
السعودية وأميركا.. خارج إطار النفط
كانت العلاقة بين المملكة والولايات المتحدة تُختصر في كلمة واحدة (النفط). فمنذ اكتشاف النفط في الخليج عام 1938، وقّع البلدان صفقات شراكة استراتيجية ربطت مصير الاقتصادين بهبوط وارتفاع أسعار الخام. لكن في العقد الأخير، بدأت لوحة العلاقات الثنائية ترسم ألوانًا جديدة، بعيدًا عن الزيت الأسود، لتُصبح قصة تحول اقتصادي غير مسبقة. فكيف تستبدل السعودية "الذهب الأسود" بـ"الذهب الرقمي" و"الذهب الترفيهي" في علاقتها مع أميركا؟
في عام 2016، أطلقت السعودية رؤية 2030، خطة طموحة لتنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط، الذي يمثل نحو 90 % من صادرات المملكة. هذا التحول لم يكن داخليًا فحسب، بل كان أيضًا رسالة واضحة للشركات الأميركية: "نحن لسنا فقط مصدري نفط، بل نحن سوق ناشئة بفرص استثمارية هائلة".
وسرعان ما استجابت الشركات الأميركية للنداء. ففي عام 2021، استثمر صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF) أكثر من 1.2 مليار دولار في شركة الألعاب الإلكترونية الأميركية Scopely، في صفقة تُعد الأكبر من نوعها في تاريخ المنطقة. هذه الخطوة لم تكن مجرد استحواذ مالي، بل كانت إعلانًا عن ولادة قطاع جديد: "الاقتصاد الرقمي السعودي"، الذي يهدف إلى جذب 50 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية بحلول 2030.
في شمال غرب المملكة، ترتفع أطلال مشروع نيوم، المدينة الذكية التي تُخطط لإعادة تعريف مفهوم الحياة الحضرية. هنا، تظهر الشراكة مع الشركات الأميركية بوضوح: فشركة Cisco الأميركية تشارك في تصميم البنية التحتية الرقمية للمدينة، بينما تتعاون Lockheed Martin في تطوير أنظمة الدفاع الذكية. حتى شركة Tesla أصبحت حاضرة في المشهد، مع خطط لاستخدام الطاقة الشمسية في تشغيل مشاريع النقل الكهربائي داخل نيوم.
لكن التحدي الحقيقي ليس في البناء، بل في تحويل الثقافة. كيف تقنع السعودية، التي ارتبط اسمها بالماضي القريب بالبدو والصحارى، العالم بأنها قادرة على قيادة ثورة تكنولوجية؟ الإجابة تكمن في الاستثمار البشري: ففي 2022، أرسلت المملكة أكثر من 5000 طالب إلى جامعات أميركية لدراسة علوم البيانات والذكاء الاصطناعي، ضمن برنامج "الابتعاث الرقمي"، الذي يهدف إلى تدريب جيل قادر على إدارة هذا الاقتصاد الجديد.
في الماضي، كان الأميركيون يأتون إلى السعودية لزيارة المواقع الأثرية أو لحضور مؤتمرات الطاقة. اليوم، يأتون لحضور حفلات الدرعية تنيس سيتيس أو مباريات الملاكمة العالمية التي تنظمها المملكة. ففي نوفمبر 2023، استضافت الرياض مباراة بين Tyson Fury وDillian Whyte، بحضور نجوم هوليوود مثل Leonardo DiCaprio، في حدث تجاوزت قيمته 200 مليون دولار.
هذا التحول في صناعة الترفيه ليس عشوائيًا. فصندوق الاستثمارات العامة خصص 18 مليار دولار لتطوير قطاع الثقافة والترفيه، بهدف زيادة مساهمته في الناتج المحلي من 2 % إلى 4 % بحلول 2030. ومن بين الشراكات البارزة، تعاون الشركة السعودية Misk Art مع أستوديوهات هوليوودية لإنتاج أفلام عربية-أميركية مشتركة، مثل فيلم "الخيال المريخ" الذي حقق نجاحًا تجاريًا في صالات السينما الأميركية.
