
بين علي عبد الرازق وسيد قطب: كيف تشكّلت رؤيتان متناقضتان للإسلام والدولة؟
تمرّ هذه الأيام مئة عام على صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، وهو كتاب لم يكن مجرد نص فكري أو اجتهادي عابر، بل صدمة فكرية بكل المقاييس. فقد جاء في لحظة بالغة الحساسية، عقب سقوط الخلافة العثمانية، ليُفجّر جدلًا غير مسبوق داخل الأزهر وخارجه حول طبيعة السلطة في الإسلام، وحول ما إذا كان الإسلام يتضمن نظامًا سياسيًا محددًا أم لا. وفي قلب هذا الجدل، وقف عبد الرازق موقفًا غير مسبوق: الإسلام ليس دولة، ولا خلافة، ولا إمامة، بل رسالة دينية روحية، والخلافة ليست من أصوله، بل من مُخرجات التاريخ البشري.
كانت هذه الرؤية صادمة لمؤسسة دينية كانت، حتى ذلك الحين، تعتبر الخلافة واجبًا شرعيًا وركنًا من أركان وحدة الأمة الإسلامية. عبد الرازق، بكلمات قليلة ومباشرة، نسف هذا التصور من جذوره، واعتبر أن النبي محمد لم يكن حاكمًا سياسيًا، بل رسولًا يُبلّغ رسالة روحية وأخلاقية، وأن ما تبعه من نُظم حكم كان اجتهادًا تاريخيًا بشريًا لا علاقة له بجوهر الدين. هذه الأفكار، رغم بساطتها، أحدثت زلزالًا فكريًا استوجب محاكمته، وسحب شهادة العالمية الأزهرية منه، لكنه نجح في فتح الباب واسعًا أمام التفكير النقدي في علاقة الإسلام بالسلطة.
لكن، بعد أقل من نصف قرن، ستظهر رؤية نقيضة تمامًا، أكثر جذرية وأشد تطرفًا، تمثلت في فكر سيد قطب، الذي خرج من عباءة الأدب إلى فضاء الجهاد العقائدي المسلح. ففي كتابه الشهير "معالم في الطريق"، أعاد قطب تعريف الإسلام ليس كدين تعبدي، بل كنظام شامل للحياة، لا يتحقق إلا بإقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة ومحاربة ما سمّاه "الجاهلية الحديثة". لم يكن قطب يطمح إلى مجرد إصلاح سياسي أو ديني، بل إلى انقلاب شامل على الواقع القائم، وتحقيق "حاكمية الله" بالقوة إن لزم الأمر.
من هنا، تتقاطع فكرتان متضادتان بشكل جذري: الأولى، يمثلها عبد الرازق، تدعو لفصل الإسلام عن السلطة الزمنية وتحصره في المجال الأخلاقي والروحي؛ والثانية، يمثلها قطب، ترى أن الإسلام لا يكتمل إلا بالسلطة والدولة والسيف. وبين هاتين الرؤيتين المتصارعتين، لا يزال الفكر الإسلامي المعاصر يتأرجح حتى اليوم، غير قادر على الحسم في سؤال قديم متجدد: هل الإسلام دين أم دولة؟ رسالة أم نظام حكم؟
علي عبد الرازق: الدولة ليست من الإسلام
في عام 1925، نشر الشيخ علي عبد الرازق، القاضي الشرعي الأزهري الشاب آنذاك، كتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم"، الذي أحدث زلزالًا فكريًا في الأوساط الدينية والسياسية العربية. جاء هذا الكتاب في لحظة دقيقة وحرجة؛ إذ كانت الخلافة العثمانية قد أُلغيت رسميًا على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924، بعد أن ظلت قائمة لقرون، وإن بشكل رمزي في السنوات الأخيرة من عمرها. وقد أعقب هذا السقوط صدمة لدى قطاعات واسعة من المسلمين الذين رأوا في الخلافة رمزًا لوحدة الأمة الإسلامية، وارتفعت أصوات كثيرة – خاصة في الأزهر ومجالس العلماء – تطالب بإعادة إحيائها بأي شكل، ولو رمزيًا.
في هذا المناخ المتوتر، خرج عبد الرازق برأي صادم ومخالف للسائد: أن الخلافة ليست أصلًا من أصول الإسلام، بل ليست من الدين في شيء. بل ذهب أبعد من ذلك، مؤكدًا أن النبي محمد نفسه لم يُقم دولة بالمعنى السياسي، ولم يطلب من المسلمين من بعده إقامة نظام حكم ديني، وإنما كانت مهمته محصورة في الدعوة والتبليغ والتوجيه الروحي. واعتبر أن كل ما نشأ بعد وفاة النبي من نظم حكم – سواء الخلافة الراشدة أو ما تلاها من ملك عضوض – لا يمتّ إلى الوحي بصلة، بل هو محض اجتهاد سياسي خاضع لظروفه التاريخية.
كان هذا الطرح بمثابة تفكيك للمسلمات التقليدية حول "الدولة الإسلامية"، وسحب للبساط من تحت محاولات تأسيس شرعية دينية لأي نظام حكم. فعبد الرازق لم يكتفِ بنقد الخلافة كنموذج تاريخي، بل جرّد الإسلام من أي بعد سلطوي، رافضًا فكرة أن يكون للدين سلطة تُفرض على الناس باسم الحاكمية أو الشريعة. دعا – ولو بصيغة غير مباشرة – إلى فصل واضح بين الدين والدولة، حيث تكون السياسة شأنًا دنيويًا يُدار وفق مصالح البشر، والدين مجالًا أخلاقيًا فرديًا يترك أثره في ضمير الإنسان لا في أجهزة الدولة.
كما ميّز عبد الرازق بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، معتبرًا أن الربط بينهما قد أضرّ بالدين أكثر مما خدمه. وأوضح أن الخلط بين وظيفة النبي كرسول ووظيفة الحاكم كسياسي هو ما أنتج تاريخًا طويلًا من الاستبداد باسم الدين. وبذلك، فتح عبد الرازق أفقًا جديدًا للفكر الإسلامي، قائمًا على تحييد الإسلام عن الصراع على السلطة، ورفض استخدامه كأداة لتبرير الحكم أو تمرير السياسات.
