اللغة بين النّسبيّة والكُمُومِيَّة
فعلى سبيل المثال تمدّنا الطبيعة بألوان الطيف في شبكة متداخلة وعميقة من التدرّجات التي تبلغ وفقًا لعين الإنسان الطبيعي أكثر من ستة عشر مليون لون، لكنّ اللغة تُكمّمها في كلمات بسيطة من قبيل: (أحمر وأخضر وأزرق)، والأمر ذاته ينطبق على المشاعر وتداخلاتها العميقة والمعقّدة التي تظهر في كلمات نسبيّة من قبيل: (سعادة، وحزن) ونحوهما.
وعلى الرغم من أنّ منطق اللغة الطبيعيّة يعارض المفاهيم المُوغلة في الدّقة والحسابات المفرطة في الضبط، ويترك مجالا رحبًا للوصف والحدس البشري؛ حيث إن طبيعة اللغات تقوم على تبسيط الأشياء المُعقدة لتحقيق التواصل ممّا يؤدّي إلى فقدان التفاصيل وتركها للافتراضات المسبقة، إلا أنّ التقدّم العلمي الذي نقض السدود بين المشاريع العلمية كالرياضيات والفيزياء واللسانيات وعلم النفس والأنثروبولوجيا والسيمياء، بل وجسَّر بينها عبر الدراسات البينيّة وتعدّد الاختصاصات لا سيما من نافذة الحوسبة اللغوية والذكاء الاصطناعي التوليدي قد ألحّ على ضرورة تعويض بعض عناصر الآلة المُتمايزة عن العقل البشري، كتعويض عنصر الوصف بالتوصيف، والحدس بساطرة من الخوارزميات المُعقّدة لتكميم اللغة والسيطرة على المعاني. فأصبحت الكُمُومية اللغويّة تظهر عند تحويل النصوص إلى بيانات رقميّة كتحويل الكلمات إلى مُتّجهات عدديّة (Scalar Vectors) تختزلُ المعاني المُعقّدة.
أمّا النسبية اللغوية فتبرز أهميّتها من خلال تأثيرها على أنماط التفكير، فمثلاً إذا كانت العربية والإنجليزية تُميّزان بين اللونين الأخضر والأزرق فإنّ ثمّة لغات تمنحهما كلمةً واحدة فقط، لذا يبرز ما عُرِف بفرضية (سابير وورف) التي ترى أنّ الطريقةَ التي تُقسِّم بها اللغةُ العالمَ تؤثّر على كيفيّة إدراكنا، فمثلاً لو أنّ لغتك لا تملك كلمةً للون معين فربما لن تلاحظهُ بنفس الوضوح الذي يُلاحظه به مَنْ كانت لغته تملكها. فلغةٌ مثل الإنويت (لغة سكان القطب الشمالي) تحظى بكلمات متعدّدة لأنواع الثلج، وهذا التقسيم الكُمومي يجعل متحدثيها أكثر حساسيّة لتفاصيل الثلج مقارنة بلغة لديها كلمة واحدة فقط. فإذا لم تكن لديك كلمة لشيء ما قد يكون من الصعب ملاحظته أو التفكير فيه أساسًا. والأمر ذاته مع العربية في كلمات دقيقة جدًا تصف الإبل (ناقة، وجمل، وهجن، إلخ)، ممّا يعكس أهميتها في الثقافة العربيّة. بينما قد تُقابلها في لغة لا تعرف الإبل كلمة عامّة مثل "حيوان".
لذا فإنّ الكُمومية اللغوية تساعدنا تمامًا كما تساعد الآلة على كيفيّة تنظيم اللغة للعالم المحيط بنا، على اعتبار أنّ اللغة مرآة مكثَّفة للثقافة، في حين أنّ النسبية اللغوية تُؤثّر على كيفية تعبير الثقافات عن مفاهيم معينة. وربما يلاحظ المشتغلون بالترجمة مثل هذه الإشكالية عندما يكون لديهم معنى لا تحمل اللغةُ المُستقبِلة مُقابلًا له، فالتكميم اللغوي يُعزّز الانتباه إلى الثقافة وقيمها ويؤثر على اهتماماتها وأولوياتها. إذ قد يؤدّي من زاوية أخرى إلى سوء فهم بين الثقافات إذا لم تتطابق الكُموميات اللغوية في ما بينها.
