
د. مهند النسور : التنوع مصدر قوة: روسيا الاتحادية مثالًا حيًا
في عالم تتنازع فيه الدول بسبب التعدد العرقي والديني، تبرز روسيا الاتحادية كحالة فريدة تُظهر كيف يمكن للتنوع أن يكون مصدرًا للقوة لا سببًا للتفكك. تمتد روسيا من أقصى شرق آسيا إلى حدود أوروبا، وتضم أكثر من 190 قومية وعشرات الديانات واللغات، ومع ذلك حافظت على كيان سياسي موحد. السر في ذلك يتجذر في التاريخ ويستمر في الحاضر.
منذ عهد القياصرة، تبنّت روسيا نهج الاحتواء بدل الإقصاء. لم تُلغَ الهويات المحلية بل تم دمجها تدريجيًا في نسيج الدولة. وفي الحقبة السوفييتية، تم اعتماد نموذج يعترف رسميًا بالجمهوريات القومية ضمن دولة موحدة، فالاتحاد لم يكن للتنميط، بل للتعايش المنسجم تحت قيادة مركزية.
ولعلّ الأسماء القيادية خير دليل على نجاح هذا النهج. ستالين كان جورجيًا، وخروتشوف أوكرانيًا، وفي روسيا الحديثة، يشغل سيرغي لافروف منصب وزير الخارجية رغم أصوله الأرمنية. رجل الأعمال اليهودي رومان أبراموفيتش، تولّى منصب حاكم إقليم ناءٍ، بينما عُرف السياسي جيرينوفسكي بأصوله المختلطة الكازاخية واليهودية. هذه الأسماء تعبّر عن سياسة دمج لا تفرّق، تقوم على أساس الولاء للدولة.
ويتجاوز هذا النهج المجال السياسي ليشمل الثقافة والفنون. فـأنّا أخماتوفا الشاعرة الشهيرة كانت من أصول تتارية، وجوزيف برودسكي، الحائز على نوبل، من عائلة يهودية. أما شوستاكوفيتش، فقد مزج في موسيقاه بين الأرثوذكسية واليهودية والتقاليد السلافية. كما تحتفي المتاحف الروسية بأعمال فنانين من أصول داغستانية وأرمنية وقرمية، ما يعكس ثراءً حضاريًا جامعًا.
هذا التنوع ما كان ليزدهر لولا النظام الفيدرالي المرن الذي اعتمدته روسيا. يمنح هذا النظام الكيانات الفيدرالية حرية إدارة شؤونها الثقافية والتعليمية والدينية ضمن إطار الولاء للدولة. ففي تتارستان تُدرّس التترية إلى جانب الروسية، وفي ياقوتيا تُنتج برامج بلغة ياقوتية وتُدرّس في المدارس، بينما يُمارس السكان شعائرهم بحرية.
في العمق الروحي، تقوم روسيا على قاعدة الأرثوذكسية المسيحية، لكنها في الوقت نفسه احتضنت الإسلام باعتزاز. يعيش أكثر من 20 مليون مسلم في روسيا، ولهم مساجدهم ومفتيهم وتعليمهم. يكفي أن ثاني أكبر مسجد في أوروبا يقع في قلب موسكو، ليعكس هذا الاحترام المؤسسي.
وبينما تعاني دول كثيرة من تفكك الهويات، تُقدّم روسيا نموذجًا عمليًا لإدارة التعددية بدون طائفية أو عنف. البوذية، الأرثوذكسية، اليهودية، والإسلام كلها ديانات معترف بها قانونيًا وتتمتع بحماية الدولة. ورغم التحديات، حافظت روسيا على وحدتها دون أن تقع في فخ الطائفية أو الانقسام.
إن التجربة الروسية تؤكد أن الوحدة لا تعني إلغاء الفروقات، بل احترامها وتنظيمها ضمن مشروع وطني جامع. فعندما تنظر إلى خريطة روسيا، وتسمع لغاتها، وتقرأ آدابها، وتدخل متاحفها، تدرك أن هذه الدولة لا تقوم على مركزية خانقة، بل على فسيفساء وطنية رحبة تتسع للجميع.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

الدستور
منذ 12 ساعات
- الدستور
خطاب «البكائيات» الذي لا يجدي!
