أن الإسلام لا يكتمل إلا بتجسّده في دولة وسلطة ومنظومة حاكمة تطبّق الشريعة. بالنسبة لعبد الرازق، لم يكن الإسلام في جوهره رسالة سياسية، بل دعوة دينية تُخاطب الضمير الفردي والأخلاق الإنسانية. وقد بنى موقفه هذا على قراءة عقلانية للتاريخ الإسلامي، مفادها أن النبي محمد لم يؤسس دولة بالمعنى السياسي، بل كانت قيادته ذات طبيعة دعوية واجتماعية. وبالتالي، فإن السلطة – في تصوّره – ليست جزءًا من العقيدة، وإنما اجتهاد بشري يخضع لظروف الزمان والمكان، ويمكن أن يأخذ أشكالًا متعددة وفق ما تقتضيه المصلحة العامة. في المقابل، يرى سيد قطب أن الإسلام لا يمكن اختزاله في الشعائر والوعظ الروحي. فالدين، عنده، يحمل مشروعًا حضاريًا كاملاً يتضمن تصورات عن الاقتصاد والسياسة والقانون والتعليم، ولا يتحقق هذا المشروع إلا بإقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة. ومن هنا، تصبح السلطة ضرورة دينية، لا أداة دنيوية فحسب. بل إن قطب يذهب إلى أبعد من ذلك حين يعتبر أن الحكم بغير ما أنزل الله هو صورة من صور الكفر، وأن المجتمعات التي لا تطبّق الشريعة تعيش في جاهلية، مهما ادّعت الإسلام. ما يجعل هذا التناقض أكثر وضوحًا هو أن كلًا من الرجلين كان ابن لحظته التاريخية. عبد الرازق كتب كتابه في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية، في زمن كانت فيه النخب العربية – خاصة في مصر – تبحث عن شرعية جديدة للدولة الوطنية الحديثة، الدولة المدنية التي تفصل بين الدين والسياسة وتقوم على المواطنة. كان السياق الفكري العام أقرب إلى الليبرالية الدستورية منه إلى الانغلاق الديني، وهذا ما أتاح لعبد الرازق أن يتجرأ على تفكيك مفهوم الخلافة وتقديم تصور مدني للإسلام. أما قطب، فقد تبلورت أفكاره في ظل تجربة مختلفة تمامًا، حيث عايش حقبة القمع السياسي والانقلابات العسكرية، خاصة بعد صدام الإخوان مع نظام عبد الناصر. هذه الظروف جعلت قطب يرى الدولة الوطنية الحديثة – كما تجسّدت في مصر الناصرية – كأداة للبطش والعلمنة والإفساد، مما دفعه إلى ارتداد فكري نحو تصور مثالي وثوري للإسلام، بوصفه المنقذ من هذا الانحطاط. من هنا جاء تحوله إلى خطاب "الطليعة المؤمنة"، و"الجاهلية"، و"الحاكمية"، حيث لا مجال للتسويات أو الإصلاح التدريجي، بل لا بد من انقلاب شامل على النظام القائم باسم الدين. في المحصلة، يقدّم عبد الرازق وقطب صورتين نقيضتين للإسلام المعاصر: أحدهما يُخرج الدين من معترك السلطة ليحميه من التوظيف السياسي، والآخر يُدخل الدين إلى عمق السلطة ليجعلها أداة لتحقيق "المجتمع المسلم". أحدهما يراهن على العقل والاجتهاد، والآخر يراهن على الطليعة والمواجهة. وبين هذين التصورين، لا يكمن فقط خلاف على طبيعة الحكم، بل أيضًا على معنى الإسلام ذاته: هل هو دعوة فردية أخلاقية، أم منظومة شاملة لا تتحقق إلا بالسلطة؟ أي الرؤيتين بقيت؟ وأيّهما انتصر؟ رغم محاكمة علي عبد الرازق وطرده من الأزهر عقب نشر كتابه الإسلام وأصول الحكم، فإن التاريخ أنصفه على المدى الطويل. فقد كانت فكرته الجوهرية – أن الإسلام لا يفرض شكلًا محددًا للحكم، وأن الدولة كيان مدني لا ديني – بمثابة بذرة مبكرة لنموذج الدولة الوطنية الحديثة في العالم الإسلامي. ومع مرور العقود، ساد هذا النموذج في أغلب الدول الإسلامية، التي تبنت دساتير مدنية، وقوانين وضعية، وفصلًا نسبيًا – ولو متذبذبًا – بين المؤسسة الدينية والسلطة التنفيذية. انحسر خطاب الخلافة تدريجيًا، ولم يعد مطلبًا شعبيًا أو نخبويًا إلا في أوساط جماعات الإسلام السياسي. الدولة الحديثة – بحدودها القُطرية، ومؤسساتها، وقوانينها – أصبحت هي الإطار الطبيعي للحكم في أغلب الدول العربية والإسلامية، حتى وإن لم تخلُ من استبداد أو فساد. في هذا المعنى، يمكن القول إن عبد الرازق لم ينتصر فقط في معركة الأفكار، بل أصبح أحد رواد تأسيس التصور العربي المعاصر للدولة. لكن على الجانب الآخر، فإن سيد قطب – رغم إعدامه عام 1966 – ترك إرثًا ضخمًا من الأفكار التي أثّرت بعمق في الحركات الإسلامية الراديكالية. كتبه، وعلى رأسها معالم في الطريق، أصبحت بمثابة "دليل أيديولوجي" لجماعات كالإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية، والقاعدة، ثم داعش. فقد وفّر قطب لهذه الجماعات مبررات عقدية لتكفير الدولة الوطنية، ورفض الديمقراطية، واعتبار المجتمعات الإسلامية "جاهلية" ما لم تحكم بالشريعة. بهذا المعنى، انتصرت رؤية عبد الرازق على مستوى الدولة والنظام، بينما انتصرت رؤية سيد قطب على مستوى الحركات والتنظيمات التي رفضت هذا النظام. فالدولة التي تأسست على التصور الوطني المدني غالبًا ما وجدت نفسها في صدام مع جماعات تحمل تصورًا قطبيًا، يعتبرها طاغوتًا يجب تغييره، لا التعايش معه. وهذا التوتر لا يزال قائمًا حتى اللحظة، بل هو أحد أبرز مصادر الصراع الداخلي في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. ولعل المفارقة الأهم أن كلا التصورين لا يزال حاضرًا في النقاش العام، بل ويُستدعى في كل لحظة يُطرح فيها سؤال: ما موقع الشريعة من الدستور؟ ما حدود سلطة العلماء؟ هل السيادة للشعب أم لله؟ في كل مرة يُثار فيها الجدل حول علاقة الدين بالسياسة، نجد أنفسنا – من حيث لا نشعر – نعود إلى ساحة الصراع بين عبد الرازق وقطب، بين من رأى في الدولة خطرًا على الدين، ومن رأى في الدولة أداة لتحقيق الدين. إنه صراع لا يمكن اختزاله في الماضي، لأنه لا يزال يصوغ الحاضر ويؤثر في المستقبل. وبين من يُطالب بفصل تام بين الدين والسياسة، ومن يُطالب بإخضاع السياسة للشريعة، يظل الإرث الفكري لكل من عبد الرازق وقطب فاعلًا، يمدّ النقاشات المعاصرة بمرجعيات متناقضة، ويذكّرنا بأن معركة التأويل الديني ليست فقط قضية فكرية، بل قضية وجودية تمس طبيعة الدولة، وهوية المجتمع، ومصير الأفراد. في الختام في نهاية المطاف، لم يكن الصراع بين علي عبد الرازق وسيد قطب مجرد خلاف بين فقيه تقليدي ومفكر أصولي، ولا حتى نزاعًا فكريًا عابرًا حول شكل الدولة أو موقع الشريعة، بل كان – ولا يزال – صراعًا أعمق على روح الإسلام نفسه. هل هو دين يُخاطب ضمير الفرد ويحثه على الأخلاق والعبادة؟ أم مشروع شامل يراد له أن يتحكم في السياسة والمجتمع والمؤسسات، بل والعالم بأسره؟ هذا هو جوهر التباين بين الرجلين. عبد الرازق، في سياق سقوط الخلافة وبداية تشكل الدولة الوطنية، أراد أن يحرر الدين من قبضة السلطة، وأن يُبقي الإيمان شأنًا فرديًا وأخلاقيًا، لا مرجعية سياسية ولا أداة حكم. أما قطب، الذي عاش زمن القمع والصراع بين الإسلاميين والدولة، فقد اختار أن يحوّل الإسلام إلى برنامج شمولي، يرى في الدولة أداته، وفي الشريعة غايته، وفي الجهاد وسيلته. من هنا، تجاوزت رؤيته حدود الدعوة إلى الإصلاح، لتصير مشروعًا للتغيير الجذري بالعنف المقدس. لقد مضى قرن على صدور الإسلام وأصول الحكم، وأكثر من نصف قرن على إعدام سيد قطب، لكن السؤال الذي طرحه كل منهما لا يزال معلقًا في هواء العالم الإسلامي: كيف نفهم الإسلام؟ هل نحصره في العلاقة بين الإنسان وربه، أم نمدّه ليشمل الدولة والسيف والحكم؟ وبين هذين الخيارين، تتوزع النخب، وتنقسم المجتمعات، وتتصارع القوى السياسية في أغلب دول المنطقة. والأخطر أن هذا الصراع لم يبقَ أكاديميًا أو نظريًا، بل صار صراعًا دمويًا في أحيان كثيرة. فالدولة التي تبنت النموذج الوطني، تجد نفسها في معركة وجودية مع جماعات تشربت فكر قطب، وتراها طاغوتًا يجب إزالته. والمجتمعات التي تطمح إلى الحداثة والاستقرار، تُبتلى بصراعات داخلية حول "الهوية" و"المرجعية" و"الحاكمية". وبين من يريد إنقاذ الدين من استغلال السلطة، ومن يريد استغلال السلطة باسم الدين، تظل الأمة تتأرجح، تبحث عن توازن مفقود بين المقدس والمدني، بين الإيمان والحكم.


شفق نيوز
٢٥-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- شفق نيوز
قصة الكتاب الذي مهّد للجدل حول الإسلام والعلمانية في مصر
هل ينبغي أن تكون الدولة مدنية علمانية أم دينية؟ سؤال يثير منذ عقودٍ جدلاً واسعاً بين المثقفين والمهتمين بالسياسة في العالم العربي، حيث يطرح كل فريق حججه التي غالباً ما لا تُقنع الطرف الآخر، في مشهد تكرر كثيراً في سياقات متباينة، وإن كان يمكن تتبع تاريخه إلى مئة عام خلت. ففي أبريل/نيسان عام 1925 صدر في مصر كتاب يحمل عنوان "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ الأزهري علي عبد الرازق، الذي سعى للترويج لفكرة الدولة المدنية قائلاً إن الإسلام كرسالة دينية لم يحدد شكل الحكم السياسي الأمثل، ومشدداً على أن مؤسسة الخلافة التي هيمنت على مصير المسلمين لمئات السنين ليست من أصول العقيدة الإسلامية. الكتاب أثار معركة فكرية كبيرة في مصر وخارجها، وتسبب في فصل صاحبه من الأزهر وتعرضه للكثير من الاتهامات وصلت إلى درجة أن البعض ادعى أن علي عبد الرازق ليس هو المؤلف الحقيقي للكتاب. فمن هو علي عبد الرازق؟ وما الأفكار التي طرحها؟ وما الظروف التي نُشر فيها الكتاب؟ جاء توقيت صدور الكتاب في عام 1925 ليزيد من حدة النقاشات حوله. إذ صدر بعد عام واحد فقط من إلغاء البرلمان التركي مؤسسة الخلافة، وهي التي كانت مجرد منصب شرفي منذ عام 1909. وخلال تلك الفترة، كان العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، خاضعاً خلال تلك الفترة بشكل أو آخر لقوى استعمارية غربية بعد أن ظل لمدة قرون تابعاً للعثمانيين. وكانت نخب تلك البلدان المثقفة تتطلع إلى تأسيس دول حديثة قائمة على أفكار الديمقراطية والفصل بين السلطات وإجراء الانتخابات، فيما بدا تأثراً بالأنظمة السياسية الغربية. كانت مصر في قلب تلك التحولات الكبرى، فثورة عام 1919 التي طالبت بالاستقلال عن الاستعمار البريطاني، أسفرت عن استقلال صوري غير كامل ودستور جديد وانتخابات برلمانية أفضت عام 1924 إلى تولي سعد زغلول، زعيم حزب الوفد، رئاسة أول