طريق الدم
إيران هي حجر العثرة الأخير أمام النظام الإقليمي الذي نسعى إليه- جون بولتون، مستشار أمن قومي أمريكي.
في أدبيات السياسة الأمريكية الحديثة، تتمحور استراتيجيتها في الشرق الأوسط حول أربعة مرتكزات رئيسة: النفط، والممرات المائية، والكيان، وإيران، وهي مرتكزات تتشابك وتتقاطع فيما بينها.
كثير من المحللين السياسيين وأنا منهم يتحدثون عن سطوة اللوبيات الصهيونية، وعلى رأسها «أيباك»، التي تشتري ولاء أغلب أعضاء الكونغرس، وتمسك بزمام القرار الأمريكي في الشرق الأوسط. لكن هذا التحليل، رغم شيوعه، يرسم صورة للولايات المتحدة كضحية لنفوذ صهيوني خارجي، فنجد أنفسنا بغير وعي نتعاطف معها وهي تفتك بملايين العرب والمسلمين في المنطقة!
وربما آن الأوان أن نعيد النظر في هذا التصور، وأن نرى الصورة من زاوية أخرى: ما يجري في المنطقة ليس اختطافًا للقرار الأمريكي، بل هو تنفيذ دقيق لخطة أمريكية خالصة، هدفها إشعال الحروب، ونشر الفوضى، وتهجير الشعوب، وتفكيك الدول. أما الكيان الصهيوني، فما هو إلا أداة تنفيذ، يتحمّل اللوم نيابةً عن واضع الخطة، فيما تظل الولايات المتحدة خلف الستار، بمنأى عن الاتهام أو المحاسبة.
في عام 1971، أنهى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ارتباط الدولار بالذهب، فتحول الدولار إلى عملة بلا غطاء مادي. وبدلًا من الذهب، جرى ربطه بما سُمّي لاحقًا «البترودولار»، حيث فُرض بيع النفط حصرًا بالدولار، ليصبح الذهب الأسود هو الداعم الجديد لقيمة الدولار. ومنذ تلك اللحظة، صار التحكم بتدفق النفط مسألة وجودية بالنسبة للولايات المتحدة، لأن النفط هو ما يُبقي الدولار قويًا، والدولار هو تاج الإمبراطورية الأمريكية.
ومن هنا نفهم استهداف إيران: دولة ترفض الوصاية الأمريكية، تتقارب مع الصين الخصم الاقتصادي الأول لواشنطن وتملك مخزونًا هائلًا من النفط، ونفوذًا إقليميًا متصاعدًا، وتصرّ على التمرد. وهذا وحده كافٍ ليجعلها عدوًا حقيقيًا لهيمنة الدولار. تُستهدف إيران إذًا، لا حبًا في الكيان، بل لأن وجودها يُهدد النظام المالي والسياسي الذي تدور عليه العجلة الأمريكية.
قبيل «طوفان الأقصى»، وفي قمة العشرين بنيودلهي، أُعلن عن مشروع الممر الاقتصادي الذي سيمتد من الهند إلى البحر المتوسط، متجاوزًا إيران، في رد مباشر على مبادرة «الحزام والطريق» الصينية. غير أن هذا الطريق يصطدم بعقبة بشرية كثيفة في غزة، التي تحوّلت فجأة إلى منطقة بالغة الأهمية، بحكم موقعها الاستراتيجي، واحتياطيات الغاز قبالة سواحلها، والمشروع المسمى «قناة بن غوريون»، المفترض أن يربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط.
غزة وإيران معًا تشكلان العقبتين الأبرز في وجه هذا المشروع. ولإزالتهما، بدأ المخطط الأمريكي يأخذ طريقه إلى التنفيذ. لكن مثل هذه المخططات الكبرى تحتاج إلى ذريعة ضخمة أشبه بـ»بيرل هاربر» أو 11 سبتمبر لتكون بوابة لحرب شاملة. فجاء «طوفان الأقصى»، وتم توظيفه كذريعة مثالية لتبرير الإبادة الجماعية في غزة.
سُوِّيت غزة بالأرض تحت القنابل، وسط غطاء سياسي أمريكي كامل، وسردية إعلامية غربية موحّدة تُبرر المجزرة: من مزاعم نشر الديمقراطية، إلى الحديث عن الدروع البشرية، وقطع رؤوس الأطفال، ومحاولة اغتيال ترامب، والبرنامج النووي الإيراني، وغيرها من الأكاذيب المفبركة.