لكن هذا الموقف لم يمرّ دون تبعات. فقد تعرّض عبد الرازق لهجوم عنيف من الأزهر وهيئة كبار العلماء، وسُحب منه لقب "عالم" وتم فصله من منصبه. ومع ذلك، فإن ما طرحه ظلّ حجر زاوية في كل نقاش لاحق حول علاقة الإسلام بالسلطة، وساهم في بلورة خطاب إسلامي حديث يفصل بين العقيدة والمجتمع المدني، ويؤمن بأن الإسلام لا يحتاج إلى دولة كي يُمارس، بل إلى ضمير حيّ وعقل نقدي حرّ.
سيد قطب: الإسلام عقيدة ومنهج حياة
ظهر سيد قطب في المشهد الفكري الإسلامي في خمسينيات القرن العشرين، قادمًا من خلفية أدبية وثقافية غنية. فقد بدأ حياته كأديب وشاعر وناقد أدبي، وكان من أبرز الأصوات في المشهد الثقافي المصري، بل نُظر إليه كأحد ورثة طه حسين في نقده ونزعته التنويرية. لكن بعد رحلته إلى الولايات المتحدة، ثم انخراطه في جماعة الإخوان المسلمين، دخل قطب في تحول فكري حادّ من الفكر الليبرالي إلى الراديكالية الإسلامية. لم يكن هذا التحول مجرد تغيير في القناعات، بل انقلاب شامل في الرؤية إلى العالم والمجتمع والدولة.
في كتابه الأشهر "معالم في الطريق"، الذي كتبه أثناء وجوده في السجن، يضع قطب نظريته الكاملة حول الإسلام كمنهج حياة شامل. يطرح فيه تصورًا للصراع بين "الإسلام الحقيقي" و"الجاهلية المعاصرة"، ويعتبر أن العالم المعاصر – شرقًا وغربًا، مسلمًا وغير مسلم – يعيش في جاهلية، لأنها تقوم على سلطة البشر، لا على حاكمية الله. وبالنسبة له، الإسلام ليس مجرد دين أو شعائر، بل نظام شامل للحياة يجب أن يحكم كل صغيرة وكبيرة في المجتمع، من التشريع والقضاء إلى الاقتصاد والتعليم، ولا يتحقق إلا بإقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة بحذافيرها.
يؤسس قطب في هذا الكتاب لما يُعرف لاحقًا بـ"فقه الحاكمية"، حيث يُصنّف أي نظام لا يستمد شرعيته من "شريعة الله" بأنه نظام كافر. ويذهب أبعد من ذلك في تقسيم العالم إلى "معسكرين متصارعين": دار إسلام ودار كفر، لا توسط بينهما. هذا التصور يغلق باب التعددية، ويرفض فكرة الدولة الوطنية الحديثة التي تقوم على العقد الاجتماعي أو الإرادة الشعبية. فالديمقراطية عند قطب مرفوضة، لأنها تعني – في رأيه – أن البشر يشرّعون لأنفسهم، في حين أن الحاكمية لله وحده.
من هنا جاءت شرعنة العنف الثوري في فكر قطب. فبما أن المجتمعات القائمة تعيش في جاهلية، فلا بد من "التصفية" و"التربية": تصفية الجاهلية بالقوة، ثم تربية "الطليعة المؤمنة" القادرة على إقامة المجتمع الإسلامي. وقد أصبح هذا الفكر لاحقًا مصدر إلهام للحركات الجهادية المعاصرة، من جماعات العنف في مصر في السبعينات، إلى تنظيم القاعدة وداعش في الألفية الجديدة. ففي منظومة قطب، يصبح الجهاد ليس وسيلة للدفاع، بل أداة لتغيير المجتمع بالقوة، واستئصال ما يسميه بالحكم البشري.
على عكس علي عبد الرازق الذي رأى في الدولة خطرًا على الدين، وفصلًا ضروريًا بين الدين والسياسة، رأى سيد قطب في الدولة وسيلة لتحقيق الدين بالقوة، إن لزم الأمر. ولم تكن رؤيته تأملية أو روحية، بل حركية وعسكرية، تعيد تعريف الإسلام كمنظومة حكم قبل أن يكون منظومة إيمان. وبين هذين القطبين – قطب وعبد الرازق – نرى مفترق طرق حاسمًا في الفكر الإسلامي الحديث: أحدهما ينزع القداسة عن الدولة باسم الدين، والآخر يقدّس الدولة باعتبارها ذروة التديّن.
رؤيتان... وسؤالان متناقضان
يمكن القول إن علي عبد الرازق وسيد قطب قدّما رؤيتين متناقضتين جذريًا لموقع الإسلام من السلطة السياسية. فكل منهما طرح إجابة على سؤال ظل يؤرق الفكر الإسلامي الحديث: هل الإسلام دين يُكتفى بمبادئه الأخلاقية والروحية، أم هو أيضًا مشروع سياسي وسلطة حاكمة؟ وبينما قدّم عبد الرازق إجابة تنزع الطابع السياسي عن الدين، رأى قطب أن الإسلام لا يكتمل إلا بتجسّده في دولة وسلطة ومنظومة حاكمة تطبّق الشريعة.
بالنسبة لعبد الرازق، لم يكن الإسلام في جوهره رسالة سياسية، بل دعوة دينية تُخاطب الضمير الفردي والأخلاق الإنسانية. وقد بنى موقفه هذا على قراءة عقلانية للتاريخ الإسلامي، مفادها أن النبي محمد لم يؤسس دولة بالمعنى السياسي، بل كانت قيادته ذات طبيعة دعوية واجتماعية. وبالتالي، فإن السلطة – في تصوّره – ليست جزءًا من العقيدة، وإنما اجتهاد بشري يخضع لظروف الزمان والمكان، ويمكن أن يأخذ أشكالًا متعددة وفق ما تقتضيه المصلحة العامة.
في المقابل، يرى سيد قطب أن الإسلام لا يمكن اختزاله في الشعائر والوعظ الروحي. فالدين، عنده، يحمل مشروعًا حضاريًا كاملاً يتضمن تصورات عن الاقتصاد والسياسة والقانون والتعليم، ولا يتحقق هذا المشروع إلا بإقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة. ومن هنا، تصبح السلطة ضرورة دينية، لا أداة دنيوية فحسب. بل إن قطب يذهب إلى أبعد من ذلك حين يعتبر أن الحكم بغير ما أنزل الله هو صورة من صور الكفر، وأن المجتمعات التي لا تطبّق الشريعة تعيش في جاهلية، مهما ادّعت الإسلام.
