logo
إليزه سميردجيان وبقايا النساء في التطهير الأرمني

إليزه سميردجيان وبقايا النساء في التطهير الأرمني

صحيفة مكةمنذ 15 ساعات

في كتابها «بقايا» Remnants الفائز بجائزة AMEWS للكتاب للعام 2024، تقدم الباحثة والناشطة الأمريكية الأرمنية إليزه سيميردجيان Elyse Semerdjian ونشرت جامعة ستانفورد، دراسة من الطراز الأول لقصة الإبادة الجماعية التي اقترفتها تركيا في الشعب الأرمني في بداية القرن العشرين.
وهي باحثة لم تألُ جهدا تقدم مقارنات ودراسات بين الشعبين الأرمني والفلسطيني عاقدة لأوجه الشبه بين السياسة التركية العثمانية آنذاك والإسرائيلية اليوم. وهذا الكتاب الذي فاز بالمركز الأول بجدارة وبإجماع لجنة المسابقة مستحق منذ الصفحة الأولى التي تركتني أرتعش وأنا أقرأه حتى اتخذت لي وقتا ومكانا أكثر تركيزا يمكنني أن أقرأ فيه وأضع ملاحظاتي وقراءتي وتقييمي وأنا متمكنة من السيطرة على مشاعر الألم والغضب والهول الذي كان يجتاحني وأنا أعبر صفحاته.
أول ما يقابلك في الكتاب صورة الغلاف الذي ملأ صفحته وجه امرأة موشومة الذقن ونقاط محددة على خديها، أنفها، جبينها وما بين حاجبيها في ضباب أسود يلف بقية الوجه، ونظرة حادة تخترق عدسة المصور إلى من يقف قبالتها تحمل ألم وقهر وتحدٍ. هذه الصورة هي بداية إحدى قصص هذا الكتاب، إحدى نسائه وضحاياه اللاتي وصمن بالوشم.
قصة الإبادة الأرمنية تعود في بداياتها إلى نهاية القرن التاسع عشر حين تعرض الأرمن بعد عدة مطالبات للدولة العثمانية بتحسين أوضاعهم المعيشية وحمايتهم من تسلط الجباة عليهم وما يتعرضون له من اعتداءات وسرقة وغيرها وأن يعترفوا بمواطنتهم لا سيما في الفترات الدستورية اللاحقة وعلى الرغم من الوعود إلا أنهم تعرضوا لعدد من المجازر التي أطلق فيها العثمانيون يد الأكراد في الأرمن يقتلون كيف يشاؤون، فيما يعرف بالخيالة الحميدية، والتي كانت جزءا من سياسة الدولة في تسليط القوميات بعضها على بعض، والتي وقع أكبرها بين عامي 1895-1896.
كان جزءا من التسبب فيما يعرف بالمسألة الأرمنية هي سياسة التتريك القومية التي تلت الانقلاب الدستوري عام 1908 والذي تفاءلت به كل الأقليات الذمية، لكن العام الذي تلاه 1909 شهد انقلابا مضادا وإثنيا بدأ بمجزرة في أضنة، ومن ثم تحولت إلى سياسة ممنهجة لطرد كامل الشعب الأرمني من الأراضي التركية الشرقية بحلول عامي 1915-16 بعد أن تم التخلص من الإثنية اليونانية ثم تلا الأرمن قوميات مسيحية أخرى كالآشوريين وحتى مسلمين كالأكراد. كان هذا التحرك جزءا من استعدادات الدولة العثمانية لخوض الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا ضد روسيا إلى الشرق منها وبريطانيا على حدودها الغربية.
ومن ذلك كان إعلان النفير العام (سفر برلك) والتعبئة العامة في كل الولايات العثمانية والتي فرضت الخدمة العسكرية الإجبارية على كل الشباب المسلمين وغير المسلمين بين 15 و45 عاما دون أي تجهيز، وهُجّر بسببها عشرات الآلاف من العراق ومصر وسوريا وفلسطين والمدينة المنورة ابتداء من يوليو 1914 إلى الحدود التركية الروسية وغيرها من خطوط المواجهات حيث قتل معظمهم تحت الانهيارات الثلجية والبحيرات المتجمدة.
لكن الأرمن كان مصيرهم مختلفا وقررت الدولة التخلص منهم للخوف من أن يساندوا روسيا أو أرمينيا الروسية فكان بداية العقاب الجماعي من يوم 15 أبريل من عام 1915 حين نقلوا مئات من المثقفين الأرمن من إسطنبول إلى أنقرة حيث تم إعدامهم جميعا، ثم بدأت ما عرفت بمسيرة الموت لمئات الألوف من النساء والأطفال والشيوخ عبر بادية الشام إلى دير الزور من عينتاب ووان وأورفا ومنبج ورأس العين وغيرها وبمرافقة الجنود العثمانيين بعد أن جردوهم من أملاكهم وأموالهم وملابسهم، وهدموا مئات من الدور والكنائس وصادروا أملاكها، واضطروهم للمشي لمئات الكيلومترات في وسط الصحراء دون طعام أو شراب، وفي كثير من الأحيان دون ملابس، مما أدى إلى أن يقضى الآلاف في الطريق ويُتركوا دون دفن ولا توديع، أو يتعرضوا للنهب والخطف والقتل أو القضاء جوعا وعطشا وهم يسيرون دون أي حماية بعد أن فرقوا بين النساء والرجال.
رحّل الجنود العثمانيون حوالي 800,000 أرمني وأرقام ترفعها إلى مليون ومائتي ألف، من دورهم وقراهم خلال ايام باتجاه الجنوب الغربي منها ما استغرق أياما ومنها شهورا. كانت قصص من نجا مخيفة وبشعة، فيها قتل وتجويع وتعذيب وإذلال.
لم تكن إليزه سيميردجيان في صدد تقديم سرد تاريخي للمذابح الأرمنية على يد الدولة العثمانية وجمعية الاتحاد والترقي وفظائعها فقد تولت آلاف الدراسات هذا الأمر، وإنما في صدد الحفر في الذاكرة الأرمنية بحثا عن صوت غاب أو صورة محيت أو شعور طمس. كانت الكاتبة مهمومة بقص القصة الداخلية للنساء، المشاعر المجهولة والممنوعة، دواخلهن وآلامهن، عارهن وحروبهن.
كانت تسعى إلى توضيح كيف أثّر الجندر (الجنوسة) والنظام الأبوي والجسد على التفكير الإبادي وإلى تسليط الضوء على أثر الاختطاف والأسلمة والاستعباد الجنسي على العدوان الإبادي ضد الجسد الأرمني الفردي والجماعي. فيشهد جسد الأرمن وجلدهم وعظامهم على الصدمة وكذلك على الذاكرة المحفورة في الجسد. أرادت أن تعلي من صوت الضحايا مستخدمة الأرشيف كدليلها على الجريمة، والذي بدوره استخدم كأداة لبناء الدولة التي تمحو الآثار الاجتماعية والنفسية لكيفية تعرض الرعايا العثمانيين للإبادة الجماعية.