في عام 2021، أثار استحواذ صندوق الاستثمارات العامة على نادي Newcastle United الإنجليزي موجة جدل عالمية. لكن بالنسبة للسعوديين، كانت الصفقة رمزًا لتحول استراتيجي: فبدلًا من استيراد الرياضة من الغرب، أصبحت السعودية قوة استثمارية قادرة على تغيير قواعد اللعبة. اليوم، تشارك الفرق السعودية في دوري MLS الأميركي، بينما تسعى الشركات السعودية لاستثمار مليارات في مشاريع رياضية مشتركة، مثل بناء ملاعب ذكية في ولاية كاليفورنيا.
المراقبين يرون أن السعودية تلعب لعبة طويلة الأمد. ففي تقرير حديث يشير إلى أن الاقتصاد غير النفطي في السعودية ينمو بنسبة 7 % سنويًا، وهي نسبة تفوق نمو معظم دول الخليج. وفي ظل الشراكات مع أميركا، قد تتحول المملكة من "مصدر للنفط" إلى "نموذج للتحول الاقتصادي"، في قصة ستُكتب فصولها في العقد القادم.
النفط لن يختفي، لكنه لم يعد القلب النابض للعلاقة السعودية-الأميركية. ففي عالم يتغير بسرعة، اختارت السعودية أن تكون لاعبًا في ساحات لم تكن تُخيل نفسها فيها من قبل: من الفضاء الرقمي إلى ملاعب كرة القدم. والسؤال الآن: "متى سيُنظر إلى نيوم على أنها سيلكون فالي الشرق الأوسط؟".
فبينما تُعيد السعودية تعريف دورها كقوة اقتصادية رقمية وثقافية، تجد أميركا نفسها أمام فرصة لتوسيع نفوذها التجاري في آسيا دون الاعتماد على الحلفاء التقليديين. وفي هذا السياق، قال هنري كيسنجر ذات مرة: "السياسة ليست فن تحقيق ما هو ممكن فحسب، بل هي أيضًا فن تخيّل ما قد يبدو مستحيلًا اليوم." جملة تُلخّص طموح البلدين في بناء علاقة تتجاوز التاريخ والجغرافيا.
لكن لتحقيق هذا الطموح، يجب على الطرفين تجاوز الشكوك السياسية والتركيز على الاستثمار في الإنسان. فالنجاح الحقيقي لا يكمن في صفقات مليارية أو مشاريع ضخمة، بل في تدريب جيل قادر على إدارة هذه الشراكة بوعي ومسؤولية. ففي عالم يتغير بسرعة، قد تكون "السعودية الرقمية" و"الاقتصاد الأخضر" هما الجسر الذي يربط مستقبل البلدين، حيث تصبح القوة الناعمة أداة أكثر فعالية من النفط أو السلاح.
قد لا يختفي النفط من معادلة العلاقة بين الرياض وواشنطن في المدى المنظور، لكنه لم يعد القطب الوحيد الذي تدور حوله هذه العلاقة. ففي عقد ما بعد النفط، قد تُكتب قصة الشراكة السعودية–الأميركية كمثال نادر على كيف تُحوّل الأزمات التحديات إلى فرص، إذا ما توفرت الإرادة السياسية والرؤية المشتركة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
زيارة ترمب بداية عهد جديد بين السعودية وأميركا
شكّلت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للمملكة العربية السعودية الأسبوع الماضي، تحولاً حاسماً واستراتيجياً للعلاقات السعودية - الأميركية، إذ أثمرت نتائج فاقت التوقعات. فخلال الزيارة وُقّعت مجموعة من الاتفاقيات الكبرى عكست توافقاً استثنائياً لمصالح البلدين، وأكّدت مكانة المملكة الرفيعة في القيادة الإقليمية. وكانت لإشادة ترمب اللافتة بولي العهد محمد بن سلمان وثنائه على برنامج الإصلاحات في المملكة، وتأييده غير المشروط لسياسة المملكة تجاه القضايا الإقليمية مثل العراق وسوريا، وكذلك قضية التعاون الأمني دلالة على تحول واضح في الحسابات الاستراتيجية الأميركية. وليست نتائج الزيارة في صالح أولويات المملكة فحسب، بل تجاوزتها، مما يمهد لعهد سعودي جديد من النفوذ والاستثمار والتواصل الدبلوماسي. كما أعرب ترمب عن دعمه المطلق لولي