logo
المفتي قبلان: لبنان دفع عن قضايا العرب والمنطقة أغلى الأثمان

المفتي قبلان: لبنان دفع عن قضايا العرب والمنطقة أغلى الأثمان

المركزيةمنذ يوم واحد

ألقى المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان خطبة العيد من على منبر مسجد الإمام الحسين، في برج البراجنة بعد تأدية صلاة عيد الاضحى، وهذا نصها: "ألا وإن اليومَ موعد للحجيج المنتشر بأعظم النسك العابر من دنيا المادة الى عالم الملكوت الأكبر، وفق حقيقة: { وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}، وخير العيد ما كان وصلاً مع الله، وعملاً يلقى الانسانَ بسفر قيامته، وتوظيفاً للخير والمنافع، وتأكيداً للبرّ والعدالة، وترسيخاً للأمن والأمان، وتثبيتاً للشكر لله الخالق العظيم، وضبطاً للذات والإمكانات بما يعود على ناسنا وأمتنا ومختلف حاجاتنا المادية والمعنوية حتى نلقى الله تعالى بكل ما لدينا من جعبة الأيام. ولذلك بالمنطق الإلهي: لا يمكن فصل العيد عن محنة البشر، كما لا يمكن عزل الدين عن وجع الإنسان وميادين ظروفه ومتاعبه، وخرائط كياناته، وطبيعة توازناته المفجعة. والقضية هنا الانسان بلقمة عيشه وإشباعات روحه، وموقع عدالته، وطبيعة نظامه السياسي وبيئته الاجتماعية ونتاجه الإنساني والفكري والأخلاقي، بعيداً عن الظلم والفساد ومختلف ميادين القهر والاضطهاد. والعالم اليوم كما ترون من فساد الى فساد، ومن ظلم الى ظلم، وسط حضارة تقوم على الاستغلال والاستهداف والاستنزاف ونهب الموارد وقهر الشعوب وخراب البلاد والأوطان. ولأن اللحظة الآن مع الله، فإن الله تعالى يُقدّم العيدَ بمنطق يضع الانسان بين يدي ربّه ليَجرد عليه واقع الأرض وطبيعة توظيفاتها، وأين هو من صرخة البشر، ووجع الأمم، والتيه الفكري والحضاري، وهنا يكمن موقع الدين سواءً بالإسلام أو المسيحية، لأنه يبدأ بسماوية الإنسان، وقيمته المقدّسة، وأنفاسه الروحية، وذاته المجبولة بالرحمة والمودة، وهذا جوهر الرسالات السماوية، وهو موقع حاجتنا الماسّة في هذا البلد الذي يعاني من طعنات الصراع الدولي والإقليمي، وهو ما يفترض بالمسجد والكنيسة التضامن الشامل لعون خلق الله، وإغاثة المظلوم والمكروب والمضطهد، وما أكثر المضطهدين والمظلومين بدنيا الإنسان".
وتابع: "بخلفية هذه الحقيقة، أتوجّه للقوى السياسية والعائلة اللبنانية في هذا البلد لأقول: نحن لسنا بلحظة وطنية تاريخية فقط، بل بلحظة إقليمية معقّدة وغامضة وشديدة المخاطر، والمفروض حماية لبنان كوطن وعائلة لبنانية، ومنع اللعبة الدولية عن واقع بلدنا المأزوم، والعين في هذا المجال على محبة الكنيسة ورحمة المسجد وحرّاس المصالح الوطنية، وما يليق بأتباع هاتين الديانتين الكريمتين لإنقاذ البلد من دهاليز السياسة الإقليمية والدولية، وهنا تكمن مسؤولية الخطاب الوطني والمشروع الحكومي، والحكومة في هذا المجال مطالبة بسياسات وطنية وخيارات لبنانية تليق بحاجات الظرف المحلي والدولي الصارخ، وأيّ خطأ في مواقف الحكومة الوطنية يضع البلد كلّه في مأزق، واعلموا أن العالم ليس جمعية خيرية، وبلدنا موجود ضمن غابة دولية تعتاش على الدم والخراب والاستنزاف الاقتصادي والسياسي. إن ما تقوم به إسرائيل هو طغيان وحشي وجرائم سيادية موصوفة وسحق لقرار وقف إطلاق النار، من وراء بسمة أمريكية ودعم لا محدود، وردّنا هو المزيد من التمسك بالمقاومة والالتفاف حولها، وتأكيد لخيارها الوطني والسيادي، وقيمة لبنان من قيمة الجيش والمقاومة والإصرار الوطني الشامل على التضحية من أجل لبنان، والدولة مطالبة بمواقف حازمة من الضامن الأمريكي الذي لا يجيد إلا الغدر، ولا قيمة للبنان بلا قوة سيادية تكافح من أجل سيادة هذا البلد".