وقد قسمت إليزه سيميردجيان Elyse Semerdjian كتاب «بقايا» الأرشيف المجسد للإبادة الأرمنية، إلى ثلاثٍ من مظاهر الجسم وهي الجسد، البشرة، والعظام مؤجلة تناول الدم إلى وقت آخر. ثم تقسمها إلى تسع «بقايا» تتكون من قصص قاسية، مثل بقايا قصة الرقصة التي أدتها ثلاثون عروسا أمام أزواجهن عرايا تحت السلاح الذي يطلب منهن الرقص حتى الموت من العار والذل أمام رجالهن المكبلين وفي وسط ساحة القرية حيث كن يزفون، حيث يصبح العار جزءا من الإبادة وسلاحا ماضيا.
بقايا رقم اثنين كانت عن الفتيات الأرمنيات داخل البيوت العربية اللاتي إما خُطفن أو ضُممن إليها وتزوجن من رجالهن أو استعبدن. بقايا متعددة تتناول الجسد بكل تفاصيله وقد تحول إلى خارطة لإخضاع الأرمني وتجريده من كل ما يمكن أن يعتبر إرثا يقوم عليه مجتمعه وذاكرته، عزته وشرفه، سواء كان امرأة أو رجلا. تتحدث عن عملية الخطف الممنهج والتعذيب الذي تعرضت له الفتيات الأرمنيات ومن ثم أسلمتهن ومزجهن مع أسرهن العربية الجديدة بعد محو ذاكرتهن بكل الوسائل. الأسلمة كانت تجري أيضا على الرجال المجندين والعاملين عندما يعجزون عن قتلهم، يأمروهم باعتناق الإسلام والختان.
كانت هناك محاولات مقاومة وإنقاذ خلال تلك الفترة لكنها كانت صعبة وتصل متأخرة. وصعّبت الحرب من الوصول إلى سوريا فضلا عن التواطؤ الذي حدث بين الدولة العثمانية وألمانيا القيصرية التي كان عمالها ومهندسوها منتشرين في الصحراء السورية يمدون سكة الحديد الممتدة إلى الحجاز شهودا على ما يجري. وكان منهم من غذى العثمانيين بكل الأفكار الجهنمية في عملية الإبادة مما أتقنوه في أول إبادة اقترفوها في التاريخ في ناميبيا بجنوب غرب إفريقيا لشعوب الهيريرو وناما وأوفاهيرو والبوشمن بين عامي 1904 و1908.
وكما فعل الألمان في ناميبيا، فقد اعتمدت الحكومة العثمانية الإذلال الجنسي كوسيلة من وسائل التخويف للنساء والرجال، ليس فقط بالاغتصاب بل بالبغاء القسري والزواج بالإكراه وبالبيع في سوق النخاسة وتشويه أعضائهن الجنسية، بدءا من بنات المدينة من الطبقة المثقفة والمخملية وانتهاء بنساء القرى والأرياف. لم يكن هناك استثناء.
كانت هناك محاولات حثيثة من عدد من المنظمات الأرمنية في الخارج للبحث عمن نجا وتبقى من التطهير العرقي الذي عانى منه الأرمن وبحث عن مآلاتهم خاصة بعد الحرب العالمية الأولى، منها ما نجح في إنقاذ بضع مئات من الفتيات والفتيان وتم ضمهم إلى ملاجئ خاصة بالمسيحيين في حلب وإسطنبول وطرابلس وبيروت، وبعضهم وصل الرقة والموصل، لكن المسألة لم تكن بهذه السهولة وقد غُمرت قصة الإبادة بكثير من التغمية والسرية فضلا عن الإنكار وتحوير الأهداف وكأنها لم تكن عملية مبيتة بليل.
وقد انتهى المقام بآلاف الفتيات في البيوت العربية وقد تغيرت أسماؤهن ومعالمهن، وتزوجن وأنجبن واندمجن في المجتمع العربي المسلم، وأصبح الكثير من الأرمن نتاجا لزواجات مختلطة مما أدى إلى كثير من التوتر في العلاقات العربية الأرمنية لسنوات طويلة ومضت السنوات وغدا من الصعوبة بمكان أن تجد الأسر بعضها البعض وقد تفرقت في البلاد. كان هناك الكثير من التفاصيل المؤلمة والخسارات الفادحة.
استعرضت إليزه في تتبعها لسيرة جدتها في مسيرة الصحراء حتى وصلت إلى حلب قصص أجساد النساء التي أصبحت ساحة قتال لا تنتصر فيها النساء. تعريتهن كانت بغرض تجريد النسيج الاجتماعي من كرامته وعزته بكل صوره. كان الهدف هو نزع الصفة الإنسانية عن الأرمن بكل الوسائل، كان التجريد من الملابس إحدى هذه الوسائل الناجحة، والتي كانت المسمار الأخير في نعش النظام الاجتماعي وتفكيكه.
لتتحول بعد ذلك للحديث عن ملامح بشرة النساء وجلودهن وكيف غدت بدورها ساحة لعلامات الإذلال بتحويل الوشوم إلى لغة للنخاسين تكسو النساء الأرمنيات بالعار مدى الحياة، فمن الوشم ما كان علامة لهوية قبائل ومنها ما كان علامة للنساء اللاتي استعبدن. لكن القصة لم تنته هنا فقد كانت هناك مقاومة وذاكرة وخيوط تصل أطراف القصص ببعضها البعض، ولتتعرف الأسر على بعض بناتها وأخوتها، وفي بعض الأحيان كانت طريقة لحماية هذه الفتيات من الجنود الأتراك الذين كانوا لا يزالون يبحثون عن أي ناجيات. وبصورة عامة فإن دلالات الوشوم ما زالت تخضع لدراسات مطولة لتصل إلى قاعها ودلالاتها الحقيقية.
أما الجزء الثالث والخاص بالعظام، فقد تحولت كل الطرق المؤدية إلى دير الزور إلى طرق حج للأرمن اليوم، طريق راس العين - حلب - دير الزور أو راس العين - الحسكة - مارغادا وإلى دير الزور، يصلون في نهايته إلى كنيسة الشهيد المقدس في دير الزور، التي فجرها إرهاب داعش عام 2014 بدعوى التقوى.
وقد ضمت هذه الكنيسة رفات الكثير من الأرمن ممن جمعت عظامهم من الصحراء، وممن وصلوا المدينة وعاشوا فيها، مستذكرين معاناتهم وتضحياتهم. هذا الجزء تناول أيضا تتبع آثار العظام. وقد أصبحت طقوس الدعاء لشهداء الإبادة طقوسا مرتبطة بتقديس العظام البشرية بشكل مخيف حقا فضلا عن تحول الصحراء إلى مزارات للمجهولين ممن عثر على جماجمهم متناثرة في كل مكان. وتحول يوم 24 أبريل إلى يوم خاص بالمجزرة يحتفي بذكراه الأرمن في كل مكان وتقام القداسات في كنيسة دير الزور وكنيسة مارغادا على الخابور لإحياء الدعاء لأرواح الشهداء.
بعد مرور قرن على هذه الجريمة ما زالت تركيا الحديثة لم تعترف بها بعد ولم تعتذر للشعب الأرمني عنها، تنكر وتخفي الكثير من الوثائق التي يبحث عنها الشعب الأرمني لاستعادة أوصاله فضلا عن استحقاقاته المعنوية والمادية التي صادرتها الدولة العثمانية وأدخلتها في خزينتها.
لم تكن قراءة هذا الكتاب سهلة بأي حال كما أنها لم تكن كتابة سهلة بالتأكيد، وهو حال آلام الشعوب التي لا يبقى لها من القدرة على المقاومة سوى رفع القلم وتوثيق ما يمكن توثيقه ليبقى صامدا أمام التاريخ وشاهدا لا شهيدا فحسب.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