العهد، وأثنى على قيادة المملكة الإقليمية، وأكّد توافق المواقف الأميركية مع المملكة تجاه القضايا المتعلقة بالدفاع والاستثمار وقضية إيران وسوريا وأمن الخليج. وأثمرت الزيارة توقيع استثمارات سعودية بقيمة 600 مليار دولار في مختلف القطاعات الأميركية، مثل الطاقة والمعادن الحيوية والبنية التحتية والتقنية المتقدمة. وأصبحت هذه الاستثمارات - التي سبق الاتفاق المبدئي عليها - قيد التنفيذ، مما يعزز الترابط الاقتصادي، وفي الوقت نفسه يخدم ذلك أهداف التنويع الاقتصادي في إطار «رؤية المملكة 2030». وستستفيد الشركات الأميركية من تدفق رأس المال، ومن الشراكات الصناعية ومشاريع الابتكار المشتركة. كما أكّد حضور عدد من الرؤساء التنفيذيين الأميركيين، مثل إيلون ماسك وجين - سون هوانغ، ولاري فينك، في «المنتدى السعودي - الأميركي للاستثمار» الذي عُقد خلال زيارة ترمب، تنامي ثقة القطاع الخاص الأميركي في مسار المملكة الاقتصادي. ووُقّعت أيضاً اتفاقيات في قطاعات، مثل الطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والخدمات اللوجيستية والتصنيع المستدام، مما يعزّز الدور القيادي الأميركي بمجال التقنية في خطط المملكة التنموية. وفي مجال الدفاع، وُقّع اتفاق تسليح بقيمة 142 مليار دولار، وهو حجر أساس لأجندة استراتيجية جديدة، إذ يمنح المملكة قدرات متقدمة في الدفاع الجوي والصاروخي، ومنظومة المسيّرات والأمن السيبراني والتصنيع المحلي للأسلحة. وكل ذلك يصب في تعزيز قدرات الردع والجاهزية العملياتية للمملكة، وهي حاجة مُلحّة في ظل تصاعد التهديدات الإقليمية، واستمرار النزاعات في المنطقة. ويُمثّل هذا الاتفاق من دون شك تجديداً للثقة الأميركية في مكانة المملكة بصفتها ركيزة لأمن الخليج، وبالمثل فإن تأكيدات ترمب حول التعاون العسكري الأميركي، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، واستعداد واشنطن لحماية حلفائها في الخليج، تعيد الثقة التي اهتزت خلال فترات الإدارات الأميركية السابقة. كما أكّدت الزيارة توافق وجهات النظر الأميركية - السعودية بشأن إيران، إذ تحدث ترمب عن المخاوف السعودية، وأوضح أن أمام طهران مسارين: إعادة الاندماج في المنطقة من خلال تغيير سلوكها، أو استمرار سياستها وعزلتها الدولية. وأكد ترمب في خطابه خلال القمة الخليجية - الأميركية على التباين بين سياسة الإصلاح التي تتبناها وتقودها المملكة وبين سياسات إيران في المنطقة، مما أعطى دلالة واضحة على التقارب الاستراتيجي. وتواصل الولايات المتحدة فرض الضغوط على برنامجي إيران النووي والصاروخي، وعلى وكلائها الإقليميين، أما المملكة فقد تبنت سياسة متوازنة تجمع بين القنوات الدبلوماسية التي فتحها الاتفاق مع إيران بوساطة صينية، وبين خط ردع متين يستند إلى علاقاتها الدفاعية مع الولايات المتحدة. وترسل القمة الأخيرة رسالة مفادها أنّ إطاراً أمنياً خليجياً جديداً قيد التشكل، يقوم على عزم الإرادة السعودية، وتجدد الدعم الأميركي. وكان أبرز ثمار الزيارة هو تحول الموقف الأميركي تجاه سوريا، إذ جمع ولي العهد ترمب بالرئيس السوري الجديد أحمد الشرع في جلسة غير رسمية، وشكّل ذلك تأييداً فعلياً لجهود التطبيع مع سوريا التي تقودها الدول العربية. وأسفر الاجتماع عن رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، وإفساح المجال للدول الإقليمية للمساعدة في مسألة الانتقال السياسي السوري، بما يعني