
تكلفة القرار
وفعلاً عدنا إلى الفندق، وفي الصباح الباكر ركبنا الحافلة وذهبنا لقصر السلطان عبد المجيد، وكان قصراً مذهلاً، فما بالك في وقته؟ إذ كان في وقته يعد تحفة معمارية رائعة، وبعد أن تجولنا في ردهات القصر، ورأينا فخامة الفرش والأثاث والثريات الجميلة، وقف المرشد السياحي في منتصف المجموعة وقال: لهذا القصر المنيف قصة سأحكيها لكم، ذلك أنه في أواخر الدولة العثمانية، ومع انتشار الجيوش العثمانية، وإحساس السلطان عبد المجيد ببداية ضعف الدولة العثمانية، كان السلطان عبد المجيد ينوي تقوية الجيش الموجود في البلقان بالمال الذي في خزينة الدولة، وكان مالاً وفيراً، فجمع مستشاريه وأوضح لهم نياته بتقوية الجيش، وصرف المال عليه ليستعد لمجابهة أعداء الدولة في أوروبا، والذين يتربصون بها السقوط.
لكن المستشارين كان لهم رأي آخر، وهو أن الوفود الأوروبية ستأتي لإسطنبول للتفاوض، ومن الأفضل بناء قصر مهيب حتى إذا أتت الوفود ورأت هذا القصر وهو محل اجتماعات الوفود تأخذها الهيبة، وتحس بأن الدولة قوية ومنيعة.
السلطان عبد المجيد أخذ برأي مستشاريه، وتقول الرواية إنه صرف على بناء القصر أربعين طناً من الفضة، وثلاثين طناً من الذهب، وبغض النظر عن صحة المال المصروف، فإن القصر مهيب فعلاً، وتستطرد الرواية أنه صرف على بناء القصر جُلّ ما في خزينة الدولة بدلاً من صرفها على الجيش.
تدرون كم كلف هذا القرار؟ كلف سقوط الإمبراطورية العثمانية، ويقول المؤرخون لو أن هذه المبالغ الطائلة التي صرفت على بناء القصر صرفت على الجيش وتقويته لما سقطت الإمبراطورية العثمانية.
وبالتأكيد ليس هذا السبب الوحيد لسقوط الدولة العثمانية، ولكنه واحد من أهم الأسباب، رغم أن المال المنفق على بناء القصر من خزينة الدولة، فما بالك بالدول التي تعتمد على المعونات والمساعدات وتصرف الأموال على بناء القصور، بدلاً من صرفها على المشاريع الاقتصادية المنتجة، والتي تتيح فرصاً وظيفية لأبناء وبنات الدولة، وتوفر دخلاً لخزينة الدولة بدلاً من إنفاقها على بناء القصور؟ ودمتم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 7 ساعات
- الشرق الأوسط
احتراماً للقانون الدولي
في خضم التصعيد الإقليمي القابل للتجدد بين إيران وإسرائيل، وبعد الغارات الأميركية التي استهدفت من دون أن تنجح بالكامل منشآت نووية، أو مواقع سيادية، تتخذ دول كبرى في العالم السني مثل السعودية وتركيا ومصر وعموم دول الاعتدال، مواقف ثابتة تعبّر عن رفضها لأي تدخل عسكري أو خرق للسيادة. هذه المواقف لا تصدر عن عداء ديني أو آيديولوجي لليهود؛ أو إظهار التعاطف مع إيران، بل عن منطلقات مبدئية واستراتيجية تتمثل في احترام القانون الدولي، وسيادة الدول، وتفضيل المقاربات الدبلوماسية، ورفض أوهام «الشرق الأوسط الجديد» الذي لا يحمل جديداً سوى الخراب المعاد إنتاجه. السعودية، التي تقود اليوم قطار التنمية الإقليمي، تجاوزت ثنائية محور «الممانعة أو الاعتدال»، وتحولت إلى أنموذج للمنطقة في السعي نحو تحقيق الرفاه والانتقال من اقتصاد ريعي إلى دولة استثمار، وتحول اجتماعي منغمس في بناء الإنسان السعودي