ثم بدأت واشنطن، عبر الكيان، في تقليم أجنحة إيران، واستنزاف نفوذها خطوة خطوة، حتى أُضعفت، وأُزيحت من طريق المشروع. وحين عجز الكيان عن حسم المعركة، كان لا بد للولايات المتحدة أن تدخل المشهد بنفسها، وبشكل مباشر.
ولا يمكن فهم المجزرة الجارية في غزة، ورغبة ترامب في تهجير سكانها، والحرب على إيران، من دون النظر إلى ما يُسمى «الطريق التنموي الأمريكي». تمامًا كما يُمهَّد الطريق السريع بهدم الأحياء الواقعة على امتداده، تدمر غزة وتُفرَّغ من سكانها لتُمهَّد الطريق للمشروع، وليُمحى كل ما يُعيق التمدد الأمريكي.
ولا ينبغي أن ننسى قصة القذافي، الذي أعلن في 2011 عن خطته لإطلاق عملة إفريقية موحدة، تهدد الدولار واليورو معًا. بعد عام واحد، دُمّرت ليبيا، وقُتل القذافي، وسط ضحكات هيلاري كلينتون على شاشة التلفاز وهي تقول: «جئنا، رأينا، ومات.» لقد كانت تلك الضحكة رسالة صريحة للعالم: لا تجرؤ على تهديد الدولار.
وبعد قرن على اتفاقية سايكس بيكو، يُعاد تشكيل الشرق الأوسط من جديد. تسعى واشنطن لإقصاء الصين وروسيا من المنطقة، واحتكار نفوذها فيها بالكامل، عبر تحييد آخر خصومها: إيران. أما غزة، فرغم حجم الكارثة التي تعيشها، فهي في نظر واشنطن مجرد عثرة صغيرة على طريق مشروع أكبر.
لا حلفاء دائمين للولايات المتحدة، فالمصالح وحدها هي من تُحدد العلاقات. حين أصبح صدام حسين عبئًا، أُزيح دون تردد. وإن أصبح الكيان عبئًا في يوم ما، فلن تتردد واشنطن في التخلي عنه، دون أن يرف لها جفن. فالأولوية القصوى هي بقاء الدولار قويًا، وخطط أمريكا لا تعرف التراجع.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جهينة نيوز
منذ 2 ساعات
- جهينة نيوز
إيران على أعتاب تحولات جذرية
تاريخ النشر : 2025-06-24 - 11:57 pm أحمد الضرابعة عملت إسرائيل على إزاحة عناصر التيار المتشدد الذين يتولون مواقع سياسية وعسكرية رفيعة في إيران في عمليات اغتيال معقدة، وهي بذلك تُعبّد الطريق أمام التيار الإصلاحي ليأخذ بزمام المبادرة السياسية ويفك اشتباكات إيران مع العرب والغرب في قضايا جدلية لا تقتصر على المشروع النووي أو النفوذ الإقليمي وبرنامج الصواريخ الباليستية، وإنما تتعدى ذلك لتشمل علاقة إيران بأتباع المذاهب الشيعية في العالم العربي وطموحاتها الإقليمية في إطار مراجعة عميقة وهادئة لبرنامج "الثورة الإسلامية" الذي يدفع الشعب الإيراني إلى اليوم كُلف محاولات تطبيقه داخل إيران أو خارجها، وهذه الثغرة التي تعمل إسرائيل من خلالها على هدم شرعية النظام الإيراني عن طريق تفاعلات داخلية شعبية. إن استمرار تحرّك إيران على المستوى الاستراتيجي وفق الأحكام التقليدية لـ "الثورة الإسلامية" يُقحم البلاد في أزمات عميقة، وسياسة الصبر الاستراتيجي التي تتبناها السلطات ليست خيارًا شعبيًا معقولًا يمكن التعايش معه؛ فالطموحات النووية تقابلها العقوبات الغربية التي تظهر أعراضها على الأحوال الاقتصادية والمعيشية للمواطنين بدليل ارتفاع نسب الفقر والبطالة، وزيادة التضخم، وهبوط الريال الإيراني أمام الدولار. والتمدد الإقليمي يقابله تدهور العلاقات العربية - الإيرانية، والمواجهة العسكرية مع إسرائيل. والانحياز للمعسكر