واضاف متوجها الى "الإخوة العرب": "لبنان دفع عن قضايا العرب والمنطقة أغلى الأثمان طيلة عقود طويلة وما زال، وما قدّمه في سجلّ قضايا العرب لم تُقدّمه دولة بالإقليم على الإطلاق، وما قدّمته المقاومة يفوق كل ما قدّمه العرب مجتمعين طيلة نصف قرن وما زالت، والمطلوب من دول المنطقة الكفّ عن شؤون لبنان الداخلية، وقصة شقيق وصديق يجب أن تصبّ في صالح العائلة الوطنية، وإلا مزّقت البلد، ولا نريد صداقات والتزامات تمزّق بلدنا، الحكومة مطالبة بتقديم سياسة واضحة حول المصالح الوطنية الميثاقية والسيادية، وعلى رأسها ما يجري في الجنوب اللبناني والضاحية والبقاع، واليوم لا ملف أهم من الملف الأمني والإعماري في الجنوب، والمناسبة الآن بشهر حزيران، وشهر حزيران يُذكّرنا بالاحتلال الإسرائيلي التاريخي لبيروت عام 1982، ولولا الملحمة السيادية التي قدّمتها المقاومة لكُنّا الآن أمام احتلال إسرائيلي شبيه باحتلال عام 1982. وبهذا السياق يجب أن لا ينسى اللبنانيون انتفاضة 6 شباط التي استعادت الدولةَ من قبضة الاحتلال الإسرائيلي، وللتاريخ والعائلة اللبنانية أُذكّر أن ما قامت به المقاومة سيما حركة أمل وحزب الله بل وكل الجهات التي بذلت أعظم ما لديها لإنقاذ وحماية لبنان من أخطر المشاريع الصهيونية منذ العام 1982 وحتى هذه اللحظة هو أهم فعل تاريخي ضامن لهذا البلد بعد نشأة لبنان، والآباء الأوائل الذين نهضوا بنشأة لبنان هم الأساس الأول للقيمة الوطنية والعائلة اللبنانية، ولأن الحفاظ على لبنان يفترض الحفاظ على أخطر مناطقه الساخنة، لذلك على الدولة اللبنانية أن تعلم بأنّ شبكة المصالح الوطنية تاريخياً تبدأ من الجنوب اللبناني بحكم موقعه وتضحياته من قضايا المنطقة الساخنة سيما القدس وفلسطين، والقيمة الوطنية تبدأ من الجنوب وتعود إليه، وهناك من صارح الحكومة والدولة اللبنانية (من دول المنطقة الموثوقة) بأنه على استعداد فعلي للبدء مباشرةً بورشة إعمار شاملة، ولذلك المطلوب من الحكومة أن تكون واضحةً مع شعبها بالجواب، والالتزامات الدولية التي تمنع الحكومة من قبول عروض إعادة إعمار الجنوب والضاحية والبقاع إنما تريد تمزيق لبنان وطمره بالأزمات الهيكلية والوطنية، وليس مقبولاً رفض مبادرات إعمار الجنوب والضاحية والبقاع، خاصةً أننا في بلد يعاني من كارثة مالية، ونكبة اقتصادية وحصار دولي إقليمي، يمنع إنعاش قطاعاته المختلفة، فيما العين على استنزاف لبنان وتدمير موقعه السياسي والأخلاقي".
وتوجه الى الحكومة: " لا بدّ من انتشال لبنان داخلياً، وواقع البلد وإمكاناته الداخلية تسمح بمشاريع إنعاش اقتصادي وسياسات تنموية وريادية، المطلوب تحديث الأنظمة الاستثمارية واستغلال أصول الدولة، وتشريك القطاع الخاص، وكبح مارد الفساد، ودعم الصناعات الإبداعية والدوائية، وتحفيز المنصات والمشاريع الرقمية، ولا نهوض اقتصاديا بلا أمن وقضاء مستقل، ومن دون فعالية قوانين مكافحة الفساد لا اقتصاد ولا ثقة ولا قيام للدولة ومشروعها. وفي هذا السياق يجب رقمنة المعاملات الحكومية والدخول في العصر الرقمي، وإلا تحول البلد الى خردة من فساد ورشوة وفشل وانهيار، وكل ذلك يمرّ بسياسات وطنية وورش فكرية ورعائية، ونيّة حكومية جادّة لبناء المواطن اللبناني بعيداً عن تسونامي الكسل والدهاليز والفساد، وسط بلد بلا أنظمة اجتماعية، ولا قيمة تقاعدية، ولا سياسات رعائية وإنسانية، والانتخابات على الأبواب".

