
صحافيو غزة... من قضى نحبه ومن ينتظر
تفيد بيانات نقابة الصحافيين الفلسطينيين بأن عدد العاملين في المجال داخل القطاع وصل لنحو 2500 صحافي وإعلامي قبل اندلاع الحرب من وسائل إعلام محلية أو دولية.
لكن نائب نقيب الصحافيين تحسين الأسطل، يقول "عندما اندلع القتال توقف جزء كبير من الصحافيين عن العمل، كانت الظروف الإنسانية والمعيشية صعبة للغاية، واضطر عدد منهم إلى تعليق نشاطه الإعلامي". ويضيف "انشغل الصحافيون الذين علقوا نشاطهم في متابعة متطلبات منازلهم، وتوفير المياه والطعام لأسرهم، وتأمينهم في مأوى وخيام بمناطق من المفترض أنها آمنة، لقد انسحب من مهنة الإعلام نحو 1500 صحافي".
أيضاً اضطر عدد كبير من صحافيي غزة إلى السفر من مدينة الحرب في محاولة للنجاة من الموت، يوضح الأسطل أن العاملين في مجال الإعلام استشعروا أن غزة أخطر مكان على حياتهم بعدما تحولت إلى أرض بور لا حياة فيها فغادروا القطاع.
وبحسبه فإن إسرائيل خلقت ظروفاً معقدة في غزة تصعب على الإعلاميين مواصلة عملهم، إذ بات الوصول إلى الإنترنت صعباً للغاية، والكهرباء مقطوعة طوال الوقت، ومعدات السلامة المهنية نادرة ولا تحمي الصحافيين، مشيراً إلى أن جزءاً منهم فهم الرسالة ورحل.
وغادر غزة نحو 350 صحافياً وإعلامياً مضطرين، إذ أصيب عدد منهم بجروح وكان في حاجة إلى تلقي العلاج في الخارج، كما اضطر البقية إلى السفر من غزة بعدما خنقتهم الظروف المعيشية الصعبة، وحتى الظروف المهنية المعقدة.
قتلوا وأصيبوا
واصل نحو 650 صحافياً في غزة عملهم في رصد أحداث القتال ونقل القصص المأسوية التي حلت بالقطاع. يشير الأسطل إلى أن هؤلاء تولوا المهمة الصعبة والمعقدة لوحدهم، إذ لم تسمح إسرائيل للصحافيين الدوليين بدخول قطاع غزة لتغطية الأحداث بصورة مستقلة، وهذا ما جعل مهمة إعلاميي القطاع أكثر صعوبة وتعقيداً، وأتاح الفرصة لتل أبيب للتحريض ضدهم.
ولم يسلم الصحافيون في غزة من أحداث القتال، بل خاضوا حرباً وحدهم، كما كانوا هدفاً للقتل، إذ قتل الجيش الإسرائيلي نحو 240 منهم، وأصيب 90 آخرون بجروح خطرة أوقفتهم عن العمل، وكذلك فقد صحافيان اثنان في الحرب، ولا معلومات عنهما حتى اللحظة.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بقي نحو 318 صحافياً في غزة يواصلون عملهم وينقلون للعالم أحداث الحرب وقصص النازحين، يؤكد نائب نقيب الصحافيين أن جميعهم يشعرون بالخوف من الموت، ويعيشون جوعاً قاسياً، كذلك فإنهم مشردون في الشوارع بعيداً من أسرهم، وعلى رغم ذلك يواصلون ممارسة الصحافة.
وقتل الجيش الإسرائيلي هذا العدد الضخم من صحافيي غزة في عمليات عسكرية مختلفة ومتفرقة، لكن ما حدث في الـ11 من أغسطس (آب) الجاري كان فاجعة كبرى للصحافة في القطاع.
في ذلك اليوم اغتالت تل أبيب ستة صحافيين في ضربة جوية واحدة، أبرزهم الصحافي أنس الشريف ورفاقه الخمسة، وتعد حادثة استهدافهم أكبر عملية اغتيال تنفذها إسرائيل في حق الإعلاميين منذ بدء الحرب في غزة، إذ لم يسبق أن قتل الجيش بصورة جماعية الصحافيين كهذه المرة.