حكومة منتخبة في تاريخ البلاد. لكن "حكومة الشعب" لم تستمر طويلاً إذ استقالت بعد أقل من عام على تشكيلها، لتتشكل حكومة من أحزاب وشخصيات مقربة من الملك من دون أن يكون لها نفس شعبية حزب الوفد، ومن بين تلك الأحزاب، حزب الأحرار الدستوريين، الذي سيكون له فيما بعد دور مهم في المعركة التي دارت حول الكتاب. وفي نفس الفترة التي تعرضت خلالها التجربة الديمقراطية المصرية الوليدة لانتكاسة كبيرة، بدأت تظهر دعوات تطالب باستعادة الخلافة، وطُرح اسم الملك فؤاد من بين المرشحين لكي يكون خليفة محتملاً للمسلمين. وفي تلك الأجواء خرج كتاب "الإسلام وأصول الحكم" إلى النور ليتحول صاحبه من مجرد قاضٍ شرعي في مدينة المنصورة إلى محور جدل ونقاشات استمرت لعشرات الأعوام بعد وفاته. حزب الأحرار الدستوريين وُلِدَ علي عبد الرازق لعائلة من كبار مُلّاك الأراضي الزراعية في محافظة المنيا بصعيد مصر عام 1887، وتلقّى تعليماً أزهرياً ثم سافر إلى إنجلترا للدراسة في جامعة أوكسفورد، قبل أن يعود إلى مصر وينضم إلى سلك القضاء الشرعي. كان عبد الرازق ينتمي فكرياً إلى حزب الأحرار الدستوريين، وهو حزب ضم العديد من الباشوات وأفراد الطبقة الثرية، وكان يميل إلى معسكر الملك في خصومته مع حزب الوفد ذي الشعبية الجارفة. ومن اللافت أن حزب الأحرار الدستوريين كان وقتها يضم ويحظى بدعم أسماء بارزة في عالم الثقافة المصرية بجانب علي عبد الرازق، كطه حسين، الذي كان هو الآخر محور جدل مشابه في عام 1926 بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي"، ومنصور فهمي، ومحمد حسين هيكل، ومصطفى عبد الرازق، شقيق علي عبد الرازق. لكن ما أبرز الأفكار التي جاءت في الكتاب وأثارت ضجة كبيرة؟ الكتاب يستهل عبد الرازق كتاب "الإسلام وأصول الحكم - بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام" بالإشارة إلى أن الأبحاث التي قام بها حول القضاء الشرعي هي التي دفعته إلى تأليف الكتاب. والفكرة الأساسية للكتاب أن النبي محمد "لم يكن إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك أو حكومة". كما يقول عبد الرازق إنه لا توجد نصوص دينية إسلامية تؤيد الحديث عن وجوب الخلافة. ويستشهد عبد الرازق بنصوص تاريخية لتأكيد حديثه عن أن الخلافة "لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وإن تلك القوة كانت - إلا في النادر - قوة مادية مسلحة". كما يشير إلى أن تفرّق المسلمين إلى ممالك ودويلات في زمن ضعف الخلافة لم يسفر عن ضياع الدين أو توقف المؤمنين عن ممارسة شعائر عقيدتهم. ويدعو عبد الرازق المسلمين في الكتاب إلى بناء قواعد ملكهم ونظام حكومتهم "على أحدث ما أنتجت العقول البشرية". المعركة كانت الأفكار التي حملها الكتاب غير تقليدية بشكل أثار عاصفة من الجدل والانتقادات خاصة في ظل إلغاء مؤسسة الخلافة. فالكاتب الإسلامي البارز محمد رشيد رضا شن هجوماً عنيفاً على الكتاب ومؤلفه في مجلة المنار، واصفاً الأفكار التي جاءت فيه بـ"البدعة" التي ظهرت في وقتٍ تتضافر الجهود لعقد مؤتمر إسلامي عامّ لإحياء منصب الخلافة. كذلك صدرت كتب عدة تتعرض لـ"الإسلام وأصول الحكم" وتنتقد ما جاء فيه، لعل من أبرزها كتاب الشيخ محمد الخضر حسين- الذي تولى منصب شيخ الأزهر بعد ذلك بأكثر من 25 عاماً - "نقد الإسلام وأصول الحكم". وسعى الرافضون لأفكار علي عبد الرازق إلى طرح حجج مضادة لما جاء في "الإسلام وأصول الحكم" مستلهمين هم أيضاً نصوصاً دينية وتاريخية. تتسم العديد من الكتابات المعارضة لعلي عبد الرازق باتهامه إما بـ "الجهل بحقيقة الإسلام" أو "التضليل المتعمد" أو "تقليد الغرب بشكل كامل". لم تقتصر قائمة منتقدي عبد الرازق على الشيوخ وأصحاب التوجهات الإسلامية المطالبة بعودة الخلافة، فقد كان لافتاً أن الزعيم الوفدي سعد زغلول استنكر بشدة ما جاء في الكتاب ووجه نقداً لاذعاً لصاحبه، بحسب ما جاء في دراسة الكاتب محمد عمارة "الإسلام وأصول الحكم: دراسة ووثائق". في المقابل، نشرت صحف مصرية العديد من المقالات التي يدافع أصحابها عن علي عبد الرازق وآرائه، كمحمد حسين هيكل، وسلامة موسى. كذلك دافع عباس العقاد - وهو الذي كان وقتها مؤيداً لحزب الوفد - عن حق الكاتب في التعبير عن رأيه سواء كان مصيباً أو مخطئاً. المحاكمة المعركة حول الكتاب لم تقتصر على الصحف والمجلات بل وصلت إلى أروقة الأزهر. إذ انعقدت هيئة كبار علماء الأزهر في شهر يوليو/تموز عام 1925 ووجهت إلى علي عبد الرازق سبع "تهم" من بينها حديثه عن كون الإسلام شريعة روحية محضة وقوله إن حكومة أبي بكر ومن خلفه كانت حكومة لا دينية. وفي أغسطس/آب مثُل علي عبد الرازق أمام الهيئة التي قررت بالإجماع إخراجه من زمرة العلماء ومحو اسمه من سجلات الأزهر وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية، وهو ما تبعه قرار حكومي بفصله من وظيفته كقاضٍ شرعي. السياسة لم يشكّل قرار فصل عبد الرازق من الأزهر نهاية المعركة حول الكتاب