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

بين العنصرة وأبراج بابل
بين العنصرة وأبراج بابل

النهار

timeمنذ 5 ساعات

  • النهار

بين العنصرة وأبراج بابل

أستاذ في كلّية اللاهوت والعلوم البيبلية "تعالوا نبنِ لنا مدينةً وبرجًا رأسه في السّماء، ونُقِم لنا اسمًا فلا نتشتّت على وجه الأرض كلّها". هذا ما نقله إلينا سفر التكوين عن أهل الأرض، حين أرادوا أن يصنعوا لأنفسهم اسمًا. إنها تجربة رافقت البشر منذ فجر وجودهم، ولن تفارقهم. أمّا تتِمّة القصة، فجميعنا يعرفها جيدًا: "نزل الله وبلبل لغتهم، فشتّتهم من هناك، فكفَّوا عن بناء المدينة، ولهذا سُمّيت بابل". ولطالما شهد التاريخ محاولات جمّة لـ"بناء مدن وإقامة اسم لأهل الأرض" بعيدًا عن الله، لا بل ضدّه أحيانًا كثيرة. إنها بابل الدائمة حتى انقضاء الدهر. وصفحات الكتاب المقدس تعجّ بآيات عديدة تُظهر قساوة هذا المَيل عن الله وعن مشيئته. ألم يقل الربّ على لسان إرميا النبيّ: "تركوني أنا ينبوع الماء الحي، وحفروا لهم آبارًا مشقّقة لا تُمسك الماء"؟ إنها مأساة يتردّد صداها في قول السيد المسيح: "لكنكم لا تريدون أن تجيئوا إليَّ لتكون لكم الحياة" (يوحنا 5: 40). الفكر الفلسفيّ منذ بداياته، وعلى غرار الوحي البيبلي، أدرك ضرورة بناء مدينة الإنسان بانفتاح تام على قِيم الخير المُطلق. يرسم لنا أفلاطون، على سبيل المثال، في كتابه Politeia (القرن الرابع ق.م)، نظام تلك المدينة التي يسودها العدل والخير بفعل حكم العقل والحكمة. إنها المدينة الأجمل Kallίstē pólis)) ، في حين يشكّل الابتعاد عنها ولوجًا في متاهة المدينة الأسوأ حيث يسود حكم الطغاة بحسب تعبيره. مع ظهور الفكر المسيحي، حاول القديس أوغسطينوس (354- 430) في مؤلَّفه الشهير "مدينة الله" تأويل التاريخ البشري على أنه صراع دائم بين مدينتين، مدينة الله من جهة، وهي مدينة من قدّموا محبة الله على محبة ذواتهم، والمدينة الأرضيّة من جهة أخرى، وهي مدينة من آثروا ذواتهم على الله. ويخلص إلى القول، إن ما يحقّق عظمة البشرية، ليست النجاحات السياسية أو العسكرية، إنما الانتماء إلى مدينة الله، وكل مدينة لا تخدم الإله الحق تغدو خادمة للشيطان. الفارابي من جهته (872 -950) نظّرَ في إمكان قيام مدينة فاضلة على الأرض، إذا توافَر لقيادتها حاكم كامل العقل والأخلاق يقود الناس إلى السعادة عبر نظام مثاليّ يمكن إرساؤه. في كل الأحوال، إن الخطّ الجامع بين المدن الثلاث، يتمثّل في ضرورة الانفتاح على من هو أسمى من المُعطى البشري البحت. أي الخير المطلق عند أفلاطون، والله الخالق عند أوغسطينوس، وواجب الوجود عند الفارابي، إذ من دون هذا الانفتاح، ستتبلبل المدينة حتمًا، وستفقد غايتها القصوى والمعنى النهائي لوجودها. أوليس هذا ما حدث في نهاية الأمر لبابل العظيمة؟ مع بروز الفكر الإلحادي المنهجي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عادت بابل لتبني ذاتها مجدّدًا وإن بصور مختلفة. فويربَخ، ماركس، نيتشه، فرويد وغيرهم، كانوا من أبرز مهندسيّ أبراجها. مع نيتشه (1844–1900)، وبأفول فكرة وجود الله في الغرب المسيحي، ونتيجةً لتقهقر الإيمان بِالقِيَم الدينية، وبفعل تقدّم العلوم والعقلانية والنقد الفلسفي، تعاظم لدى بعضهم الشعور بأن الله لم يَعُد قائمًا ككائن ميتافيزيقي، وأضحى من الممكن بالتالي إعلان موته وتصفية حضوره، مِمَّا أدّى في النهاية إلى انهيار النظام القِيَميّ، والمعنى النهائي للحياة، واجتياح العدميّة لكل شيء. بُغية تجاوز هذا الخواء، طرح نيتشه مفهوم "الإنسان الأعلى" Übermensch)) ، خالق القِيَم ومركز