إقراراً ضمنياً من واشنطن بدور الرياض المحوري في دبلوماسية الأزمات. ولهذا الدور القيادي ما يبرره، إذ شكّلت الرياض الإجماع على دعم سوريا في الجامعة العربية، وأعطت الأولوية لإعادة الإعمار، والاستقرار والاندماج التدريجي في المؤسسات الإقليمية. ويؤكد ذلك على الدور السعودي المتنامي في قضايا الوساطة الدبلوماسية، والقدرة على الموازنة بين التوافق العربي والتوجهات الدولية. وفيما يخص القضية الفلسطينية، فقد أيّد ترمب جهود السلام، ولم يربط إقامة دولة فلسطينية أو العلاقات الاستراتيجية مع دول الخليج بالتطبيع مع إسرائيل، وقال إن التطبيع مسألة تقررها دول المنطقة بنفسها، سواء المملكة العربية السعودية أو سوريا، في التوقيت المناسب لها. كما أكد قادة دول الخليج، خلال القمة الخليجية - الأميركية، وولي العهد على الخصوص، على مركزية حل الدولتين في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، على أساس حدود 1967، وهو ما تنص عليه مبادرة السلام العربية التي قدمتها المملكة عام 2002. وأيضاً، فإن غموض سياسة ترمب تجاه تسوية السلام في الشرق الأوسط يمنح المملكة هامشاً استراتيجياً، ويتيح لها فرصة إعادة التأكيد على موقفها الثابت تجاه حقوق الفلسطينيين؛ وفقاً لمبادرة السلام العربية، وفرصة النظر في التطبيع وفق وتيرة تحددها هي، بعيداً عن أي تدخل خارجي، أو ربط ذلك بمفاوضات السلام النهائية. وهذا النهج يعزز المرونة الدبلوماسية السعودية، ويرسخ مكانة المملكة بصفتها قوة قيادية مستقلة وموثوقة في جهود السلام الإقليمية. وإذا ما نظرنا إلى ثمار الزيارة بشمولية، فإنها تشير إلى توافق عام في السياسات الأميركية - السعودية، وابتعاد العلاقة بين البلدين من الارتكاز على روابط الطاقة والدفاع التقليدية إلى شراكة استراتيجية شاملة تشمل الاستثمار والدبلوماسية الإقليمية والتنسيق الأمني؛ إذ تتولى الرياض القيادة في كثير من المبادرات الإقليمية، فيما تُعيد الولايات المتحدة تشكيل صورتها ودورها بوصفها شريكاً داعماً وموثوقاً. ويتضح هذا التحول في التصريحات الثنائية، وكذلك في خطاب ترمب ورمزية زيارته، سواء في تصريحاته في «منتدى الاستثمار»، أو في التنسيق المدروس للقمة. وكذلك يتضح التحول في تأكيد ترمب تضامن الولايات المتحدة مع دول الخليج العربي خلال زيارته للدوحة وأبوظبي بعد الرياض، وفي الاتفاقيات التي وقّعها هناك. وعلى مر العقود صمدت الشراكة السعودية - الأميركية أمام تحديات كثيرة، بدءاً من الحرب الباردة، وأزمات النفط والإرهاب، وصولاً إلى التوترات الدبلوماسية. وفي مشهد يكرر ولايته الأولى، فإن زيارة ترمب الأخيرة للرياض تعكس متانة هذا التحالف، وتمثل تصحيحاً لسياسة الانسحاب الأميركية السابقة من الشرق الأوسط. ولا يشير دعم ترمب الواضح لـ«رؤية المملكة 2030»، وسياساتها المتعلقة بالإصلاح الاجتماعي، وكذلك سياساتها الإقليمية، سوى إلى التحول الكبير في المملكة من السياسة المحافظة القائمة على النفط إلى كونها لاعباً ديناميكياً متعدد العلاقات الدولية. ويرسل تأكيد البيت الأبيض على الدور القيادي للمملكة رسالة عامة مفادها أنه لا غنى عن المملكة بسياستها الإصلاحية والموثوقة في تحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي. فلطالما أكدت السياسة الخارجية السعودية على التوازن والتنويع، إذ عززت المملكة علاقاتها بالصين، وعمّقت علاقاتها النفطية والاستثمارية مع الهند، وعملت مع