بل كان أحد تبعاتها. فكثير من الكتابات والدراسات التاريخية التي تناولت القضية لاحقاً، تظهر أن الأزمة كانت مرتبطة أيضاً بالسياسة كما كانت متعلقة بالأفكار التي طرحها، مثلما جاء في كتاب محمد عمارة "الإسلام وأصول الحكم - دراسة ووثائق"، وكتاب الكاتب الصحفي المصري أحمد بهاء الدين "أيام لها تاريخ". فالكتاب، بحسب هذا الفريق، كان بمثابة صرخة احتجاج ضد مساعي الملك فؤاد لمواصلة الاستبداد بالحكم عبر ادعاء لقب الخليفة بما له من ثقل ديني. وتشير الأكاديمية سعاد علي في كتابها "A Religion, Not a State: Ali 'Abd al-Raziq's Islamic Justification of Political Secularism" إلى أن عبد الرازق استخدم في الكتاب لفظتي ملك وسلطان ومرادفاتهما نحو 150 مرة. فالملك فؤاد، عند هذا الفريق من الباحثين، لعب دوراً في التنكيل بصاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، بل إن عدداً ممن هاجموا الكتاب كان من بين دوافعهم إرضاء ملك مصر. فبينما قال عبد الرازق في مقدمة كتابه إنه "لا يخشى سوى الله. له القوة والعزة. وما سواه ضعيف ذليل"، نجد الشيخ محمد الخضر حسين يهدي كتابه إلى "إلى خزانة حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم". أما الحزب الذي ينتمي إليه عبد الرازق فكرياً، حزب الأحرار الدستوريين، فهو لم يكن حزباً جماهيرياً بل وارتضى المشاركة في حكومات غير ديمقراطية موالية للملك وصلت إلى الحكم من دون أن يكون لها ظهير شعبي كبير. لكن المفارقة أن الحزب نفسه وقف إلى جانب علي عبد الرازق لينتهي الأمر بأزمة سياسية أسفرت في النهاية عن خروج وزراء الحزب من الحكومة. أسئلة مشابهة ومع مرور السنوات توارى علي عبد الرازق عن الأنظار لفترة طويلة قبل أن يقرر الأزهر إعادته إلى زمرة علمائه في الأربعينيات خلال تولي شقيقه مصطفى عبد الرازق منصب شيخ الأزهر. ثم أسند إليه منصب وزير الأوقاف في إحدى حكومات الأقليات في نهاية الأربعينيات. أما جهود إعادة إحياء الخلافة الإسلامية فسرعان ما باءت بالفشل. وبدا بعد فترة ليست بالكبيرة أن الانشغال بقضايا الاستقلال والديمقراطية طغى على حماس الكثير من عناصر النخبة المصرية لمناقشة قضية مشروع الخلافة. وليس أدل على ذلك التغير سوى تلك الأزمة التي جرت في عام 1937 خلال الإعداد لتتويج الملك فاروق، نجل الملك فؤاد. فمصطفى النحاس، رئيس الوزراء المنتخب وخليفة سعد زغلول في زعامة حزب الوفد، أجهض خطة طرحها مقربون من الملك لإضفاء صبغة دينية على حفل التتويج. لكن في المقابل، وبعد ثلاث سنوات من صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، يؤسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تدعو إلى مواجهة التغريب والعودة إلى الأصول الدينية للمجتمعات الإسلامية حتى يصير من الممكن "إحياء الخلافة المفقودة". ومع مرور الزمن أمسى الكتاب مثار نقاشات حادة بين أنصار العلمانية والمدافعين عن الحكم ذي الطابع الإسلامي، وأعيد طبعه أكثر من مرة. تجدر الملاحظة أن كلمة "علمانية" لم ترد في الكتاب، فعلي عبد الرازق كان يدافع عن حكم مدني في مقابل المطالبين بعودة نظام الخلافة. وبعد مرور قرن على صدور "الإسلام وأصول الحكم"، لا تزال الأسئلة التي أثارها علي عبد الرازق وأنصاره ومنتقدوه حاضرة بقوة في النقاش العربي المعاصر: هل الدين يحدد شكل الدولة؟ هل يمكن التوفيق بين المرجعية الإسلامية والدولة المدنية؟ وهل الجدل حول "الخلافة" انتهى فعلاً، أم أنه يعاود الظهور بأشكال جديدة؟


الوسط
٢٥-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- الوسط
قصة الكتاب الذي مهد للجدل حول الإسلام والعلمانية في مصر
هل ينبغي أن تكون الدولة مدنية علمانية أم دينية؟ سؤال يثير منذ عقود جدلا واسعا بين المثقفين والمهتمين بالسياسة في العالم العربي، حيث يطرح كل فريق حججه التي غالبا ما لا تُقنع الطرف الآخر، في مشهد تكرر كثيرا في سياقات متباينة، وإن كان يمكن تتبع تاريخه إلى مئة عام. ففي أبريل/ نيسان عام 1925 صدر في مصر كتاب يحمل عنوان "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ الأزهري علي عبد الرازق، الذي سعى للترويج لفكرة الدولة المدنية قائلا إن الإسلام كرسالة دينية لم يحدد شكل الحكم السياسي الأمثل، ومشددا على أن مؤسسة الخلافة التي هيمنت على مصير المسلمين لمئات السنين ليست من أصول العقيدة الإسلامية. الكتاب أثار معركة فكرية كبيرة في مصر وخارجها، وتسبب في فصل صاحبه من الأزهر وتعرضه للكثير من الاتهامات وصلَت إلى درجة أن البعض ادعى أن علي عبد الرازق ليس هو المؤلف الحقيقي للكتاب. فمن هو علي عبد الرازق؟ وما الأفكار التي طرحها؟ وما الظروف التي نُشر فيها الكتاب؟ إلغاء الخلافة جاء توقيت صدور الكتاب في عام 1925 ليزيد من حدة النقاشات حوله. إذ صدر بعد عام واحد فقط من إلغاء البرلمان التركي مؤسسة الخلافة، وهي التي كانت مجرد منصب شرفي منذ عام 1909. وخلال تلك الفترة، كان العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، خاضعا خلال تلك الفترة بشكل أو آخر لقوى استعمارية غربية بعد أن ظل لمدة قرون تابعا للعثمانيين. وكانت نخب تلك البلدان المثقفة تتطلع إلى تأسيس دول حديثة قائمة على أفكار الديمقراطية والفصل بين السلطات وإجراء الانتخابات، فيما بدا تأثرا بالأنظمة السياسية الغربية. كانت مصر في قلب تلك التحولات الكبرى، فثورة عام 1919 التي طالبت بالاستقلال عن الاستعمار البريطاني، أسفرت عن استقلال صوري غير كامل ودستور جديد وانتخابات برلمانية أفضت عام 1924 إلى تولي سعد زغلول، زعيم حزب الوفد، رئاسة أول حكومة منتخبة في تاريخ البلاد. لكن "حكومة الشعب" لم تستمر طويلا إذ استقالت بعد أقل من عام على تشكيلها، لتتشكل حكومة من أحزاب وشخصيات مقربة من الملك من دون أن يكون لها نفس شعبية حزب الوفد، ومن بين تلك الأحزاب، حزب الأحرار الدستوريين، الذي سيكون له فيما بعد له دور مهم في المعركة التي دارت حول الكتاب. وفي نفس الفترة التي تعرضت فيها التجربة الديمقراطية المصرية الوليدة لانتكاسة كبيرة، بدأت تظهر دعوات تطالب باستعادة الخلافة، وطُرح اسم الملك فؤاد من بين المرشحين لكي يكون خليفة محتملا للمسلمين. وفي تلك الأجواء خرج كتاب "الإسلام وأصول الحكم" إلى النور ليتحول صاحبه من مجرد قاض شرعي في مدينة المنصورة إلى محور جدل ونقاشات استمرت لعشرات الأعوام بعد وفاته. Getty Images صدر الكتاب بعد عام من إلغاء الخلافة العثمانية/ صورة أرشيفية للسلطان العثماني محمد السادس حزب الأحرار الدستوريين وُلِدَ علي عبد الرازق لعائلة من كبار ملاك الأراضي الزراعية في محافظة المنيا بصعيد مصر عام 1887 وتلقى تعليما أزهريا ثم سافر إلى إنجلترا للدراسة في جامعة أوكسفورد، قبل أن يعود إلى مصر وينضم إلى سلك القضاء الشرعي. كان عبد الرازق ينتمي فكريًا إلى حزب الأحرار الدستوريين، وهو حزب ضم العديد من الباشوات وأفراد الطبقة الثرية، وكان يميل إلى معسكر الملك في خصومته مع حزب الوفد ذي الشعبية الجارفة. ومن اللافت أن حزب الأحرار الدستوريين كان وقتها يضم ويحظى بدعم أسماء بارزة في عالم الثقافة المصرية بجانب علي عبد الرازق، كطه حسين، الذي كان هو الآخر محور جدل مشابه في عام 1926 بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي"، ومنصور فهمي، ومحمد حسين هيكل، ومصطفى عبد الرازق، شقيق علي عبد الرازق. لكن ما أبرز الأفكار التي جاءت في الكتاب وأثارت ضجة كبيرة؟ الكتاب يستهل عبد الرازق كتاب "الإسلام وأصول الحكم - بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام" بالإشارة إلى أن الأبحاث التي قام بها حول القضاء الشرعي هي التي دفعته إلى تأليف الكتاب. والفكرة الأساسية للكتاب أن النبي محمد "لم يكن إلا رسولا لدعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك أو حكومة". كما يقول عبد الرازق إنه لا توجد نصوص دينية إسلامية تؤيد الحديث عن وجوب الخلافة. ويستشهد عبد الرازق بنصوص تاريخية لتأكيد حديثه عن أن الخلافة "لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وإن تلك القوة كانت – إلا في النادر – قوة مادية مسلحة". كما يشير إلى أن تفرق المسلمين إلى ممالك ودويلات في زمن ضعف الخلافة لم يسفر عن ضياع الدين أو توقف المؤمنين عن ممارسة شعائر عقيدتهم. ويدعو عبد الرازق المسلمين في الكتاب إلى بناء قواعد ملكهم ونظام حكومتهم "على أحدث ما أنتجت العقول البشرية". المعركة كانت الأفكار التي حملها الكتاب غير تقليدية بشكل أثار عاصفة من الجدل والانتقادات خاصة في ظل إلغاء مؤسسة الخلافة. فالكاتب الإسلامي البارز محمد رشيد رضا شن هجوماً عنيفاً على الكتاب ومؤلفه في مجلة المنار، واصفاً الأفكار التي جاءت فيه بـ"البدعة" التي ظهرت في وقت تتضافر فيه الجهود إلى عقد مؤتمر إسلامي عام لإحياء منصب الخلافة. كذلك صدرت كتب عدة تتعرض لـ"الإسلام وأصول الحكم" وتنتقد ما جاء فيه، لعل من أبرزها كتاب الشيخ محمد الخضر حسين- الذي تولى منصب شيخ الأزهر بعد ذلك بأكثر من 25 عاماً - "نقد الإسلام وأصول الحكم". Getty Images صدر الكتاب في وقت كانت مصر يحكمه الملك فؤاد (في مركز الصورة) وسعى الرافضون لأفكار علي عبد الرازق إلى طرح حجج مضادة لما جاء في "الإسلام وأصول الحكم" مستلهمين هم أيضاً نصوصاً دينية وتاريخية. تتسم العديد من الكتابات المعارضة لعلي عبد الرازق باتهامه إما بـ "الجهل بحقيقة الإسلام" أو "التضليل المتعمد" أو "تقليد الغرب بشكل كامل". لم تقتصر قائمة منتقدي عبد الرازق على الشيوخ وأصحاب التوجهات الإسلامية المطالبة بعودة الخلافة، فقد كان لافتاً أن الزعيم الوفدي سعد زغلول استنكر بشدة ما جاء في الكتاب ووجه نقداً لاذعاً لصاحبه، بحسب ما جاء في دراسة الكاتب محمد عمارة "الإسلام وأصول الحكم: دراسة ووثائق". في المقابل، نشرت صحف مصرية العديد من المقالات التي يدافع أصحابها عن علي عبد الرازق وآرائه، كمحمد حسين