الشرقي يُرسّخ بقاء إيران في "محور الشر" وفقًا للتصنيف الأميركي، وهذا له تبعاته السياسية والاقتصادية والأمنية. لهذا كله، ومع الأحداث الأخيرة التي تعرضت لها إيران، فإن التيار المتشدد الذي يمسك بمفاصل الدولة ويوجّه سياستها الخارجية سيكون في موضع إدانة داخلية، وسيتم تحميله مسؤولية عزلة إيران الدولية والتحديات التي تواجهها، وهو ما سيوجه ثقة الإيرانيين نحو التيار الإصلاحي الذي سيقدم وصفة الخروج الآمن من الأزمات التي تتعرض لها البلاد. لا بديل بالنسبة للقوى السياسية الإصلاحية في إيران عن مراجعة "الثورة الإسلامية" لوقف النزيف الذي أصاب شرعيتها، وهذا إن حدث، فإنه سيعيد صياغة المشروع الإيراني بشكل لا يؤدي بالضرورة لطمس هويته الثورية، وإنما لينطلق من أولويات المجتمع التي تركز على الاقتصاد والعدالة الاجتماعية، والحريات والحوكمة الرشيدة، بدلًا من الاستنزاف الخارجي الذي أنهك الموارد وجعل البلاد تنتقل من أزمة إلى أخرى منذ عقود. تابعو جهينة نيوز على


Amman Xchange
منذ 4 ساعات
- Amman Xchange
عجز الحساب الجاري الأميركي يقفز إلى مستوى قياسي في الربع الأول
اتسع عجز الحساب الجاري في الولايات المتحدة إلى مستوى غير مسبوق خلال الربع الأول من العام، بعدما سارعت الشركات إلى استيراد كميات كبيرة من السلع لتفادي الرسوم الجمركية الباهظة التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وأظهرت بيانات صادرة عن مكتب التحليل الاقتصادي التابع لوزارة التجارة، يوم الثلاثاء، أن العجز في الحساب الجاري -الذي يقيس صافي تدفقات السلع والخدمات والدخل والاستثمارات بين الولايات المتحدة والعالم- ارتفع بمقدار 138.2 مليار دولار، أي بنسبة 44.3 في المائة، ليبلغ 450.2 مليار دولار، وهو أعلى مستوى يسجّله على الإطلاق. كما عُدّلت بيانات الربع الرابع من العام السابق، لتُظهر عجزاً قدره 312 مليار دولار، مقارنةً بـ303.9 مليار في التقديرات الأولية. وكان خبراء اقتصاديون، استطلعت وكالة «رويترز» آراءهم، قد توقّعوا ارتفاع العجز إلى 443.3 مليار دولار خلال الربع الأول. ومثّل العجز نحو 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى مستوى منذ الربع الثالث من عام 2006 حين بلغ ذروته عند 6.3 في المائة، مقارنة بـ4.2 في المائة خلال الربع الأخير من العام الماضي. وحذّر اقتصاديون من أن اتساع فجوة الحساب الجاري، بالتوازي مع تضخم العجز في الموازنة الفيدرالية، قد يُشكّل تهديداً على المدى الطويل لقوة الدولار الأميركي. كما أسهمت الرسوم الجمركية الواسعة التي فرضها ترمب في إضعاف جاذبية الدولار بوصفه ملاذاً آمناً عالمياً. وسجّلت واردات السلع ارتفاعاً قياسياً بمقدار 158.2 مليار دولار، لتبلغ تريليون دولار لأول مرة، مدفوعةً بزيادة واردات الذهب غير النقدي والسلع الاستهلاكية، خاصةً المنتجات الطبية والصيدلانية ومواد طب الأسنان. في المقابل، تراجعت واردات الخدمات بمقدار 1.8 مليار دولار؛ لتصل إلى 217.8 مليار دولار، نتيجة انخفاض رسوم استخدام حقوق الملكية الفكرية، مثل تراخيص البحث والتطوير. أما صادرات السلع فقد ارتفعت بمقدار 21.1 مليار دولار إلى 539.0 مليار دولار، وهو أعلى مستوى