المعنى. غير أن هذا الإنسان النيتشَوي لم يرَ النور، وكذلك الحضارة الجديدة التي أمَل نيتشه ولادتها، بل تفاقم الضياع، وسادت العدميّة (Nihilismus). وها نحن مجددا أمام تشتّت مرير نكفّ فيه مُرغمين عن بناء مدننا، تشتّت لا تكتمل فيه أبراجنا، مهما علت. ولا عجب إذا في أن يُقدّم العهد الجديد بابلَ، كما الفكر المسيحي من بعده، كحضارة معادية لله والإنسان على حدّ سواء، ويحسم حتميّة سقوطها وطرحها بعيدًا بسبب رجاستها، وجشعها، وعُنفها، وهي نعوت ذكرها سفر الرؤيا بدقّة ليجعل من بابل حالةً حضاريةً ملازمةً لكل الأزمنة. وما يزيد ثقل هذه النعوت وجسامتها، أن مصدرها هو كتاب الرؤيا تحديدًا، وهو كتاب الرجاء بامتياز، والناظر إلى سماء جديدة وأرض جديدة، والمنتظِر المدينة المقدّسة النازلة من عند الله (رؤيا 21: 1- 2). غير أن ما يريد الله إنزاله من عَلُ، يجب ألّا يُنتظر في نهاية الأزمنة فقط، وهذا ما حصل عمليًا في حدث العنصرة. فالعنصرة ستشكّل من هذا المنظور حدث انسكاب المستقبل الذي أعدّه الله لنا في قلب الزمن الحاضر، وعربون الدهر الآتي وبذرته. ولا يمكن اعتبارها حدثًا ماضيًا أو منفصلًا عن المستقبل الأُخْرَوِيّ، لأنها واقعة تتجاوز زمانها ولا تنحصر في محدوديته، بل تشكّل بداية الأزمنة الأخيرة، والقلب الجديد المُفعم بروح الله؛ واللغة التي تتجاوز الانقسامات الأنتروبولوجيّة كلّها. فالسمات الجوهرية التي يصف بها سفر الرؤيا أورشليم السموية، كوحدة الشعوب، وحضور الله وسط شعبه، ونهر الحياة الجاري من عرش الحمل، ليست مجرد مشهد أُخرَوي (Eschatological scene) بعيد ومنفصل عن مجرى تاريخنا، بل تضرب جذورها في حدث العنصرة نفسه، حيث امتلأ المكان بحضور الله، وارتوى الحاضرون من نهر روح القدس، إلى حدّ بدا فيه وكأنهم سكارى (أعمال الرسل 2: 1-15). ولا مبالغة في القول إنها من أجمل إبداعات الله في الزمن. والكنيسة ولدت فيها وتحمل سماتها. ولقد شكّلت العنصرة عمليّا رباط الوحدة بين الكنيسة ومدينة الله النهائية. ومن جهة أخرى، غرست بذور العالم الجديد، وصار من الممكن القول إننا نعيش في هذا الزمن، لكننا نتجاوزه بصورة دائمة، على قاعدة أننا في العالم، لكننا لسنا من العالم، لأن العنصرة لم تؤسس البُعد الأُفقيّ للكنيسة فحسب، بل رسّخت بُعدها العمودي أيضًا. وصار بالتالي من غير الممكن أن تتماهى الكنيسة أو تذوب في أي جماعة أو نظام دنيوي بحت. لذا كان أوغسطينوس محقّا في اعتباره مدينة الله أوسع وأشمل من الكنيسة المنظورة، بمعنى أنها تتجلى في الكنيسة طبعًا، ولكن لا تُختزل فيها. وهذه رؤية تضمن الحقيقة وتميّز في النهاية بين الجزء والكل، والكامل والناقص، وتفتح الأفق أمامنا لنفهم أن الكنيسة في كيانها ليست مؤسسة ظهرت بعد العنصرة، ولا بمعزل عنها، بل هي عنصرة دائمة، وستبقى دومًا كذلك. بغير هذا البُعد الكياني- الروحي، لن تتمكن الكنيسة من تأدية دورها الجامع في شفاء الانقسام البشري وتمزّقاته، ولا في ترجمة ما يقوله الروح بلغات العالم أجمع (أعمال الرسل 2: 4-8). من هنا، تصبح العنصرة ردّ الله الدائم على بابل الأزمنة كلها. وما لم تنفتح حضارتنا عليه بلا تحفّظ، ستبقى مهددة بأن تصبح بابل جديدة. غير أن الرجاء الذي فينا يشهد ويقول: حيثما تمزّق البشر بسبب غرورهم، سيعيدُ الله وحدتهم. وحيثما حاول الناس تشييد أبراج معادية بوجه خالقهم، سيُنزل الله روح محبته ليرفعهم. وحيثما يسعى بنو آدم ليصنعوا اسمًا لهم، لن يُعطى لهم إلّا اسم الله مُخَلّصهم. وحيثما تألّم المساكين من الشعور بالعدميّة وفقدان المعنى في حياتهم، سينجح الله في سكب روحه المُعزّي في قلوبهم.