هيكل، وسلامة موسى. كذلك دافع عباس العقاد - وهو الذي كان وقتها مؤيداً لحزب الوفد - عن حق الكاتب في التعبير عن رأيه سواء كان مصيباً أو مخطئاً. المحاكمة المعركة حول الكتاب لم تكن قاصرة على الصحف والمجلات بل وصلت إلى أروقة الأزهر. إذ انعقدت هيئة كبار علماء الأزهر في شهر يوليو/تموز عام 1925 ووجهت إلى علي عبد الرازق سبع "تهم" من بينها حديثه عن كون الإسلام شريعة روحية محضة وقوله إن حكومة أبي بكر ومن خلفه كانت حكومة لادينية. وفي أغسطس/ آب مثل علي عبد الرازق أمام الهيئة التي قررت بالإجماع إخراجه من زمرة العلماء ومحو اسمه من سجلات الأزهر وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية، وهو ما تبعه قرار حكومي بفصله من وظيفته كقاض شرعي. Getty Images قرر علماء الأزهر فصل علي عبد الرازق بعد اشهر من صدور الكتاب السياسة لم يشكل قرار فصل عبد الرازق من الأزهر نهاية المعركة حول الكتاب بل كان أحد تبعاتها. فكثير من الكتابات والدراسات التاريخية التي تناولت القضية لاحقاً، تظهر أن الأزمة كانت مرتبطة أيضاً بالسياسة كما كانت متعلقة بالأفكار التي طرحها، كما جاء في كتاب محمد عمارة "الإسلام وأصول الحكم - دراسة ووثائق"، وكتاب الكاتب الصحفي المصري أحمد بهاء الدين "أيام لها تاريخ". فالكتاب بحسب هذا الفريق كان بمثابة صرخة احتجاج ضد مساعي الملك فؤاد مواصلة الاستبداد بالحكم عبر ادعاء لقب الخليفة بما له من ثقل ديني. وتشير الأكاديمية سعاد علي في كتابها "A Religion, Not a State: Ali 'Abd al-Raziq's Islamic Justification of Political Secularism" إلى أن عبد الرازق استخدم في الكتاب لفظتي ملك وسلطان ومرادفتهما نحو 150 مرة. فالملك فؤاد، عند هذا الفريق من الباحثين، لعب دوراً في التنكيل بصاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، بل أن عدداً ممن هاجموا الكتاب كان من بين دوافعهم إرضاء ملك مصر. فبينما قال عبد الرازق في مقدمة كتابه إنه "لا يخشى سوى الله. له القوة والعزة. وما سواه ضعيف ذليل"، نجد الشيخ محمد الخضر حسين يهدي كتابه إلى "إلى خزانة حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم". أما الحزب الذي ينتمي إليه عبد الرازق فكرياً، حزب الأحرار الدستوريين، فهو لم يكن حزباً جماهيرياً بل وارتضى المشاركة في حكومات غير ديمقراطية موالية للملك وصلت إلى الحكم من دون أن يكون لها ظهير شعبي كبير. لكن المفارقة أن الحزب نفسه وقف إلى جانب علي عبد الرازق لينتهي الأمر بأزمة سياسية أسفرت في النهاية عن خروج وزراء الحزب من الحكومة. أسئلة مشابهة ومع مرور السنوات توارى علي عبد الرازق عن الأنظار لفترة طويلة قبل أن يقرر الأزهر إعادته إلى زمرة علمائه في الأربعينات خلال تولي شقيقه مصطفى عبد الرازق منصب شيخ الأزهر. ثم أسند إليه منصب وزير الأوقاف في إحدى حكومات الأقليات في نهاية الأربعينيات. أما جهود إعادة إحياء الخلافة الإسلامية فسرعان ما باءت بالفشل. وبدا بعد فترة ليست بالكبيرة أن الانشغال بقضايا الاستقلال والديمقراطية طغى على حماس الكثير من عناصر النخبة المصرية لمناقشة قضية مشروع الخلافة. وليس أدل من ذلك التغير تلك الأزمة التي جرت في عام 1937 خلال الإعداد لتتويج الملك فاروق، نجل الملك فؤاد. فمصطفى النحاس، رئيس الوزراء المنتخب وخليفة سعد زغلول في زعامة حزب الوفد، أجهض خطة طرحها مقربون من الملك لإضفاء صبغة دينية على حفل التتويج. لكن في المقابل، فإنه وبعد ثلاث سنوات من صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" سيؤسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تدعو إلى مواجهة التغريب والعودة إلى الأصول الدينية للمجتمعات الإسلامية حتى يصير من الممكن "إحياء الخلافة المفقودة". ومع مرور الزمن أمسى الكتاب مثار نقاشات حادة بين أنصار العلمانية والمدافعين عن الحكم ذي الطابع الإسلامي، وأعيد طبعه أكثر من مرة. تجدر الملاحظة أن كلمة "علمانية" لم ترد في الكتاب، فعلي عبد الرازق كان يدافع عن حكم مدني في مقابل المطالبين بعودة نظام الخلافة. وبعد مرور قرن على صدور "الإسلام وأصول الحكم"، لا تزال الأسئلة التي أثارها علي عبد الرازق وأنصاره ومنتقديه حاضرة بقوة في النقاش العربي المعاصر: هل الدين يحدد شكل الدولة؟ هل يمكن التوفيق بين المرجعية الإسلامية والدولة المدنية؟ وهل الجدل حول "الخلافة" انتهى فعلًا، أم أنه يعاود الظهور بأشكال جديدة؟


سيدر نيوز
٢٥-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- سيدر نيوز
قصة الكتاب الذي مهد للجدل حول الإسلام والعلمانية في مصر