ما يجعل هذا التناقض أكثر وضوحًا هو أن كلًا من الرجلين كان ابن لحظته التاريخية. عبد الرازق كتب كتابه في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية، في زمن كانت فيه النخب العربية – خاصة في مصر – تبحث عن شرعية جديدة للدولة الوطنية الحديثة، الدولة المدنية التي تفصل بين الدين والسياسة وتقوم على المواطنة. كان السياق الفكري العام أقرب إلى الليبرالية الدستورية منه إلى الانغلاق الديني، وهذا ما أتاح لعبد الرازق أن يتجرأ على تفكيك مفهوم الخلافة وتقديم تصور مدني للإسلام.
أما قطب، فقد تبلورت أفكاره في ظل تجربة مختلفة تمامًا، حيث عايش حقبة القمع السياسي والانقلابات العسكرية، خاصة بعد صدام الإخوان مع نظام عبد الناصر. هذه الظروف جعلت قطب يرى الدولة الوطنية الحديثة – كما تجسّدت في مصر الناصرية – كأداة للبطش والعلمنة والإفساد، مما دفعه إلى ارتداد فكري نحو تصور مثالي وثوري للإسلام، بوصفه المنقذ من هذا الانحطاط. من هنا جاء تحوله إلى خطاب "الطليعة المؤمنة"، و"الجاهلية"، و"الحاكمية"، حيث لا مجال للتسويات أو الإصلاح التدريجي، بل لا بد من انقلاب شامل على النظام القائم باسم الدين.
في المحصلة، يقدّم عبد الرازق وقطب صورتين نقيضتين للإسلام المعاصر: أحدهما يُخرج الدين من معترك السلطة ليحميه من التوظيف السياسي، والآخر يُدخل الدين إلى عمق السلطة ليجعلها أداة لتحقيق "المجتمع المسلم". أحدهما يراهن على العقل والاجتهاد، والآخر يراهن على الطليعة والمواجهة. وبين هذين التصورين، لا يكمن فقط خلاف على طبيعة الحكم، بل أيضًا على معنى الإسلام ذاته: هل هو دعوة فردية أخلاقية، أم منظومة شاملة لا تتحقق إلا بالسلطة؟
أي الرؤيتين بقيت؟ وأيّهما انتصر؟
رغم محاكمة علي عبد الرازق وطرده من الأزهر عقب نشر كتابه الإسلام وأصول الحكم، فإن التاريخ أنصفه على المدى الطويل. فقد كانت فكرته الجوهرية – أن الإسلام لا يفرض شكلًا محددًا للحكم، وأن الدولة كيان مدني لا ديني – بمثابة بذرة مبكرة لنموذج الدولة الوطنية الحديثة في العالم الإسلامي. ومع مرور العقود، ساد هذا النموذج في أغلب الدول الإسلامية، التي تبنت دساتير مدنية، وقوانين وضعية، وفصلًا نسبيًا – ولو متذبذبًا – بين المؤسسة الدينية والسلطة التنفيذية.
انحسر خطاب الخلافة تدريجيًا، ولم يعد مطلبًا شعبيًا أو نخبويًا إلا في أوساط جماعات الإسلام السياسي. الدولة الحديثة – بحدودها القُطرية، ومؤسساتها، وقوانينها – أصبحت هي الإطار الطبيعي للحكم في أغلب الدول العربية والإسلامية، حتى وإن لم تخلُ من استبداد أو فساد. في هذا المعنى، يمكن القول إن عبد الرازق لم ينتصر فقط في معركة الأفكار، بل أصبح أحد رواد تأسيس التصور العربي المعاصر للدولة.
لكن على الجانب الآخر، فإن سيد قطب – رغم إعدامه عام 1966 – ترك إرثًا ضخمًا من الأفكار التي أثّرت بعمق في الحركات الإسلامية الراديكالية. كتبه، وعلى رأسها معالم في الطريق، أصبحت بمثابة "دليل أيديولوجي" لجماعات كالإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية، والقاعدة، ثم داعش. فقد وفّر قطب لهذه الجماعات مبررات عقدية لتكفير الدولة الوطنية، ورفض الديمقراطية، واعتبار المجتمعات الإسلامية "جاهلية" ما لم تحكم بالشريعة.
بهذا المعنى، انتصرت رؤية عبد الرازق على مستوى الدولة والنظام، بينما انتصرت رؤية سيد قطب على مستوى الحركات والتنظيمات التي رفضت هذا النظام. فالدولة التي تأسست على التصور الوطني المدني غالبًا ما وجدت نفسها في صدام مع جماعات تحمل تصورًا قطبيًا، يعتبرها طاغوتًا يجب تغييره، لا التعايش معه. وهذا التوتر لا يزال قائمًا حتى اللحظة، بل هو أحد أبرز مصادر الصراع الداخلي في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
ولعل المفارقة الأهم أن كلا التصورين لا يزال حاضرًا في النقاش العام، بل ويُستدعى في كل لحظة يُطرح فيها سؤال: ما موقع الشريعة من الدستور؟ ما حدود سلطة العلماء؟ هل السيادة للشعب أم لله؟ في كل مرة يُثار فيها الجدل حول علاقة الدين بالسياسة، نجد أنفسنا – من حيث لا نشعر – نعود إلى ساحة الصراع بين عبد الرازق وقطب، بين من رأى في الدولة خطرًا على الدين، ومن رأى في الدولة أداة لتحقيق الدين.
إنه صراع لا يمكن اختزاله في الماضي، لأنه لا يزال يصوغ الحاضر ويؤثر في المستقبل. وبين من يُطالب بفصل تام بين الدين والسياسة، ومن يُطالب بإخضاع السياسة للشريعة، يظل الإرث الفكري لكل من عبد الرازق وقطب فاعلًا، يمدّ النقاشات المعاصرة بمرجعيات متناقضة، ويذكّرنا بأن معركة التأويل الديني ليست فقط قضية فكرية، بل قضية وجودية تمس طبيعة الدولة، وهوية المجتمع، ومصير الأفراد.