إليزه سميردجيان وبقايا النساء في التطهير الأرمني
إليزه سميردجيان وبقايا النساء في التطهير الأرمني

صحيفة مكة

timeمنذ 15 ساعات

  • صحيفة مكة

إليزه سميردجيان وبقايا النساء في التطهير الأرمني

في كتابها «بقايا» Remnants الفائز بجائزة AMEWS للكتاب للعام 2024، تقدم الباحثة والناشطة الأمريكية الأرمنية إليزه سيميردجيان Elyse Semerdjian ونشرت جامعة ستانفورد، دراسة من الطراز الأول لقصة الإبادة الجماعية التي اقترفتها تركيا في الشعب الأرمني في بداية القرن العشرين. وهي باحثة لم تألُ جهدا تقدم مقارنات ودراسات بين الشعبين الأرمني والفلسطيني عاقدة لأوجه الشبه بين السياسة التركية العثمانية آنذاك والإسرائيلية اليوم. وهذا الكتاب الذي فاز بالمركز الأول بجدارة وبإجماع لجنة المسابقة مستحق منذ الصفحة الأولى التي تركتني أرتعش وأنا أقرأه حتى اتخذت لي وقتا ومكانا أكثر تركيزا يمكنني أن أقرأ فيه وأضع ملاحظاتي وقراءتي وتقييمي وأنا متمكنة من السيطرة على مشاعر الألم والغضب والهول الذي كان يجتاحني وأنا أعبر صفحاته. أول ما يقابلك في الكتاب صورة الغلاف الذي ملأ صفحته وجه امرأة موشومة الذقن ونقاط محددة على خديها، أنفها، جبينها وما بين حاجبيها في ضباب أسود يلف بقية الوجه، ونظرة حادة تخترق عدسة المصور إلى من يقف قبالتها تحمل ألم وقهر وتحدٍ. هذه الصورة هي بداية إحدى قصص هذا الكتاب، إحدى نسائه وضحاياه اللاتي وصمن بالوشم. قصة الإبادة الأرمنية تعود في بداياتها إلى نهاية القرن التاسع عشر حين تعرض الأرمن بعد عدة مطالبات للدولة العثمانية بتحسين أوضاعهم المعيشية وحمايتهم من تسلط الجباة عليهم وما يتعرضون له من اعتداءات وسرقة وغيرها وأن يعترفوا بمواطنتهم لا سيما في الفترات الدستورية اللاحقة وعلى الرغم من الوعود إلا أنهم تعرضوا لعدد من المجازر التي أطلق فيها العثمانيون يد الأكراد في الأرمن يقتلون كيف يشاؤون، فيما يعرف بالخيالة الحميدية، والتي كانت جزءا من سياسة الدولة في تسليط القوميات بعضها على بعض، والتي وقع أكبرها بين عامي 1895-1896. كان جزءا من التسبب فيما يعرف بالمسألة الأرمنية هي سياسة التتريك القومية التي تلت الانقلاب الدستوري عام 1908 والذي تفاءلت به كل الأقليات الذمية، لكن العام الذي تلاه 1909 شهد انقلابا مضادا وإثنيا بدأ بمجزرة في أضنة، ومن ثم تحولت إلى سياسة ممنهجة لطرد كامل الشعب الأرمني من الأراضي التركية الشرقية بحلول عامي 1915-16 بعد أن تم التخلص من الإثنية اليونانية ثم تلا الأرمن قوميات مسيحية أخرى كالآشوريين وحتى مسلمين كالأكراد. كان هذا التحرك جزءا من استعدادات الدولة العثمانية لخوض الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا ضد روسيا إلى الشرق منها وبريطانيا على حدودها الغربية. ومن ذلك كان إعلان النفير العام (سفر برلك) والتعبئة العامة في كل الولايات العثمانية والتي فرضت الخدمة العسكرية الإجبارية على كل الشباب المسلمين وغير المسلمين بين 15 و45 عاما دون أي تجهيز، وهُجّر بسببها عشرات الآلاف من العراق ومصر وسوريا وفلسطين والمدينة المنورة ابتداء من يوليو 1914 إلى الحدود التركية الروسية وغيرها من خطوط المواجهات حيث قتل معظمهم تحت الانهيارات الثلجية والبحيرات المتجمدة. لكن الأرمن كان مصيرهم مختلفا وقررت الدولة التخلص منهم للخوف من أن يساندوا روسيا أو أرمينيا الروسية فكان بداية العقاب الجماعي من يوم 15 أبريل من عام 1915 حين نقلوا مئات من المثقفين الأرمن من إسطنبول إلى أنقرة حيث تم إعدامهم جميعا، ثم بدأت ما عرفت بمسيرة الموت لمئات الألوف من النساء والأطفال والشيوخ عبر بادية الشام إلى دير الزور من عينتاب ووان وأورفا ومنبج ورأس العين وغيرها وبمرافقة الجنود العثمانيين بعد أن جردوهم من أملاكهم وأموالهم وملابسهم، وهدموا مئات من الدور والكنائس وصادروا أملاكها، واضطروهم للمشي لمئات الكيلومترات في وسط الصحراء دون طعام أو شراب، وفي كثير من الأحيان دون ملابس، مما أدى إلى أن يقضى الآلاف في الطريق ويُتركوا دون دفن ولا توديع، أو يتعرضوا للنهب والخطف والقتل أو القضاء جوعا وعطشا وهم يسيرون دون أي حماية بعد أن فرقوا بين النساء والرجال. رحّل الجنود العثمانيون حوالي 800,000 أرمني وأرقام ترفعها إلى مليون ومائتي ألف، من دورهم وقراهم خلال ايام باتجاه الجنوب الغربي منها ما استغرق أياما ومنها شهورا. كانت قصص من نجا مخيفة وبشعة، فيها قتل وتجويع وتعذيب وإذلال. لم تكن إليزه سيميردجيان في صدد تقديم سرد تاريخي للمذابح الأرمنية على يد الدولة العثمانية وجمعية الاتحاد والترقي وفظائعها فقد تولت آلاف الدراسات هذا الأمر، وإنما في صدد الحفر في الذاكرة الأرمنية بحثا عن صوت غاب أو صورة محيت أو شعور طمس. كانت الكاتبة مهمومة بقص القصة الداخلية للنساء، المشاعر المجهولة والممنوعة، دواخلهن وآلامهن، عارهن وحروبهن. كانت تسعى إلى توضيح كيف أثّر الجندر (الجنوسة) والنظام الأبوي والجسد على التفكير الإبادي وإلى تسليط الضوء على أثر الاختطاف والأسلمة والاستعباد الجنسي على العدوان الإبادي ضد الجسد الأرمني الفردي والجماعي. فيشهد جسد الأرمن وجلدهم وعظامهم على الصدمة وكذلك على الذاكرة المحفورة في الجسد. أرادت أن تعلي من صوت الضحايا مستخدمة الأرشيف كدليلها على الجريمة، والذي بدوره استخدم كأداة لبناء الدولة التي تمحو الآثار الاجتماعية والنفسية لكيفية تعرض الرعايا العثمانيين للإبادة الجماعية. وقد قسمت إليزه سيميردجيان Elyse Semerdjian كتاب «بقايا» الأرشيف المجسد للإبادة الأرمنية، إلى ثلاثٍ من مظاهر الجسم وهي الجسد، البشرة، والعظام