هل ينبغي أن تكون الدولة مدنية علمانية أم دينية؟ سؤال يثير منذ عقود جدلا واسعا بين المثقفين والمهتمين بالسياسة في العالم العربي، حيث يطرح كل فريق حججه التي غالبا ما لا تُقنع الطرف الآخر، في مشهد تكرر كثيرا في سياقات متباينة، وإن كان يمكن تتبع تاريخه إلى مئة عام. ففي أبريل/ نيسان عام 1925 صدر في مصر كتاب يحمل عنوان 'الإسلام وأصول الحكم' للشيخ الأزهري علي عبد الرازق، الذي سعى للترويج لفكرة الدولة المدنية قائلا إن الإسلام كرسالة دينية لم يحدد شكل الحكم السياسي الأمثل، ومشددا على أن مؤسسة الخلافة التي هيمنت على مصير المسلمين لمئات السنين ليست من أصول العقيدة الإسلامية. الكتاب أثار معركة فكرية كبيرة في مصر وخارجها، وتسبب في فصل صاحبه من الأزهر وتعرضه للكثير من الاتهامات وصلَت إلى درجة أن البعض ادعى أن علي عبد الرازق ليس هو المؤلف الحقيقي للكتاب. فمن هو علي عبد الرازق؟ وما الأفكار التي طرحها؟ وما الظروف التي نُشر فيها الكتاب؟ إلغاء الخلافة جاء توقيت صدور الكتاب في عام 1925 ليزيد من حدة النقاشات حوله. إذ صدر بعد عام واحد فقط من إلغاء البرلمان التركي مؤسسة الخلافة، وهي التي كانت مجرد منصب شرفي منذ عام 1909. وخلال تلك الفترة، كان العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، خاضعا خلال تلك الفترة بشكل أو آخر لقوى استعمارية غربية بعد أن ظل لمدة قرون تابعا للعثمانيين. وكانت نخب تلك البلدان المثقفة تتطلع إلى تأسيس دول حديثة قائمة على أفكار الديمقراطية والفصل بين السلطات وإجراء الانتخابات، فيما بدا تأثرا بالأنظمة السياسية الغربية. كانت مصر في قلب تلك التحولات الكبرى، فثورة عام 1919 التي طالبت بالاستقلال عن الاستعمار البريطاني، أسفرت عن استقلال صوري غير كامل ودستور جديد وانتخابات برلمانية أفضت عام 1924 إلى تولي سعد زغلول، زعيم حزب الوفد، رئاسة أول حكومة منتخبة في تاريخ البلاد. لكن 'حكومة الشعب' لم تستمر طويلا إذ استقالت بعد أقل من عام على تشكيلها، لتتشكل حكومة من أحزاب وشخصيات مقربة من الملك من دون أن يكون لها نفس شعبية حزب الوفد، ومن بين تلك الأحزاب، حزب الأحرار الدستوريين، الذي سيكون له فيما بعد له دور مهم في المعركة التي دارت حول الكتاب. وفي نفس الفترة التي تعرضت فيها التجربة الديمقراطية المصرية الوليدة لانتكاسة كبيرة، بدأت تظهر دعوات تطالب باستعادة الخلافة، وطُرح اسم الملك فؤاد من بين المرشحين لكي يكون خليفة محتملا للمسلمين. وفي تلك الأجواء خرج كتاب 'الإسلام وأصول الحكم' إلى النور ليتحول صاحبه من مجرد قاض شرعي في مدينة المنصورة إلى محور جدل ونقاشات استمرت لعشرات الأعوام بعد وفاته. حزب الأحرار الدستوريين وُلِدَ علي عبد الرازق لعائلة من كبار ملاك الأراضي الزراعية في محافظة المنيا بصعيد مصر عام 1887 وتلقى تعليما أزهريا ثم سافر إلى إنجلترا للدراسة في جامعة أوكسفورد، قبل أن يعود إلى مصر وينضم إلى سلك القضاء الشرعي. كان عبد الرازق ينتمي فكريًا إلى حزب الأحرار الدستوريين، وهو حزب ضم العديد من الباشوات وأفراد الطبقة الثرية، وكان يميل إلى معسكر الملك في خصومته مع حزب الوفد ذي الشعبية الجارفة. ومن اللافت أن حزب الأحرار الدستوريين كان وقتها يضم ويحظى بدعم أسماء بارزة في عالم الثقافة المصرية بجانب علي عبد الرازق، كطه حسين، الذي كان هو الآخر محور جدل مشابه في عام 1926 بسبب كتابه 'في الشعر الجاهلي'، ومنصور فهمي، ومحمد حسين هيكل، ومصطفى عبد الرازق، شقيق علي عبد الرازق. لكن ما أبرز الأفكار التي جاءت في الكتاب وأثارت ضجة كبيرة؟ الكتاب يستهل عبد الرازق كتاب 'الإسلام وأصول الحكم – بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام' بالإشارة إلى أن الأبحاث التي قام بها حول القضاء الشرعي هي التي دفعته إلى تأليف الكتاب. والفكرة الأساسية للكتاب أن النبي محمد 'لم يكن إلا رسولا لدعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك أو حكومة'. كما يقول عبد الرازق إنه لا توجد نصوص دينية إسلامية تؤيد الحديث عن وجوب الخلافة. ويستشهد عبد الرازق بنصوص تاريخية لتأكيد حديثه عن أن الخلافة 'لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وإن تلك القوة كانت – إلا في النادر – قوة مادية مسلحة'. كما يشير إلى أن تفرق المسلمين إلى ممالك ودويلات في زمن ضعف الخلافة لم يسفر عن ضياع الدين أو توقف المؤمنين عن ممارسة شعائر عقيدتهم. ويدعو عبد الرازق المسلمين في الكتاب إلى بناء قواعد ملكهم ونظام حكومتهم 'على أحدث ما أنتجت العقول البشرية'. المعركة كانت الأفكار التي حملها الكتاب غير تقليدية بشكل أثار عاصفة من الجدل والانتقادات خاصة في ظل إلغاء مؤسسة الخلافة. فالكاتب الإسلامي البارز محمد رشيد رضا شن هجوماً عنيفاً على الكتاب ومؤلفه في مجلة المنار، واصفاً الأفكار التي جاءت فيه بـ'البدعة' التي ظهرت في وقت تتضافر فيه الجهود إلى عقد مؤتمر إسلامي عام لإحياء منصب الخلافة. كذلك صدرت كتب عدة تتعرض لـ'الإسلام وأصول الحكم' وتنتقد ما جاء فيه، لعل من أبرزها كتاب الشيخ محمد الخضر حسين- الذي تولى منصب شيخ الأزهر بعد ذلك بأكثر من 25 عاماً – 'نقد الإسلام وأصول الحكم'. وسعى الرافضون لأفكار علي عبد الرازق إلى طرح حجج مضادة لما جاء في 'الإسلام وأصول