والاستثمار فيه، وتمكين الشباب، والانفتاح على العالم وفق مرجعية وطنية هي رؤية 2030. الرياض دائماً تذكر الجميع بالثمن الباهظ الذي دفعته المنطقة منذ غزو العراق، مروراً بحروب التدخلات السريعة، وصولاً إلى الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، إذ ليس لدول المنطقة «ذاكرة قطط» لأنَّها تدرك بوعيها السياسي آثار تلك التجارب العبثية، وتدرك أن «تفكيك الدول» لم يأتِ يوماً بنتائج أفضل من النظم التي كان يُراد إسقاطها. فالبديل في كل مرة كان الفوضى، والطائفية، وانتشار الميليشيات، وخراب المؤسسات، وملايين اللاجئين الذين لم تجد لهم الأمم المتحدة مأوى حتى الآن. في هذا السياق، يأتي الموقف الجديد لمحور ما يمكن تسميته «محور السيادة» بوصفه مرآة لحسابات الدولة، لا انفعالات اللحظة. فرغم التنافس مع طهران، وصراع النفوذ على مناطق أخرى وتعقيدات الوضع في غزة، لم تنزلق هذه الدول إلى مواجهة مفتوحة مع إيران، مدركةً أن هذا سيخلق فوضى عارمة لا يمكن السيطرة عليها، ويضيف ساحة اضطراب جديدة إلى حدودها. أما العلاقة مع إسرائيل وكل ما يسوق له من فرص السلام، فلا يمكن أن يدخل ضمن خانة المفكر فيه مع هذا التوغل في غزة والضفة، والاستخدام الوحشي المفرط للقوة ضد الأطفال والمدنيين، وهذا موقف يتطابق فيه الرأي السياسي والمجتمعي، ولا يعبر عن كره أو معاداة للسامية، أو عدم رغبة في السلام، بل هو ينطلق من احترام قرارات الشرعية الدولية، والحفاظ على أهل غزة والفلسطينيين وحقهم المشروع والعادل. المعادلة الجديدة التي تتبناها «دول محور السيادة» لا تقوم على حب طهران أو كره تل أبيب؛ بل على رؤية صلبة تقول: لا يمكن للمنطقة أن تستمر رهينة تناقضات دولية لا تخدم سكانها. فالجيل الجديد في الشرق الأوسط لا يعرف حروب 1967، ولا اتفاقيات 1978، ولا يشعر بأن الصراع العربي - الإسرائيلي يختزل حياته، هذا الجيل - الذي يشكل غالبية السكان - يريد العمل، والتعليم، والإنترنت، وسوقاً حرة، لا تستهلكها العقوبات ولا تدمّرها الانفجارات، ومع ذلك، لا يمكن أن يظل حبيس «العدمية» القاسية التي تفرزها لغة الأرقام ومنطق الصورة في عالم شديد التواصل اليوم تجاه ما يحدث ضد الأبرياء في غزة وفلسطين. هذا التحول الجيلي في الأولويات، والموقف الاستراتيجي في الدول، يعكس لحظة فارقة قابلة للاستثمار تقول بوضوح: الشرق الأوسط لم يعُد ذلك الإقليم القابل للتلاعب، ولا البيدق الذي يُحرّك في صراع القوى الكبرى. فالدول الإقليمية لم تعُد تعاني عقدة «الحماية الغربية»، ولا ترى في كل منافسة إقليمية تهديداً وجودياً؛ بل تملك من الثقة والرؤية ما يجعلها تتحدث بنديّة، وتفاوض على المصالح، وتضع الحدود لما يُقبل وما يُرفض. ما تطلبه دول محور «السيادة» - رغم الخلافات بينها - ليس مستحيلاً: احترام سيادة الدول، وكبح التوسع العسكري، وتحجيم الميليشيات، وإعادة الروح إلى القانون الدولي. وليس من العقل في شيء أن تبقى منطقة تمتد من كابل إلى غزة، ساحة مفتوحة للضربات والتجارب، بينما تتفرج الأمم المتحدة، وتغيب التفاهمات الكبرى، ويعلو صوت المدافع على صوت التنمية. أما على الجانب الأميركي، فالسؤال اليوم لم يعُد عن كيفية التعامل مع إيران أو الدفاع عن إسرائيل، بل: ماذا تريد واشنطن من المنطقة؟ وهل تدرك أن حلفاءها الإقليميين لم يعودوا أدوات تنفيذ؛ بل شركاء في صنع القرار، يملكون مقارباتهم، وأولوياتهم، وهموم شعوبهم؟ وإذا كانت إسرائيل تسعى لتوسيع نفوذها بحجج «الأمن» أو بأوهام شرق أوسط جديد، فإن الأمن لا يُصان بالقصف، ولا تُبنى الشرعية على أنقاض القانون. كما أن الحجج التي حاولت إسرائيل تسويقها لم تعُد تقنع أحداً، فالمنطقة اليوم أكثر وعياً، وأكثر انفتاحاً، وأكثر واقعية. من يُرِد الأمن، فليصنع السلام. ومن يُرِد السلام، فليعترف بأن للآخرين سيادة لا يجوز انتهاكها، وحقوقاً لا يمكن القفز عليها. والحال أن المواقف الإقليمية الرافضة للتدخلات الخارجية لا يمكن اختزالها في شعارات آيديولوجية. إن السعودية وتركيا ومصر وغيرها من دول الإقليم، تقول بوضوح: نريد شرقَ أوسط جديداً، لكنه لا يُبنى على الأنقاض، ولا يُدار بالمظلات العسكرية، ولا يُختزل في خطوط حمراء ترسمها واشنطن أو تل أبيب؛ بل نريد شرقَ أوسط تُصنع فيه النهضة من الداخل، وتحترم فيه الهويات، وتعلو فيه رايات التنمية على دمار الجغرافيا السياسية. إنها ليست مسألة حب أو كره؛ إنها مسألة وعي إقليمي يتجذّر، واحترام للقانون الدولي الذي طالما استُخدم أداة للمصالح، لا مرجعية للعدالة.

سودارس
منذ 11 ساعات
- سودارس
شرفاء السلطان.. شرفاء بزعمهم
حيدر المكاشفي في الأنباء أن تجمعاً هلامياً خلع على نفسه بوضع اليد مسمى (تجمع السودانيين الشرفاء بالخارج)، اوفد مندوبون عنه إلى مقر سلطة الأمر الواقع النازحة ببورتسودان ، والتقى هؤلاء المندوبون أحد أعضاء مجلس سيادة سلطة بورتسودان ، وسلموه مذكرة قيل انها تضمنت أبرز الرؤى والمشروعات التي يعتزم التجمع تنفيذها.. ولا عجب ففي أزمنة الاضطراب والانقسام، تكثر الكيانات التي تدّعي تمثيل الحقيقة أو الدفاع عن القيم المطلقة، سواء كانت دينية أو وطنية أو أخلاقية. وفي سياقنا السوداني الراهن، حيث تتشابك السياسة بالحرب، والهوية بالخوف، والسلطة بالدم، لا غرابة ان يظهر كيان جديد يُدعى (تجمّع شرفاء السودانيين)، وهو اسم مثير للانتباه، لا من حيث طبيعته التنظيمية أو نشاطه السياسي فحسب، بل من حيث ما ينطوي عليه من دلالات رمزية خطيرة، تضرب في عمق مفهوم المواطنة والانتماء الوطني. فهذا الإسم، الذي يوحي بأن أصحابه ينتمون إلى فئة أخلاقية أو سياسية متعالية، يستبطن من حيث لا يدرون أو يدرون نزعة إقصائية تتجاوز حدود السياسة إلى حدود تصنيف البشر بين شريف وغير شريف، وهي سابقة مقلقة في الوجدان السوداني الذي لطالما حاول رغم الأزمات أن يحافظ على قسط من احترام التعدد والاختلاف. فالاسم شرفاء السودان ليس بريئاً فهو يستخدِم الاصطفاف الأخلاقي كسلاح سياسي، إذ ان منح النفس صفة (الشرف) هو في جوهره فعل سلطوي وإن تغلف بشعارات الوطنية. هو لا يكتفي بالحديث عن مواقف سياسية أو انتقادات ظرفية، بل يصنع إطاراً أخلاقياً مُغلقاً يُحشر فيه المنتمون إلى هذا التجمع بوصفهم (الصفوة) أو (الطليعة الأخلاقية) للمجتمع، فيما يُترك الآخرون