مؤجلة تناول الدم إلى وقت آخر. ثم تقسمها إلى تسع «بقايا» تتكون من قصص قاسية، مثل بقايا قصة الرقصة التي أدتها ثلاثون عروسا أمام أزواجهن عرايا تحت السلاح الذي يطلب منهن الرقص حتى الموت من العار والذل أمام رجالهن المكبلين وفي وسط ساحة القرية حيث كن يزفون، حيث يصبح العار جزءا من الإبادة وسلاحا ماضيا. بقايا رقم اثنين كانت عن الفتيات الأرمنيات داخل البيوت العربية اللاتي إما خُطفن أو ضُممن إليها وتزوجن من رجالهن أو استعبدن. بقايا متعددة تتناول الجسد بكل تفاصيله وقد تحول إلى خارطة لإخضاع الأرمني وتجريده من كل ما يمكن أن يعتبر إرثا يقوم عليه مجتمعه وذاكرته، عزته وشرفه، سواء كان امرأة أو رجلا. تتحدث عن عملية الخطف الممنهج والتعذيب الذي تعرضت له الفتيات الأرمنيات ومن ثم أسلمتهن ومزجهن مع أسرهن العربية الجديدة بعد محو ذاكرتهن بكل الوسائل. الأسلمة كانت تجري أيضا على الرجال المجندين والعاملين عندما يعجزون عن قتلهم، يأمروهم باعتناق الإسلام والختان. كانت هناك محاولات مقاومة وإنقاذ خلال تلك الفترة لكنها كانت صعبة وتصل متأخرة. وصعّبت الحرب من الوصول إلى سوريا فضلا عن التواطؤ الذي حدث بين الدولة العثمانية وألمانيا القيصرية التي كان عمالها ومهندسوها منتشرين في الصحراء السورية يمدون سكة الحديد الممتدة إلى الحجاز شهودا على ما يجري. وكان منهم من غذى العثمانيين بكل الأفكار الجهنمية في عملية الإبادة مما أتقنوه في أول إبادة اقترفوها في التاريخ في ناميبيا بجنوب غرب إفريقيا لشعوب الهيريرو وناما وأوفاهيرو والبوشمن بين عامي 1904 و1908. وكما فعل الألمان في ناميبيا، فقد اعتمدت الحكومة العثمانية الإذلال الجنسي كوسيلة من وسائل التخويف للنساء والرجال، ليس فقط بالاغتصاب بل بالبغاء القسري والزواج بالإكراه وبالبيع في سوق النخاسة وتشويه أعضائهن الجنسية، بدءا من بنات المدينة من الطبقة المثقفة والمخملية وانتهاء بنساء القرى والأرياف. لم يكن هناك استثناء. كانت هناك محاولات حثيثة من عدد من المنظمات الأرمنية في الخارج للبحث عمن نجا وتبقى من التطهير العرقي الذي عانى منه الأرمن وبحث عن مآلاتهم خاصة بعد الحرب العالمية الأولى، منها ما نجح في إنقاذ بضع مئات من الفتيات والفتيان وتم ضمهم إلى ملاجئ خاصة بالمسيحيين في حلب وإسطنبول وطرابلس وبيروت، وبعضهم وصل الرقة والموصل، لكن المسألة لم تكن بهذه السهولة وقد غُمرت قصة الإبادة بكثير من التغمية والسرية فضلا عن الإنكار وتحوير الأهداف وكأنها لم تكن عملية مبيتة بليل. وقد انتهى المقام بآلاف الفتيات في البيوت العربية وقد تغيرت أسماؤهن ومعالمهن، وتزوجن وأنجبن واندمجن في المجتمع العربي المسلم، وأصبح الكثير من الأرمن نتاجا لزواجات مختلطة مما أدى إلى كثير من التوتر في العلاقات العربية الأرمنية لسنوات طويلة ومضت السنوات وغدا من الصعوبة بمكان أن تجد الأسر بعضها البعض وقد تفرقت في البلاد. كان هناك الكثير من التفاصيل المؤلمة والخسارات الفادحة. استعرضت إليزه في تتبعها لسيرة جدتها في مسيرة الصحراء حتى وصلت إلى حلب قصص أجساد النساء التي أصبحت ساحة قتال لا تنتصر فيها النساء. تعريتهن كانت بغرض تجريد النسيج الاجتماعي من كرامته وعزته بكل صوره. كان الهدف هو نزع الصفة الإنسانية عن الأرمن بكل الوسائل، كان التجريد من الملابس إحدى هذه الوسائل الناجحة، والتي كانت المسمار الأخير في نعش النظام الاجتماعي وتفكيكه. لتتحول بعد ذلك للحديث عن ملامح بشرة النساء وجلودهن وكيف غدت بدورها ساحة لعلامات الإذلال بتحويل الوشوم إلى لغة للنخاسين تكسو النساء الأرمنيات بالعار مدى الحياة، فمن الوشم ما كان علامة لهوية قبائل ومنها ما كان علامة للنساء اللاتي استعبدن. لكن القصة لم تنته هنا فقد كانت هناك مقاومة وذاكرة وخيوط تصل أطراف القصص ببعضها البعض، ولتتعرف الأسر على بعض بناتها وأخوتها، وفي بعض الأحيان كانت طريقة لحماية هذه الفتيات من الجنود الأتراك الذين كانوا لا يزالون يبحثون عن أي ناجيات. وبصورة عامة فإن دلالات الوشوم ما زالت تخضع لدراسات مطولة لتصل إلى قاعها ودلالاتها الحقيقية. أما الجزء الثالث والخاص بالعظام، فقد تحولت كل الطرق المؤدية إلى دير الزور إلى طرق حج للأرمن اليوم، طريق راس العين - حلب - دير الزور أو راس العين - الحسكة - مارغادا وإلى دير الزور، يصلون في نهايته إلى كنيسة الشهيد المقدس في دير الزور، التي فجرها إرهاب داعش عام 2014 بدعوى التقوى. وقد ضمت هذه الكنيسة رفات الكثير من الأرمن ممن جمعت عظامهم من الصحراء، وممن وصلوا المدينة وعاشوا فيها، مستذكرين معاناتهم وتضحياتهم. هذا الجزء تناول أيضا تتبع آثار العظام. وقد أصبحت طقوس الدعاء لشهداء الإبادة طقوسا مرتبطة بتقديس العظام البشرية بشكل مخيف حقا فضلا عن تحول الصحراء إلى مزارات للمجهولين ممن عثر على جماجمهم متناثرة في كل مكان. وتحول يوم 24 أبريل إلى يوم خاص بالمجزرة يحتفي بذكراه الأرمن في كل مكان وتقام القداسات في كنيسة دير الزور وكنيسة مارغادا على الخابور لإحياء الدعاء لأرواح الشهداء. بعد مرور قرن على هذه الجريمة ما زالت تركيا الحديثة لم تعترف بها بعد ولم تعتذر للشعب الأرمني عنها، تنكر وتخفي الكثير من الوثائق التي يبحث عنها الشعب الأرمني لاستعادة أوصاله فضلا عن استحقاقاته المعنوية والمادية التي صادرتها الدولة العثمانية وأدخلتها في خزينتها. لم تكن قراءة هذا الكتاب سهلة بأي حال كما أنها لم تكن كتابة سهلة بالتأكيد، وهو حال آلام الشعوب التي لا يبقى لها من القدرة على المقاومة سوى رفع القلم وتوثيق ما يمكن توثيقه ليبقى صامدا أمام التاريخ وشاهدا لا شهيدا فحسب.