الحكم' مستلهمين هم أيضاً نصوصاً دينية وتاريخية. تتسم العديد من الكتابات المعارضة لعلي عبد الرازق باتهامه إما بـ 'الجهل بحقيقة الإسلام' أو 'التضليل المتعمد' أو 'تقليد الغرب بشكل كامل'. لم تقتصر قائمة منتقدي عبد الرازق على الشيوخ وأصحاب التوجهات الإسلامية المطالبة بعودة الخلافة، فقد كان لافتاً أن الزعيم الوفدي سعد زغلول استنكر بشدة ما جاء في الكتاب ووجه نقداً لاذعاً لصاحبه، بحسب ما جاء في دراسة الكاتب محمد عمارة 'الإسلام وأصول الحكم: دراسة ووثائق'. في المقابل، نشرت صحف مصرية العديد من المقالات التي يدافع أصحابها عن علي عبد الرازق وآرائه، كمحمد حسين هيكل، وسلامة موسى. كذلك دافع عباس العقاد – وهو الذي كان وقتها مؤيداً لحزب الوفد – عن حق الكاتب في التعبير عن رأيه سواء كان مصيباً أو مخطئاً. المحاكمة المعركة حول الكتاب لم تكن قاصرة على الصحف والمجلات بل وصلت إلى أروقة الأزهر. إذ انعقدت هيئة كبار علماء الأزهر في شهر يوليو/تموز عام 1925 ووجهت إلى علي عبد الرازق سبع 'تهم' من بينها حديثه عن كون الإسلام شريعة روحية محضة وقوله إن حكومة أبي بكر ومن خلفه كانت حكومة لادينية. وفي أغسطس/ آب مثل علي عبد الرازق أمام الهيئة التي قررت بالإجماع إخراجه من زمرة العلماء ومحو اسمه من سجلات الأزهر وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية، وهو ما تبعه قرار حكومي بفصله من وظيفته كقاض شرعي. السياسة لم يشكل قرار فصل عبد الرازق من الأزهر نهاية المعركة حول الكتاب بل كان أحد تبعاتها. فكثير من الكتابات والدراسات التاريخية التي تناولت القضية لاحقاً، تظهر أن الأزمة كانت مرتبطة أيضاً بالسياسة كما كانت متعلقة بالأفكار التي طرحها، كما جاء في كتاب محمد عمارة 'الإسلام وأصول الحكم – دراسة ووثائق'، وكتاب الكاتب الصحفي المصري أحمد بهاء الدين 'أيام لها تاريخ'. فالكتاب بحسب هذا الفريق كان بمثابة صرخة احتجاج ضد مساعي الملك فؤاد مواصلة الاستبداد بالحكم عبر ادعاء لقب الخليفة بما له من ثقل ديني. وتشير الأكاديمية سعاد علي في كتابها 'A Religion, Not a State: Ali 'Abd al-Raziq's Islamic Justification of Political Secularism' إلى أن عبد الرازق استخدم في الكتاب لفظتي ملك وسلطان ومرادفتهما نحو 150 مرة. فالملك فؤاد، عند هذا الفريق من الباحثين، لعب دوراً في التنكيل بصاحب كتاب 'الإسلام وأصول الحكم'، بل أن عدداً ممن هاجموا الكتاب كان من بين دوافعهم إرضاء ملك مصر. فبينما قال عبد الرازق في مقدمة كتابه إنه 'لا يخشى سوى الله. له القوة والعزة. وما سواه ضعيف ذليل'، نجد الشيخ محمد الخضر حسين يهدي كتابه إلى 'إلى خزانة حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم'. أما الحزب الذي ينتمي إليه عبد الرازق فكرياً، حزب الأحرار الدستوريين، فهو لم يكن حزباً جماهيرياً بل وارتضى المشاركة في حكومات غير ديمقراطية موالية للملك وصلت إلى الحكم من دون أن يكون لها ظهير شعبي كبير. لكن المفارقة أن الحزب نفسه وقف إلى جانب علي عبد الرازق لينتهي الأمر بأزمة سياسية أسفرت في النهاية عن خروج وزراء الحزب من الحكومة. أسئلة مشابهة ومع مرور السنوات توارى علي عبد الرازق عن الأنظار لفترة طويلة قبل أن يقرر الأزهر إعادته إلى زمرة علمائه في الأربعينات خلال تولي شقيقه مصطفى عبد الرازق منصب شيخ الأزهر. ثم أسند إليه منصب وزير الأوقاف في إحدى حكومات الأقليات في نهاية الأربعينيات. أما جهود إعادة إحياء الخلافة الإسلامية فسرعان ما باءت بالفشل. وبدا بعد فترة ليست بالكبيرة أن الانشغال بقضايا الاستقلال والديمقراطية طغى على حماس الكثير من عناصر النخبة المصرية لمناقشة قضية مشروع الخلافة. وليس أدل من ذلك التغير تلك الأزمة التي جرت في عام 1937 خلال الإعداد لتتويج الملك فاروق، نجل الملك فؤاد. فمصطفى النحاس، رئيس الوزراء المنتخب وخليفة سعد زغلول في زعامة حزب الوفد، أجهض خطة طرحها مقربون من الملك لإضفاء صبغة دينية على حفل التتويج. لكن في المقابل، فإنه وبعد ثلاث سنوات من صدور كتاب 'الإسلام وأصول الحكم' سيؤسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تدعو إلى مواجهة التغريب والعودة إلى الأصول الدينية للمجتمعات الإسلامية حتى يصير من الممكن 'إحياء الخلافة المفقودة'. ومع مرور الزمن أمسى الكتاب مثار نقاشات حادة بين أنصار العلمانية والمدافعين عن الحكم ذي الطابع الإسلامي، وأعيد طبعه أكثر من مرة. تجدر الملاحظة أن كلمة 'علمانية' لم ترد في الكتاب، فعلي عبد الرازق كان يدافع عن حكم مدني في مقابل المطالبين بعودة نظام الخلافة. وبعد مرور قرن على صدور 'الإسلام وأصول الحكم'، لا تزال الأسئلة التي أثارها علي عبد الرازق وأنصاره ومنتقديه حاضرة بقوة في النقاش العربي المعاصر: هل الدين يحدد شكل الدولة؟ هل يمكن التوفيق بين المرجعية الإسلامية والدولة المدنية؟ وهل الجدل حول 'الخلافة' انتهى فعلًا، أم أنه يعاود الظهور بأشكال جديدة؟