منذ الربع الثالث من عام 2022، مدعومةً بزيادة صادرات السلع الرأسمالية، ولا سيما الطائرات المدنية وملحقات الحواسيب والمعدات الطرفية وقطع الغيار. وتراجعت صادرات الخدمات بمقدار 4.4 مليار دولار إلى 293.2 مليار دولار، نتيجة انخفاض السلع والخدمات الحكومية، مثل الوحدات العسكرية، بالإضافة إلى تراجع إيرادات السفر الشخصي وخدمات الاستشارات المهنية والإدارية. وسجّل عجز تجارة السلع قفزة إلى مستوى قياسي بلغ 466 مليار دولار، مقارنةً بـ328.9 مليار دولار في الربع الأخير من 2024. ومع ذلك، بدأت واردات السلع التراجع مع نهاية موجة الطلب المرتفعة على المواد الأساسية. وكانت الحكومة قد أعلنت هذا الشهر انخفاض الواردات بنسبة قياسية بلغت 19.9 في المائة خلال أبريل (نيسان)، لتصل إلى 277.9 مليار دولار. وانخفضت إيرادات الدخل الأولي بمقدار 22.9 مليار دولار إلى 355.1 مليار دولار، في حين تراجعت المدفوعات ضمن هذا البند بمقدار 13.7 مليار دولار إلى 362.7 مليار دولار، متأثرة بانخفاض دخل الاستثمار المباشر، الذي يُشكل معظمه أرباحاً. في المقابل، ارتفعت إيرادات الدخل الثانوي بمقدار 2.3 مليار دولار، لتصل إلى 49.6 مليار دولار، مدفوعة بتحصيل غرامات وعقوبات، في حين انخفضت مدفوعات الدخل الثانوي بمقدار 8.4 مليار دولار إلى 101.5 مليار دولار، نتيجة تراجع التحويلات الحكومية.


أخبارنا
منذ 5 ساعات
- أخبارنا
اسماعيل الشريف يكتب : طريق الدم
أخبارنا : إيران هي حجر العثرة الأخير أمام النظام الإقليمي الذي نسعى إليه- جون بولتون، مستشار أمن قومي أمريكي. في أدبيات السياسة الأمريكية الحديثة، تتمحور استراتيجيتها في الشرق الأوسط حول أربعة مرتكزات رئيسة: النفط، والممرات المائية، والكيان، وإيران، وهي مرتكزات تتشابك وتتقاطع فيما بينها. كثير من المحللين السياسيين وأنا منهم يتحدثون عن سطوة اللوبيات الصهيونية، وعلى رأسها «أيباك»، التي تشتري ولاء أغلب أعضاء الكونغرس، وتمسك بزمام القرار الأمريكي في الشرق الأوسط. لكن هذا التحليل، رغم شيوعه، يرسم صورة للولايات المتحدة كضحية لنفوذ صهيوني خارجي، فنجد أنفسنا بغير وعي نتعاطف معها وهي تفتك بملايين العرب والمسلمين في المنطقة! وربما آن الأوان أن نعيد النظر في هذا التصور، وأن نرى الصورة من زاوية أخرى: ما يجري في المنطقة ليس اختطافًا للقرار الأمريكي، بل هو تنفيذ دقيق لخطة أمريكية خالصة، هدفها إشعال الحروب، ونشر الفوضى، وتهجير الشعوب، وتفكيك الدول. أما الكيان الصهيوني، فما هو إلا أداة تنفيذ، يتحمّل اللوم نيابةً عن واضع الخطة، فيما تظل الولايات المتحدة خلف الستار، بمنأى عن الاتهام أو المحاسبة. في عام 1971، أنهى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ارتباط الدولار بالذهب، فتحول الدولار إلى عملة بلا غطاء مادي. وبدلًا من الذهب، جرى ربطه بما سُمّي لاحقًا «البترودولار»، حيث فُرض بيع النفط حصرًا بالدولار، ليصبح الذهب الأسود هو الداعم الجديد لقيمة الدولار. ومنذ تلك اللحظة، صار التحكم بتدفق النفط مسألة وجودية بالنسبة للولايات المتحدة، لأن النفط هو ما يُبقي الدولار قويًا، والدولار هو تاج الإمبراطورية الأمريكية. ومن هنا نفهم