رؤساء أمريكيون دون شهادات جامعية
رؤساء أمريكيون دون شهادات جامعية

سودارس

timeمنذ 5 أيام

  • سودارس

رؤساء أمريكيون دون شهادات جامعية

ووفقاً لتقارير صحفية، فإن أول 24 رئيساً أمريكياً، أقل من نصفهم حصلوا على تعليم جامعي رسمي، هؤلاء الرؤساء، الذين قادوا البلاد في مراحل مفصلية من تاريخها، تنوّعت خلفياتهم التعليمية والمهنية، لكنهم نجحوا في الوصول إلى البيت الأبيض بفضل تجاربهم العملية وليست العلمية. جورج واشنطن ، أول رئيس للولايات المتحدة وأحد الآباء المؤسسين، لم يدرس في الجامعة، لكنه حصل على شهادة في المساحة من كلية ويليام وماري، ورغم افتقاده للتعليم الرسمي، عبّر عن دعمه الشديد للتعليم، وخصّص جزءاً من تركته لدعم مؤسسات تعليمية، من بينها جامعة جورج واشنطن ، وفقا ل StarsInsider. أما جيمس مونرو، خامس رئيس أمريكي، فقد التحق بكلية ويليام وماري، إلا أنه انسحب منها ليشارك في حرب الاستقلال الأمريكية. بينما أندرو جاكسون، الرئيس السابع، لم يتلق سوى القليل من التعليم النظامي، لكنه درس القانون وعمل محامياً قبل دخوله الساحة السياسية، في المقابل، لم يلتحق مارتن فان بورن، الرئيس الثامن، بأي كلية، وبدأ حياته المهنية بدراسة القانون في مكتب محاماة محلي. الرئيس التاسع، ويليام هنري هاريسون، تلقى دروساً خاصة في طفولته، ثم التحق بكلية هامبدن- سيدني ، وبعدها التحق بدراسة الطب في جامعة بنسلفانيا قبل أن يتركها ويتجه إلى المجال العسكري. أما زاكاري تايلور، الرئيس الثاني عشر، فقد أمضى معظم حياته في الخدمة العسكرية، دون أن يلتحق بأي مؤسسة تعليمية عليا، وهو حال ميلارد فيلمور الذي تولى الرئاسة بعد وفاة تايلور، إذ علم نفسه القانون وأصبح محامياً ناجحاً. أبراهام لنكولن، أحد أبرز الرؤساء الأمريكيين، لم يحظَ سوى بعام واحد من التعليم الرسمي، لكنه علم نفسه بنفسه وأصبح محامياً قبل أن يقود البلاد خلال الحرب الأهلية. أندرو جونسون، الذي خلف لنكولن في المنصب، لم يتلق أي تعليم رسمي، وبدأ حياته كخياط متنقل، قبل أن يدخل معترك السياسة ويصل إلى سدة الحكم. من جهته، تلقى غروفر كليفلاند، الرئيس الوحيد الذي شغل فترتين غير متتاليتين، تعليمه الابتدائي فقط، وترك الدراسة لدعم أسرته قبل أن يصبح محامياً في سن مبكرة. ويليام ماكينلي، الذي أصبح الرئيس الخامس والعشرين، التحق بعدة مؤسسات تعليمية، لكنه لم يكمل دراسته، وقد خدم في الحرب الأهلية الأمريكية قبل أن يبدأ مسيرته السياسية. أما آخر رئيس أمريكي لم يحمل شهادة جامعية فهو هاري إس. ترومان، الذي تولى الرئاسة بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم التحاقه بعدة معاهد، لم يتمكن من الحصول على درجة علمية بسبب الظروف الاقتصادية لعائلته، فعمل في وظائف بسيطة قبل أن يخدم كضابط في الحرب العالمية الأولى ويبدأ مسيرته السياسية. ولم تكن مهنة المحاماة في الماضي تتطلب شهادة جامعية، وإنما يخضع الراغبون في العمل بها لعدة اختبارات إجازة، غير مشترطة لمؤهل. وتُظهر أمثلة الرؤساء الأمريكيين أن التعليم الجامعي، رغم أهميته، لم يكن دائماً شرطاً أساسياً للوصول إلى أعلى المناصب في الولايات المتحدة ، خاصة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. يذكر أن الولايات المتحدة تعدّ موطنا لعدد من أعرق الجامعات في العالم، وقد بدأ التعليم العالي فيها خلال الحقبة الاستعمارية، إذ تأسست أول جامعة أمريكية، وهي جامعة هارفارد، عام 1636 في ولاية ماساتشوستس، بهدف إعداد رجال الدين البروتستانت، سُميت على اسم القس جون هارفارد، الذي تبرع بمكتبته ونصف ممتلكاته للكلية الناشئة، وسرعان ما أصبحت مركزا أكاديميا مرموقا. تلتها جامعة ويليام وهي جامعة بحثية عامة مرموقة تقع في مدينة ويليامزبرغ، ولاية فيرجينيا، وتُعد ثاني أقدم مؤسسة تعليم عالٍ في الولايات المتحدة بعد جامعة هارفارد، حيث تأسست عام 1693 بموجب ميثاق ملكي من الملك ويليام الثالث والملكة ماري الثانية، ومن هنا جاء اسمها. أما جامعة ييل فهي إحدى أعرق الجامعات الأمريكية وتأسست عام 1701 في مدينة نيو هيفن بولاية كونيتيكت، مما يجعلها ثالث أقدم جامعة في الولايات المتحدة بدأت باسم "المدرسة الجماعية" وتغيّر اسمها إلى "ييل" عام 1718 تكريما للتاجر الويلزي إليهو ييل، الذي قدّم تبرعات سخية للجامعة. البيان script type="text/javascript"="async" src=" defer data-deferred="1" إنضم لقناة النيلين على واتساب مواضيع مهمة ركوب الخيل لا يناسب الجميع؟ أيهما أصعب تربية الأولاد أم البنات؟ جسر الأسنان هل تعقيم اليدين مفيد؟ الكركم والالتهابات أفضل زيوت ترطيب البشرة