روسيا في مسألة تنسيق سياسات «أوبك بلس»، وكل ذلك مع محافظتها على شراكتها الأساسية مع واشنطن. وليس هذا التعدد الاستراتيجي في العلاقات رفضاً سعودياً للقيادة الأميركية، بل هو انعكاس للاستقلالية المتنامية للمملكة. وتشجيع ترمب لهذا النهج المرن، بدلاً من النظر إليه كأنه تهديد، هو تأكيد براغماتي على ضرورة إدارة التحالفات في عالم متعدد الأقطاب. ورغم استمرار بعض الخلافات، خصوصاً بشأن أسعار النفط وتدفق العملات والتوجهات الدولية، فإنها تظل قابلة للإدارة ضمن إطار التعاون الجديد، إذ تربط البلدين الآن مصالح جوهرية أكثر من أي وقت، تتمثل في قيادة مشتركة لضمان الاستقرار الإقليمي، ومكافحة الإرهاب، والتعاون السيبراني، والتوافق الاقتصادي بعيد الأمد. كما أن الاستثمار السعودي في قطاعي البنية التحتية والتقنية الأميركيين يقدم عوائد ملموسة للعمال والشركات هناك، بينما تسهم الخبرات الأميركية في تسريع تجاوز المملكة للاقتصاد النفطي. وفي الفترة المقبلة، تتطلع الرياض إلى اتساق استراتيجي واستمرارية مؤسسية من واشنطن، وفي المقابل فإنها تقدم رأس المال والقيادة الإقليمية، والتزاماً مشتركاً بالأمن والابتكار. وفي حال استمرار الطرفين على هذا المسار، فإن زيارة ترمب ستُخلد ذكرى دخول العلاقات السعودية - الأميركية عهداً جديداً، بعيداً عن التبعية أو الاعتمادية، يقوم على الاحترام المتبادل، والرؤى المشتركة، والمسؤولية المشتركة حول مستقبل الشرق الأوسط وما بعده.


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
مكاسب زيارة ترمب
الشغل الشاغل لبلد مثل المملكة العربية السعودية وهي تستند إلى «خطتها التنموية 2030» هو زيادة إنتاجها غير النفطي. تعي قيادة المملكة أن النفط مورد رئيس مهم، لكن شمولية نظرتها للمستقبل ترى أنه مورد قد ينضب، أو يتعرض إلى تقلبات في الأسواق العالمية نتيجة ظروف قد تحصل في العالم، سواء نزاعات أو أوبئة أو كوارث طبيعية، وقد خاضت هذه التجربة خلال العقود الماضية وفهمت الدرس. الاستثمار هو التجارة الرابحة منذ خلق الله الكون وبدأ الإنسان الأول بيع البضائع أو مقايضتها، وبُنيت حضارات بمركز اقتصادي صلب يقع في صلبه الاستثمار. لذلك؛ حرصت السعودية، بل أصرت على الشركات التي تريد الدخول في السوق السعودية الحيوية نقل مقارها إلى المملكة. هذه خطوة ذكية من ناحيتين؛ أن تكون مركزاً للأعمال الضخمة، وكذلك توطين بعض الصناعات. في ستينات القرن الماضي، ضخت السعودية استثمارات كبيرة في جمهورية مصر العربية التي كانت منطقة تضج بالأنشطة الاقتصادية والموارد الطبيعية والبشرية، ولكن مع الأسف لم تثمر هذه الاستثمارات، نتيجة التأميم في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، فخسر الطرفان؛ مصر والسعودية. لذلك؛ من الأهمية أن يتوجه الاستثمار إلى جهة آمنة، يمكن من خلالها أن ينمو رأس المال من دون تهديدات أو عوائق. هذا ما دفع السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة إلى ضخ مليارات الدولارات في الولايات المتحدة، حيث القوة الاقتصادية والسوق المفتوحة والأمان في التشريعات والأنظمة. السعودية استثمرت 600 مليار دولار، في مجالات حيوية، أهمها الطاقة والذكاء الاصطناعي والتقنية الحيوية، وغيرها من المسارات التي نراها اليوم ترسم المستقبل. قطر كذلك قدمت لمستقبلها 1.2 تريليون دولار، والإمارات 1.4 تريليون دولار. هذه الأموال الضخمة ليست هدية لترمب، بل