يقول رئيس لجنة الحريات الصحافية محمد اللحام "تغتال إسرائيل الصحافيين في غزة ضمن حملة ممنهجة لطمس الحقيقة عن جرائمها، والتشكيك في كل ما يخرج من قطاع غزة، وشيطنة الصحافي الفلسطيني لزعزعة الثقة به كمصدر لنقل الأخبار، وتتهم الإعلاميين بأنهم تابعون للفصائل المسلحة". ويضيف "تحاول إسرائيل التحكم في السرد الإعلامي، فعندما تمنع أو تستهدف الصحافيين المحليين وتعرقل وجود الصحافة الدولية يقل الوصول إلى صور وآراء مستقلة من ميدان المعركة، مما يساعد على بسط السرد الرسمي الإسرائيلي وتقليل أثر التقارير المناقضة".
ويوضح اللحام أن "اغتيال الصحافيين هو رسالة ردع مفادها عدم نقل مجريات المجازر"، مشيراً إلى أن معظم حوادث قتل الصحافيين في قطاع غزة ترقى إلى مستوى الانتهاك الخطر لحقوق الصحافة والقانون الدولي.
وبحسب اللحام فإن إسرائيل صعدت في هذه المرحلة بالتحديد استهداف الصحافيين في سياق عسكري جديد، إذ تخطط لتوسيع الحرب وتدمير غزة، ولا تريد أن تنكشف أمام العالم، وأن ينقل الصحافيون أحداث تلك الحرب المروعة.
خلية "إضفاء الشرعية"
ما تتحدث عنه لجنة حماية الصحافيين حول أن إسرائيل تقتل صحافيي غزة وتبرر ذلك بأنهم عناصر تابعون للفصائل المسلحة ينسجم فعلياً ما تفعله تل أبيب، إذ برر المتحدث باسم الجيش أفيخاي أدرعي قتل أنس الشريف وما سبقه من زملاء المهنة بأنهم قادة خلايا تابعة لحركة "حماس".
واتهم أدرعي أحد الصحافيين الذين قتلهم الجيش بأنه كان مسؤولاً عن إطلاق صواريخ على المدن العبرية، وعلق مبرراً "نرفض اتهامات قتل صحافي غزة عمداً، لم ولن نستهدف الصحافيين عمداً أبداً، نحن لا نستهدف المدنيين والأهداف المدنية، بمن فيهم المؤسسات الإعلامية والصحافيون".
هذه التبريرات الصادرة عن الجيش الإسرائيلي تروج بين المجتمع الإسرائيلي والعالمي عبر خلية خاصة تابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية وتسمى "خلية إضفاء الشرعية"، مهمتها البحث عن ذرائع لتبرير عمليات استهداف وقتل الصحافيين.
في تحقيق استقصائي كشف الصحافي الإسرائيلي يوفال أبراهام، أن "خلية إضفاء الشرعية" تتولى مهمة تبييض صورة الجيش أمام الرأي العام الدولي عبر الزعم بأن العمليات العسكرية تستهدف عناصر الفصائل المسلحة وحسب، مما يمنح آلية عملها دوراً حاسماً في تضليل الرأي العام العالمي عندما تغتال تل أبيب صحافياً.
تحاول خلية "إضفاء الشرعية" إظهار الجيش الإسرائيلي على أنه تصرف وفق القوانين الدولية في غزة، لكن مهمتها الخفية تتمثل في الإسهام بعمليات استهداف الصحافيين الذين يوثقون مجريات الحرب ويفضحون انتهاكات الجيش الإسرائيلي.
بحسب أبراهام فإن "إضفاء الشرعية" تصور إعلاميي غزة على أنهم ينتمون إلى "حماس" لتبرير استهدافهم، ويشرح "عندما تشتد الانتقادات الإعلامية العالمية ضد إسرائيل في قضية معينة، يتم تكليف الفريق بجمع معلومات استخباراتية يمكن رفع السرية عنها ونشرها في إطار الدعاية الإسرائيلية للرد على تلك الانتقادات، مثلما حدث في قضية أنس الشريف".