ما بعد الليبرالية: صراع النماذج وبزوغ «النظام الأوراسي»
ما بعد الليبرالية: صراع النماذج وبزوغ «النظام الأوراسي»

قاسيون

timeمنذ 5 أيام

  • قاسيون

ما بعد الليبرالية: صراع النماذج وبزوغ «النظام الأوراسي»

يتفق الكثيرون على أنّ النظام الدولي الليبرالي يمرّ بأزمة خانقة. لكن لا يوجد توافق مماثل حول أسباب هذه الأزمة، أو حول المؤشرات المبكّرة التي دلّت على أنّ «النموذج الغربي قد تحطّم». برأيك، ما كانت تلك المؤشرات المبكرة؟ وما العوامل التي أسهمت أكثر من غيرها في هذه الاضطرابات الحالية؟ إنّ أزمة النظام الليبرالي، أو لنقل أزمة الغرب ذاته، فقد بدأت منذ أكثر من قرن، عندما فجّر الغرب حرباً عالمية مدمّرة ضد نفسه– أعني الحرب العالمية الأولى. هذه الحرب هزّت كثيراً من الأسس القيمية والمؤسساتية التي كانت تستند إليها المجتمعات الغربية. في بدايات العشرينيات، خرجت روسيا، التي أصبحت لاحقاً الاتحاد السوفييتي، من المنظومة الغربية، وبدأت تدعم الحركات المناهضة للاستعمار وحركات التحرّر الوطني. ومع أنّ ذلك لم يكن يُنظر إليه حينها كأزمة للنظام الليبرالي، إلا أنّه تزامن مع أزمة الثلاثينيات الكبرى ثم الحرب العالمية الثانية، وهما أزمتان نتجتا إلى حدّ بعيد عن التناقضات داخل المنظومة الغربية نفسها. انطلقت مرحلة جديدة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، عندما تمكّن الاتحاد السوفييتي، بدافع أمني ذاتي ومن دون استيعاب كامل لعواقب قراراته، من تصنيع الأسلحة النووية، وبالتالي نسف الركيزة التي بُنيت عليها هيمنة الغرب على مدى خمسمئة عام: وهي التفوّق العسكري-التقني والتنظيمي الأوروبي. ومنذ ستينيات القرن العشرين، بدأ الغرب يخسر الحروب. انطلقت حركة إنهاء الاستعمار. ولم يعد بإمكان الغرب فرض إرادته بالقوة. خسر الغرب حرب كوريا، كما خسر الفرنسيون حرب فيتنام، وتبعهم الأمريكيون في الهزيمة، ثم جاءت صدمة الحظر النفطي. بدأت التناقضات البنيوية تتراكم في الغرب، لا سيّما في أوروبا، التي دخلت في حالة من الركود منذ أواخر الستينيات. وبحلول السبعينيات والثمانينيات، بدت علامات الانحدار جليّة. غير أنّ انهيار الاتحاد السوفييتي لاحقاً، وتخلّيه عن دوره كندّ للمنظومة الغربية، أعطى الغرب انتصاراً مؤقتاً. نسي الغرب مشاكله، لا سيّما بعدما حصل على دفعة هائلة من العمالة الرخيصة التي بلغت ملياراً ونصف، إضافة إلى الأسواق المفتوحة في روسيا وأوروبا الشرقية والصين، طبعاً. غير أنّ الأمور بدأت تتغيّر مجدداً في العقد الأول من الألفية. فقد أدركت روسيا أنّها لن تستطيع الانخراط في النظام الغربي بشروط تحفظ سيادتها. فقرّرت استعادة قوتها العسكرية… وقد فعلت. ومعها دخل النظام الليبرالي في أزمة جديدة. أصبح نموذج الاستهلاك المفرط والتراكم اللامحدود للثروات هو السائد، مما أضرّ بكوكب الأرض ذاته. ربما كانت روسيا، إلى حدّ ما، المفتاح في انفجار هذه الأزمة، لكن لا أعتقد أنّ القادة الروس أو السوفييت كانوا يدركون تماماً ما يفعلونه. كانوا مدفوعين في الأساس بحرصهم على أمن البلاد، وبما فيهم من إرث أممي تقليدي، دعموا حركات التحرّر ضد الاستعمار. أقول مجدداً: الأزمة الحادة بدأت منذ زمن بعيد. لكنها دخلت مرحلتها الأشدّ في السبعينيات والثمانينيات، وانقطعت مؤقتاً بانتصار غربي كاذب، ليعود الانهيار بعده بوتيرة متسارعة. برأيك، ما ملامح العالم «ما بعد الغربي»؟ كيف ستتغيّر موازين القوى والهياكل الاقتصادية والتحالفات الجيوسياسية في هذا العصر الجديد؟ وهل تعتقد أنّ مؤسسات الحوكمة العالمية الحالية ستظل قائمة؟ أم ينبغي إصلاحها أو حتى استبدالها لتعكس توازن القوى الجديد؟ الإجابة عن هذا السؤال من شقين. أولاً: المؤسسات الحالية للحكم العالمي غير كافية في معظمها. ينطبق هذا بشكل خاص على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وإلى حدّ كبير أيضاً على مؤسسات الأمم المتحدة. ينبغي علينا التفكير في بدائل لها، لكن ليس من الحكمة تحطيمها دفعة واحدة، لأنّ ذلك سيزيد الفوضى. وصفتي البسيطة هي: علينا بناء مؤسسات موازية ضمن إطار منظمة شنغهاي للتعاون و«بريكس»، ومع «أغلبية العالم» – كما نحب أن نسمي ما يُعرف اليوم بـ«الجنوب العالمي» – مع إشراك بعض الشركاء الغربيين المستعدين للعمل على قضايا إنسانية كبرى، مثل: تغيّر المناخ والكوارث الصناعية، ونقص الغذاء، والأوبئة، وانتشار الأسلحة البيولوجية. هذه قضايا ملحّة لا يمكن حلّها ضمن النظام القائم. لكن مجدداً، لا حاجة لتدمير نظام الأمم المتحدة كلياً. ربما سنحتاجه بعد 15 أو 20 سنة أو أكثر، في حال لم ننزلق إلى حرب عالمية جديدة. المشكلة ليست في ميثاق الأمم المتحدة، بل في أنّ المؤسسات أُفرغت من دورها بسبب وقوع مقارّها في نيويورك وجنيف وفيينا، ما جعل الكادر الإداري فيها من الغرب أو من المحسوبين عليه. ومع أنّ شرعية هذا النظام تتآكل، فإنّ الحفاظ عليه – ولو شكلياً – يبقى ضرورياً إلى أن تكتمل البدائل. ثانياً: عن