في حين أنّ النسبية اللغوية تركّز على تأثير اللغة على التفكير. لكنّها تضع حدودًا على ما يُمكننا التفكير فيه، على أنّ الدراسات لم تُثبت بما يكفي تأثيرًا كبيرا للغة على إدراكنا.
ختامًا، وبالعودة إلى الفيزياء إليكم هذه الطرفة: اقترح أينشتاين رائد النسبية عام 1935م تجربة تُسمّى مفارقة (EPR) لينتقد الكمومية واصفًا التشابكات بأنها فعل شبحي، لكنه لم يكن ليعلم أنّ التجارب لاحقًا ستُثبت أنها تشابكات حقيقية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة عاجل
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- صحيفة عاجل
المنتخب السعودي للفيزياء يفوز بـ6 جوائز دولية في أولمبياد الفيزياء الآسيوي 2025
حصد المنتخب السعودي للفيزياء (6) جوائز دولية، منها ميداليتان برونزيتان، و(4) شهادات تقدير، في أولمبياد الفيزياء الآسيوي (2025)، بنسخته الـ(25) التي تنظمها المملكة في مدينة الظهران من (4) حتى (12) مايو الجاري، بمشاركة (240) طالبًا وطالبة يمثلون (30) دولة. وفاز الطالبان مازن الشخص من إدارة تعليم الأحساء، وحسين الصالح من إدارة تعليم الرياض بميداليتين برونزيتين، فيما نال الطلاب فارس الغامدي، وفيصل المحيسن، من إدارة تعليم الرياض، ومحمد العرفج، وعلي آل حسن، من تعليم الشرقية (4) شهادات تقدير، ليرتفع رصيد المملكة في هذا الأولمبياد إلى (22) جائزة دولية. وتأتي مشاركة السعودية في أولمبياد الفيزياء الآسيوي ضمن برنامج موهبة للأولمبيادات الدولية وثمرة للجهود والعلاقة التكامليّة بين مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع "موهبة" ووزارة التعليم، وبعد استعداد مكثف تلقى فيه الطلبة المتسابقون آلاف الساعات التدريبية في "موهبة". يُذكر أن النسخة الأولى من أولمبياد الفيزياء الآسيوي انطلقت عام (1999) في إندونيسيا بمشاركة (12) دولة، ووصلت بمرور الوقت إلى (30) دولة، ويُعد من أبرز المسابقات العلمية الدولية السنوية الموجهة لطلبة المرحلة الثانوية الموهوبين في الفيزياء.


رواتب السعودية
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- رواتب السعودية
المنتخب السعودي للفيزياء يفوز بـ6 جوائز دولية في أولمبياد الفيزياء الآسيوي 2025
نشر في: 12 مايو، 2025 - بواسطة: خالد العلي حصد المنتخب السعودي للفيزياء (6) جوائز دولية، منها ميداليتان برونزيتان، و(4) شهادات تقدير، في أولمبياد الفيزياء الآسيوي (2025)، بنسخته الـ(25) التي تنظمها المملكة في مدينة الظهران من (4) حتى (12) مايو الجاري، بمشاركة (240) طالبًا وطالبة يمثلون (30) دولة. وفاز الطالبان مازن الشخص من إدارة تعليم الأحساء، وحسين الصالح من إدارة تعليم الرياض بميداليتين برونزيتين، فيما نال الطلاب فارس الغامدي، وفيصل المحيسن، من إدارة تعليم الرياض، ومحمد العرفج، وعلي آل حسن، من تعليم الشرقية (4) شهادات تقدير، ليرتفع رصيد المملكة في هذا الأولمبياد إلى (22) جائزة دولية. وتأتي مشاركة السعودية في أولمبياد الفيزياء الآسيوي ضمن برنامج موهبة للأولمبيادات الدولية وثمرة للجهود والعلاقة التكامليّة بين مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع ..موهبة.. ووزارة التعليم، وبعد استعداد مكثف تلقى فيه الطلبة المتسابقون آلاف الساعات التدريبية في ..موهبة… يُذكر أن النسخة الأولى من أولمبياد الفيزياء الآسيوي انطلقت عام (1999) في إندونيسيا بمشاركة (12) دولة، ووصلت بمرور الوقت إلى (30) دولة، ويُعد من أبرز المسابقات العلمية الدولية السنوية الموجهة لطلبة المرحلة الثانوية الموهوبين في الفيزياء. المصدر: عاجل