أبي المنى: لإعلاء صوت الحكمة على أصوات النشاز
أبي المنى: لإعلاء صوت الحكمة على أصوات النشاز

IM Lebanon

timeمنذ يوم واحد

  • IM Lebanon

أبي المنى: لإعلاء صوت الحكمة على أصوات النشاز

أمّ شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي أبي المنى المصلّين صبيحة عيد الأضحى المبارك في مقام المرحوم الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى في بلدة شانيه، بمشاركة شخصيات روحية وقضاة من المذهب الدرزي وأعضاء من المجلس المذهبي ومسؤولين في مديريتي المجلس ومشيخة العقل. وبعد تأدية الصلاة، ألقى شيخ العقل خطبة العيد، جاء فيها: 'إخواني، أيُّها المسلمون المؤمنون الموحِّدون، صباحُكم عيدٌ وعيدُكم مبارك. إنه صباحُ الأمل والعمل، يُشرقُ علينا بعد فجرٍ وليالٍ عشر؛ فجرِ الأمل برحمة الله، وليالي الجهاد في سبيل الله، وإنَّه العيدُ يتجلَّى بمعانيه الروحية والاجتماعية السامية، ويحملُ في راحتَيه أطباقَ السعادة للمستحقِّين الذين فرحوا بالفجر وجاهدوا في الليالي العشر. إننا نرفعُ الصلاة والدعاء لجميع المسلمين وبني البشر،سائلين اللهَ عزّ وجَلّ أن يُبصِّرَنا بحقيقة ما خُلقنا لأجله،وقد سخَّر لنا جميعَ مخلوقاته: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾، لا لشيءٍ سوى لكي نحقِّقَ الغايةَ من وجودِنا، وذلك لا يكونُ إلّا بفعل الإيمان والطاعة والتضحية والشكر والصبر، حيث يُجزى المؤمنُ الشَّكورُ الصَّبورُ جزيلَ الخير والثواب. جاء في الحديث الشريف قولُه (ص): 'عَجبًا لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَه كلَّهُ له خيرٌ، و ليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابتْهُ سرَّاءٌ شكرَ وكان خيرًا لهُ، وإن أصابتْهُ ضرَّاءٌ صبرَ فكان خيرًا له'. أضاف: 'لقد انقضتِ الأيامُ والليالي المباركة، وانقضت معها مناسكُ الحجِّ إحراماً وطوافاً وسعياً وترويةً ووقوفاً، إلى أن أطلَّ يومُ التضحية والنحرِ إتماماً لها وبلوغاً للغاية منها، وما الغايةُ سوى نيلِ رضا الله وثوابُه بالقَبول والطاعة والانصياع لأمره تعالى الذي يُبدِّلُ العسرَ يُسراً والحزنَ فرحاً والغَمَّ سعادة، وهو الرحمنُ الرحيم، يمتحنُ عبدَه فيجازيه، ويبلوهُ فيُكافيه، ويوفِّقُ مَن سعى في مرضاتِه، ويفتدي ما هو غالٍ لدى المؤمن الصادق بما هو بخسٌ وإن كان عظيماً، لقوله تعالى:'وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ'، لأنه تعالى يُجازي بالإحسانِ إحسانا وبالسيِّئات عفواً وغفرانا، وهو تعالى القائلُ في مُحكم تنزيله: 'إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ'. طوبى لمن قبلَ أوامرَ الله تعالى وانتهى عن نواهيه، فسلك دربَ التضحية وارتقى في معارجِ المعرفة وصعد على درجاتِ الحكمة، مُغلِّباً الطاعةَ على المعصية، والنورَ على الظُّلمة، والتواضعَ على الاستكبار، والحِلمَ على الجهل،والليونةَ على المعاندة، مضحّياً بأهوائه ورغباته وبكلِّ ما يُعيقُه عن سلوك الدرب وعن تحقيق إنسانيّتِه المُثلى، ولو كان أثمنَ ما لديه، وأحبَّ ما عنده، أو بعضاً من هذا وذاك، حيث لا يُحمِّلُ اللهُ الإنسانَ مَا لَا طَاقَةَ لَه بِهِ ، لقولِه تعالى: 'لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚلَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ'. وتابع: 'العيدُ واحةُ سعادةٍ للروح قبل أن تكون فُسحةَ فرحٍ وابتهاج؛ واحةٌ تتسّعُ أو تَضيقُ بحسَب ما نُقدِّمُه من سعيٍ حثيث لإصلاح النفس وإصلاحِ ذاتِ البَين، وبحسب ما نستمرُّ عليه من مثابرةٍ ومجاهدة وما نختزنُه من زاد المعرفة والتقوى والعمل الصالح، فهنيئاً لمن عرف معنى العيد فأدخل البهجةَ الحقيقيةَ إلى قلبه وإلى قلوب إخوانه وأهلِه ومجتمعِه، وهنيئاً لمن أدركَ أن العيدَ صلاةٌ وصِلة؛ صلاةٌ بين المؤمن وخالقه، وصلةٌ بينه وبين أخيه ونظيره الإنسان، إذ مهما أُقيمتِ الصلاةُ وأُتِمَّ الواجبُ وصَدقتِ الزُلفى إلى الله سبحانه وتعالى، إلَّا أنّها لا تكتملُ إذا لم تَقترنْ بالتقرُّبِمن الناس ومحبتِهم ورحمتِهم، وبعيشِ الأُخوّة الصادقة معهم، وبالتعارف والتقوى. قال تعالى: 'يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ'. الأضحى معناه التضحية، والتضحيةُ هي غذاءُ الحياة، والحياةُ تُبنى على المحبّة لا على الكراهية، وعلى صفاء القلوب ورجاحة العقول لا على الحقد والجهل، وقد علّمنا أجدادُنا أنّ «حفظ الإخوان» ركنٌ من أركان الإيمان، وأنّ العيشَ المشترك ميثاقُ شرفٍ لا يُمسّ، وكلا الأمرين لا يقومان بغير