رؤوس أموال ستعود لهذه الدول خلال عقود مقبلة بكثير من الموارد المالية ونقل المعرفة. باختصار، هذه سياسة دول الخليج، أموالها ليست للفساد ولا للأحلام التوسعية ولا للإنفاق على الميليشيات. هذا الفارق بينها وبين دول تمتلك موارد، لكن شعوبها تفتقر إلى البنى التحتية وأبسط مقومات الحياة الكريمة. العبرة ليست بامتلاك الأموال والنفط والغاز، بل بإدارة هذه الموارد إدارة ذات كفاءة عالية تعود على شعوبها بالخير والرفاه. من جهة أخرى، المصالح المتبادلة هي عماد العلاقات الدولية اليوم. السعودية لديها خيارات عدّة غير الولايات المتحدة لتنويع مستثمريها وزبائن نفطها، وعلى رأسهم الصين التي تعدّ المشتري الأعلى قيمة للنفط السعودي بنحو 48 مليار دولار، تقريباً ثلث المبيعات، تليها الهند بـ25 ثم اليابان وكوريا الجنوبية، وأخيراً الولايات المتحدة. ورغم تطور التبادل التجاري بين المملكة والصين لم تتخذ الرياض خطوة بيع النفط السعودي للصين أو التبادل التجاري بالعملة الصينية اليوان، بل أبقت على ارتباطها بالدولار الأميركي الذي بدأ منذ عهد الرئيس نيكسون في سبعينات القرن الماضي، وهذا عبر اتفاق مبرم بين الإدارتين السعودية والأميركية؛ ما يحقق مصالحهما معاً. المصالح ليست من طرف واحد، ولا توجد دولة في العالم تضحي بمصالحها ومصالح شعوبها مقابل الشعارات التي لا وزن لها في ميزان المدفوعات ولا خانة لها في أرقام الميزانيات. زيارة ترمب كذلك لم تخلُ من مكاسب سياسية للتعجيل بمعونات لأهالي غزة والضغط في اتجاه الإبقاء على سكانها في أرضهم حتى إعمارها، فلم يتطرق الرئيس الأميركي في زيارته حول أفكاره التي أزعجت المنطقة حول تهجير أهالي غزة، وبقيت إسرائيل تحدّث نفسها وحيدة في هذا الموضوع خلال زيارة ترمب. لكن ما جاء مثلِجاً للصدور، مفرِحاً للنفوس الطيبة، إعلان الرئيس ترمب من الرياض رفع العقوبات عن سوريا. والعقوبات على سوريا ليست فقط ما تم بعد الثورة السورية في 2011، العقوبات بدأت منذ 1979 بعد دعم نظام حافظ الأسد «حزب الله» ووصايته على لبنان، وزاد حدتها الرئيس جورج دبليو بوش حينما صنَّف سوريا بأنها ثالث محاور الشر بسبب دعمها ميليشيات «حزب الله» و«حماس»، وحيازتها سلاح دمار شامل. إعلان الرئيس ترمب رفع العقوبات جاء في توقيت حساس جداً بالنسبة لسوريا الجديدة، التي تواجه تحديات داخلية كبيرة، وتسعى الكثير من دول العالم إلى الوقوف بجانبها ودفعها للنهوض. طلبُ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من الرئيس ترمب رفع العقوبات، هو تنفيذ لوعد قطعه مع الرئيس السوري أحمد الشرع خلال زيارته الخارجية الأولى التي كانت للرياض في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. مع خبر رفع العقوبات رأى العالم حجم السعادة التي ظهرت على الأمير محمد، وطارت الفرحة من صدره إلى المدن السورية دمشق وحماة واللاذقية وحمص، ابتهاجاً بهذه الانفراجة التي فتحت باباً للأمل يحتاج إليه المواطن السوري الذي أنهكته النزاعات والتدخلات والتشريد والفقر. كان بإمكان السعودية أن تعقد صفقاتها وتودع الرئيس إلى طائرته، لكن الحقيقة أن القوة تمكّن المستحيل، ومن موقف قوة طلب ولي العهد السعودي من الرئيس الأميركي رفع العقوبات؛ لذلك جاءت الاستجابة السريعة التاريخية. المنطقة ربحت كثيراً بهذه الزيارة، وكلما كانت المنطقة تنعم بدول ناجحة طموحة، سيكون الأمل حاضراً لمستقبل أفضل للدول الأقل حظاً.


