أحدث الأخبار مع #وضاحعبدالباريطاهر


إيطاليا تلغراف
منذ 21 ساعات
- ترفيه
- إيطاليا تلغراف
أوسع من شارع، أضيق من جينز!
إيطاليا تلغراف نشر في 20 مايو 2025 الساعة 15 و 01 دقيقة إيطاليا تلغراف وضاح عبد الباري طاهر عرفت الأخ العزيز الروائي وليد دماج منذ العام 2007 كان حينها يعمل مديرًا للصندوق التنفيذي بوزارة الثقافة، وذهبت حينها لاستلام مستحقات بيع كتابي «ضحايا المؤرخين»، ثَمَّ توثقت علاقتنا أثناء عملي بوزارة الثقافة مديرًا عامًا لتحقيق المخطوطات. وفي زيارة له في بعض الشئون المتعلقة بالعمل، وأثناء حديثنا قال لي في سياقٍ ما: نحن أهل. وصدق الأخ وليد، فأنا فيما أذكر ولا أزال أختزنه وأعيه من ذاكرة الطفولة الأولى هو الوالد العزيز الأستاذ أحمد قاسم دماج، والأستاذ محمد لطف غالب، والفنان المسرحي الفلسطيني حسين الأسمر، والعم هلال عبد الله الذي كان يعمل بمركز الدراسات، ثم جن وتم تعذيبه من قبل الأمن أيام صالح لاشتباههم به، والوالد العزيز الأستاذ منصور الحاج، والعم العزيز الشاعر إسماعيل الوريث، ثم الوالد العزيز الأستاذ محمود الصغيري الذي كان حينها مستقرًا في دمشق ولم أعرفه إلا هناك أثناء زيارتنا للوالد. أمَّا أسرته العزيزة، فَمِنْ قبل: والدته الجدة الطيبة آمنة، وإخوته: أحمد، ومحمد، وخديجة، فهم وأسرة العم أبو القصب الشلال، وبيت غليون، وعلى رأسهم الخالة العزيزة المناضلة الوفية أفراح غليون، وأسرة العم منصور الحاج عشنا معهم كلهم كأسرة واحدة. أنا لم أقرأ شيئًا يذكر عن تاريخ الحركة الوطنية ولا اليسار، ولا الرجعية ولا التقدمية. ويعلم الله أني طيلة فترة عمري كله، وأنا أعرف العم أحمد قاسم في بيتنا، أو في دار الكتاب، أو اتحاد الأدباء والكتاب- لا أدري مطلقًا أنه كان يساريًا أو أنه حتى ينتمي للحزب الاشتراكي؛ لعدم اهتمامي بهذه القضايا مطلقًا، والتي لا تعنيني في قليلٍ أو كثير، لكني كنت أحمل تقديرًا كبيرًا في نفسي للعم أحمد. هكذا الأمر وبكل بساطة وتلقائية؛ فإني حين كنت أقابله تنفذ إلى قلبي أسِّرَة وجِههِ المشرق البشوش، ويلامس أعماقي ترحيبه الدافئ وابتسامته المحبة. فقط كانت الفطرة والإحساس الداخلي هي ما تشعرني بهذه المحبة والتقدير الكبير للعم أحمد، ولم أكن بحاجة لأعرف سجل العم أحمد النضالي -وهو عظيم ومشرف بلا شك- حتى أشعر في قرارة نفسي كم هو كبير ورائع ومحترم. وممن عرفته أخوه العم الدكتور المثقف والشاعر عبد الكريم دماج؛ وهو قامة علمية كبيرة، ومثال يحتذي به أبناء هذا الجيل. ومن أبناء العم أحمد قاسم الأستاذ مروان دماج- رئيس تحرير سابق لصحيفة «الثوري»؛ عرفته حين كنت أنشر بعض مقالاتي بها، وهو شخص على جانب من التهذيب والخلق الرفيع، وكذلك الأخ الزميل إياد دماج شخص عرفته في قمة اللياقة والأدب. أمًا الأستاذ الوالد الروائي والقاص الكبير مطيع دماج، فعرفته مرة واحدة في حياتي في تسعينات القرن الماضي، وهو يرقد في مستشفى الكويت، وربما كان مرضه الأخير الذي مات عقبه. كنت حينها في زيارة لصديق الطفولة نشأت بدا الذي مات شابًا بالسرطان، وعرفت بطريقةٍ ما أنَّ العم يرقد في غرفة أخرى بجواره، فقمت بزيارته والسلام عليه. وابنه الدكتور همدان دماج- نائب رئيس مركز الدراسات والبحوث، على غاية من النبل والعلم والذكاء وحسن الخلق. أمَّا الشخص العزيز الذي لا تنسى أحاديثه ولا نكته ولا قفشاته، فهو العم أمين مانع دماج- مدير شئون الموظفين بمركز الدارسات والبحوث. كان شخصية عجيبة ومدهشة ومرحة جدير بأن يكتب عنها. كان العم أمين صاحب روح نقية محبة للناس والحياة. عاش حياته بِخَّفة وسلام حتى توفاه الله، وكان ابنه مصطفى أحد أصدقائي نجلس معًا للمقيل في بعض الأوقات في منزلنا مع الخال يحيى عتيق ومحمد عتيق، وغيرهم من زملاء المركز. وعلى هذا النسيج، كان وليد دماج -كسائر أسرته الكريمة آل دماج- على غاية من الخلق والأدب والثقافة، وكان تركه للعمل الإداري أنفع له وأبرز لمواهبه المكنونة. فهو، و في فترة وجيزة، حقق حضورًا ثقافيًّا وأدبيًا لافتًا، وأنجز في مجال السرد روايات متعددة كرواية «وقش»، و«رواية الجفر»، وغيرهما، وكأنه -رحمه الله- شعر بقرب رحيله؛ فأراد أن يترك في سجل تاريخه أثرًا مضيئًا يدل على شخصيته المتميزة والفذة. حين مات الأخ وليد كنت أعمل في «منصة خيوط» الصحفية، وطلب مني الأخ رئيس التحرير: محمد عبد الوهاب الشيباني إعداد مادة تتعلق به. شرعت في العمل والبحث، واستعنت بالأخ الكريم الفاضل الأستاذ بلال قائد كونه أحد أصدقائه المقربين- بتزويدي بما يعرفه عنه، وقام مشكورًا بذلك، ورأيت قصيدةً في رثاء وليد كان كتبها الأخ أوس الإرياني في بعض المواقع على النت، وأعجبتني فضمنتها سيرته الذاتية، وأرسلتها للأخ محمد الشيباني، فطلب مني حذف ما كتبه الأخوان: بلال، وأوس، وإعادة إرسالها إليه، فقمت بذلك، وتَمَّ نشرها في منصة خيوط. وبعد أن خرجت من خيوط، وأنا في طريقي بجولة كنتاكي، رأيته، ولمَّا رآني ارتبك، ووجدته يقول لي: أنا استعنت بِكَ في مقالك الذي كتبته عن القاضي أحمد عبد الرحمن الآنسي في نافذة شدو بخيوط. ولمَّا عدت للبيت لأرى ماذا كتب، رأيته أخذ من مقالي الذي كتبته في موقع اليمني الأمريكي، عشرة أسطر كتبها عن الآنسي، ولم يشر إلى المصدر ولا الكاتب في قليلٍ ولا كثير. وحين أراد أن يكتب عن العلامة المفتي صاحب الأغنية الشهيرة «صنعا حوت كل فن»، وكنت حينها أعمل في خيوط، فبحث في النت عسى أن يجد ما يفيده للكتابة عنه، فوجد مقالاً لي بموقع اليمني الأمريكي، إلا أنه لم يتمكن من الوصول إليه كون الموقع كان محظورًا، فتواصل معي بالهاتف، وطلبَ مني إرساله له عن طريق الوتس لا البريد الالكتروني الخاص بالمنصة. وأنا أشهد شهادةً ألقى بها كُلَّ القُوى التقدمية والرجعية، وقوى