في الختام
في نهاية المطاف، لم يكن الصراع بين علي عبد الرازق وسيد قطب مجرد خلاف بين فقيه تقليدي ومفكر أصولي، ولا حتى نزاعًا فكريًا عابرًا حول شكل الدولة أو موقع الشريعة، بل كان – ولا يزال – صراعًا أعمق على روح الإسلام نفسه. هل هو دين يُخاطب ضمير الفرد ويحثه على الأخلاق والعبادة؟ أم مشروع شامل يراد له أن يتحكم في السياسة والمجتمع والمؤسسات، بل والعالم بأسره؟ هذا هو جوهر التباين بين الرجلين.
عبد الرازق، في سياق سقوط الخلافة وبداية تشكل الدولة الوطنية، أراد أن يحرر الدين من قبضة السلطة، وأن يُبقي الإيمان شأنًا فرديًا وأخلاقيًا، لا مرجعية سياسية ولا أداة حكم. أما قطب، الذي عاش زمن القمع والصراع بين الإسلاميين والدولة، فقد اختار أن يحوّل الإسلام إلى برنامج شمولي، يرى في الدولة أداته، وفي الشريعة غايته، وفي الجهاد وسيلته. من هنا، تجاوزت رؤيته حدود الدعوة إلى الإصلاح، لتصير مشروعًا للتغيير الجذري بالعنف المقدس.
لقد مضى قرن على صدور الإسلام وأصول الحكم، وأكثر من نصف قرن على إعدام سيد قطب، لكن السؤال الذي طرحه كل منهما لا يزال معلقًا في هواء العالم الإسلامي: كيف نفهم الإسلام؟ هل نحصره في العلاقة بين الإنسان وربه، أم نمدّه ليشمل الدولة والسيف والحكم؟ وبين هذين الخيارين، تتوزع النخب، وتنقسم المجتمعات، وتتصارع القوى السياسية في أغلب دول المنطقة.
والأخطر أن هذا الصراع لم يبقَ أكاديميًا أو نظريًا، بل صار صراعًا دمويًا في أحيان كثيرة. فالدولة التي تبنت النموذج الوطني، تجد نفسها في معركة وجودية مع جماعات تشربت فكر قطب، وتراها طاغوتًا يجب إزالته. والمجتمعات التي تطمح إلى الحداثة والاستقرار، تُبتلى بصراعات داخلية حول "الهوية" و"المرجعية" و"الحاكمية". وبين من يريد إنقاذ الدين من استغلال السلطة، ومن يريد استغلال السلطة باسم الدين، تظل الأمة تتأرجح، تبحث عن توازن مفقود بين المقدس والمدني، بين الإيمان والحكم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الحركات الإسلامية
منذ 2 ساعات
- الحركات الإسلامية
النص الكامل لتقرير مجلس الدفاع والأمن القومي الفرنسي حول مؤامرة جماعة الإخوان
ترأس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أمس الأربعاء، في قصر الإليزيه، اجتماعًا لمجلسي الدفاع والأمن القومي، لبحث توسع حركات الإسلام السياسي بفرنسا، وملف حركة جماعة الإخوان المسلمين. عقد هذا الاجتماع عقب صدور تقرير حصلت" البوابة نيوز" على النص الرسمي له، أعده مسئولان رسميان رفيعا المستوى، بطلب من الحكومة الفرنسية، وخلص إلى أن جماعة الإخوان تشكل تهديدا للتلاحم الوطني. شارك في الاجتماع كل من رئيس الحكومة، فرانسوا بايرو، ووزراء الداخلية، والخارجية، والاقتصاد والمالية، والتربية الوطنية، والتعليم العالي، والرياضة، حيث أن القطاعات الثلاثة الأخيرة "مستهدفة بشكل خاص من قبل هذا التدخل من الأسفل"، كما جاء في بيان قصر الإليزيه. وقال الإليزيه: "نحن جميعا متفقون تمامًا على أننا لا ينبغي أن نضع جميع المسلمين في خانة واحدة، لأننا نحارب الإسلاموية وتجاوزاتها المتطرفة، ولا نحارب الإسلام فى ذاته". وقال مستشارون للرئيس: إن ماكرون أراد اتخاذ إجراءات بأسرع وقت ممكن لمواجهة ظاهرة متجذرة تزايدت مؤخرًا، مشيرين إلى الخطر الذي يشكله تنظيم الإخوان المسلمين على الأمن القومي الفرنسي، ولم يعلن حتى الآن توصيات الاجتماع، مع احتمال تصنيف بعض الإجراءات كمعلومات سرية. وخلص التقرير الذي أعده مسئولان رسميان رفيعا المستوى، بطلب من الحكومة الفرنسية، إلى أن الجماعة تشكل تهديدا للتلاحم الوطني، مع تنامي تشدد إسلامي من القاعدة على المستوى البلدي، صعودًا إلى قمة المجتمع وفق الوثيقة. وانفردت "البوابة نيوز" بنشر التفاصيل الكاملة لهذا التقرير حول مؤامرة جماعة الإخوان على فرنسا. وتعتمد جماعة الإخوان المسلمين في بلدانها المختلفة على دوائر متحدة المركز، ويتكون مركزها من "دائرة داخلية" من الناشطين الملتزمين. ومن المحتمل جدًا وجود هذه المنظمة في فرنسا، نظرًا لوجودها في كل مكان آخر في أوروبا. ويقال: إن عدد أعضائها لا يتجاوز بضع مئات، لكن حركة "الإخوان"، عندما نفهمها على نطاق أوسع، تشمل كل أولئك الذين يتبنون أساليب عملها، على اتصال بهذه "الدائرة الداخلية" أو مستوحاة منها، بأهداف مختلفة: إعادة الإسلام، أو الانفصال أو التخريب في بعض الأحيان، وكان الأمر يتعلق بتحديد الجهات الفاعلة والهياكل بما في ذلك الأقمار الصناعية ونطاق عمل وتأثير الإخوان المسلمين في فرنسا. طالع التقرير كاملًا باللغة العربية والفرنسية من


موقع كتابات
منذ يوم واحد
- موقع كتابات
الديانة الإبراهيمية… بين وهم التوحيد وحقيقة التفكيك العقائدي