الرياض
منذ ساعة واحدة
- الرياض
المملكة.. تُخرج سورية من عزلتها
قرار ترمب رفع العقوبات عن سورية كان أحد أنجح مستهدفات الزيارة، وأضاف إنجازاً جديدًا للمملكة ودبلوماسيتها وقوتها الناعمة، مما يعكس المكانة القوية لسمو ولي العهد في العلاقات الدولية لا استقرار أو ازدهاراً اقتصادياً دون استقرار سياسي وبيئة آمنة يطمئن فيها الجميع في ظل دولة موحدة لا تتنازع فيها الجماعات العرقية والمذهبية شكّل إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب من الرياض قبل أكثر من أسبوع رفع العقوبات عن دولة سورية تلبيةً لطلب سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان انتصاراً جديداً يضاف للدبلوماسية السعودية وكذلك نقطة تحول كبيرة ليس فقط في النهج الأميركي تجاه سورية فحسب، بل لناحية تشكيل ملامح المنطقة العربية واستقرارها وما سيتبعه من انعكاسات سياسية واقتصادية واجتماعية ستصب في صالح المواطن السوري، لكنّ الأهم بنظري هو ضرورة استغلال القيادة السورية لتوابع هذا القرار في فرض قدرتها وتثبيت وحدة الدولة على الأرض. وكان ترمب قد قال في كلمة له بمنتدى الاستثمار السعودي - الأميركي إن العقوبات على سورية وحشية ومعيقة، وحان الوقت لتنهض سورية، وأنه سيأمر برفع العقوبات عن سورية لمنحها فرصة للنمو والتطور، والحقيقة أن هذا القرار حال وضعه محل تنفيذ وتحديد إطار زمني لتطبيقه سيشكّل تحولاً في رسم المسار الاقتصادي للبلد الذي أنهكته الحرب ودمج سورية في محيطها العربي والعالمي من جديد، ولا أدل على أهمية هذا القرار مما رآه الجميع من احتفاء قد يكون غير مسبوق من سمو الأمير محمد بن سلمان بإعلان الرئيس الأميركي رفع العقوبات خلال كلمته حتى أنه وقف محيياً ترمب، ولا أدل كذلك من مشهد الاحتفالات التي عمت الشوارع السورية تفاؤلاً من السوريين بأن تتاح لهم فرصة تحسين أوضاعهم وازدهار بلادهم. ووفقا لشبكة "سي إن إن" فقد أكد 3 مسؤولين أميركيين عقب انتهاء جولة ترمب الخليجية أن إدارة ترمب بدأت مراجعات فنية للعقوبات المفروضة على دمشق تمهيداً لرفعها، وأن وزارة الخزانة الأميركية ستصدر تراخيص لسورية حتى رفع العقوبات، كما أشاروا إلى أن إدارة ترمب سترفع القيود على صادرات سورية لمساعدتها في بناء اقتصادها، فيما أكد المتحدث الإقليمي باسم وزارة الخارجية مايكل ميتشل في حديثه لقناة "الحرة" الأميركية السبت الماضي أن قرار الرئيس ترمب بشأن سورية غير مشروط ولا توجد مطالب يتوجب على سورية تنفيذها لرفع العقوبات معللاً بأن رفع العقوبات عن سورية مهم للغاية لكافة الأطراف لأنه لا أحد يريد أن يرى دولة فاشلة. بالطبع لا يغفل ترمب الذي لم تفته الإشارة إلى أن قراره بخصوص رفع العقوبات على سورية جاء بعد حديثه إلى سمو ولي العهد وحث سموه له على النظر في الأمر، بهدف إعادة دمج سورية في المنظومة الدولية بعد عزلة استمرت لأكثر من عقد من الزمان. إن قراراً مثل هذا يصب في المصلحة الأميركية بضرورة المسارعة إلى ملء الفراغ الذي خلفه سقوط الأسد، وعدم السماح بعودة روسيا وإيران إلى بناء نفوذ جديد داخل سورية، لذا فالأمر يمكن بلورته في التقاء المصلحة العربية بمحاولات انتشال سورية الجديدة من عزلتها ومنع سقوطها مع الرغبة الأميركية في حماية مصالحها بالمنطقة ودخول شركاتها خاصة شركات النفط والغاز إلى بلد يعلم الجميع احتياجه إلى إعادة إعمار وتطوير موارد الطاقة لديه وقطع الطريق على الصين