خارج هذا القوس، بلا تصنيف أو في خانة (غير الشرفاء).. هذا النوع من الاصطفاف الأخلاقي ليس جديداً، فقد عرفته الحركات الشمولية عبر التاريخ، حيث كانت تُطلِق على نفسها مسميات تعكس النقاء والطهارة، مثل الطليعة الثورية أو جبهة الصمود أو حماة العقيدة الخ، وكانت هذه التسميات تُستخدم في شيطنة الخصوم أكثر مما تُستخدم في التعبير عن الذات وفي سياقنا السوداني، يكتسب الأمر خطورة مضاعفة، لأن البلد يعيش لحظة تَشظٍّ غير مسبوقة، تتخلّق فيها الكيانات السياسية والعسكرية والمليشية والإعلامية بلا ضابط قانوني أو مؤسسي، وفي هذه اللحظة بالذات تصبح الألقاب الرمزية أدوات خطيرة للتفتيت لا للتوحيد، وللإقصاء لا للاحتواء. فمن أين يستمدون شرعية هذا (الشرف) المدعى؟.. أخطر ما في هذا النوع من التجمعات ليس لأنها تتخذ موقفاً سياسياً معيناً، فهذا حق مكفول لأي جماعة، بل لأنها تلبّس هذا الموقف بلبوس أخلاقي مطلق. وبدلاً من أن تقول نحن نرى كذا وكذا، تقول نحن (الشرفاء)، أي نحن الصواب المطلق، والآخرون بالضرورة ليسوا كذلك. لكن من الذي فَوَّض هؤلاء؟ ومن منحهم سلطة تصنيف السودانيين بهذا الشكل؟ هل حصلوا على تفويض شعبي؟ هل اجتمع الناس وأجمعوا على أنهم هم وحدهم أصحاب الضمير الحي؟ بالطبع لا. إنها سلطة رمزية زائفة تُنتج من داخل الاصطفافات لا من خارجها، وهي تسعى إلى إنتاج (هوية فوقية) تَسِم الذات وتَنبذ الآخر. هذه النزعة تؤسس لخطاب شبيه بخطاب (الطهرانية السياسية)، حيث تُمجّد الذات وتُشيطن الغير، وهو خطاب غير قابل للنقاش لأنه لا يتحدث عن البرامج بل عن (النيّات)، ولا يُناقش الوقائع بل يوزّع الصفات. في تشابه خطير مع (علماء السلطان) ففي الفقه السياسي الإسلامي، يُستخدم مصطلح علماء السلطان لوصف رجال الدين الذين يسخّرون خطابهم الديني لخدمة السلطة الحاكمة، ويبرّرون ظلمها أو يعطونها غطاءً شرعياً. وهؤلاء (العلماء) رغم تلبّسهم بلباس الورع، كانوا في حقيقتهم أدوات سياسية لإسكات الناس، تحت دعوى الطاعة أو درء الفتنة. والخطاب الذي يتبناه ما يسمى (تجمع شرفاء السودانيين) على نحو ما يبدو من بياناته وتصريحاته يشبه من حيث البنية خطاب علماء السلطان، لا من حيث اللغة الدينية، بل من حيث الوظيفة. فهم لا يكتفون بموقف سياسي، بل يمنحون أنفسهم حق تصنيف المجتمع، ويتحدثون من موقع أخلاقي متعالٍ، ويُلمّحون ضمناً إلى أن من ليس معهم فهو ضدهم، بل ضد الوطن نفسه. إنهم، في هذا المعنى، يقومون بما كان يقوم به علماء السلطان، ولكن بلغة مدنية وطنية عوضاً عن الفقهية، يبررون الاصطفاف، يمنحون الشرعية، يشككون في المخالفين، ويمنحون (صكوك الوطنية وقلادة الشرف) لمن يشبههم. ويتسببون بذلك في تداعيات خطيرة على الخطاب العام حيث تكمن خطورة هذه الكيانات في أنها لا تمزق المجال السياسي فحسب، بل تُفسد الخطاب العام والنقاش المجتمعي. فهي تُنتج خطاباً مغلقاً لا يحتمل النقد، وتُربّي جيلاً جديداً على فكرة أن الوطن ليس للجميع، بل لفئة محددة هي التي تملك تعريف الشرف والوطنية. وهذا يقود إلى عسكرة الوعي المدني، حين يتحول كل اختلاف في الرأي إلى خيانة، وكل نقد إلى