الديانة الإبراهيمية…بين وهم التوحيد وحقيقة التفكيك العقائدي. إعداد: جلال عبد الحميد الحسناوي . 1 – الاتجاه الأول: الإسلام في القرآن… دين واحد لا يتعدد 2 – الاتجاه الثاني: مشروع الديانة الإبراهيمية… من التسامح إلى التفكيك 3 – التجاه الثالث: زيارة البابا للنجف الاشرف… بين التقدير الديني والتأويل السياسي 4 – الاتجاه الرابع: الإعلام والدين الإبراهيمي… من الترويج الناعم إلى التطبيع العقدي الاتجاه الأول: الإسلام في القرآن… دين واحد لا يتعدد. تمهيد: حينما نرجع إلى النص القرآني في أصل الدين، نجد خطابًا إلهيًا حاسمًا لا يحتمل التأويل: هذه الآيات لا تتحدث عن 'دين محمد' (صلى الله عليه وآله) فحسب، بل تُعرّف 'الإسلام' كدين إلهي واحد ممتد عبر التاريخ، بدأ مع آدمالنبي (ع) واكتمل مع النبي الخاتم محمد (ص) واله الطاهرين ، وتخلله أنبياء عظام كلهم خاطبوا أقوامهم بالإسلام، وإن اختلفت شرائعهم وتفاصيل مناهجهم. 1 – الإسلام لغة واصطلاحًا في القرآن. • الإسلام لغويًا: الاستسلام والطاعة والخضوع الكامل لله دون شرك. • الإسلام قرآنيًا: العقيدة التوحيدية التي حملها جميع الأنبياء، منذ النبي آدم إلى خاتمهم النبي الرسول محمد عليهم افضل الصلاة واتم التسليم. وقد نص القرآن على أن كل نبي دعا قومه إلى الإسلام بمعناه الأصيل، ومن ذلك: • إبراهيم (ع): • يعقوب وأبناؤه: • يوسف (ع): 'تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ' يوسف: 101 • سليمان (ع): 'وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ' النمل: 31 2 – موسى وعيسى عليهما السلام في ضوء القرآن أولًا: موسى (عليه السلام) • قال تعالى عن موسى وهو يخاطب قومه: • هذا التصريح ينسف المزاعم التي تفصل بين 'اليهودية' و'الإسلام'، فاليهودية شريعة نزلت ضمن دين الإسلام التوحيدي، لا خارجه. • قال تعالى على لسان موسى وإخوته: 'رَبَّنَا اجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ' البقرة: 128 ثانيًا: عيسى (عليه السلام) • قال تعالى: • وقال تعالى عن أتباع عيسى: • وبيّن صراحة أن عيسى لم يأتِ بدين منفصل، بل بشر بمن يختم الرسالة: الفيلسوف الشهيد السيد محمد باقر الصدر: 'الإسلام ليس لحظة تاريخية ظهرت في الجزيرة، بل هو استمرار رسالي متكامل، يرث كل الرسالات، ويُعبّر عن الحقيقة التي تجلت في كل الأنبياء.' المرجع الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر: 'كل الأنبياء كانوا مسلمين. والقرآن لا يقر بتعدد الأديان، بل بتعدد الشرائع ضمن دين واحد، هو الإسلام.' 4 – موقف علماء الفريقين. • ابن كثير (تفسير القرآن): فسر الإسلام في سياق الآيات بأنه دين جميع الأنبياء. • الفخر الرازي: أكد في تفسيره أن الإسلام يعني التوحيد والانقياد لله، وهو الأصل في كل الرسالات. • العلامة الطباطبائي (الميزان): قال إن الإسلام في القرآن اسم للدين الإلهي، لا لمرحلة منه. ظهر مصطلح 'الديانة الإبراهيمية' في العقد الأخير كدعوة ظاهرها السلام، وباطنها إعادة تشكيل البنية العقدية للشعوب تحت شعار 'الوحدة الروحية بين أتباع إبراهيم'. لكنّ القراءة الدقيقة لمسار المشروع ومؤسساته تكشف عن مسعى صهيوني ناعم لإعادة هندسة الوعي الديني وفق مصالح سياسية وثقافية عالمية، تتزعمها قوى دولية تسعى لتفكيك الخصوصيات العقدية للأديان، ودمجها في قالب واحد يخدم الهيمنة الغربية، والتطبيع مع الكيان الصهيوني. 1.1 وثيقة 'الأخوة الإنسانية' (أبو ظبي، 2019) شملت دعوات عامة للتسامح، لكنها افتقدت لأي تحديد عقدي واضح، وهو ما مهد لاحقًا لتوسيع المفهوم نحو فكرة 'الديانة الإبراهيمية' بوصفها مرجعية جامعة بين الإسلام واليهودية والمسيحية. 1.2 مشروع 'بيت العائلة الإبراهيمية' (افتتاح 2023) في جزيرة السعديات – أبو ظبي. مجمّع يضم مسجدًا، وكنيسة، وكنيسًا يهوديًا في موقع واحد، ويُروج له باعتباره 'رمزًا لوحدة الأديان'. اتفاقات تطبيع بين الإمارات والبحرين والمغرب والسودان مع الكيان الصهيوني، تحت غطاء 'السلام الإبراهيمي'، في إشارة مباشرة إلى البعد الديني في الترويج للتطبيع. 2 – ما وراء التسمية: لماذا 'إبراهيم'؟ • إبراهيم (عليه السلام) في القرآن رمز للتوحيد الخالص والبراءة من الشرك: • أما المشروع الحديث فيقدّمه كمجرد شخصية ثقافية جامعة، بلا محتوى عقدي، ولا موقف من الظلم أو الانحراف، بل كـ'رمز سلام وتسامح عالمي'. • وهنا يُفرّغ إبراهيم من رسالته، ويُعاد إنتاجه بما يناسب الأجندة الجديدة. 3.1 التمهيد النظري من الفكر الصهيوني • الحركة الصهيونية منذ نشأتها تبنت فكرة 'العدو الديني' لخلق حاجز نفسي وعقدي ضد العرب والمسلمين، لكنها عادت اليوم لتروّج لفكرة 'الوحدة الإبراهيمية' بعد أن تحقق لها النفوذ السياسي والعسكري. 'الصهيونية ليست مجرد دعوة للعودة إلى أرض، بل هي مشروع لتأسيس نمط عالمي جديد من الإنسان المنفصل عن عقيدته، المتصالح مع السيطرة الإمبريالية.' • إعادة تشكيل الدين عنصر أساسي في هذا النمط، بما يحقق: • دمج الصهاينة كجزء من الأسرة الروحية. • تمييع العداوة العقدية مع المحتل. • نزع سلاح المقاومة والثقافة الإسلامية. 