التنوير والظلام، وتيارات اليمين واليسار والوسط، والإسلام السياسي، في هذا الوطن المعطاء بالمحتالين واللصوص والنصابين، وهذه شهادتي خالصة لجميع هذه القوى، يوم لا ينفع «جينز»، ولا «بنز»، وبين يدي كتاب «ماركس»، و«أنجلز»، وأنا في ساعتي هذه المباركة على جَنَابَة -وهذا طبعًا من حسن حظ محمد عبد الوهاب- أشهد أنَّ هذا الشخص لا يجيد شيئًا سوى: 1- اللصوصية. ولولا استعانته بالوالد في كتابته عن الدكتور أبي بكر السقاف وغيره ممن لا يعلمهم إلا الله، لحاص وباص في أمره، وما تقدم فِترًا واحدًا. فإنَّ هذا الشخص صاحب دعاوى كبيرة، وعقد أكبر من دعاواه التي ينتحلها، مع ضعف أخلاقي وأدبي، وغياب للوازع والضمير الإنساني. هذا وقد دله الوالد على كثير من المصادر والمراجع التي يستعين بها في عمله هذا؛ مثل ما كتبه الدكتور أحمد القصير، وما كتبه زميله وقريبه الدكتور محمد جعفر زين- أول رئيس لجامعة عدن في مذكراته. وكان قبل ذلك كلفني بالذهاب لمكتبة مركز الدراسات للبحث عن أي مادة قد تفيده في كتابته هذه. ولمَّا اجتمعنا في «منظمة مواطنة»، قمت بتقديم العمل الذي كلفني به أمام الزملاء، فأبدى امتعاضًا وانزعاجًا كون العمل يتعلق به شخصيًا، ولا صلة له بالعمل. وكان هذا الشخص قد طلب من الوالد مقالاً بعد تقلده لمنصة خيوط، ولمَّا طال الوقت، وتأخر صرف المستحق تأخرًا خارجًا عن حد العادة التي كانت أيام رئاسة الأخ لطف الصراري- قام الوالد بتذكيره، فقال له: إنَّ المقال غير مدفوع القيمة، ولمَّا وبخه الوالد، وأنَّه ما أرسله ليسَ إلا بناءً على طلبه؛ فقامَ صاغرًا بصرف المستحق. 2- التقاط الصور مع المشاهير من الشخصيات الوطنية، ورجالات الفكر والعلم والأدب والسياسة ورجال الأعمال وغيرهم من الأشخاص الذين يأمل أنْ يجني من ورائهم ربحًا عاجلاً، وصيتًا كبيرًا، ومصلحةً تعود عليه بالنفع؛ كالأستاذ أحمد قاسم دماج، والدكتور أبي بكر السقاف، والدكتور علي محمد زيد، والأستاذ إسماعيل الوريث، والأستاذ علوان الشيباني، والأستاذ أحمد كلز، وغيرهم؛ ظنًا منه أنَّ ذلك سجمل صورته القبيحة، ويرفع من ضِعته التي يعيش عقدتها كجمرة تأكله وتنخر في أعماقه. وفي الوقت الذي كان رئيس التحرير السابق لطف الصراري عاكفًا على عمله، متفانيًا فيه، ينجزه أولاً بأول: تحريرًا، وتواصلاً مع المستكتبين، ومراجعةً للموقع، إلى مهام أخر يقوم بها في غاية من الدقة والإتقان. وهو مع ذلك مواظب على عمله داخل الحاضنة لا يتخلف عنها إلا لعذر؛ فلا تأتي عليه الساعة الثامنة صباحًا إلا وقد وصل إلى مقر عمله، مزاولاً فيه أعماله التي يستمر فيها إلى حدود الساعة الثانية بعد الظهر، ثم يعود للبيت لتناول الغداء، والبدء في المقيل، ثم استئناف العمل حتى ساعات متأخرة من الليل؛ حتى يدهمه النوم في كثير من الأوقات واللابتوب في حضنه؛ حتى سقط أخيرًا في مقر عمله بمرأى مني، أثناء حديث له في التلفون مصابًا بجلطة قلبية جراء العمل الشاق والإجهاد المتواصل. وبعد أن تَمَّ الاستغناء عن الأخ لطف من قبل منظمة مواطنة بدلاً عن مكافأته، والتكفل بعلاجه، وصرف حقوقه، مع الساعات الإضافية التي يستحقها، كان محمد عبد الوهاب الشيباني أحد الوسطاء من جهة الأخ لطف، وكان أحد من يثق بهم، ويعول عليهم كثيرًا، ثم يفاجأ الأخ لطف -بعد ذلك- بقبوله منصب رئيس تحرير «منصة خيوط» بديلاً عنه. وحين تم تعيينه، ذهب ليعاين مكتبه الجديد مع الأستاذ والشاعر عبد الكريم الرازحي، فساءه ألا يكونَ المكتب بتلك الفخامة التي كان يحلم بها، ويمني بها نفسه؛ فهو- في الأخير- ليس إلا مكتبًا عاديًا لم يملأ عينيه الشرهتين لكل أبهة فارغة ومظهر كاذب؛ فأخبر المعنيين أنه سيقوم بممارسة أعماله من البيت، بعد أنْ يقضي سحابة نهاره كله يتقاسم أحاديثه المُمَلَّحَة بالسماجات، ولساعاتٍ طوال مع بعض الأصدقاء في بوفية الدملوه. 3- القدرة على التأنق، ولبس الـ «كاجول»، مع حسن اختيار وتناسق مدهش للألوان والماركات التي يختارها بعناية ودقة فائقة. وقد كان في الزمن الغابر-ونحن الآن في زمنٍ أغبر منه- زارَ اليمن صحفي فرنسي بغرض إجراء مقابلة مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وبعد إتمامها، سأله صديق يمني عن انطباعه عن شخصية علي صالح؛ فأجاب: إنه يحسن لبس واختيار البدلات الرسمية ذات القيمة العالية. هذه هي بعض من سيرة محمد عبد الوهاب، ولو أردت أن أستقصي معايب ومثالب هذا الشخص، لما كفتني الساعة ولا اليوم ولا الشهر ولا حتى الدهر كله؛ فمخازيه ومساويه ليس لها حد تقف عنده، أو تنتهي إليه. ولولوع هذا الشخًص بالاستعراض، وحُبّ الظهور، فقد هدته ألمعيته الخارقة أثناء تقلده رئاسة تحرير خيوط- لفكرة عمل اجتماع أسبوعي يعقده مع الموظفين. وأين يكون هذا الاجتماع؟ إنه في «منظمة مواطنة» التي أحب بستانها النضير، ووردها الذي يفوحُ عِطرًا وعبيرًا؛ فأدمن التردد عليها، وأحبها حبًا ملأ عليه شغاف قلبه. وكان في أثناء هذا الاجتماعات المتكررة والسمجة يفيض هذا المفكر العظيم في أحاديثه التي هي كما يقول أصحاب تهامة: «تقَطِّعْ أمْغَالْ امبِسَسْ». وفي إحدى المرات، وفيما هو يتحدث بأحاديثه التافهة، أخذته النشوة، وتراءى نفسه عظيمًا من عظماء القرن الواحد والعشرين، وظنَّ -بالسكرة التي لَحَستْ عقله – أنه من نظراء الدكتور عبد العزيز المقالح، فأخذ يشكو بمرارة مثيرة للشفقة -بما طُبِعَ عليه من عقدة النقص والشعور بالاضطهاد- من الدكتور عبد العزيز المقالح، وأنه -مع بعض الشخصيات- قام بتأسيس جمعية اسمها «سُوبان»؛ باسم منطقة يمنية أثرية تعود إلى عهود الحضارات اليمنية القديمة، وأنَّ لهذه الجمعية طابعًا مناطقيًا وجَهويًّا. إنَّ أقصى ما وصل إليه عقل هذا المفكر الأسطوري هو ديوان صغير يحكي حالته البائسة بعنوان «أوسع من شارع، أضيق من جينز»، أصدره في 2003، عن مركز عبادي، ثم ترقى به الحال قليلاً بعد طُولِ مخاض، فكتب كتابًا عن الأستاذ السفاري بعنوان «حياة السفاري التي مَلَّحَتها الحكايات»، وكتاب آخر عن الغِنَاء لا أعرفه ولا يهمني أن أعرفه. ولا تظنَّ أنَّ لفظة «مَلَّحَتها»، جاء بها من عند نفسه، أو جادت بها عليه عبقريته الاستثنائية؛ فقد «شَلطَها» من الشاعر العراقي العظيم الجواهري. هذه شذرة بسيطة، ومطرة خفيفة من سيرة هذه الإنسان المزيف، آثرت فيها الإيجاز وعدم التطويل. فالوقت ثمين، ودقات قلب المرء قائلةٌ له..