إساءة، وكل اعتراض إلى عمالة. وهي بيئة مثالية لزرع بذور القمع، والترويج للرقابة الذاتية، وبناء نظم استبداد ناعمة تتخفى وراء شعارات الأخلاق والوطن. بينما السودان بوضعه الراهن لا يحتاج إلى (شرفاء).. بل إلى (عقلاء) في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ السودان، لا حاجة لنا إلى كيانات تطلق على نفسها ألقاباً فوقية، بل إلى جماعات تؤمن بالحوار، وتقبل بالاختلاف، وتحترم المواطنة، ولا تُلخّص الوطن في شخص أو حزب أو مذهب أو مدينة. نحتاج إلى تجمع (العقلاء). تجمع (الشرفاء)، تجمع يُدرك أن السياسة ميدان للنسبي لا المطلق، وأن الوطنية لا تُحتكر، وأن الشرف لا يُعلن في البيانات، بل يُثبت بالفعل، بالصبر، بالتواضع، وبالقدرة على احترام من يخالفك حتى وإن كنت تراه مخطئاً..وآخر قولنا دعوا الشرف لأهله، ولا تتاجروا به، إن أسوأ ما يمكن أن يواجهه السودان في هذه اللحظة هو أن تتحول السياسة إلى ميدان أخلاقي زائف، يُقصي المخالف لا يرد عليه، ويخوّنه لا يفنّد حجّته. وإن استمرار مثل هذه الكيانات ذات الألقاب النخبوية الزائفة، هو علامة على تعفن المجال العام، وعلى انسداد أفق الإصلاح الحقيقي. فمن أراد خدمة السودان، فليتنازل عن الألقاب، وليترك (الشرف) لأهله، فالشرف لا يُعلَن ولا يتخذ اسماً بل يُمارَس. وليعلم هؤلاء أن السودان لن يُبنى ب(تجمعات الشرفاء)، بل ب(تكتلات الحكماء)..


العربية
منذ 12 ساعات
- العربية
الكرد والكابوس الإقليمي
بدأ حلم الأكراد بقيام دولة كردية مستقلة لهم مع نهايات القرن الـ19 تزامناً مع ضعف الدولة العثمانية وبدايات التكوينات القومية العربية والتركية والفارسية، حيث يوجد الأكراد في العراق وسوريا وإيران وتركيا ويبلغ مجموعهم نحو 40 مليون نسمة، لكن حلمهم بقيام الدولة المستقلة تلاشى مع تلاشي دولة عربستان وإمارة بني كعب والشيخ خزعل عامي 1920 و1925، ومع تلاشي أحلام الشريف حسين بعد الحرب العالمية الأولى بحكم الدولة العربية الموحدة. وبقي الحلم بقيام دولة كردية مستقلة ملازماً للوعي الكردي طوال هذه العقود، وقد أخذ صوراً من المطالبات المسلحة والسلمية خلال الوقت نفسه. ولعل أقرب كيان شبه مستقل لهم اليوم هو كردستان العراق الذي يعد دولة مستقلة من دون إعلان الاستقلال. وتضم إيران نحو 5 ملايين كردي، مثلهم بسوريا ونصف الأكراد تقريباً (20 مليوناً) يعيشون في تركيا. وأية حركة تطالب بالانفصال أو بالحقوق القومية الكردية بإيران اليوم تواجه بالقمع الشديد، وكذلك كانت الحال في تركيا والعراق أيام صدام حسين وحكم "البعث". وكانت الأمور أهدأ بالنسبة إليهم في سوريا نسبياً، لكنهم اليوم يوجدون في شرق سوريا بإدارة محلية ذاتية باسم "قوات سوريا الديمقراطية" واختصارها "قسد". وقعت "قسد" مع الحكومة السورية الجديدة بعد سقوط نظام بشار الأسد اتفاقاً خلال مارس (آذار) الماضي، وخطوطه العريضة تعلن الاندماج بالدولة السورية، وهو الاتفاق الذي يرى كثر أنه مهد للإعلان الذي أعلنه زعيم ومؤسس حزب "العمال الكردستاني" عبدالله أوجلان بإلقاء السلاح والتخلي عن الكفاح المسلح لتحقيق الحلم الكردي بإقامة دولة مستقلة. أوجلان -المعروف لدى الأكراد باسم عبدالله أبو- هو مؤسس حزب العمال عام 1978، وحصد كفاحه المسلح مقتل أكثر من 40 ألف من الأتراك والأكراد وسبب صداعاً مزمناً للدولة التركية التي رأت بخطر الأكراد خطراً وجودياً على الجمهورية التركية نفسها. وعليه، فقد هددوا الرئيس السوري حافظ الأسد بالحرب ما لم يقم بتسليم عبدالله أوجلان الموجود بالبقاع في لبنان، الذي كان تحت السيطرة السورية الكاملة طوال الثمانينيات والتسعينيات الماضية. طرد الأسد أوجلان تجنباً للحرب مع تركيا عام 1998، واعتقل خلال فبراير (شباط) 1999 جراء عملية استخباراتية بكينيا، قيل إن الموساد والـ"سي آي أي" ساعدوا في تنفيذها لمصلحة قوات تركية خاصة اختطفته من كينيا إلى تركيا، واعتقل في جزيرة لا يزال مسجوناً بها منذ 26 عاماً. بإعلانه إنهاء الكفاح المسلح بتسجيل مصور بدا به متكرشاً ومتقدماً في العمر كثيراً، أعلن عبدالله أوجلان انتصار كفاح شعبه وأن الوقت حان لقطف ثمار هذا الانتصار "العظيم" سلمياً، ومن خلال الكفاح الديمقراطي السلمي داخل الدولة التركية. وبدوره، ألقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطاباً السبت الماضي أعلن فيه انتصاراً عظيماً على الإرهاب، ودخول المنطقة مرحلة تاريخية جديدة يتعايش فيها الترك والكرد والعرب ويعيدون أمجاد المسلمين الأوائل، كرر أردوغان تحالف الترك والعرب والكرد من أجل مستقبل المنطقة ولم يأت بخطابه على ذكر إيران أو الفرس! بإعلان الأكراد نهاية الكفاح المسلح وتسليم أسلحتهم، يكونون فتحوا الباب على ملفات واستحقاقات جديدة، كيف سيتعامل العراق مع الاحتلال التركي لشمال أراضيه؟ هل سيشكل لجنة برلمانية تطالب حكومة العراق بالتفاوض مع الأتراك لانسحابهم من الأراضي العراقية التي احتلوها بحجة محاربة "الإرهاب" الكردي العمالي؟ وماذا عن الوجود العسكري التركي في شمال سوريا الذي كانت ذريعته مشابهة لذريعة الاحتلال التركي لشمال العراق؟ هل ستتغاضى عنه الحكومة السورية الجديدة كاستحقاق لدور تركيا الرائد بدعمها وإسقاط نظام بشار الهارب؟ وماذا عن ملف الأكراد بكرمنشاه-إيران؟ هل سيكتفي أكراد إيران بالتوافق التركي-الكردي الجديد ولو على حسابهم؟ هل يدخل تسليم السلاح الكردي ضمن ترتيبات جغرا-سياسية لمنطقة الهلال الخصيب وشمال العراق والشام؟ وما الدور السوري الجديد مقابل اتفاق "فك اشتباك" جديد مع إسرائيل؟ وهل كان حديث المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا بضم لبنان لها "بالون" اختبار؟ أم تهديد للبنان للتخلص من "حزب الله"؟ وأين موقع إيران الجريحة التي خسرت لبنان والشام وتراجعت في العراق وضُربت هيبتها في الداخل بالعدوان الإسرائيلي والقصف الأميركي لمفاعلاتها النووية؟ أين موقعها من الترتيبات الجديدة داخل العراق والشام؟ تساؤلات تحتاج إلى مقالات وندوات ومتابعة للتطورات، فالقادم للمنطقة يشير إلى تغيرات جيو-سياسية هائلة وربما خرائط سياسية جديدة، لكن أهم التساؤلات حول هذه التطورات هو أين المشروع العربي من كل ما يجري؟ وهل هناك مشروع عربي أصلاً؟ وقد تكون محاولة الإجابة عن هذا التساؤل محوراً لمقال قادم.