3.2 الأدوات المستخدمة: • الإعلام الموجه: عبر الأفلام، والبرامج، والكتب المدرسية. • المؤسسات الدينية الرسمية: التي تُجرّ إلى خطاب 'السلام'. • الفعاليات الثقافية: مؤتمرات حوار الأديان، منصات التفاهم، إلخ. 4. الشهيدين الصدرين: وتحليل البنية الغربية للمشروع المفكر الفيلسوف السيد محمد باقر الصدر قال: 'الدين عند الغرب يُعاد تركيبه بحسب الحاجة السياسية، ولهذا فإن ما يقدمونه من دعوات للتوحيد ليست إلا وسائل للسيطرة، لا بحثًا عن الحق.' (من كتاب الإسلام يقود الحياة) 'ما يُطرح اليوم من دعوات لتوحيد الأديان، ليست في حقيقتها إلا تنصلًا من جوهر الإسلام، وتحريفًا لطبيعة الصراع بين الحق والباطل.' (في بحث فقه الدولة الإسلامية) 5 – نقد علمي للفكرة: هل الدين قابل للتوحيد؟ • لا يمكن توحيد الأديان لأن: • العقائد الأساسية تختلف (التوحيد، النبوة، المعاد…). • الشريعة ليست اجتهادًا بشريًا بل وحيًا. • الإسلام جاء مهيمنًا وخاتمًا لا مندمجًا أو مكمّلًا. • قال تعالى: خلاصة الاتجاه: مشروع 'الديانة الإبراهيمية' هو أداة هندسة دينية ناعمة، تهدف إلى سحب البعد الجهادي والمقاوم من الإسلام، وإعادة تعريف الدين بوصفه ثقافة مشتركة لا عقيدة ربانية. الاتجاه الثالث: زيارة البابا للنجف الاشرف… بين التقدير الديني والتأويل السياسي في السادس من آذار 2021، قام البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية، بزيارة إلى مدينة النجف الأشرف للقاء السيد السيستاني دام عزه ، المرجع الأعلى للطائفة الشيعية الإمامية. الحدث كان غير مسبوق، لا من حيث رمزيته، ولا من حيث توقيته، ولا من حيث ما تبعَه من تأويلات إعلامية وسياسية حاولت استثمار اللقاء ضمن سياق مشروع الديانة الإبراهيمية. ولئن كان اللقاء مغلقًا، ولم تُلتقط فيه صور، ولم يُصدر عنه بيان مشترك، إلا أن ذلك لم يمنع محاولات التوظيف المتكررة له كدليل ضمني على انخراط المرجعية في مسار 'التقارب الديني العالمي'. • جاءت الزيارة بعد عامين من توقيع ('وثيقة الأخوة الإنسانية' في أبو ظبي (2019. • بعد أشهر من إعلان ('اتفاقيات أبراهام' (2020. • وقبل افتتاح ('بيت العائلة الإبراهيمية' (2023. أي أن الزيارة وقعت ضمن تسلسل زمني يتم فيه دمج الدين داخل المسار السياسي للتطبيع، وإعادة صياغة علاقة الإسلام بالغرب واليهودية. 2 – موقف المرجعية: صمت محسوب لا مباركة ضمنية البيان الذي صدر عن مكتب السيد السيستاني بعد اللقاء لم يتطرق إلى المشروع الإبراهيمي، ولم يُلمّح إلى أي تبنٍّ لمسارات الوحدة الدينية، بل جاء بصيغة تؤكد على: • . • حق الشعوب في العيش بسلام. • رفض الظلم والاعتداء. • دعوة رجال الدين للوقوف بوجه قوى الطغيان. لم يُذكر 'التسامح بين الأديان' ولا 'الوحدة الروحية' ولا 'الأسرة الإبراهيمية' في البيان مطلقًا. وهذا يُعدّ موقفًا فاصلًا، حافظت فيه المرجعية على توازنها: • لم ترفض الزيارة، كي لا تُستغل ضدها دوليًا. • ولم تشارك بمخرجاتها الرمزية، حتى لا تُحسب على مسار لا تنتمي إليه عقديًا. ما يجعل الموقف أكثر حساسية هو أن البابا نفسه قد توفي ، مما قد يفتح الباب أمام: • إصدار وثائق لاحقة ينسب فيها تأييدٌ ضمني للمرجعية لهذا المشروع. • قيام منظمات أو جهات دينية أو إعلامية بتحريف نوايا الزيارة. • توظيف الزيارة في إنتاج سرديات دعائية تقول: 'حتى مرجعية النجف رحّبت بمشروع الأخوة الإبراهيمية'. غياب الصوت المؤسسي الإعلامي الفاعل في الحوزة يضاعف هذا الخطر، ويجعل المرجعية عرضة لاستخدام صورتها دون إذنها. 4 – ماذا أرادت المرجعية؟ وماذا أراد الآخرون؟ • المرجعية أرادت: اللقاء الإنساني والتعبير عن المظلومية الأخلاقية للشعوب. • البابا أراد: خطابًا رمزيًا يُسهم في مشروعه العالمي للتقارب الديني. وهنا يُفهم ويستنتج : 'الاستقبال كان خطأ، لكن عدم الاستقبال يكون خطأ أكبر'. إنها معادلة الصمت النشط: قول لا يُقال، لكن يُفهم. 5 – قراءة الشهيدين الصدرين للحدث وأمثاله. المفكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر: 'حين تكون الرمزية الدينية أداةً في يد الإعلام، فذلك مدخل لتشويه العقيدة. المرجعية ليست مؤسسة مجاملة، بل حارسٌ للخط الإلهي.' (من أوراق غير منشورة في فكر الدولة ) المرجع السيد الشهيد محمد الصدر: 'يجب أن تكون المرجعية فوق الإعلام، لكنها لا يجب أن تُترك للإعلام. بين الصمت والانفعال، هناك شيء اسمه البيان الواعي.' (ما وراء الفقه) زيارة البابا للنجف لم تكن تأييدًا، ولا كانت عُزوفًا. كانت حدثًا دقيقًا توازن فيه المرجعية بين الحاجة الإنسانية والوعي العقدي. لكن الخطر الحقيقي يكمن في أن يُعاد تأويل الحدث خارج سياقه، فيُبنى عليه ما لم يقله أحد، ويُقوَّل المرجع ما لم ينطق به، ما لم تنهض منظومة إعلامية مرجعية واعية تسد