أليس من الظلم أن تُشوَّه صورة الأردن ودوره في القضية الفلسطينية، وهو الدولة التي دفعت أثماناً باهظة - سياسياً واقتصادياً وأمنياً - من أجلها؟ أليس من الجور أن تتحوّل الدولة التي كانت – ولا تزال- السند الأقرب للفلسطينيين، والتي لم تتوقف يوماً عن الدفاع عن غزة في المحافل الدولية وكسر الحصار جواً وبراً، إلى مادة للتشويه وحملات الشيطنة؟ ما شهدناه في الأسابيع الأخيرة من تهجم على سفارات أردنية في لندن وألمانيا وهولندا وبلجيكا وكندا وواشنطن، إلى جانب إساءات وتشويه إعلامي وحملات منسقة على منصات التواصل الاجتماعي، لم يكن حراكاً عفوياً ولا مجرد غضب شعبي بريء. ما يجري اليوم جزء من حملة منظمة، مرتبطة بأجندات سياسية واضحة، وفي مقدمتها المتعاطفين في الخارج مع دوائر الإسلام السياسي، أو الذين ينجرون وراء حملات تطبخ بصورة دقيقة وتستخدم الآحرين لتنفيذها. هل يخدم ذلك غزة أو القضية الفلسطينية أو حتى حماس نفسها؟ الجواب ببساطة: لا. ثم يبرز سؤال أكبر: لماذا الأردن بالذات؟ لماذا تُستهدف عمّان التي حوّلت القضية الفلسطينية إلى بوصلة سياستها الخارجية، بينما لا تُسأل دول أخرى لم تقدم شيئاً يذكر لغزة أو حتى أقامت علاقات طبيعية مع إسرائيل وتواصل تبادل المنافع معها؟ لماذا لا يُوجَّه هذا الغضب إلى أكبر الدول المصدرة لإسرائيل تجارياً؟ أو إلى دول أخرى تحافظ على قنوات مفتوحة مع تل أبيب؟ الحقيقة أن الأردن اليوم يدفع فاتورة مزدوجة: من جهة، يقاتل في المحافل الدولية دفاعاً عن الحق الفلسطيني، ويقود جسور الإغاثة الجوية والبرية لإيصال المساعدات لغزة في ظروف معقدة؛ ومن جهة أخرى، يتحمّل تشويهاً منظماً يتناقض مع مواقفه الحقيقية. وهذه مفارقة تحتاج إلى أن تُقال بصراحة: من يشيطن الأردن إنما يوجه طعنة لأحد أهم سندات الفلسطينيين في المنطقة. لكن هنا أيضاً مسؤولية أردنية لا يمكن إنكارها. الأردن لم ينجح في بناء رواية إعلامية ذكية تواكب جهوده السياسية والدبلوماسية وتواجه الحملات المضادة. فبرغم ما يقوم به الملك شخصياً من قيادة سياسية نشطة على مستوى العالم، ودور الدبلوماسية الأردنية التي لا تهدأ في الدفاع عن فلسطين في الأمم المتحدة والمحافل الدولية، حتى بات العديدون من دبلوماسيين أجانب وغربيين ورأي عام غربي يرى في أيمن الصفدي، وزير الخارجية الأردني، بمثابة وزير خارجية فلسطين، ناهيك عن المستشفيات الميدانية المنتشرة في قطاع غزة الضفة الغربية، بالرغم من ذلك فإنّ هذه الجهود لا تجد دائماً من يوازيها في السرد الإعلامي المؤثر. القوة الناعمة الأردنية – المتمثلة في مصداقيته السياسية، ورصيده الأخلاقي في الدفاع عن القضايا العادلة، وشبكة تحالفاته الإقليمية والدولية – بحاجة إلى من يبرزها ويقدمها للعالم العربي والدولي بلغة يفهمها ويتفاعل معها. خطأ فادح، بل خطيئة بحق الأردن وجهوده وصورته ودوره أن نكتفي بالحوقلة أو الردود السطحية أو التذرع بعدم وجود إمكانيات مادية، أو الأخطر من ذلك الاستهتار بهذه الصورة التي ترسم والحملات التي تعد بعناية ضد الأردن؛ فالصورة الإعلامية باتت اليوم قضية أمن قومي وركيزة من ركائز الاستقرار السياسي، وهي في صميم علاقات الأردن الخارجية. مواجهة ذلك تقتضي تغيير المقاربة بصورة كاملة؛ والخروج من زاوية النظر إلى الإعلام من عقلية المنع والتقييد، إلى المبادرة والصناعة والإبداع؛ وأول الخطوات هو «مطبخ إعلامي» محترف، يتشكل من سياسيين وإعلاميين وخبراء استراتيجيين، يُعيد صياغة الرسائل الأردنية ويقدّمها بذكاء وإقناع. فغياب هذا المطبخ يجعل الساحة فارغة أمام تحليلات مرتجلة وسطحية يقدمها بعض المحللين والنشطاء – داخلياً وخارجياً – ممن يتحدثون بلا بيانات دقيقة أو رسائل مدروسة، فتكون النتيجة أحياناً أن تفسيراتهم ومبرراتهم للسياسات الأردنية أكثر ضرراً من حملات التشويه نفسها. الأردن بحاجة إلى أن يتحدث مع العالم العربي بلغة صادقة ومباشرة، وأن يشرح ماذا يفعل؟ ولماذا يفعل؟ وكيف يوازن بين مواقفه ومصالحه؟ بل من يتحدث حتى إلى الرأي العام الأردني، لكن برسائل تحترم العقل والمنطق، وأن تكون الخطوط الإعلامية- السياسية متبادلة، فالإعلام لم يعد فقط فاعلاً متلقياً، من الضروري ان يكون له دور أساسي في صناعة السياسات وتوجيه القرارات؛ وأن يؤخذ بعين الاعتبار في التغذية العكسية بصورة كبيرة. لم تعد الحروب والمعارك اليوم عسكرية فقط؛ إنها معركة روايات وصور ورسائل. ومن دون وعي استراتيجي وإعلام ذكي قادر على إدارة هذه المعركة، سيبقى الأردن هدفاً سهلاً لحملات التشويه، ليس فقط في القضية الفلسطينية بل في كل الملفات الداخلية والخارجية.


صراحة نيوز
منذ يوم واحد
- صراحة نيوز
لماذا تدخل ترامب بسرعة لوقف تصاعد النزاع بين الهند وباكستان؟
صراحة نيوز- كشفت صحيفة وول ستريت جورنال نقلاً عن مصادر رسمية أن الولايات المتحدة تدخّلت بشكل عاجل خلال التصعيد العسكري بين الهند وباكستان في مايو/أيار الماضي، لمنع اندلاع مواجهة نووية محتملة بين البلدين، بعد ورود معلومات استخباراتية تشير إلى إطلاق الهند صاروخاً من طراز 'براهموس' باتجاه باكستان. وذكرت المصادر أن الإدارة الأميركية، برئاسة دونالد ترامب حينها، تلقت معلومات تؤكد أن الصاروخ البراهموس -وهو نتاج تعاون عسكري بين الهند وروسيا– يمكن تزويده برؤوس نووية، ما أثار مخاوف من تصعيد غير قابل للسيطرة، خاصة مع احتمال رد باكستاني مماثل. وأوضحت الصحيفة أن ترامب قاد جهوداً دبلوماسية مكثفة لاحتواء التصعيد، ووجّه وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي ونائب الرئيس جيه دي فانس لإجراء اتصالات رفيعة مع كل من رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وقادة الجيش الباكستاني، ومسؤولي الخارجية في البلدين. التصعيد الذي كاد أن يشعل حرباً التوترات تفجرت عقب هجوم في 22 أبريل/نيسان أسفر عن مقتل 26 شخصاً في إقليم كشمير، حيث اتهمت نيودلهي جماعة 'لشكر طيبة' المدعومة من باكستان بتنفيذه. وردّت الهند بغارات جوية داخل الأراضي الباكستانية استهدفت مواقع وصفتها بـ'الإرهابية'، لترد إسلام آباد بإطلاق مئات الطائرات المسيّرة على عمق الأراضي الهندية. وفي خضم هذا التصعيد، تلقّت الولايات المتحدة معلومات تشير إلى إمكانية استخدام أسلحة استراتيجية، خصوصاً بعد تعرض قاعدة 'نور خان' الباكستانية لضربات صاروخية، ما دفع واشنطن لإعادة النظر في موقفها المبدئي المتحفظ. وساطة أمريكية لوقف إطلاق النار وبعد أربعة أيام من التصعيد العنيف، أعلن الرئيس ترامب التوصّل إلى اتفاق شامل لوقف إطلاق النار، مؤكدًا أن الوساطة الأميركية كانت حاسمة. لكن الهند رفضت الاعتراف بأي دور خارجي، مشددة على أن الاتفاق تم عبر مفاوضات مباشرة مع باكستان، وهو ما أكده وزير دفاعها راجناث سينغ لاحقاً أمام البرلمان. رغم ذلك، كرر ترامب مراراً أنه قاد وساطة ناجحة لإنهاء الصراع، مشيراً إلى أنه استخدم النفوذ الاقتصادي والضغوط التجارية لحث الطرفين على التهدئة، بل واعتبر نفسه 'مرشحاً طبيعياً' لنيل جائزة نوبل للسلام بسبب هذا التدخل. بينما تمسكت الهند بموقفها الرافض للتدخل الخارجي، مشددة على أن وقف العمليات العسكرية جاء بعد 'تحقيق الأهداف السياسية والعسكرية'، وفق ما صرّح به رئيس الوزراء مودي ووزير دفاعه.