، والناس زهقانه، والبلاد تعبانه، والأمة مش لاقيه ما تاكل، والشباب عاطل، والحالة مزريه. وحسبك مِنْ القلادة أن تحيط بالعنق. ملاحظة للرجوع للمقال الذي كتبه عن القاضي أحمد بن عبد الرحمن الآنسي يرجع لرابط خيوط: ، ومقارنته بمقالي المنشور في اليمني الأمريكي، وهو منشور ضمن كتابي «الفنون جنون». إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
٠٧-٠٥-٢٠٢٥
- منوعات
- إيطاليا تلغراف
تواضع القرآن وحَذْلَقة السُّنَة
إيطاليا تلغراف وضاح عبد الباري طاهر لا أسوأ مِنْ الأحكام المسبقة، ولا أسهل منها بالنسبة للكسالى أمثالنا. فهي لا تكلفنا سوى القليل من الوقت-والوقت ثمين كما يقال-. فعلينا ألَّا نهدره في التفكير، وَكَدِّ الذهن- حتى يتسنى لنا القضاء المبرم دون أدنى حاجة لإعمال عقولنا أو تحكيم ضمائرنا. ليس علينا فقط سوى أن نقضي ما نشاء فِيْمَا نشاء، وفيمَنْ نشاء، وأنْ نتصرفَ في الخلق بما نريد؛ لأننا الأصوب دائمًا؛ قد أحطنا بِالأشياء عِلمًا، وبالأمور ممارسةً ونفاذًا وتجربةً. لم يسلم حتى العلماء ولا الفلاسفة ولا الأنبياء أيضًا مِنْ هذه العادة السيئة أو المعضلة التي أعيا دواؤها. ولنا في قصة موسى والخضر التي قصَّها القرآن عِبْرَة، وفي خبر النظَّام وأبي نواس، وابن المطهر الحلي وابن تيمية، وابن الوزير وابن أبي القاسم، والمقبلي والهَبَل، والشوكاني والسَّماوي، والصوفية والفقهاء، وأهل العقل وأهل النقل، وأهل الجبر وأهل الاختيار، وأهل الظاهر وأهل الباطن- درسًا وعِظَةً. اختارت أختي الكبرى دراسة علم الآثار في جامعة صنعاء. وكنت حينها أرثى لحالها لدراسة هذا العلم الذي -بحسب رأيي في ذلك الوقت- لا نفع يُرجى من وراءه. فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فما حاجتنا لدراسة أمم أبادها الله وقام بإهلاكها، وما الفائدة التي ستعود علينا ونجنيها من ذلك؟ من أين جاء هذا التفكير؟ لا أدري. لكن قطعًا لم أتلقنه من البيت. فلا شك إذن أنه تسرب إلينا من المدارس التي التحقنا بها، أو من محاضرات الأشياخ والوُعَّاظ في المساجد التي كُنَّا نرتادها. وقُلْ مِثْل هذا أيضًا عن المسرح، والغناء، والفنون الجميلة: الرسم، والتصوير، والنَّحْت. ومع محبتي منذ نعومة أظفاري للشعر، حتى أني اشتريت في مرحلة الإعدادية ديوان المعري، وديوان أبي نواس، وديوان أبي تمَّام؛ وهو كتاب ضخم، ما قدرت أن أفتح أو أقرأ وأفهم صفحةً واحِدةً منه. وكان مِمَّا حبَّبَ إلي الشعر كتابٌ اشتراه لنا الوالد، ونحن صغار، بعنوان «شعراؤنا يُقدِّمُونَ أنفسهم للأطفال»، للشاعر والأديب السوري سُليْمَان العِيْسَى. تناول فيه عددًا لا بأس به من شعراء العربية، واختارَ مِنْ أشعارهم ما استحسنته ذائقته، مع رسومات جميلة تخيلها الرسام لشعراء الديوان: الفرزدق، وجرير، والحُطيئة، والمتنبي، والبحتري، وأبي تمام، وأبي فراس. لم يَخلُ البُعْد التربوي مِنْ هذه السِّير، كما أنَّ النصوص التي تمَّ وضعها، عُرِضَت عرضًا مُفيدًا وشَيقًا. فمثلاً حين يتحدث عن جرير أو الفرزدق لا يغفل الحديث عن المهاجاة التي دارت بينهما؛ وهي ما عُرِفَتْ في تاريخ الأدب العربي بِـ «النقائض». فيعبر على ألسنتهم -ولو تَخيُّلاً- بنبرة الأسف والندم على ما أمضياه من عمر، وضيَّعاه مِنْ وقت في السِّباب، والفخر بالقبائل والأنساب، وثلبِ بعضهما بعضًا. ومع ذلك، فقد جاءت لنا التعاليم التي تلقيناها من المدرسة أو المسجد لتقصَّ علينا أحاديث تقول: إنَّ مِنْ الخير أن يحمل المرء قَيحًا وصَديدًا في جَوفِهِ مِنْ أن يمتلئ صدرُهُ شِعْرًا! لذا لا عجب أن نَجدَ أحد علماء الجرح والتعديل حين يتحدث عن العلامة اللغوي العبقري الخليل بن أحمد الفراهيدي، فيقدح فيه، ويقوم بشيطنته كونه زيديَّ المذهب؛ وانطلاقًا من مذهبه هذا، قام الفراهيدي باختراع فني العروض والقوافي؛ ليعارض به الكتاب والسنة! ومثل هذا الجنون قيل في كتاب «كليلة ودمنة»، لابن المقفع، وكتاب «الفصول والغايات»، للمعري الذي كفروه وشنعوا عليه بأنه يرمي إلى معارضة القرآن الكريم. ولا يزال المتطرفون حتى الآن يلاحقون المعري في قبره، وكأنهم أسِفُوا على ألا يكونوا ظفروا به ولم يقتلوه في الزمان الغابر، فتتبعوه رَمِيمًا، وقاموا بهدم ضريحهِ بمعرَّة النعمان. والسؤال: هل يُعقَل أنَّ الإسلام جاء إلينا طَفرةً؟ أم أنه جاء نتيجة تراكم إنساني، وتطور تاريخي، حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم- غير قاطع علاقته بما سبقه من قيم ومثل عظيمة: إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق. فالنبي لم يذمَّ الماضي كُلَّه، ولم يهدم كل القواعد التي سبقته، ومضى وتعارف عليها الناس من قبله. ما جاء الدين ليكون بديلاً عن الدنيا، ولا القرآن ليحُلَّ محل الشعر والآداب، أو ليحتقر ويزدري الفنون والصناعات. ما جاءت الشريعة لتعارض العقل السليم، ولا الفِطْرة النقية. وما جاء الدين ليكون آصارًا وأغلالاً تُصفَّد به القلوب وتحبس به العقول والضمائر في أقفاص الجمود والتخلف. نعم لم يقطع الإسلام كُلَّ علائقه الماضي؟ أليس الله يحكي عن سليمان فيقول: (يصنعون له ما يشاء من تماثيل)، فيما الأحاديث تنهى عن اتخاذ الصور، وتعارض التصاوير؟ أليس القرآن قال عن أهل الكهف: (لنتخذن عليهم مسجدا)، فيما جاءت أحاديث تنهى عن ذلك؟ ألم يتحدث القرآن عن ملكة سبأ، وصَدَّق قولها حين قالت: (إنَّ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزة أذلة)، بالقول: (وكذلك يفعلون). فيما الأحاديث تزعم أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. ولم يرد في تاريخ الفرس ما يصدق هذه الواقعة التي يتكلم بشأنها الحديث المزعوم. ويقول الله: (لا إكراه في الدين). وهذا نفي بمعنى الإنشاء؛ أي الطلب والأمر. بمعنى: لا تكرهوا أحدًا على اعتناق الدين؛ كقوله تعالى: (فمن فَرَضَ فيهنَّ الحجَّ فلا رفث ولا فسوق)؛ أي لا ترفثوا ولا تفسقوا. وقال: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، و(لست عليهم بمسيطر)، و(أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟!)، فجاء الحديث من بعد ذلك ليقول: من بَدَّل دينه فاقتلوه. وكأنَّ الدِّينَ مصيدة فئران مَنْ دَخلَ فيه علق به، ولا يمكنه الخلاص منه إلا بالقتل. أليس الله يقول: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء)، والأحاديث تخص بِهِ قريشًا. أليس الله يقول عن زكريا عليه السلام: (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرًا فهب لي من لدنك وليًا يرثني ويرث من آل يعقوب). والموالي هم أبناء عمومته خافهم بعد وفاته أن يستأثروا -بماله-، فدعا الله أن يرزقه ولدًا يرث ماله. ولما كان علامة الأندلس وقاضيها ابن عطية على قدرٍ عظيم من العلم والإنصاف؛ فقد اضطرب قوله بسبب التعارض الحاصل لديه في نصوص القرآن، وما ورد باسم السنة النبوية، ومع ذلك فقد ردَّ على الزجاج قوله: (لا يجوز أن يسأل زكريا مَنْ يرث ماله؛ إذ الأنبياء لا تورث). فقال ابن عطية: 'وهذا يؤيده قول النبي -عليه السلام-: 'إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة'، ويوهنه ذكر 'العاقر'. والأكثر من المفسرين على أنه أراد وراثة المال، ويحتمل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- 'إنا معشر الأنبياء لا نورث'، ألَّا يريد به العموم، بل على أنه غالب أمرهم فتأمله'. ثم شرع ابن عطية -رحمه الله- يتحدث عن الأليق والأظهر في تفسير الآية، وما ذاك إلا بسبب التحرج من نفي حديث ينسب للنبي عليه الصلاة والسلام، فحاول التوفيق بين الرأيين. ألم يكن القرآن أكثر تواضعًا من السنة النبوية التي نجدها تضطلع بكل شيء، وتجيب عن كل شيء، حتى أنَّ بعض الأصوليين جعلها ناسخةً للقرآن، مع قولهم بأنها ظنية، والقرآن قطعي. فالصحابة يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ظاهرة طبيعية؛ وهي ولادة القمر، ومراحل تكونه واكتماله. كيف يبدأ هذا الجرم السماوي في أول الشهر صغيرًا، ثم لا يزال ينمو وبكبر حتى إذا بلغ منتصف الشهر تكور واستدار، ثم يأخذ بالتناقص حتى يستسر. فجاء القرآن وعدل بهم عن الجواب عن هذا، إلى ما يهمهم في أمر دينهم، فقال: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج). وهذا ما يصطلح عليه البلاغيون بـ «القول بالموجب» في علم البيان. ومعناه أنه عدل بهم عن جواب أمر ليس لهم في معرفته مصلحة، إلى وجهٍ آخر يَخصُّهم في شئون دينهم. ويسألونه أيضًا عن ظاهرة حيرتهم؛ وهي دم الحيض الذي ينزل من النساء عند أول كل شهر؟ ما سببه وما مصدره؟ فسلك معهم ونحى بهم منحىً آخر أفيد لهم، في صحتهم وأمور دينهم، فقال: (يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض). أمَّا في الحديث الوارد في صحيح البخاري، فيبادر النبي بنفسه سائلاً أبا ذر: – 'يا أبا ذر أتدري أين تغيب الشمس؟ – الله ورسوله أعلم. – فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش'. وفي روايات أُخَر أنَّ الشمس تطلع وتغرب بين قرني شيطان! فعلى هذا يكون قرنا الشيطان بسعة عرش الرحمن، وأنه تحته مباشرةً، لو كانوا يدرون ما يقولون! ويقول الله عن نفسه في كتابه العزيز: (لا تدركه الأبصار)، و(لن تراني)، (وقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم). فجعلهم ظالمين بسؤالهم لموسى رؤية الله. وكنت وأنا صغير السن أستبعد -بمقتضى الفطرة- أن أرى الله لجلاله العظيم، وكنت أرى أنه لا ينبغي للقدير سبحانه أن يُرَى، وهو الذي لا يحده زمان، ولا يحيط به مكان. حتى إذا بدأت بالصلاة وارتياد المسجد، فإذا بي أقرأ حديثًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في مؤخر المسجد يقول: إننا سنرى ربنا كما نرى قمرنا هذا. وبمجرد أن قرأته سلمت له وأذعنت؛ إذ هو حديث الصادق المصدوق. وكانت عائشة تستنكر في حديث قصة الإسراء والمعراج رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- لربه، وكانت تقول: كيف يرى ربه، والله يقول: (لا تدركه الأبصار)؟ وهذه الآية التي استدلت بها عائشة هي إحدى حجج المعتزلة، فَلِمَ لا يسع المعتزلة ما وسع أم المؤمنين، ولم خُصُّوا بالذم دون سواهم؟! ولِمَ أُفرِدَوا بالتضليل والتفسيق بسبب هذا الرأي، والقول في الحالين واحد؟! وقد يختلفُ الرِّزقانِ والِفعْلُ وَاحدٌ إلى أن تَرى إحسانَ هذا لِذَا ذَنبَا ويقول القرآن: (الزانية والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة)، والسنة تنص على رجم الزانية والزاني المحصن. وهي عقوبة في غاية القسوة والوحشية لم ينلها أكثر البشر عتوًّا، وأشدهم جُرمًا؛ من أهل الكفر والطغيان، وقتلة النفوس المحرمة، وقُطَّاع الطرق الذين يسعون في الأرض فسادًا. حاورت ذات مرة أحد أقربائي، وهو ذو حظ جيد من العلم والفهم. يحفظ القرآن، ودرس على العلماء وتفقه على أيديهم. وهو إلى جانب ذلك واسع الاطلاع. ومع أنه في قرية ريفية بعيدة عن صنعاء، إلا أنه كان متابعًا جيدًا للمشهد الثقافي في العاصمة. يقرأ ملحق الجمهورية: «الثقافية» من الغلاف إلى الغلاف. فقرأ للوالد الأستاذ الأديب الناقد عبد الله علوان، وللأستاذ الشاعر الأديب أحمد الشامي -رحمهما الله-، وللأستاذ عبد الودود سيف، وعلوان الجيلاني وغيرهم. سألته ذات مرة: أليس الله قد قال: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنَّ أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا)، فهل إذا أقيم عليهنَّ الحدَّ رجمًا بالحجارة حتى الموت، هل يكون الله جعل لهنَّ بذلك سبيلا؟! فأجاب لفرط إنصافه وفهمه لدلالات الألفاظ ومعاني الكلام- بالنفي. وإذا كان الأمر -كما يزعم الجمهور مِمَّن يأخذون بأحاديث الرجم-، فإنَّ مُكثَ النساء في بِيوتهنَّ محبوسات حتى يتوفاهنَّ الله خيرٌ لهنَّ مِنْ هذا العقوبة الفظيعة التي ساقوها إليهنَّ، زاعمين أنَّ الله جعل لهنَّ سبيلاً بالرجم، كما هو في كتب التفسير. حقًا إنه لشيءٌ يبعث على السخرية والضحك والبكاء أيضًا. فالسبيل الذي جعل الله لهن هو ما بينه في سورة النور؛ وهو آية الجلد: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مئة جلدة). هذا هو المخرج لمن يأتي الفاحشة من المحصنات- مِنْ حبسهنَّ في البيوت حتى الموت. ولمَّا تحدث القرآن عن زواج الإماء قال: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فَمِمَّا ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات، بعضكم من بعض، فانكحوهن بإذن أهلهنَّ، وآتوهنَّ أجورهن بالمعروف محصناتٍ غير مسافحات ولا متخذات أخدان، فإذا أحصنَّ فعليهنَّ نصف ما على المحصنات من العذاب). فالقرآن ناطق بأنَّ الإماء إذا أتين الفاحشة بعد إحصانهن يتنصف عليهن الحد الواجب على المحصنات من الحرائر؛ وهو مئة جلدة. فيكون نصيبهن من ذلك خمسين. لأنَّ الرجم لا يتنصف. والذهاب إلى الرجم مُعاندةٌ صريحة لنص الآية. وهذه الحجة ذكرها العلامة اللغوي والفقيه الأزهري الكبير عبد الله العلايلي -رحمه الله-، وذكر أنَّ الخوارج لا يعملون بالرجم، ولا يذهبون إليه. وذكره عنهم أيضًا العلامة الطبرسي من مفسري الإمامية ونسبه إليهم. فالعذاب المذكور في هذه الآية هو الجلد، وهو نفسه العذاب في حد الزانيين: (وليشهد عذابهما)؛ أي جلدهما، وهو نفسه في آية الملاعنة: (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين)؛ أي يدرأ عنها حَد الجلد. ويقول القرآن: (إذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون)، والحديث في كتب الصحاح يقول: إنَّ الله أرسل لموسى ملك الموت ففقأ موسى عينيه لكراهته للموت! وقد حاول العلامة الكبير ابن الوزير -رحمه الله- الدفاع عن هذا الحديث في كتابه «العواصم والقواصم» أمام شيخه ابن أبي القاسم الذي اختلف معه، فما أغنى فتيلاً. فإذا كان موسى يكره الموت، وهو ذاهب للقاء الله. ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، بنص الحديث- فَلِمَ يستنكرون ويستبعدون من زكريا حديثه الذي قصه الله في كتابه عن خشيته أن يرث ماله ذوو قرابته من بني عمومته؟ ولماذا لا يستنكرون على سليمان الذي يحكي عنه الله قوله: (هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي)؟! في أحد الأيام الماضية، وفي مجلس أحد الأصدقاء، طرح صديق عزيز علي، وهو صحفي، موضوعًا جرى النقاش بشأنه حول المعتزلة، وكان الصديق يدعو إلى ضرورة مراجعة مواقفنا تجاه بعض الفرق الإسلامية، ويقول: لعلَّنا ظلمنا المعتزلة في تاريخنا وتحاملنا عليهم؛ فهاج عليه المجلس وثاروا ولم يقبلوا قوله. على أية حال إنَّ أيَّ نهضة تتوخاها أيُّ أمة لا تقوم بالقطيعة المطلقة مع ماضيها ولا تراثها ولا لغتها ولا تقاليدها القويمة. وليس معنى التشكيك في بعض الأحاديث القدح فيها كلها، أو الطعن في رُوَاتها والتشكيك في عدالتهم وصدقهم وصحة مقاصدهم؛ وهم من التقوى والعلم والإخلاص بمنزلة عالية. لكن ما ينبغي التوقف عنده هو أنَّ تراثنا اختلط فيه الصحيح بالسقيم، والصواب بالخطأ، والصدق بالكذب، والحق بالباطل، والغثّ بالسمين، والنصّ بالتاريخ، والدين بالسياسة. يقول العلامة المؤرخ لطف الله جَحَّاف عن شيخه العلامة الشوكاني: 'ورأيته يَنعَى على المتسنن والمتمذهب، ويقول: ما ينبغي لصاحب السُّنة أنْ يجمدَ عليها، ولا ينبغي للمتمذهب أنْ يَجمدَ على المذهب'. وبرأيي أنَّ كل ما خلفته فرق الإسلام على تنوعها وتباين ما بينها هو تراث المسلمين كافَّة، فعليهم أن ينظروا فيه، ويدرسوه دون تَحيُّز ولا عصبية؛ فما كان نافعًا أخذوا به من أيِّ مصدرٍ كان، وما كان دون ذلك، فَلنا الحقّ في نقده نقدًا علميِّاً نزيهًا خاليًا من أي غرض أو شائبة هوى، ثم نطوي صفحته للأبد غير أسِفِيْن ولا متحسرين. إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
٢٧-٠٤-٢٠٢٥
- منوعات
- إيطاليا تلغراف
بَلغَ الشُّوقُ مَحِلَّهْ
إيطاليا تلغراف وضاح عبد الباري طاهر بَلغَ الشَّوقُ مَحِلَّهْ فِي هَواكُمْ يَا أهِلَّهْ كَفكِفُوا دَمْعِي فَعَينِي لِسِواكُمْ لَمْ تُذِّلهْ يَا نَحيلَ الخَصْرِ في الـــــــــــــــــــــ هَجْـرِ مَضَى دَهِرَيَ كُلَّهْ ارحموا مَنْ بَاتَ مُضْنَى ما رَوَى بالوصْلِ غُلَّهْ فِي حَشَى صَدرِي شُهُودِي ذِيْ دُمُوعِي لِي أَدِلَّهْ يَا كحيلَ الطَّرف خِلَّكْ مَا دَرَى لِلصَدِّ عِلَّهْ يَا شقيقَ الرُّوحْ قَبْلَكْ مَا عَرفْ ذا القَلب قِبْلَهْ يَا أسِيلَ الخَدِّ كَمْ لِي أشْتَهِي الخَدِّ قُبلَهْ يَا رَشَا باللهْ قُلْ لَهْ مَنْ أحَل باللحْظْ قَتلَهْ؟ **** *** يَا رسولْ باللهْ قُلْ لَهْ مَلَّهُ الصَّبرُ وَمَلَّهْ يَا نَسيمْ أرجُوكْ شِلَّهْ أيُّ أرضٍ لَنْ تُقلَّهْ يَا رَعَى اللهُ زَمانًا جادَ لَهْ بالوصلِ خِلَّهْ **** *** ثُمَّ يَا رَبِّي صَلاتَكْ تبلغ الهَادِي وأهَلهْ مَنْ رَسَا للوحي صَدرَهْ وسَمَا في الكون فَضْلَهْ مَنْ أذاقَ الكُفَر كَأسًا أنهَلهْ مِنْهَا وعَلَّهْ **** *** يَا شَفيعَ الخَلقِ فِيكُمْ قد غَدا قَلبِي مُولَّهْ سَاقهُ الشُّوقُ إليكُمْ قَط يَومًا مَا أضَلَّهْ لِي مِنْ القُربَى ذِمامٌ يا شفيعَ الخلقِ كُنْ لَهْ **** *** وعلى الآلِ سَلامَكْ وكذا الصحب الأجِلَّهْ مَنْ بَنوا للدِّينِ مَجْدًا فَسَرى في الأرضِ ظِلَّهْ مَا بَكتْ في الدَّوْح وَطْفَا وَخَلا خِلٌ بِخِلَّهْ إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
٢٠-٠٤-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
إلى التي خرجت تبحث عن زوجها ليلاً
إيطاليا تلغراف وضاح عبد الباري طاهر خرجت ملهوفة تبحث عن زوجها. كان يرمقها من مكانٍ بعيد، وهي تفتش عن زوجها في أسفل الشارع المجاور لمنزلهم. كان منظرها يبعث على الأسى والألم المُمِضّ. لطالما شَعرَ بحبِّ زوجها لها، ولعائلته الصغيرة التي كان يغمرها بعطفه وحُبِّه، أمَّا الآن فقد عرفَ أيضًا كم هي تحبه، وماذا يعني لها، حين رأى في عينيها الخائفتين كُلَّ ذلك الجزع والقلق مِنْ أيِّ مكروه قد يصيبه أو يلمَّ به. ومَا أصدقَ مَنْ قَال: إنَّ زوجَ المرأة مِنها لَبِمكان! لا شيءَ أسوأ من الأنظمة الغاشمة التي أضرَّتْ بحياة الناس ومعيشتهم سوى الفوضى التي تعقب زوالها. والأمثلة ظاهرة، والشواهد قائمة في: السودان، وسوريا، وليبيا، وليست اليمن من ذلك ببعيد. فهي إنْ حدثت، لن يسلم من مَعرَّتِها وشؤمها أحد. وقد قال ابن خلدون في مقدمته: 'إنَّ الظلمَ مُؤذِنٌ بخرابِ العمران'. ويقول ابن تيمية: إنَّ اللهَ يقيم الدولة العادلة وإنْ كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإنْ كانت مسلمة. وأنَّ الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظُّلم والإسلام. لم يعد للناس من خيار، فقد سدت الأبواب كلها بوجوههم. في المراوعة فقط تلك القرية الصغيرة من قرى تهامة، سُجِّلتْ قرابة سبعةَ عشرَ حالة انتحار لشباب تتراوح أعمارهم ما بين السابعة عشر والخامسة والعشرين؛ قاموا بشنق أنفسهم، مُنهِينَ حياتهم البائسة. وهي ظاهرة غير مسبوقة على الإطلاق في هذه القرية الصغيرة، فضلاً عن تهامة أو حتى اليمن على امتداد رُقْعَتِها. فلا أعمالَ لا وظائفَ ولا أفقَ يبدو مفتوحًا لهؤلاء الشباب. حتى المصنع الحكومي الذي لا يبعد عنهم سوى كيلو متر واحد أو اثنين لم يحظوا بفرصة العمل فيه، ولولا المصانع الخاصة التي يعمل بها أبناء تهامة، وإن كانت بأجور زهيدة، لكانوا قد ماتوا جوعًا، فيما يتحدث الناس ويتعالمون عمَّن يشتري علاقي قات واحدة في العاصمة بالألوف المؤلفة. إلى متى يستمر هذا الظلم والتفرقة والتمييز بين هذا الشعب الواحد الذي فرقتموه بأيديكم، لا بأيدي زيد ولا عمرو.؟! وزارة الثقافة تصرف لموظفيها، وتحرم دار المخطوطات. وزارة التربية والتعليم تصرف لموظفيها، وتستثني جهاز محو الأمية. ما معنى أن يستمر تصنيف الموظفين إلى فئات: أ، ب، ج. ولماذا يستمر صرف رواتب للفئتين الأوليين، ولا يصرف للأخيرة؟ هل يُعْقَل أنَّ أناسًا يستلمون مستحقات بمئات الآلاف شهريًّا، وآخرين لا يتقاضون فِلسًا واحدًا؟! يرى بعض الكتاب المهتمين بتحليل الأنظمة الشمولية أنَّ زوال النظام الشيوعي لم يحقق السعادة المنتظرة لشعوب دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي سابقًا. ولمَّا كانَ الحزب الشيوعي مسيطرًا على البلاد في تلك الحقبة، ويدير دفة الحكم فيها، فإنَّ سقوطه أدَّى إلى كشف النقاب عن غياب سلطة الدولة. ويقول: إنَّ الكلَّ على يقين أنَّ وجودَ دولة -مهما بلغ الظلم الذي تمارسه ضد الشعب- لَهو أرحم بكثير مِنْ غيابها؛ إذ في هذه الحالة تبقى الساحة خالية لصراع الجبابرة. فهل على الناس أن يصبروا على بشَّار الذي يرميهم بالبراميل المتفجرة، أو يرضوا بالشرع الآتي من الأمريكان، وما يقوم به من القتل والتطهير لطائفة يكفرها لاختلافه عنها مذهبيًّا؟! فليكن الله في عون هذا الشعب المغلوب على أمره، والمنكوب من الداخل والخارج، وقد فُرِضَ عليه خياران: أحلاهما أمَرّ من العلقم. إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
٠٨-٠٤-٢٠٢٥
- منوعات
- إيطاليا تلغراف
كتابة في الظلام
إيطاليا تلغراف وضاح عبد الباري طاهر لا شَكَّ أنَّ لغتنا العربية رائعة وراقية وجميلة، لكنها أيضًا لها مشاكلها الخاصة التي لا تخلو منها أي لغة؛ لا سيما عيوبها الكتابِّية. وإذا ما تأملنا حروف العربية سنجد في صور بعضها تشابهًا كالباء والياء والتاء والثاء والنون فـ «بُسْر» مثلاً قد تتصحف إلى «يُسْر»، و«يحسبون»، قد تصير إلى «يحسنون»، وعلى هذا فقس. هذا فضلاً عن مشاكل نطق مفرداتها بشكل صائب وسليم، حيث يذكر بعض الباحثين في ترقية الكتابة العربية وحل مشاكلها أنَّ لفظة «ملك»، تنطق بوجوه كثيرة قد تبلغ زهاء السبعة عشر وجهًا. ثم إنَّ التصحيف والتحريف في العربية قد تنحو في معانيها إلى معانٍ أُخَر تثير اللبس، وربَّما الحبس، ولا تخلو أيضًا من الطرافة والمتعة والضحك. يفرق بعض اللغويين بين التصحيف والتحريف. فالتصحيف يختصَّ بالحروف المُعْجَمة (المنقوطة)، والمهملة (الحروف التي تخلو من النقط): كالشين والسين، والزاي والراء، والباء والتاء والثاء، والجيم والخاء والحاء، والذال والدال، والضاد والصاد، والطاء والظاء. أمَّا التحريف فيصيب بقية الحروف. لم يسلم حتى القرآن الكريم من داء التصحيف. فيذكر السيوطي في (تدريب الراوي) أنَّ عثمان بن أبي شيبة؛ وهو من أئمة الحديث قرأ: (جعل السفينةَ في رِجْل أخيه)، فلمَّا قيل له: إنَّمَا هو (جعل السقاية في رحل أخيه)، ما كان جوابه عليهم إلا قوله: أنا وأخي أبو بكر لا نقرأ لعاصم. (2/ 195). وهَبْ يا عثمان أنك لا تقرأ لعاصم، أيستقيم في عقلك هذا الهراء الذي تقوله؟! وبهذا يتبين أنَّ الزمخشري لم يتجنَ على أهل الحديث حين قال: وإنْ قُلتُ مِنْ أهلِ الحديثِ وحزبهِ يقولونَ: تيسٌ ليس يدري ويَفهمُ وقد سبقه المعري -رحمه الله- بقوله: لنا خالقٌ لا يمتري العقلُ أنهُ قديمٌ فما هذا الحَديثُ المُولَّدُ؟ وقال ابن شهاب منتقدًا الوهابية: وتسموا بأهل الحديثِ وهاهم لا يكادونَ يفقهونَ حديثا وإذا ثبت داء التصحيف والتحريف لألفاظ ومعاني القرآن الكريم، فليس بغريب أن يصاب بهِ الحديث النبوي أيضًا، فألفَّ علماء الحديث فيهما كتبًا كثيرة منها على سبيل المثال كتاب (إصلاح غلط المحدثين)، للخطابي. ولمَّا فتحت بلاد فارس، واختلط الفرس والعرب، وكانت بعض الحروف يستعصي نطقها على الفرس، كان ذلك محل تندر من العرب، ومن الأدباء بشكل خاص، فيذكر الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) قصصًا طريفة عن هذه الظاهرة حتى تلك التي أثِرَت عن بعض الصحابة كصهيب الرومي -رضي الله عنه- الذي يصفه الجاحظ بأنه كان يرتضخ لكنةً رومية فيقول: «إنك لهائن». يريد إنك لخائن. ويذكر عن أزدا انقاذار ذي اللكنة النبطية أنه كان يجعل الحاء هاءً، وأنه أملي على كاتب له فقال: اكتب «الهاصل ألف كُرّ». (الكُرّ: مكيال يكال به الطعام). فكتبها الكاتب بالهاء كما لفظ بها أزدا، فأعاد عليه الكلام، فأعاد عليه مثل ذلك، فلما فَطِنَ المملي لاجتماعهما على الجهل قال: «أنت لا تُهْسِن أنْ تكتب، وأنا لا أهْسِن أنْ أُملى». ويذكر أنَّ مولىً لزياد بن أبيه قال له ذات مرة: «أهدوا إلينا هُمَار وَهْش». يريد حمار وحش. فقال زياد أيُّ شيء تقول ويلك! فقال: «أهدوا إلينا أيرًا». يريد عَيْرًا. فقال زياد: الأول أهون'. (1/ 95- 96). وكان قريبًا لي يعمل في «صحيفة الثورة»، في المطبعة، ويأتي له السائق التابع للمؤسسة بالسيارة إلى البيت منتصف الليل لاصطحابه، وكان السائق يقوم بضرب الجرس ضربًا شديدًا مزعجًا بشكل متوالٍ حتى يوقظ النائم الذي لا يَعْتَم أن يقوم مسرعًا لإضاءة السراج الخارجي، ليشعره أنه في الطريق إليه، ثم يغسل وجهه على عجل ويخرج. كانت المطبعة حينها على هيئتها البسيطة؛ حيث تُرصُّ الحروف ويتم وضعها وترتيبها عند الطباعة بواسطة طبَّاعين مختصين. ولأنَّ أكثر الطباعين والخطاطين كانوا يتناولون القات، وربما غالب بعضُهم النوم ليلته كلها، فلا يجد إليه سبيلاً، حتى إذا حانت ساعة العمل، سَقطَ عليه النوم اللذيذ؛ فيستسلم له لكن لا يلبث أن يوقظه صوت الجرس المدوي، فيخرج من فوره كالسكران. في تلك الفترة حصل خطأ طباعي أيام الرئيس الغشمي، فقد نزل عنوان بالمانشيت العريض على الصفحة الأولى من الصحيفة: «الغشمي يَسْكَر»، بدل الغشمي يَشْكُر. وحُبِسَ حينها مسئولو الصحيفة على ذمة ذلك الخطأ الطباعي، وكذلك الخطاط. وفي دورة حضرتها قبل سنوات التقيت بزميلة من عدن صارت تعمل بعدها في الـ BBC، وكان لا بدَّ حِينها مِنْ إنشاء مجموعة على الهواتف، وتبادل الأرقام بين المشاركين؛ فشدَّدَتْ هذه الزميلة على ترك مراسلتها برسائل لا فائدة منها؛ تلك التي تتسم بالوعظ السخيف، والدعوات الطويلة العريضة التي يُنسِى آخرها أولها؛ نحو: «اللهمَّ إنَّ لي أخًا/ أختًا…»، أو تلك الصيغ الواردة في آخر الرسائل: «ربي يحفظك»،.. إلخ هذه الإكليشات المملة غير المفيدة، فضلاً عن مساوئها التي قد تأتي بنتائج عكسية. صَادفَ أنَّ صديقًا لي كان يتراسل مع زميلة له بشأن موضوع يتعلق بالعمل، وأرادَ أن يختم كلامه بـ «ربي» يحفظك. فانقلبت الراء بقدرة قادر إلى حرف الزاي. ولا تسأل بعدها ماذا حصل، وأيُّ مشكلة قد أن يقع فيها هذا الأخ مع زميلته التي غضبت منه، واتخذت موقفًا حادًا نحوه. وكان صاحبنا المسكين لا يدري ماذا صنع في ليلته الليلاء؛ حتى إذا بكَّرَ في اليوم التالي إلى عمله، ودَلفَ إلى مكتبه مؤديًّا تحية الصباح لزملائه- تفاجأ بوجوههم عابسةً، وبنظراتهم المُزوَرَّة الحانقة، أعقبها خروج زميلته من المكتب، فاستغرب، ولمَّا سأل زميله: فأجابه: ليش؟! إيش سويت؟! فأخبره بقصة ليلة البارحة والدعوات الحارة الحميمية التي قام بإرسالها إليها دون قصد. لم تسعْ صاحبنا أرضٌ ولا سماء، ولم يدرِ ماذا يصنع بفعلته الشنعاء التي لم يتعمدها، فالدعاء الذي كان يرجو بركته وحسن عائدته، صار لعنةً تلاحقه ويخشى عواقبه. كان يحدث نفسه فيقول: أين أذهب بوجهي عنها، وما عسايَ أن أقول لها؟ لكنه في آخر الأمر استجمع شجاعته، وذهب إليها معتذرًا؛ ليبين لها أنَّ ما حصل لم يكن إلا خطأً غير مقصود تسبب به «الكيبورد» اللعين. وفي أحد الأيام صباحًا، وأنا أتابع قناة إخبارية، كانت المذيعة تسأل أحد المحللين الروس ممن يتحدث العربية، فوجهت إليه سؤالاً: فأجابها: «الأ… باب كثيرة ». وغَيَّر السين إلى زاي. فابتسمت المذيعة باستحياء، ونسيت السؤال التالي. ولستُ أدري لماذا كُلُّ حروفنا العربية تتغير إلى هذا الحرف؛ أعني حرف الزاي. إذ يبدو أنه حرف مقدس في لا وعينا الإنساني. وفي إحدى المرات قرأت مقالاً لأحد الصحفيين نُشِرَ في إحدى الصحف اليمنية يتحدث فيه عن المعارضة، وينتقد بحماس لقاءهم المشترك واصفًا إياهم أنهم لا يرومون من كلِّ سياساتهم إلا «اقتسام الكُعْ….