هذه الفجوة. في عالم اليوم، لم يعد الدين يُتداول فقط في الحوزات، والكنائس، والمعاهد، بل صار أيضًا موضوعًا لصناعة الصورة، وميدانًا لتشكيل الرأي العام. وهنا يدخل مشروع 'الديانة الإبراهيمية' من أوسع أبوابه، لا كدعوة دينية، بل كـ'رواية إعلامية ضخمة' مدعومة من مؤسسات سياسية، ومنصات دولية، ومراكز تمويل ضخمة. ولأن الإعلام لا ينقل الحقيقة كما هي، بل يُعيد صناعتها، فإن أكبر خطر يواجه الأمة اليوم هو أن تُفرض عليها عقيدة جديدة بصيغة إعلامية مُجمّلة، تتسلل من باب 'التسامح'، لتصل إلى 'إعادة تعريف الإسلام'. • إبراهيم (ع) يُقدَّم في الإعلام الغربي والعربي المؤدلج لا كنبيٍ موحّد لله، بل كـ'رمز عالمي للتسامح'، منزوع الموقف من الشرك أو الطاغوت. • المرجعيات الدينية تُختزل في 'لقطات' وصور دعائية، لا في خطابها العقدي الفعلي. • تسويق المصطلحات: 'الأخوة الإبراهيمية'، 'بيت العائلة'، 'السلام الديني'، 'الأسرة الإبراهيمية'. • استخدام المؤثرين، وصنّاع المحتوى، وبرامج الأطفال، والدراما. 1.3 تمرير التطبيع عبر الفضاء الديني • من خلال إبراز رجال دين يقفون مع ممثلي الديانة اليهودية والصهيونية تحت شعار: 'كلنا أبناء إبراهيم'. • استثمار ذلك لإضعاف الممانعة العقائدية تجاه الاحتلال، وشرعنة الصمت عن الجرائم. 2 – الإعلام المرجعي الديني … الغائب الأكبر رغم عمق الحوزة، والازهر وقوة الموقف الفقهي، إلا أن المرجعيات الدينيةالكبرى في النجف الاشرف وايران ومصر وباقي المدن التي فيها الجامعات الدينية الكبرى لم تبنِ حتى الآن جهازًا إعلاميًا استراتيجيًا قادرًا على: • التحليل الاستباقي للأحداث. • تفنيد التأويلات الملفقة. • الرد على الحملات الممنهجة. • تصدير فكرها للعالم بلغاته وقوالبه العصرية. وهذا ما جعل زيارة البابا – رغم حكمتها – قابلة للاختطاف السردي من الإعلام العالمي، دون رواية موازية من داخل النجف الاشرف تفكك ذلك بلغة العصر. 'المعركة الفكرية ليست في المنابر فقط، بل في من يكتب القصة ومن يصوغ الخبر ومن يُنتج الصورة. إن الإعلام الرسالي هو من يسبق الطاغوت، لا من يرد عليه فقط.' 'من لا يملك إعلامه، سوف يُقال عنه ما لا يقول، ويُقوّل ما لم يُرد، ويُنسَب إليه ما ينفيه. على الحوزة أن تملك لسانًا عصريًا، لا لتمجيد نفسها، بل لحماية الإسلام.' 5 – الحل المقترح: بناء جهاز إعلامي مرجعي متكامل الخصائص المطلوبة: • يكون ناطقًا باسم المرجعية، لا تابعًا لها إداريًا. • يضم باحثين، فقهاء، إعلاميين، ومحللين استراتيجيين. • يتحدث بلغات متعددة. • يرصد ويرد ويؤسس رواية معرفية مستقلة. المهام: • حماية صورة المرجعية من الاختطاف. • إنتاج محتوى يُعبّر عن العقيدة بلغة العصر. • مواجهة السرديات الغربية حول الدين. المعركة اليوم لم تعد في المساجد فقط، بل في الشاشات، والمواقع، والعناوين. وإذا لم يصدر عن المرجعية خطاب إعلامي رسالي استباقي، فإن غيرها سيكتب عنها كما يشاء، ويُقوّلها ما لم تقل، ويستثمر صورتها فيما لا تمثّله. 'الحق لا يُوحِّده التلفيق، والباطل لا يُغسله التجميل' خلاصة البحث: على امتداد الاتجاهات ، تتبعنا خطى مشروع 'الديانة الإبراهيمية' من نشأته الحديثة إلى جذوره السياسية والفكرية، وانتهينا إلى ما يلي: 1 – الدين في القرآن واحد، لا يقبل التعدد ولا التلفيق، وقد نطقت به كل الرسالات السماوية منذ آدم حتى محمد (ص) واله الطاهرين ، تحت اسم الإسلام. 2 – الأنبياء جميعًا مسلمون، بما فيهم موسى وعيسى، وكلشرائعهم كانت مندرجة في إطار دين الله الواحد وهو الاسلام. 4 – المشروع يحمل بصمات الفكر الصهيوني العالمي، الذي يتقن استخدام الدين لإعادة تشكيل الواقع الثقافي والعقدي للأمم، ضمن هندسة فكرية جديدة. 5 – زيارة البابا للنجف كانت نقطة ارتكاز وظّفها الإعلام العالمي ضمن سردية الإبراهيمية، رغم أن المرجعية كانت على وعي بالمخاطر، وامتنعت عن إصدار أي بيان مشترك أو موقف يُفسر كتبرير عقائدي للمشروع. 6 – غياب جهاز إعلامي مرجعي متكامل. أولًا: على الصعيد العقدي • ضرورة التأكيد على وحدة الدين في الخطاب الإسلامي، ونقض أي دعوة تدّعي إمكان الجمع العقائدي بين الرسالات ككيانات متساوية. • نشر الأدلة القرآنية والروائية التي تبرهن أن الإسلام هو دين جميع الأنبياء، لا دينًا جديدًا بدأ بمحمد (ص) واله. • يتولى شرح المواقف. • يفند التأويلات المغرضة. • يصدر بيانات توضيحية بلغة عالمية. ثالثًا: على صعيد الأمة والمثقفين • نشر الوعي بمشروع الديانة الإبراهيمية وبيان ارتباطه بالتطبيع، وتفكيك الخطاب الإعلامي الذي يُروّج له. • دعم الأصوات الفكرية والعقدية الحرة التي تحافظ على هوية الأمة دون الانجرار إلى 'وحدة زائفة' تُبنى على التنازل عن الثوابت. نبي الله إبراهيم ع ، لم يكن جامعًا بين الحق والباطل، بل كان نقطة الفصل بين التوحيد والشرك، و'الديانة الإبراهيمية' الحديثة ليست إلا .