وطنا نيوز
منذ 2 أيام
- وطنا نيوز
الحجايا تكتب:العطاء الصامت في زمن الضجيج
د.دهمه الحجايا بينما تشق شاحنات الإغاثة طريقها نحو غزة، محملةً بأطنان من الغذاء والدواء، وبينما تنصب المستشفيات الميدانية الأردنية أروقتها لاستقبال جرحى الحرب، يسود صمتٌ أردنيٌ عميق. هذا الصمت ليس فراغاً، بل هو لغة قائمة بذاتها، لغة تختزل قروناً من القيم الأصيلة التي تشربها الهاشميون وشعب الأردن، لغة تتعرض اليوم لعاصفة هوجاء من 'التشويه المنظم'. في عالم يضج بالصراخ الإعلامي وتبادل الاتهامات،حيث تقدم المملكة الأردنية الهاشمية نموذجاً فريداً للعطاء الإنساني. في معركة وجودية، ليست معركة على الأرض فحسب، بل معركة قيم الإنسانية والتضامن والتكافل في مواجهة سموم الإعلام المأجور الذي يسعى بلا هوادة إلى تشويه صورة هذه المساعدات وتحويل الفعل الخالص إلى شبهة. وبالرغم من كل هذه السموم يظل الرد الأردني هو الأبلغ حيث الاستمرار في العمل بصمت. هذا الصمت ليس ضعفاً، بل هو ثقة بالقيمة الذاتية لفعل الخير، وإيمان بأن البذل الحقيقي لا يحتاج إلى ضجيج. إنه تحدٍ صامت لآلة التشويه، قائماً على الإنجاز الملموس على الأرض. حيث الجسور الجوية الأردنية تحلق ، والبرية تسير ليل نهار ، ليست مجرد قوافل إغاثة بل هي جسور تضامن ملموسة تمتد من عمق القلب الأردني إلى أشقاء تحت الحصار. والمستشفيات الميدانية مثل 'مستشفى الملكة رانيا' في غزة، وشحنات الدواء والغذاء المستمرة، وعلاج الجرحى داخل الأردن، كلها شواهد على فعل لا يتوقف. لذلك على الجميع أن يدرك بأنه 'لَيْسَ مِن شِيمِ الهاشميين وَأَهْلِنَا وَأَجْدَادِنَا الخَيِّرِينَ فِي الأُرْدُنِ التُّمَنُّنُ عَلَى فِعْلِ خَيْرٍ يقومون بِهِ'. هذه العبارة ليست مجرد شعار يرفع، بل هي جوهر الفعل الأردني. إنها ترجمة عملية لقيم راسخة، مستمدة من الإرث الهاشمي العريق ومن تعاليم الإسلام السمحة. إنهم يقدمون العون بلا منٍّ، بلا انتظارٍ لميكروفونات الإعلام أو عبارات الشكر، لأن الدافع أسمى وأعمق. حيث المرجعية الأخلاقية للأردن قيادة وشعباً قول الله تعالى في سورة الإنسان 'وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا'. هنا يكمن سر العطاء الأردني لغزة، وللمنكوبين أينما كانوا، يُقدَّم بورع المؤمن الذي يوقن أن الثواب الحقيقي، والجزاء الأوفى، هو عند ربٍ كريم وليس عند بشر قد يجزِلُ بالشكر أو يجحد. فالعطاء الصامت ليس تكتيكاً، بل هو هوية. هو ردٌ وجودي على محاولات التشويه، يترجم قوله تعالى إلى واقعٍ تراه العيون في قوافل الإغاثة، وتلمسه الأيدي في المستشفيات، ويلمسه القلب في كل فعل خير يقدم دون منٍّ ولا أذى. في زمن الضجيج، يعلو صوت الصمت الأردني الأصيل، حاملاً رسالة واضحة: فعل الخير غاية في ذاته، ووجه الله هو المرتجى. حمى الله الأردن شامخاً عزيزاً دوماً معتزاً بقيادته الهاشمية التي تجسد معاني العطاء عبر التاريخ، ليكتب فصلًا جديداً من فصول الإنسانية في زمن تكثر فيه الضوضاء وتقل فيه القيم.