وفقاً لموقع "سيحاه مكوميت" العبري، فإن "خلية إضفاء الشرعية" أنشئت بعد عملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وتهدف إلى البحث عن ذرائع لتبرير استهداف الصحافيين في غزة، عبر ربطهم بـ"حماس" أو أنشطة عسكرية، وتعميم هذه المبررات لتغطية قتل آخرين، كما تتولى حماية صورة إسرائيل دولياً.
يقول أدرعي "هذه الخلية تتواصل مع العالم وتنقل رسائل حقيقة وفق إثباتات وأدلة، وليس ما ينشر عنها من معلومات مضللاً، في غزة ينقل الصحافيون وجهة نظرهم ونحن نبلغ العالم الحقيقة ووجهة نظرنا".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ 6 ساعات
- Independent عربية
نائب إيراني يتحدث عن سيناريو لاستهداف مدن أميركية من البحر
وسط تصاعد التوترات بين إيران والدول الغربية، أطلق أحد النواب الإيرانيين المقربين من "الحرس الثوري" تصريحات مثيرة للجدل تضمنت تهديدات لأوروبا والولايات المتحدة، وذلك بعد تحذير هيئة الأركان الإيرانية للولايات المتحدة وإسرائيل من ارتكاب أي "أخطاء" مؤكدة أن طهران لن "تتحلى بضبط النفس" إذا حدث أي عمل عسكري ضدها. وقال النائب أمير حياة مقدم، عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية وهو جنرال في "الحرس الثوري"، إن "إيران قادرة على استهداف الولايات المتحدة من البحر". وقال: "ربما لن يصيب الصاروخ الإيراني المقبل واشنطن ونيويورك، لكن يمكننا استهداف أميركا من داخل البحر". وأشار إلى أن "الوحدة الصاروخية في (الحرس الثوري) قد عملت لمدة 20 عاماً على استهداف أميركا عبر السفن والقطع البحرية الإيرانية". وأضاف: "حتى لو لم نصل بعد إلى هذه التكنولوجيا، فإن أميركا تبعد عنا نحو 10 آلاف كيلومتر، ويمكننا إرسال سفننا إلى مسافة ألفي كيلومتر من سواحلها، ومن هناك نستطيع ضرب واشنطن ونيويورك ومدن أخرى بالصواريخ". وفي نفس السياق، أضاف حياة مقدم أن "جميع الدول الأوروبية الآن في مرمى صواريخنا، ويمكننا باستخدام الصواريخ الحالية ضرب كل هذه الدول. صواريخنا لا تصل فقط إلى فرنسا، بل إلى ألمانيا وبريطانيا وجميع أنحاء أوروبا الغربية والشرقية". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) "آلية الزناد" أما بشأن رسالة "الترويكا" واستعدادها لتفعيل "آلية الزناد"، قال: "آلية الزناد لا محل لها من الإعراب؛ لأن إيران تعيش أصلاً في ذروة العقوبات، عندما يبلغ المنحنى قمته لا يمكن أن يرتفع أكثر، ومن ثم فإن أي خطوة جديدة لن تؤدي إلى تفاقم الوضع". وأوضح في تصريح لموقع "إيران أوبزرفر" أن "العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة اليوم بلغت أقصى ما يمكن أن يُفرض على دولة، ومن ثم فإن إعادة عقوبات مجلس الأمن لن تضيف شيئاً جديداً، بل تمثل مجرد خطوة سياسية". وأضاف حياة مقدم أن "الولايات المتحدة تقف خلف معظم العقوبات، وحتى إذا أضاف الأوروبيون بعضها، فلن يكونوا أقوى من الأميركيين"، معتبراً أن وضع إيران تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة "لا يشكل تهديداً جديداً، إذ لن يجعل الظروف أسوأ من الوضع الراهن". ولفت إلى أن "الأوروبيين يحاولون تمديد مهلة تفعيل آلية الزناد، وإذا تحقق ذلك فلن يكون هناك أي أساس قانوني لإعادة القرارات الملغاة بموجب القرار 2231، ومن ثم لن تُدرج إيران تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة". وقال إن "الظروف الحالية تختلف جذرياً عن فترة توقيع الاتفاق النووي"، مضيفاً أن "هيبة مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل قد انهارت بالنسبة لإيران". وأوضح حياة مقدم: "في السابق كانت مواجهة أميركا وإسرائيل تُعد تحدياً كبيراً، لكننا اليوم خضنا مواجهات مباشرة معهما، وأثبتنا قدرتنا على الرد؛ لذلك لا نخشى من اندلاع حرب جديدة، بل أعتقد أن الولايات المتحدة وإسرائيل لن تبادرا إلى مهاجمة إيران؛ لأنهما تدركان حجم رد الفعل الإيراني". وأضاف أن إيران "أثبتت قدرتها في الحرب من خلال قصف إسرائيل بالصواريخ"، معتبراً ذلك "تحولاً مهماً في موازين الردع".