الزمان
منذ يوم واحد
- الزمان
ماكرون يرأس اجتماعا بشأن تهديد جماعة الإخوان المسلمين
باريس (أ ف ب) – ترأّس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأربعاء اجتماعا أمنيا بعد نشر تقرير يحذّر من جماعة الإخوان المسلمين وانتشار 'الإسلام السياسي' في فرنسا. وناقش الاجتماع الذي شارك فيه رئيس الحكومة وأهم الوزراء، تقريرا يدعو إلى التحرّك للتعامل مع مسألة تزايد نفوذ الجماعة التي اعتبر أنها تشكّل تهديدا 'للتماسك الوطني' في فرنسا. وبعد الاجتماع، ستتخذ إجراءات 'سيتم الإعلان عن بعضها' فيما ستبقى الأخرى سريّة، بحسب قصر الإليزيه. وأعد التقرير بشأن الجماعة التي تأسست في مصر عام 1928 موظفان رسميان رفيعان بتكليف من الحكومة. وقال الإليزيه إن التقرير 'يحدد بوضوح الطبيعة المناهضة للجمهورية والتخريبية لـ+الإخوان المسلمين+' ويقترح 'طرقا للتعامل مع هذا التهديد'. وتضم كل من فرنسا وألمانيا أكبر نسبة من المسلمين مقارنة مع باقي بلدان الاتحاد الأوروبي. تسعى السلطات الفرنسية لمنع أي انتشار للفكر الإسلامي المتشدد في بلد هزّته سلسلة هجمات جهادية دموية. باتت مسألة التطرف الديني قضية جدلية في ظل تحوّل المشهد السياسي في فرنسا وازدياد شعبية اليمين المتشدد. وأثار التقرير ردود فعل حادة إذ اتّهمت زعيمة اليمين المتشدد مارين لوبن الحكومة بعدم التحرك، قائلة على منصة 'إكس' إنها لطالما اقترحت إجراءات 'للقضاء على الأصولية الإسلامية'. من جانبه، قال رئيس حزبها 'التجمع الوطني' جوردان بارديلا عبر إذاعة 'فرانس إنتر' 'إذا وصلنا إلى السلطة غدا، فسنحظر +الإخوان المسلمين+'. لكن البعض دانوا ما يقولون إنه تزايد رهاب الإسلام في فرنسا. وقال اليساري المتشدد جان لوك ميلانشون على منصة 'إكس' إن 'رهاب الإسلام تجاوز الحد'. واعتبر أن اجتماع 'مجلس الدفاع' الذي ترأسه ماكرون يدعم 'النظريات الوهمية' للوبن ووزير الداخلية الفرنسي المتشدد برونو روتايو. وأشار التقرير الذي حصلت فرانس برس على نسخة منه إلى تفشي الإسلام السياسي 'من الأسفل إلى الأعلى'، مضيفا أن الظاهرة تمثّل 'تهديدا على الأمدين القصير إلى المتوسط'. وأكدت الرئاسة الفرنسية في الوقت ذاته 'نحن متفقون تماما في قولنا إن علينا ألا نعمم في التعامل مع المسلمين'. وأضافت 'نقاتل ضد الإسلام السياسي وتجاوزاته المتطرفة'. وركّز التقرير على دور 'اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا' والذي وصفه بأنه 'الفرع الوطني لـ+الأخوان المسلمين+ في فرنسا'. – 'هدف خفي وتخريبي' – من جانبه، ندد 'اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا' بـ'الاتهامات التي لا أساس لها' وحذّر من الخلط 'الخطير' بين الإسلام والتطرف. وقال 'نرفض بشدة أي اتهامات تحاول ربطنا بمشروع سياسي خارجي'. وأضاف 'حتى الخلط غير المتعمد بين الإسلام والإسلام السياسي والراديكالية ليس خطيرا فحسب، بل يأتي بنتائج عكسية على الجمهورية نفسها'، محذّرا من 'وصم الإسلام والمسلمين'. وتابع أن 'الاتهام الدائم يشكّل العقول ويثير المخاوف وبكل أسف، يساهم في أعمال العنف'، مشيرا إلى حادثة مقتل المالي أبوبكر سيسيه (22 عاما) بطعنه عشرات المرات بينما كان يصلي داخل مسجد في جنوب فرنسا. وذكرت صحيفة 'لوفيغارو' المحافظة التي كانت أول وسيلة إعلامية تنشر مقتطفات من التقرير 'الصادم' الثلاثاء أن جماعة الإخوان المسلمين 'تسعى إلى إدخال الشريعة إلى فرنسا'. لكن التقرير أفاد بأن 'أي وثيقة لم تظهر مؤخرا رغبة المسلمين في فرنسا بتأسيس دولة إسلامية في فرنسا أو تطبيق قوانين الشريعة هناك'، لافتا مع ذلك إلى أن التهديد حقيقي. وقال التقرير 'لا نتعامل مع حالة انفصالية عدائية' بل مع 'هدف خفي.. ولكنه تخريبي للمؤسسات'. واقترح حزب ماكرون منع القاصرات دون الخامسة عشرة من ارتداء الحجاب الذي اعتبر أنه 'يقوّض بشكل خطير المساواة بين الجنسين وحماية الأطفال'. كما يسعى الحزب إلى 'تجريم أولياء الأمور الذين يجبرون بناتهم دون السن القانونية على وضع الحجاب، بتهمة الإكراه'. وعام 2023، منعت فرنسا طالبات المدارس الحكومية من ارتداء العباءة.