التضحية. فمعَ كلّ أُضحيةٍ رمزيةٍ نقدّمُها اليوم، نَنحرُ الفُرقةَ ليسلَمَ المجتمع، والأنانيةَ لنحفظَ الوطن، والفوضى لنحقِّقَ الطمأنية، وقد آلينا على أنفسِنا أن نكون أوَّلَ المُضحّين والساعين من أجل صون تراثنا الروحيّ والاجتماعيّ والوطنيّ، والوقوفِ سدّاً منيعاً بوجه من يحاولُ تمزيقَ هُويتنا الوطنية الجامعة، وأوَّلَ المنادين بتحويل المبادئ الروحية إلى مبادراتٍ اجتماعية، سائلين الله تعالى أن يتقبّلَ منَّا ومنكم الصلاةَ والدعاء وأن يجعلَ من أعيادِنا عيداً أكبرَ للوطن وللإنسانية'. وقال: 'أمَّا على مستوى الأوضاع الراهنة، فللعيد معنىً إضافيٌّ يدعونا إلى التعامل مع الأمور بمنطق الحكمة والشجاعة، بالإقدام هنا والتضحيةِ هناك، وبالوعي الفردي والجماعي في مواجهة التحديات وأداء مهمة الإصلاح والإنقاذ، وقد لمسنا ذلك في مسيرة العهد الجديد وحركة الحكومة الواعدة، وإن كان المطلوبُ أكثرَ بكثير لإعادة البناءِ نتيجةَ التراكمات والفوضى التي تحكّمت بالبلاد على مدى عقود. لقد أثبتَتِ الخطواتُ الأولى للدولة بأنَّ الأمورَ تسيرُ في الاتّجاه الصحيح، ممَّا أنعشَ الأملَ والثقةَ لدى اللبنانيين بدولتهم، ولدى أشقّائهم العربِ والمجتمع الدولي بلبنان، وكأنَّه عائدٌ في القريب العاجل إلى معناه الحضاري ودوره الرسالي وحضوره المؤثّر وواقعه النوعي، إذا ما تشاركَ الجميعُ في فَهم هذا المعنى ولعِبِ هذا الدور وتأكيدِ هذا الحضور وصُنعِ هذا الواقع. إنها الشراكةُ الروحيةُ الوطنية التي نادينا وننادي بها، والتي لا نرى غيرَها مِظلَّةً للإصلاح والإنقاذ، شراكةٌ حقيقية تجمعُ العائلاتِ الروحيةَ والقوى الوطنية وأركانََ الدولة تحت سقفِ الوطن الواحدِ الموحَّد، وكم نحن بحاجةٍ إلى هذا الغطاءِ المعنويّ لنصون مهمةَ الإصلاح من الفساد ولنُنقذَ الوطنَ من الضَّياع، خاصةً وأننا نعيشُ ظروفَ التغيير الحتميِّ في المنطقة، حيث التدميرُ والتهجيرُ في مكان، وأهلُ غزَّةَ يدفعون الثمنَ الأكبر، وحيثُ انطلاقةُ عملياتِ البناء والاستثمار في مكانٍ آخر، وأبناءُ سوريا يستعيدون الحياةَ بقرارٍ دوليٍّ موازٍ، وحيثُ لبنانَ يستعدُّ للانطلاق بحذرٍ وبطء، ولكن بإرادةٍ وحزم، على أمل ألَّا يتأخَّر فيفوتُه القطار، وهذا هو التّحدّي'. واستطرد: 'كم نحن بحاجةٍ في زمن الأضحى المبارك إلى إعلاء صوت الحكمة والإيجابية على أصوات النشاز والعنتريات الفارغة والإساءاتِ المتعمَّدة والإطلالات الإعلامية الاستعراضية، لأن مسيرة العهد وخطابَ الدولة ومقتضياتِ المرحلة تفرضُ على الجميع أن يتحلَّوا بروح المسؤولية وتوجبُ على المتطرِّفين إسكاتَ أبواق المناكفة والسلبية في داخلهم. لقد تحقّقت جملةُ إنجازاتٍ تبشِّرُ بالخير، وعولجت جملةُ قضايا ولا بدَّ من استكمال المعالجات، واتُّخذ قرارُ قيام الدولة وبسطِ سلطتها في كلِّ مكان، والمطلوبُ هو التفاهمُ والحوار، ولكن معَ الإصرار على القرار، والتأكيد على حل المشاكل العالقة بروح إيجابية تصالحية، لا تصادميّة، وبإرادة وطنية قويَّة. نريدُ السلام، ولا شيء غيرَ السلام، لكننا نأبى الإذلالَ وطمسَ الهوية الذاتيةِ والوطنية. نُقرُّ بأنّنا نعيشُ عصرَ التغيير والانفتاح، لكنَّنا نرفضُ المساومة على حق الفلسطينيين وعلى حقوق الشعوب المستضعَفة، واستمرارَ حرب الإبادة والتدمير والتهجير وانتهاكِ حرمة المقدَّسات'. وأردف: 'نؤيِّدُ انتصارَ الثورة في سوريا على نظام القهر والاستبداد، وقيامَ إدارة جديدة تستمدُّ قيمَها من قيم ديننا الإسلاميِّ الحنيف، لكنَنا نحذِّرُ من التكفير والتطرُّف والتعصُّب الأعمى ومن إهمال حقوقِ الطوائفِ والمناطق. نعترفُ بالواقع الجديد الذي أسفرت عنه حربٌ عدوانيةٌ همجيةٌ مدمِّرة على جنوب لبنان، لكنّنا نَدينُ استمرارَ احتلالِ أراضٍ في جنوب لبنانَ ومواصلة الأعمال العدوانية بعد حصول اتفاق وقف إطلاق النار، وندعو دولَ القرار إلى وضعِ حدٍّ لمحاولات زعزعة الاستقرار والتشويش على نجاح العهد وعلى قرارِ إعادةِ بناء الدولة ومؤسساتها'. وختم: 'إنه الوقتُ الأنسبُ للتضامن ولتعزيز روح الشراكة بين اللبنانيين، ولتشجيع الشباب والمغتربين على الانخراط في مهمة البناء، وقد أطلَّت بشائرُ العودةِ العربيةِ إلى لبنان، ويجبُ أن تُستكمَلَ بتشجيع الاستثمار وإطلاق عجلة المشاريع الاقتصادية التي تُحصِّنُ الأمنَ الاجتماعيَّ والغذائيَّ للّبنانيين، وتعود بالنفعِ على لبنانَ وأشقَّائه العرب. ليكُنِ العيدُ حافزاً لرفع منسوب التفاؤلِ والأمل، بإقرانِه بإرادة التعاون والعمل. أضحى مبارَك وكلُّ عيدٍ وأنتم بخير'.