المدينة
١١-٠٥-٢٠٢٥
- المدينة
الأولمبياد العلمية في السعودية
تحتضن المملكة العربيَّة السعوديَّة، خلال هذه الأيام، أولمبياد الفيزياء الآسيوي، في استضافة جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، حيث تفتح أبوابها لنخبة من المبدعين من مختلف الدول الآسيويَّة، حيث تجتمع العقول المبتكرة والعارفة بأسرار تخصصات علم الفيزياء بالذَّات في مجال الطاقة، بمشاركة فاعلة من وزارة التعليم وموهبة.الجميل جدًّا أنَّ هذا الحدث هو الثاني من نوعه، الذي احتلت فيه المملكة -بفضل الله- الريادة في إقامة الأولمبياد العلميَّة، حيث سبق ذلك إقامة أولمبياد الكيمياء الدولي، وشارك فيه تسعون دولةً، وعلى نفس النهج ستكون المملكة -بإذن الله- في المستقبل وجهة للأولمبياد العلميَّة الأُخْرى مثل الرياضيات، والأحياء، وبقيَّة التخصصات.. وشارك في فاعليَّات أولمبياد الفيزياء الآسيوي هذا العام حوالى 30 دولة، وكان عدد الطلاب المشاركين 240 طالبًا، وإجمالي المسابقات وصلت -الآن- بهذا الأولمبياد رقم 25.كما هو معروف فإن أولمبياد الفيزياء الآسيوي هو منافسة سنوية دولية، تقام لطلاب المدارس الثانوية الموهوبين؛ مما يثمر احتكاكاً وتعارفاً في مجالات الفيزياء، فالاهتمام بالموهوبين هو توجه الدول المتقدمة؛ لأنهم هم من سيصنع المستقبل -بإذن الله-، والسعودية -بفضل الله- قطعت شوطاً متقدماً بالاهتمام بالموهوبين حتى أصبحت منارة علمية، ليس فقط في تنظيم المسابقات الدولية، إنما كذلك في تصميم المسابقة العلمية بمستوى عالٍ.وأتذكَّر أنَّ أوَّل نادٍ للموهوبين على مستوى الجامعات، تم إنشاؤه في جامعة الملك عبدالعزيز، عندما كنتُ عميدًا لشؤون الطلاب، فتهيئة الطلاب والطالبات من الثانوية على المنافسات والمسابقات الدوليَّة في الأولمبياد العلميَّة يمنحهم عند دخولهم الجامعات شيئًا من النضج العلميِّ والبحثيِّ، والابتكار والإبداع؛ ممَّا يستدعي أنْ يستمر الاهتمام بهم في الجامعات.إنَّ المملكة وهي تحتضن مثل هذه الأولمبياد في التخصُّصات العلميَّة المختلفة، وتهتم أنْ تكون على أراضيها، فإنَّ ذلك يجعلها محل أنظار العالم علميًّا، وامتدادًا لهذا الاهتمام، وتطويرًا لأدائه يجب على وزارة التعليم -ممثَّلةً في مجلس شؤون الجامعات- توجيه الجامعات للاهتمام أوَّلًا بطلاب مرحلة البكالوريس والدِّراسات العُليا المبدعين، وثانيًا الاهتمام بأساتذة الجامعات الجدد الذين بعضهم أو جُلُّهم كانوا من موهوبي الأولمبياد العلميَّة، ثم إذا عادوا إلى الجامعات عادوا للتدريس فقط، دون دعم لمقترحاتهم البحثيَّة، أو أفكارهم الابتكاريَّة، إنَّ مرحلة الحصول على الدكتوراة ليس إلَّا نضجًا للموهبة والابتكار، وبدون الدعم المالي للبحوث والأفكار الابتكاريَّة، فإنَّ ذلك خسارة وطنيَّة، كمن يبذر، حتَّى إذا استوى النبات على سوقه، ذهب أدراج الرياح، فالموهبة ممتدة إلى ما بعد الدكتوراة، فيجب أن تُسقى بالدعم لتؤتي أُكلها، وتقطف ثمارها.