خصائص النظام العالمي الجديد. لست عرّافاً، بالطبع، لكن ما أراه بوضوح هو أنّنا نسير نحو عالم متعدد الأقطاب، أكثر حرية، حيث يمكن للشعوب والحضارات أن تنمو بعيداً عن الهيمنات. لن تكون هناك قوة أحادية تفرض سطوتها. الهيمنات القديمة ستنتهي، والجديدة لن تجد موطئ قدم. لذلك، أحبّ هذا العالم. قد لا أعيش لأشهده، لكن لا بأس. الحرية سلعة باهظة الثمن، وسندفع ثمنها. ولكي نصل إليها، علينا أن نتجاوز هذه المرحلة المضطربة بأقل الخسائر، وأن نمنع العالم من السقوط في حرب كبرى أو في انهيارات وطنية. نحن في مرحلة صعبة، لكنها جديرة بالتأمّل. هل تعتبر العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا نقطة تحوّل في علاقة روسيا بالغرب؟ وما الدور الذي لعبته هذه الحرب فيما تسميه «إعادة اكتشاف» روسيا لـ«أغلبية العالم»؟ أثّرت العملية العسكرية الخاصة– وهي بالحقيقة حرب ضد الغرب تُخاض في أوكرانيا– على جميع جوانب السياسة الروسية. لقد سرعت من التوجه شرقاً في الاقتصاد والسياسة الخارجية. زاد التبادل التجاري مع الصين والهند ودول آسيا. العلاقات التجارية مع أفريقيا تتعافى. والأهم من ذلك: أنّ توجّه روسيا نحو «أغلبية العالم» بات أكثر وضوحاً وتسارعاً. أدركنا أخيراً أنّ هذه المناطق هي مصدر النمو والشراكات المستقبلية. لكن هذا التوجّه لم يبدأ مع الحرب. كتبنا عنه قبل سنوات، وأصدرنا تقارير عن سياسة روسيا الجديدة تجاه «أغلبية العالم» وتحديداً أفريقيا، منذ خمس أو ست سنوات. كنا مستعدّين. واليوم، تدفعنا الظروف الموضوعية إلى تسريع هذا الانخراط. بدأنا نُدرك أنّنا جزء من هذه الأغلبية العالمية. نحن نواتها العسكرية والاستراتيجية. لم نكن يوماً من القوى الاستعمارية. الاتحاد السوفييتي ناصر حركات التحرّر وواجه الاستعمار. لقد أضعفنا التفوّق العسكري الغربي وحررنا «أغلبية العالم» من سطوة الغرب. العملية العسكرية كان لها أثر إيجابي داخلي أيضاً، سواء في السياسة أو الاقتصاد. الاقتصاد، الذي كان يراوح مكانه، بدأ ينمو بشكل أسرع. عدنا للاستثمار في العلوم، وخصوصاً التقنية منها. الحرب تساعد في تطهير النخب والمجتمع من النزعة الغربية، التي باتت اليوم مرادفاً للتخلف. العقوبات الغربية تساعدنا في التخلص من البرجوازية الكومبرادورية وخدمها من المثقفين. الأهم من ذلك: أنّ روسيا تعود إلى ذاتها الحقيقية، وتعيش نهضة ثقافية وأخلاقية وروحية. نعم، ندفع الثمن من دماء خيرة شبابنا، ولكننا سننتصر. وستبقى هذه النهضة، كما سيبقى تحوّلنا شرقاً، وتحديداً نحو «أغلبية العالم»، لأننا نعتبر أنفسنا عمادها السياسي والعسكري، ومحرّريها من نير الغرب. نشهد حالياً ما يبدو أنّه انقسام متزايد داخل الغرب فيما يخصّ طريقة التعامل مع روسيا ومستقبل الحرب في أوكرانيا. والمفارقة أنّ الولايات المتحدة هي التي تظهر رغبة أكبر في التفاوض، أو في الوصول إلى تسوية، بينما تظلّ دول أوروبية كثيرة متردّدة، أو حتى رافضة لهذه الفكرة. برأيك، ما سبب هذا التباين في الاستراتيجيات؟ هل يعود ذلك لاختلاف الأولويات الجيوسياسية والمصالح الاقتصادية، أم لضغوط داخلية؟ وما انعكاسات هذا الانقسام على تماسك الغرب في المستقبل؟ الخلافات بين النخب الأوروبية والأمريكية باتت واضحة وتزداد اتساعاً. في بداية الحرب، كانت المصالح متقاربة. أراد الأمريكيون إنهاك روسيا كعدو استراتيجي، بينما أرادت أوروبا تحقيق انتصار لتبرير وجودها، أو لصرف الأنظار عن أزماتها الداخلية. لكن مع مرور الوقت، وازدياد القناعة بأنّ النصر مستحيل، بدأت تظهر الفروقات. روسيا لم تقاوم فقط، بل أرسلت إشارات واضحة: إذا استمرت الحرب، فإنّ الرد النووي على أهداف في أوروبا سيكون أمراً وارداً. الأمريكيون فهموا الرسالة. لا يريدون حرباً نووية في أوروبا. تراجعوا خطوة خطوة، حتى في عهد بايدن رغم خطابه العدائي. بدأت المساعدات العسكرية لأوكرانيا تتناقص بشكل متقطّع. أما الأوروبيون، فالوضع مختلف. نخبهم فقدت البصيرة. يعيشون في فقاعة من «الطفيلية الاستراتيجية»، بلا وعي لمخاطر الحرب، أو مسؤولية تجاه شعوبهم. إنهم يدفعون بلدانهم نحو حرب، رغم الخسائر التي قد تكون وجودية. أضف إلى ذلك، أنّ الأمريكيين حققوا معظم أهدافهم. أولاً: فصل روسيا عن أوروبا، ومنع أي تقارب استراتيجي أو اقتصادي. هذا هدف سعت إليه واشنطن منذ بداية الألفية، عندما بدأ اللعب بالورقة الأوكرانية، وقد نجحوا بذلك. ثانياً: استغلّت أمريكا الحرب لنهب أوروبا. بعد أن فقدت القدرة على نهب «أغلبية العالم»، صارت تسحب الأموال والصناعات الأوروبية نحو أراضيها، بعد أن فقدت أوروبا ميزاتها التنافسية برفضها الغاز والموارد الروسية. بكلام آخر، أمريكا ربحت الحرب– على أوروبا. والآن تريد التوصّل إلى تفاهم مع روسيا يضمن إنهاء الصراع قبل أن يتصاعد إلى مواجهة نووية. أما أوروبا، فقد فقدت عقلها، وتهرول نحو الهاوية. في تقريركم «سياسة روسيا تجاه أغلبية العالم»، وصفتَ أنت وزملاؤك كلّاً من «بريكس» و«منظمة شنغهاي للتعاون» بأنهما يشكّلان «طليعة أغلبية العالم، مع إمكانية لوضع قواعد، وصياغة سياسات، وإنشاء بدائل مؤسساتية للنظام الغربي». كيف تردّ على الانتقادات، لا سيّما القادمة من بعض قطاعات اليسار، والتي ترى في «بريكس» مجرد منصة لتعزيز مصالح نخب وطنية داخل بنية القوى العالمية، بدلاً من إحداث تحوّل اجتماعي جذري في النظام العالمي؟ نحن في روسيا ننظر إلى تطوير «بريكس» و«منظمة شنغهاي للتعاون» كوسيلة لمنع الانهيار الكامل في نظام الحوكمة العالمي. المؤسسات القديمة التي يهيمن عليها الغرب تحتضر. نظام الأمم المتحدة بات ضعيفاً، عاجزاً عن أداء وظائفه الأساسية، ومثقلاً بطبقة بيروقراطية غربية، أو محسوبة على الغرب. لذلك، نحن بحاجة إلى بناء أنظمة موازية، خلال هذه الفترة الانتقالية التي سنعيد فيها بناء توازن جديد للقوى، ونظام مؤسساتي بديل أو معدل. نعم، روسيا حتى الآن لم تقدّم نموذجاً اجتماعياً-اقتصادياً بديلاً لتلك المنظومة الليبرالية. وأرى أنّ الانتقاد الذي ذكرته في محلّه تماماً. المشكلة معقدة، وتحتاج إلى جهد جماعي. الرأسمالية العالمية الليبرالية استنفدت فائدتها، وأصبحت مضرة. أولاً: بالطبيعة، لأنها تقوم على الاستهلاك اللامحدود. ثانياً: بالإنسان ذاته، حيث تحوّله إلى كائن استهلاكي عديم المعنى. السعي الأعمى إلى الربح، والثورة المعلوماتية، يهدّدان كيان الإنسان ذاته. علينا العمل مع المفكرين من «أغلبية العالم»، وكذلك مع المثقفين التقدميين في الغرب، لصياغة نموذج بديل للتنمية، ومحاولة تطبيقه. نعم، روسيا لا تفعل ما يكفي في هذا السياق، وهذه نقطة ضعف في سياساتنا. طرحت هذا الموضوع مع الرئيس الروسي خلال منتدى بطرسبرغ الاقتصادي العام الماضي، وأعلم أنّ ثمة جهوداً جارية، لكنّها ليست كافية. نحن بحاجة إلى تعاون شامل، لا يقتصر على القوى اليسارية، بل يشمل السياسيين والعلماء ممن يشعرون بالمسؤولية عن مستقبل البشرية. النموذج الرأسمالي الحالي يقود البشرية إلى طريق مسدود. كيف تقيّم متانة التحالف الاستراتيجي بين روسيا والصين على المدى الطويل؟ وما المخاطر المحتملة التي قد تترتّب على هذا التحالف؟ روسيا والصين حليفان غير رسميين. نحن نكمل بعضنا البعض. لدى الصين فائض في اليد العاملة، ولدينا نحن موارد ضخمة. نتقاسم حدوداً طويلة جداً، والعلاقات الجيدة التي بنيناها خلال العقود الماضية حسّنت أمننا بشكل كبير على جانبي الحدود. خفّضنا عدد القوات على الحدود بشكل جذري، والصين فعلت الشيء نفسه. لا توجد تقريباً أي تشكيلات عسكرية كبيرة في الشمال الصيني. نحن نتعاون بشكل وثيق مع الصين اقتصادياً، كما نعمل معاً على تطوير نموذج جديد للتنمية العالمية، لا يزال في مراحله الأولى. يضاعف هذا التحالف غير الرسمي القدرة الاستراتيجية للطرفين. لولا الدعم الروسي، لكان من الصعب على الصين مواجهة ضغوط الغرب. كما أنّ القوة الاقتصادية الصينية تساعدنا كثيراً في مواجهتنا مع أوروبا. نجح القادة في كلا البلدين في ترميم العلاقات بعد التوترات بين الستينيات والثمانينيات. والفضل، إن جاز التعبير، يعود إلى «الجنون» الغربي. ضغوطهم المتزامنة على روسيا والصين دفعتنا نحو التحالف، وزادت قوتنا المشتركة بشكل هائل. لا شك في وجود اختلال في الميزان الاقتصادي لصالح الصين، وهذا يُقلق البعض في روسيا، لكنه لا يثير خوفاً حقيقياً. بكين حذرة جداً حيال العمالة الصينية في روسيا. هناك طلاب ورجال أعمال صينيون، لكن لا وجود يُذكر للعمالة اليدوية. قمنا بدراسة قبل 15 عاماً أظهرت أنّ أعداد الصينيين في روسيا كانت أقلّ من عدد الألمان في ذلك الوقت. اليوم، لا يزال عددهم قليلاً. بل أقول: إنني أتمنّى وجود المزيد منهم فقط من أجل مطبخهم! ومع ذلك، ينبغي التفكير بشكل جدي في هذا الخلل على المدى البعيد. ولهذا، اقترحت قبل 7 أو 8 سنوات مفهوم «أوراسيا الكبرى». في البداية، تحسّس أصدقاؤنا في الصين من الفكرة، لكننا الآن نعمل معاً على بناء شراكة أوراسية كبرى. هذا المفهوم يقوم على التعاون والتنمية والأمن لكلّ أوراسيا. وربما يتحوّل لاحقاً إلى نظام أمن «ناعم»، يشمل الغذاء، والصحة، ومواجهة الكوارث الطبيعية والصناعية، والنقل. لكن للمفهوم أيضاً بُعداً أعمق: هو نظام توازن، بحيث لا تخاف أيّ دولة من هيمنة الصين، لأنّ قوتها تقابلها قوى ناهضة أخرى، مثل: إندونيسيا، والهند، وإيران، وتركيا، وروسيا. القادة في بكين تفهّموا هذه النقطة لاحقاً، واقتنعوا بأنّ كونهم «الأول بين المتساوين» أفضل من أن يُنظر إليهم كقوة مهيمنة يخشاها الجميع. ما نفعله هو منع أي تهديد محتمل من الصين، وفي الوقت نفسه تعزيز علاقاتنا معها على كل المستويات، وجعلها ركيزة أوراسيا الكبرى. وستحتاج هذه الركيزة حتماً إلى دعائم ثالثة ورابعة، مثل: الهند، وإيران، والعالم العربي. عندها سيعود مركز الثقل العالمي إلى حيث يجب أن يكون: أوراسيا العظيمة، السلمية. وأنا فخور جداً بأنني من صاغ هذا المفهوم.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store