شيخ العقل في خطبة الأضحى: اتُّخذ قرار قيام الدولة والمطلوب التفاهم والحوار
شيخ العقل في خطبة الأضحى: اتُّخذ قرار قيام الدولة والمطلوب التفاهم والحوار

المركزية

timeمنذ يوم واحد

  • المركزية

شيخ العقل في خطبة الأضحى: اتُّخذ قرار قيام الدولة والمطلوب التفاهم والحوار

أمّ شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي أبي المنى المصلّين صبيحة عيد الأضحى المبارك في مقام المرحوم الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى في بلدة شانيه، بمشاركة شخصيات روحية وقضاة من المذهب الدرزي وأعضاء من المجلس المذهبي ومسؤولين في مديريتي المجلس ومشيخة العقل. وبعد تأدية الصلاة، ألقى شيخ العقل خطبة العيد، جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيِّبين، إخواني، أيُّها المسلمون المؤمنون الموحِّدون، صباحُكم عيدٌ وعيدُكم مبارك. إنه صباحُ الأمل والعمل، يُشرقُ علينا بعد فجرٍ وليالٍ عشر؛ فجرِ الأمل برحمة الله، وليالي الجهاد في سبيل الله، وإنَّه العيدُ يتجلَّى بمعانيه الروحية والاجتماعية السامية، ويحملُ في راحتَيه أطباقَ السعادة للمستحقِّين الذين فرحوا بالفجر وجاهدوا في الليالي العشر. إننا نرفعُ الصلاة والدعاء لجميع المسلمين وبني البشر،سائلين اللهَ عزّ وجَلّ أن يُبصِّرَنا بحقيقة ما خُلقنا لأجله،وقد سخَّر لنا جميعَ مخلوقاته: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾، لا لشيءٍ سوى لكي نحقِّقَ الغايةَ من وجودِنا، وذلك لا يكونُ إلّا بفعل الإيمان والطاعة والتضحية والشكر والصبر، حيث يُجزى المؤمنُ الشَّكورُ الصَّبورُ جزيلَ الخير والثواب. جاء في الحديث الشريف قولُه (ص): "عَجبًا لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَه كلَّهُ له خيرٌ، و ليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابتْهُ سرَّاءٌ شكرَ وكان خيرًا لهُ، وإن أصابتْهُ ضرَّاءٌ صبرَ فكان خيرًا له". اضاف: "لقد انقضتِ الأيامُ والليالي المباركة، وانقضت معها مناسكُ الحجِّ إحراماً وطوافاً وسعياً وترويةً ووقوفاً، إلى أن أطلَّ يومُ التضحية والنحرِ إتماماً لها وبلوغاً للغاية منها، وما الغايةُ سوى نيلِ رضا الله وثوابُه بالقَبول والطاعة والانصياع لأمره تعالى الذي يُبدِّلُ العسرَ يُسراً والحزنَ فرحاً والغَمَّ سعادة، وهو الرحمنُ الرحيم، يمتحنُ عبدَه فيجازيه، ويبلوهُ فيُكافيه، ويوفِّقُ مَن سعى في مرضاتِه، ويفتدي ما هو غالٍ لدى المؤمن الصادق بما هو بخسٌ وإن كان عظيماً، لقوله تعالى:"وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ"، لأنه تعالى يُجازي بالإحسانِ إحسانا وبالسيِّئات عفواً وغفرانا، وهو تعالى القائلُ في مُحكم تنزيله: "إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ". طوبى لمن قبلَ أوامرَ الله تعالى وانتهى عن نواهيه، فسلك دربَ التضحية وارتقى في معارجِ المعرفة وصعد على درجاتِ الحكمة، مُغلِّباً الطاعةَ على المعصية، والنورَ على الظُّلمة، والتواضعَ على الاستكبار، والحِلمَ على الجهل،والليونةَ على المعاندة، مضحّياً بأهوائه ورغباته وبكلِّ ما يُعيقُه عن سلوك الدرب وعن تحقيق إنسانيّتِه المُثلى، ولو كان أثمنَ ما لديه، وأحبَّ ما عنده، أو بعضاً من هذا وذاك، حيث لا يُحمِّلُ اللهُ الإنسانَ مَا لَا طَاقَةَ لَه بِهِ ، لقولِه تعالى: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚلَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ". وتابع: "العيدُ واحةُ سعادةٍ للروح قبل أن تكون فُسحةَ فرحٍ وابتهاج؛ واحةٌ تتسّعُ أو تَضيقُ بحسَب ما نُقدِّمُه من سعيٍ حثيث لإصلاح النفس وإصلاحِ ذاتِ البَين، وبحسب ما نستمرُّ عليه من مثابرةٍ ومجاهدة وما نختزنُه من زاد المعرفة والتقوى والعمل الصالح، فهنيئاً لمن عرف معنى العيد فأدخل البهجةَ الحقيقيةَ إلى قلبه وإلى قلوب إخوانه وأهلِه ومجتمعِه، وهنيئاً لمن أدركَ أن العيدَ صلاةٌ وصِلة؛ صلاةٌ بين المؤمن وخالقه، وصلةٌ بينه وبين أخيه ونظيره الإنسان، إذ مهما أُقيمتِ الصلاةُ وأُتِمَّ الواجبُ وصَدقتِ الزُلفى إلى الله سبحانه وتعالى، إلَّا أنّها لا تكتملُ إذا لم تَقترنْ بالتقرُّبِمن الناس ومحبتِهم ورحمتِهم، وبعيشِ الأُخوّة الصادقة معهم، وبالتعارف والتقوى. قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ". الأضحى معناه التضحية، والتضحيةُ هي غذاءُ الحياة، والحياةُ تُبنى على المحبّة لا على الكراهية، وعلى صفاء القلوب ورجاحة العقول لا على الحقد والجهل، وقد علّمنا أجدادُنا أنّ «حفظ الإخوان» ركنٌ من أركان الإيمان، وأنّ العيشَ المشترك ميثاقُ شرفٍ لا يُمسّ، وكلا الأمرين لا يقومان بغير التضحية. فمعَ كلّ أُضحيةٍ رمزيةٍ نقدّمُها اليوم، نَنحرُ الفُرقةَ ليسلَمَ المجتمع، والأنانيةَ لنحفظَ الوطن، والفوضى لنحقِّقَ الطمأنية، وقد آلينا على أنفسِنا أن نكون أوَّلَ المُضحّين والساعين من أجل صون تراثنا الروحيّ والاجتماعيّ والوطنيّ، والوقوفِ سدّاً منيعاً بوجه من يحاولُ تمزيقَ هُويتنا الوطنية الجامعة، وأوَّلَ المنادين بتحويل المبادئ الروحية إلى مبادراتٍ اجتماعية، سائلين الله تعالى أن يتقبّلَ منَّا ومنكم الصلاةَ والدعاء وأن يجعلَ من أعيادِنا عيداً أكبرَ للوطن وللإنسانية". ومضى يقول: "أمَّا على مستوى الأوضاع الراهنة، فللعيد معنىً إضافيٌّ يدعونا إلى التعامل مع الأمور بمنطق الحكمة والشجاعة، بالإقدام هنا والتضحيةِ هناك، وبالوعي الفردي والجماعي في مواجهة التحديات وأداء مهمة الإصلاح والإنقاذ، وقد لمسنا ذلك في مسيرة العهد الجديد وحركة الحكومة الواعدة، وإن كان المطلوبُ أكثرَ بكثير لإعادة البناءِ نتيجةَ التراكمات والفوضى التي تحكّمت بالبلاد على مدى عقود. لقد أثبتَتِ الخطواتُ الأولى للدولة بأنَّ الأمورَ تسيرُ في الاتّجاه الصحيح، ممَّا أنعشَ الأملَ والثقةَ لدى اللبنانيين بدولتهم، ولدى أشقّائهم العربِ والمجتمع الدولي بلبنان، وكأنَّه عائدٌ في القريب العاجل إلى معناه الحضاري ودوره الرسالي وحضوره المؤثّر وواقعه النوعي، إذا ما تشاركَ الجميعُ في فَهم هذا المعنى ولعِبِ هذا الدور وتأكيدِ هذا الحضور وصُنعِ هذا الواقع. إنها الشراكةُ الروحيةُ الوطنية التي نادينا وننادي بها، والتي لا نرى غيرَها مِظلَّةً للإصلاح والإنقاذ، شراكةٌ حقيقية تجمعُ العائلاتِ الروحيةَ والقوى الوطنية وأركانََ الدولة تحت سقفِ الوطن الواحدِ الموحَّد، وكم نحن بحاجةٍ إلى هذا الغطاءِ المعنويّ لنصون مهمةَ الإصلاح من الفساد ولنُنقذَ الوطنَ من الضَّياع، خاصةً وأننا نعيشُ ظروفَ التغيير الحتميِّ في المنطقة، حيث التدميرُ والتهجيرُ في مكان، وأهلُ غزَّةََ يدفعون الثمنَ الأكبر، وحيثُ انطلاقةُ عملياتِ البناء والاستثمار في مكانٍ آخر، وأبناءُ سوريا يستعيدون الحياةَ بقرارٍ دوليٍّ موازٍ، وحيثُ لبنانَ يستعدُّ للانطلاق بحذرٍ وبطء، ولكن بإرادةٍ وحزم، على أمل ألَّا يتأخَّر فيفوتُه القطار، وهذا هو التّحدّي". واستطرد: "كم نحن بحاجةٍ في زمن الأضحى المبارك إلى إعلاء صوت الحكمة والإيجابية على أصوات النشاز والعنتريات الفارغة والإساءاتِ المتعمَّدة والإطلالات الإعلامية الاستعراضية، لأن مسيرة العهد وخطابَ الدولة ومقتضياتِ المرحلة تفرضُ على الجميع أن يتحلَّوا بروح المسؤولية وتوجبُ على المتطرِّفين إسكاتَ أبواق المناكفة والسلبية في داخلهم. لقد تحقّقت جملةُ إنجازاتٍ تبشِّرُ بالخير، وعولجت جملةُ قضايا ولا بدَّ من استكمال المعالجات، واتُّخذ قرارُ قيام الدولة وبسطِ سلطتها في كلِّ مكان، والمطلوبُ هو التفاهمُ والحوار، ولكن معَ الإصرار على القرار، والتأكيد على حل المشاكل العالقة بروح إيجابية تصالحية، لا تصادميّة، وبإرادة وطنية قويَّة. نريدُ السلام، ولا شيء غيرَ السلام، لكننا نأبى الإذلالَ وطمسَ الهوية الذاتيةِ والوطنية. نُقرُّ بأنّنا نعيشُ عصرَ التغيير والانفتاح، لكنَّنا نرفضُ المساومة على حق الفلسطينيين وعلى حقوق الشعوب المستضعَفة، واستمرارَ حرب الإبادة والتدمير والتهجير وانتهاكِ حرمة المقدَّسات". وأردف: "نؤيِّدُ انتصارَ الثورة في سوريا على نظام القهر والاستبداد، وقيامَ إدارة جديدة تستمدُّ قيمَها من قيم ديننا الإسلاميِّ الحنيف، لكنَنا نحذِّرُ من التكفير والتطرُّف والتعصُّب الأعمى ومن إهمال حقوقِ الطوائفِ والمناطق. نعترفُ بالواقع الجديد الذي أسفرت عنه حربٌ عدوانيةٌ همجيةٌ مدمِّرة على جنوب لبنان، لكنّنا نَدينُ استمرارَ احتلالِ أراضٍِ في جنوب لبنانَ ومواصلة الأعمال العدوانية بعد حصول اتفاق وقف إطلاق النار، وندعو دولَ القرار إلى وضعِ حدٍّ لمحاولات زعزعة الاستقرار والتشويش على نجاح العهد وعلى قرارِ إعادةِ بناء الدولة ومؤسساتها". وختم الشيخ أبي المنى: "إنه الوقتُ الأنسبُ للتضامن ولتعزيز روح الشراكة بين اللبنانيين، ولتشجيع الشباب والمغتربين على الانخراط في مهمة البناء، وقد أطلَّت بشائرُ العودةِ العربيةِ إلى لبنان، ويجبُ أن تُستكمَلَ بتشجيع الاستثمار وإطلاق عجلة المشاريع الاقتصادية التي تُحصِّنُ الأمنَ الاجتماعيَّ والغذائيَّ للّبنانيين، وتعود بالنفعِ على لبنانَ وأشقَّائه العرب. ليكُنِ العيدُ حافزاً لرفع منسوب التفاؤلِ والأمل، بإقرانِه بإرادة التعاون والعمل. أضحى مبارَك وكلُّ عيدٍ وأنتم بخير". معايدة ‎ وفي إطار المعايدة بعيد الأضحى المبارك تمّ التواصل الهاتفي بين سماحة شيخ العقل الشيخ الدكتور سامي أبي المنى وكلٍّ من أصحاب السماحة الشيخ موفّق طريف والشيخ حكمت الهجري والشيخ يوسف جربوع والشيخ حمود الحناوي، وقد تمنّى سماحة الشيخ أبي المنى أن "يكون عيد الأضحى محطة مباركة، لتجديد النهضة الدينية وتثبيت القيم الاخلاقية في مجتمعاتنا، وللتأكيد على التعلق بإرث الأجداد التوحيدي والوطني الذي يبقى حافظاً للطائفة المعروفية ودافعاً لأبنائها لعيش الموّدة والاحترام في ما بينهم، فوق كل الاعتبارات"، وآملاً أن "تزول الغيوم من سماء المنطقة، وأن تبقى طائفة الموحدين الدروز محصنةً دائماً بتراثها التوحيدي وقيمها الاجتماعية وأصالتها الإسلامية والعربية التي عُرفت بها عبر التاريخ".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store