ة.». أرادَ أنْ يقولَ: «اقتسام الكعكة»، فتحولت الكاف الثانية إلى لام! وهذا إنْ دلَّ على شيء فإنَّما يدل على أنَّ المسألة الجنسية إحدى القضايا الجوهرية الملحة التي تؤرق الفكر الإنساني بعامّة، والعربي واليمني بشكل خاص، وأنَّ البشرية برمتها تدندن حولها، إلا أنَّ الشعوب الأخرى قد وجدت لها منافذَ ومصارف وحلولاً، وكان الإسلام والقرآن في عصر النبوة سبَّاقًا إلى ذلك، فقد وجد لها سبيلاً عن طريق زواج المتعة، وعمل به كثير من الصحابة منهم ابن عباس، حتى سارت بفتواه الركبان، وقال في شأنها بعض الشعراء: أقولُ للشيخِ لمَّا طالَ مجلِسُهُ يا صاحِ هل لكَ في فتوى ابن عباس؟! هل لك رخصةُ الأعطافِ آنسةٌ ( تَكونُ مثواكَ حتى مرجِعَ الناسِ وأهل التفسير والمحدثون يذكرون مثل ذلك، كما في صحيح البخاري وشروحه كشرح العيني الحنفي، حيث يروي البخاري بسنده: 'تمتعنا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنزل القرآن. قال رجل برأيه ما شاء'. ويذكر ابن عبد البر في «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد»، بسنده إلى جابر بن عبد الله: 'كُنَّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر، حتى نهى عمر الناس عنها في شأن عمرو بن حريث'. (10/ 112). ويسوق ابن عبد البر بسنده عن 'عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: كانت بمكة امرأة عراقية تتنسك جميلة لها ابن يقال له أبو أمية، وكان سعيد بن جبير يكثر الدخول عليها. قلت: يا أبا عبد الله ما أكثر ما تدخل على المرأة! قال: إنَّا قد أنكحناها ذلك النكاح للمتعة. قال ابن جريج: وأُخبِرتُ أنَّ سعيدًا قال: هي أحلُّ من شرب الماء. يعني المتعة'. (10/ 114). وفيه أيضًا أنَّ أسماء بنت أبي بكر كانت تذهب إلى جوازه؛ ولم يكن زواجها بالزبير إلا متعة، ويعمل به الشيعة الاثنا عشرية في فتاواهم؛ وهو في أصل مذهبهم، وينسبونه إلى الإمام علي زين العابدين، والباقر، والصادق -رضي الله عنهم- وهذا ما يؤكده ابن عبد البر في «التمهيد»، وصاحب «الأزهار» الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الذي ينسبه لجعفر الصادق. والإمامية الآن تفتي به للمطلقات والأرامل، لكنَّ السلطة السياسية تجاوزت النصوص لمصلحة ارتأتها من تلقاء نفسها، كما تجاوزتها في مسألة الطلاق الثلاث في مجلس واحد، وقامت بإمضائها، مع أنَّ الدليل بضدها، وقد جرت عليها المذاهب السنية الأربعة، وخالفهم في ذلك الإمامية والزيدية، والدليل معهم. ولمَّا أفتى العلامة ابن تيمية بأنها طلقة واحدة عملاً بمقتضى الدليل، قامت عليه القيامة ولم تقعد، وتمَّ حبسه في سجن القلعة. ويذكر السيوطي في تفسيره «الدر المنثور في التفسير بالمأثور» عن عبد الرزاق وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس قال: 'يرحم الله عمر ما كانت المتعة إلا رحمةً من الله رحمَ بها أمة محمد، ولولا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلا شقي'. (2/ 487). وكنتُ أظنُّ قديمًا أنَّ هذه العبارة افتجرها الشيعة من عند أنفسهم حتى وقفت عليها أيضًا في تفسير «المحرر الوجيز»، لقاضي غرناطة المفسر الكبير ابن عطية، حيث يقول في تفسير قوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن فآتوهنَّ أجورهن فريضة): 'روي عن ابن عباس أيضًا ومجاهد والسدي وغيرهم: أنَّ الآية في نكاح المتعة، وقرأ ابن عباس وأبيّ بن كعب وسعيد بن جبير، «فما استمتعتم به منهنَّ إلى أجل مسمى فآتوهنَّ أجورهن». وقال ابن عباس لأبي نضرة: هكذا أنزلها الله عز وجل. وروى الحكم بن عتيبة أنَّ عليًّا -رضي الله عنه- قال: لولا أنَّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي'. (4/9). ونحن إلى الآن لا زلنا نعيش ونعاني من مشكلة الكتابة أو مشكلة الجنس بمعنييهما الحقيقي والمجازي، وما ترتب على ذلك من أعراض اجتماعية كثيرة لازالت تعلن عن نفسها وتظهر بشكلٍ واعي وغير واعي في سلوكنا وأخلاقنا وأحاديثنا وسقطات ألسنتنا. وبهذا يتبين أنَّ ببين اللغة مقروءةً ومنطوقةً والجنس نسبًا قويًّا وعِلاقةً وثيقة. ويتحدث النقاد الغربيون عمَّا يصطلحون عليه بـ «لذَّة النص» The desire of text؛ فاللغة الحقيقية -كما يذهبون- ليست إلا صيحات جنسية، أو صيحات ألم ذات مقطع واحد يلتصق فيها الدال بمدلوله، فيصيران شيئًا واحدًا. وأذكر أثناء دراستي للغة الإنجليزية عبَّرتْ لأحد زملائي عن مدى شغفي وحبي لها وكان مِمَّا قلت له: لو كانت الإنجليزية امرأة، لتزوجتها. وما كان التعبير عن الزواج إلا لياقةً اجتماعية مني، وامتثالاً للسلوك الأمثل في التعبير؛ لاحتشامي لهذا الصديق؛ وإلا فإنَّ التعبير الظاهر بالزواج ليس في حقيقة الأمر إلا رغبةً دفينةً في مضاجعتها. والإنجليز يعبرون عن العملية الجنسية بـ «ممارسة الحب»؛ Making love. ولَعَّلَّ أقدم مَنْ شَبَّه العملية الجنسية بالكتابة هو أبو نواس في أبياتٍ له يقول فيها: وشادنٍ نَطقتْ بالسحرْ مُقلتهُ مُزنَّرٍ إلفِ تسبيحٍ وتقديسِ نَازعتهُ الكأسَ في رِفقٍ أحِدُّثهُ ( في زِيِّ قاضٍ ونُسْكِ الشيخِ إبليسِ تناولَ الكأسَ من كفِّي وأنشدَني (حيِّ الهِدَمْلَةَ مِنْ ذَاتِ المواعِيسِ) لمَّا سَكِرتُ وكلُّ الشَّرْب قد سَكِروا وَخِفتُ صَرعتهُ إيايَ في الكُوسِ غطِطُتُ مستنعسًا عمدًا لأنعِسَه ُ فاسْتَشعرتْ مقلتاهُ النومَ مِنْ كيسي فامتدَّ فوق سريرٍ كانَ أعْجَبَ لي على تَشعِثِّهِ مِنْ عَرشِ بِلقيسِ فقمتُ أمشقُ في قِرطاسهِ بِيدٍ خطَّاطةٍ لا تعايا في القراطيسِ ولا تخفى الاستعارات والتشبيهات الجنسية التي تحفل بها أبيات أبي نواس. خاتمة وسؤال لا بُدَّ منه في الأخير، هل علينا أن نتخلى عن الكتابة بمعنييها الحقيقي والمجازي بناءً على قرارات سلطة سياسية؛ ضاربين عُرْض الحائط نداءَ الفطرة المغروسة في الطبيعة الإنسانية، خوفًا من الوقوع في فتن أو مشاكل التصحيف والتحريف؟! فالسلطة السياسية التي خالفت النصوص في منع وتحريم زواج المتعة، هي نفسها التي منعت الشاعر الكبير بشار بن برد عن التغزل بالنساء. تلك السلطة ممثلة بالمهدي العباسي الذي حظر على شاعر فقير ضرير مثل بشار مجرد التغزل بالنساء، ثم اتهمه بالزندقة لأسباب سياسية معروفة وقام بقتله وتصفيته؛ وهو الذي يبيح لنفسه كُلَّ أنواع الملذات، وعلى رأسها حرية الممارسة الجنسية مع زوجات ومحظيات وجوارٍ لا يأتي عليهنَّ العدّ في زوايا قصره الكبير ببغداد. إيطاليا تلغراف