Independent عربية
منذ 7 ساعات
- Independent عربية
إصابة 11 في قصف روسي لمدينة خاركيف الأوكرانية
قالت السلطات الأوكرانية في وقت متأخر أمس الأحد إن روسيا قصفت منطقة سكنية في خاركيف بصاروخ باليستي، مما أدى إلى إصابة 11 شخصاً على الأقل، في الوقت الذي يضغط فيه الرئيس الأميركي على كييف لقبول اتفاق سريع لإنهاء الحرب التي بدأتها موسكو. وقال أوليه سينيهوبوف حاكم منطقة خاركيف، ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، على تطبيق "تيليغرام"، إن من بين المصابين فتاة تبلغ من العمر 13 سنة. وكانت خاركيف، التي تقع في شمال شرق أوكرانيا بالقرب من الحدود مع روسيا، هدفاً لهجمات منتظمة بالطائرات المسيرة والصواريخ الروسية منذ بداية الحرب التي أطلقتها موسكو بهجوم واسع النطاق في فبراير (شباط) 2022. وقالت خدمة الطوارئ الحكومية الأوكرانية على تطبيق "تيليغرام": "حطمت موجة الانفجار نوافذ المباني السكنية القريبة". وأضافت أنه كان لا بد من إجلاء بعض السكان. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ورأى شهود من "رويترز" مسعفين يسعفون السكان في أحد الشوارع ورجال إنقاذ يتفقدون الأضرار في المباني السكنية. وقالت السلطات المحلية إن امرأة تبلغ من العمر 57 سنة أصيبت بجروح في القصف الجوي الروسي الموجه على منطقة سومي شمال شرق البلاد والذي ألحق أيضاً أضراراً بعشرات المنازل السكنية على الأقل ومبنى مؤسسة تعليمية. وقال أوليه هريهوروف، رئيس الإدارة المحلية في سومي على "تيليغرام": "يواصل العدو استهداف البنية التحتية المدنية في منطقة سومي على نحو متعمد وغادر ليلاً". ولم يتسن التحقق بشكل مستقل من الأسلحة التي استخدمتها روسيا. ولم يصدر أي تعليق حتى الآن من موسكو. وينفي الطرفان استهداف المدنيين في غاراتهما، لكن آلاف الأشخاص لقوا حتفهم، غالبيتهم العظمى من الأوكرانيين. وكان الرئيس دونالد ترمب، الذي استضاف نظيره الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا يوم الجمعة لإجراء محادثات ثنائية تهدف إلى إنهاء الحرب، قد حث كييف على عقد اتفاق مع موسكو، قائلاً "روسيا قوة كبيرة جداً، وهم ليسوا كذلك".