استهداف إيران: دولة ترفض الوصاية الأمريكية، تتقارب مع الصين الخصم الاقتصادي الأول لواشنطن وتملك مخزونًا هائلًا من النفط، ونفوذًا إقليميًا متصاعدًا، وتصرّ على التمرد. وهذا وحده كافٍ ليجعلها عدوًا حقيقيًا لهيمنة الدولار. تُستهدف إيران إذًا، لا حبًا في الكيان، بل لأن وجودها يُهدد النظام المالي والسياسي الذي تدور عليه العجلة الأمريكية. قبيل «طوفان الأقصى»، وفي قمة العشرين بنيودلهي، أُعلن عن مشروع الممر الاقتصادي الذي سيمتد من الهند إلى البحر المتوسط، متجاوزًا إيران، في رد مباشر على مبادرة «الحزام والطريق» الصينية. غير أن هذا الطريق يصطدم بعقبة بشرية كثيفة في غزة، التي تحوّلت فجأة إلى منطقة بالغة الأهمية، بحكم موقعها الاستراتيجي، واحتياطيات الغاز قبالة سواحلها، والمشروع المسمى «قناة بن غوريون»، المفترض أن يربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط. غزة وإيران معًا تشكلان العقبتين الأبرز في وجه هذا المشروع. ولإزالتهما، بدأ المخطط الأمريكي يأخذ طريقه إلى التنفيذ. لكن مثل هذه المخططات الكبرى تحتاج إلى ذريعة ضخمة أشبه بـ»بيرل هاربر» أو 11 سبتمبر لتكون بوابة لحرب شاملة. فجاء «طوفان الأقصى»، وتم توظيفه كذريعة مثالية لتبرير الإبادة الجماعية في غزة. سُوِّيت غزة بالأرض تحت القنابل، وسط غطاء سياسي أمريكي كامل، وسردية إعلامية غربية موحّدة تُبرر المجزرة: من مزاعم نشر الديمقراطية، إلى الحديث عن الدروع البشرية، وقطع رؤوس الأطفال، ومحاولة اغتيال ترامب، والبرنامج النووي الإيراني، وغيرها من الأكاذيب المفبركة. ثم بدأت واشنطن، عبر الكيان، في تقليم أجنحة إيران، واستنزاف نفوذها خطوة خطوة، حتى أُضعفت، وأُزيحت من طريق المشروع. وحين عجز الكيان عن حسم المعركة، كان لا بد للولايات المتحدة أن تدخل المشهد بنفسها، وبشكل مباشر. ولا يمكن فهم المجزرة الجارية في غزة، ورغبة ترامب في تهجير سكانها، والحرب على إيران، من دون النظر إلى ما يُسمى «الطريق التنموي الأمريكي». تمامًا كما يُمهَّد الطريق السريع بهدم الأحياء الواقعة على امتداده، تدمر غزة وتُفرَّغ من سكانها لتُمهَّد الطريق للمشروع، وليُمحى كل ما يُعيق التمدد الأمريكي. ولا ينبغي أن ننسى قصة القذافي، الذي أعلن في 2011 عن خطته لإطلاق عملة إفريقية موحدة، تهدد الدولار واليورو معًا. بعد عام واحد، دُمّرت ليبيا، وقُتل القذافي، وسط ضحكات هيلاري كلينتون على شاشة التلفاز وهي تقول: «جئنا، رأينا، ومات.» لقد كانت تلك الضحكة رسالة صريحة للعالم: لا تجرؤ على تهديد الدولار. وبعد قرن على اتفاقية سايكس بيكو، يُعاد تشكيل الشرق الأوسط من جديد. تسعى واشنطن لإقصاء الصين وروسيا من المنطقة، واحتكار نفوذها فيها بالكامل، عبر تحييد آخر خصومها: إيران. أما غزة، فرغم حجم الكارثة التي تعيشها، فهي في نظر واشنطن مجرد عثرة صغيرة على طريق مشروع أكبر. لا حلفاء دائمين للولايات المتحدة، فالمصالح وحدها هي من تُحدد العلاقات. حين أصبح صدام حسين عبئًا، أُزيح دون تردد. وإن أصبح الكيان عبئًا في يوم ما، فلن تتردد واشنطن في التخلي عنه، دون أن يرف لها جفن. فالأولوية القصوى هي بقاء الدولار قويًا، وخطط أمريكا لا تعرف التراجع.