Independent عربية
منذ 10 ساعات
- Independent عربية
بوتين نال من ترمب ما أراد وما ينتظر أوكرانيا مرعب
حين ذهبت للنوم ليلة الجمعة الماضي، كان دونالد ترمب وفلاديمير بوتين استهلا للتو قمتهما في أنكوراج، ألاسكا ولم يكن لدي أي فكرة عما ينتظرني عندما أفتح عيوني صباحاً. فهل سأطالع خبر إبرام الثنائي اتفاق سلام شامل على حساب أوكرانيا، أم ينتظرني مشهد ترمب الحانق وهو يعلن عن عقوبات ضخمة لمعاقبة روسيا على تصلب بوتين - مما هدد به قبل أسبوعين من إعلانه عن اجتماع القمة؟ أو سأجد نتيجة مختلفة تندرج بين هذين الأمرين؟ بدلاً من كل هذا، استيقظنا لنجد... حسناً، ما الذي وجدناه تحديداً؟ قيل كلام كثير طبعاً عن كل تلك الأجواء التي لا معنى لها، والمتعلقة بالتقدم والمحادثات البناءة والفهم الأعمق للوضع، لكن فلنكن واضحين في شأن العنوان الرئيس: لم يجر التوصل إلى اتفاق. لن تتوقف الصواريخ، ولا المسيرات الهجومية، وما من جدول زمني لوقف إطلاق النار، حسب معلوماتنا. قد يكون من الأهم أن نلتفت إلى غاية كل من الرجلين من وراء الاجتماع. فلنبدأ بالزعيم الروسي. ما سعى إليه فلاديمير بوتين هو تفادي خطر العقوبات الأميركية، وكسب المزيد من الوقت لمواصلة خوض حربه على أوكرانيا، وكسر عزلته وعزلة روسيا الدبلوماسية، وفصل الولايات المتحدة عن سائر الدول الأوروبية وإقصاء زيلينسكي قدر الإمكان عن كل هذا وتملق مضيفه، دونالد ترمب. لا يفوتكم، عند قراءة هذه السلسلة من النقاط، أن تضعوا إشارة "منجز" عند المرور بكل واحدة منها. فالرجل طالب متفوق، وقد قيم ترمب اللقاء بإعطائه علامة كاملة. وهو فعلاً اجتماع ناجح تماماً بالنسبة إلى بوتين. فقد عاد إلى موسكو بعدما حقق كل غاياته. لا عقوبات جديدة. فقد فرش دونالد ترمب السجادة الحمراء وصفق لبوتين حرفياً قبل أن يصافحه بمودة. جرى الاجتماع على أرض أميركية، على بعد آلاف الأميال من مكان وجود كل القادة الأوروبيين. فكروا فحسب أنه لو عقدت القمة في أوروبا، كان بوتين ليعتقل على خلفية مزاعم ارتكابه جرائم حرب بعد ما فعله في أوكرانيا وعقب صدور مذكرة اعتقال بحقه من المحكمة الجنائية الدولية. وفقاً لتصريحات الكرملين، لم يجر التباحث في عقد أية مفاوضات ثلاثية بحضور الرئيس الأوكراني. وعندما يكون التملق هو النية، فهل من مجاملة تتفوق على قول بوتين لترمب بأن هذه الحرب ما كانت لتنشب أبداً لو كان هو الرئيس عام 2022؟ لقد طربت أذناه. فلننقل انتباهنا إلى الطرف المقابل: ما الذي أراده ترمب؟ أفصح ترمب بصورة صريحة ومتكررة عن غايته. فغايته الصادقة التي يستحق عليها الثناء، هي إنهاء القتل. يريد وقفاً لإطلاق النار. ويريد سلاماً دائماً. ومن هذه الناحية، علينا أن نقول إنه خرج من الاجتماع خالي الوفاض. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ربما أراد ترمب تحقيق هدفين آخرين من خلال استضافة هذا الاجتماع. أولهما تركيز اهتمام الإعلام العالمي عليه لمدة 24 ساعة - وهو ما نجح فيه. أراهن أن مطار أنكوراج لم ير ازدحاماً كهذا اليوم منذ أعوام، فيما حطت فرق التصوير من كل العالم فيه. والهدف الثاني الذي يحرك ترمب هو إعادة ضبط العلاقات مع بوتين بالتحديد - وهو مرتبط ببوتين. هناك نظريات شائعة تقول إن الروس، ولا بد أنهم يمتلكون مواد تدين ترمب (تعرف بالروسي بالـ"كومبرومات" kompromat)، لتفسير التودد المبالغ به في حديثه عن الرئيس الروسي، لكنني لم أقتنع يوماً بهذه النظريات. شرح لي شخص لا بد أنه يعرف ترمب من كثب الأمور بطريقة مختلفة. قال لي هذا الشخص إن ما عليك فهمه في شأن ترمب هو أنه صنيعة الحقبة التي نشأ فيها: الحرب الباردة والستار الحديدي ومخزون الأسلحة النووية. لدى ترمب رعب من حرب نووية تفني البشرية، مثلنا جميعاً. ومع أن روسيا لا تشكل سوى اثنين في المئة من الناتج المحلي العالمي الإجمالي (مقابل 25 في المئة للولايات المتحدة)، فهي تملك 45 في المئة من مخزون الأسلحة النووية في العالم. ولذلك يعتقد ترمب أنه من الضروري إقامة علاقات جيدة مع روسيا، خوفاً مما قد يحدث لو اختلف الوضع. على رغم أن هذه النظرية مثيرة للاهتمام فإنها لا تبرر التغاضي عن أكبر عدوان تشهده أوروبا ضد دولة ذات سيادة منذ الحرب العالمية الثانية. كما أن امتلاك السلاح النووي لا يمنح أي أحد قوة مطلقة. لم يشكل امتلاك بريطانيا سلاحاً نووياً أي ردع عندما اختار الأرجنتينيون أن يجتاحوا جزر فوكلاند عام 1982. في مقابلة مع شون هانيتي على "فوكس نيوز" بعد الاجتماع، تكلم ترمب بصورة مبهمة لكنه أعطى الانطباع بأن الكرة الآن في ملعب زيلينسكي، كما لو أن ترمب اقتنع بحجج بوتين وبات على عاتق الرئيس الأوكراني الآن أن يقدم تنازلات. ربما في المستقبل يُتوصل إلى اتفاق يمنح روسيا بعض الأراضي مقابل ضمانات أمنية لأوكرانيا لكن لا أحد يعلم كيف ستكون صورة هذا الاتفاق. مهما قلنا في وصف غرابة هذا الوضع برمته، يصعب أن نفيه حقه. عادة، في عالم السياسة بين القوى العظمى، لا يجتمع الطرفان الرئيسان قبل أن يتوصل المساعدون والمسؤولون عن التحضيرات الأولية والمحامون الحكوميون والمستشارون السياسيون وخبراء الأمن القومي إلى مسودة بيان، بعد كثير من الأخذ والرد حول الفواصل والنقط. ثم ينعقد اجتماع القمة الذي يعد مناسبة لالتقاط الصور يستخدم فيها كل زعيم قلمه الحبر ويمهر الوثيقة بتوقيعه. لكن أسلوب ترمب مختلف. فمبعوثه الخاص ستيف ويتكوف (الرجل الذي لا يملك أية خبرة دبلوماسية على الإطلاق) الذي مهد لهذا الاجتماع، كان يزور موسكو برفقة صديقته الحميمية فحسب. وفي اجتماعاته داخل الكرملين، جلس وحده مقابل بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف ومستشاره الرئيس يوري أوشاكوف وقوتهم المجتمعة. لم يرافق ويتكوف أي أحد يدون الملاحظات ولا مستشارون واعتمد كلياً على مترجم الكرملين. هل ينبغي لأوكرانيا أن تقلق؟ وهل على أوروبا أن تشعر بالقلق من شكل تنظيم هذا الاجتماع وما تكشف عنه؟ سيكون ضرباً من الجنون التام ألا تقلقا. سوف يتجه زيلينسكي مرة أخرى إلى العاصمة واشنطن يوم غد الإثنين (الـ18 من أغسطس 'آب' الجاري)، حيث يلتقي مرة أخرى بترمب في البيت الأبيض. فكيف للأمور أن تأخذ أي منحى أسوأ يا ترى؟