التي سعت لتقديم عروض التمويل بالفعل إلى الحكومة السورية. لا شك أن هذا الإعلان وإن لم يوضع بعدُ محل تنفيذ إلا أنه أتى بخلاف رغبة أطراف عديدة حتى داخل الإدارة الأميركية ذاتها التي كان جناح منها على رأسه مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض يفضل الانتظار وعدم الثقة بإدارة الرئيس السوري أحمد الشرع لافتين إلى "ماضيه واتهامه بالإرهاب" في نظرهم، هذا فضلاً عن خيبة الأمل التي تشعر بها الحكومة الإسرائيلية الآن تجاه هذا الإعلان، إلى جانب منتفعين كثر كان يهمهم استمرار الأوضاع مشتعلة بالداخل السوري. وبالتالي فالوضع المعقد بدولة سورية يُظهر لنا ثلاث ديناميكيات بارزة، تشمل الأولى ربما الترويج للصراع الداخلي وتأجيجه، والذي قد يتبناه المجمع الصناعي العسكري الأميركي وعناصر الجناح اليميني المشكل حالياً للحكومة الإسرائيلية وعلى رأسهم نتنياهو الذي يطمع في دولة سورية ضعيفة مقسمة لا يخشى خطراً منها ويعتدي عليها وقتما شاء، فيما تتضمن الديناميكية الثانية التأثير المتزايد للقوى العالمية مثل الصين وروسيا، اللتين تدخلان بقوة وبشكل متزايد في العلاقات الدولية، وبالتالي تعيد تشكيل التحالفات الجيوسياسية التقليدية، بينما تقدم الديناميكية الثالثة دعوةً مقنعةً للتنمية المستدامة والصالح العام، والتي تتبناها المملكة العربية السعودية حيث تهدف إلى القيادة بالقدوة من خلال مبادرة رؤية 2030 الطموحة، التي تسعى إلى تنويع الاقتصاد الوطني وتقليل الاعتماد على النفط والازدهار من خلال الاقتصاد وتهدئة الأوضاع الإقليمية وفرض الاستقرار بالمنطقة، ومن خلال هذه العدسة، يدرك ترمب إمكانات المملكة العربية السعودية ودورها المحوري في الجهود المبذولة للتخفيف من حدة التوترات بالمنطقة وتعزيز العلاقات الإيجابية كما حدث قبل وقت قريب بين موسكو وواشنطن وفي الملف الروسي الأوكراني، إذ أظهرت الدبلوماسية السعودية التزاماً صادقاً بمعالجة المخاوف النووية العالمية وتعزيز الاستقرار الإقليمي. من هذا المنطلق، هناك حاجة إلى أن تنظر الولايات المتحدة والغرب إلى منطقة الخليج العربي وإلى الشرق الأوسط بنظرة أوسع نطاقًا، على أنهما ليستا مجرد مناطق خلافات ونزاعات، بل إنهما تمثلان فرصاً عظيمة للشراكات الاستراتيجية، والواقع يؤكد ذلك، فعلى مدى العقد الماضي أبحرت الدول العربية خاصةً الخليجية منها بمهارة في علاقاتها الدولية، ونأت بنفسها عن الانتماءات الحزبية وأكدت رسوخها في الشؤون العالمية. والمؤمل الآن بإعلان رفع العقوبات الأميركية أن تقتدي الدول الأوروبية بقرار ترمب وتقوم بإلغاء العقوبات على سورية، بعد أن رفعتها مؤقتاً قبل نحو ثلاثة أشهر عن قطاعات الطاقة والنقل والخدمات المصرفية، كي تتحرر سورية اقتصادياً وتبدأ مسيرة جديدة نحو الازدهار والدخول في نظام التحويل المالي العالمي ودخول الاستثمارات الأجنبية وتمكين المغتربين السوريين من تحويل أموالهم إلى ذويهم بالداخل دون ابتزاز من بعض شركات الحوالات فضلاً عن تمكن الدولة السورية من استرداد الأموال المنهوبة وعودة الأموال الحكومية المجمدة. إن التعافي التام للاقتصاد السوري لا شك سيستغرق سنوات، ورفع العقوبات مجرد خطوة أولى على هذا الطريق، غير أن أهم ما يجب الآن على الإدارة السورية الجديدة باعتقادي لكي تستطيع استغلال هذا القرار استغلالاً أمثل هو التوصل لصيغة سياسية جديدة تجمع أطياف المجتمع السوري كاملة ولا تستثني أحداً، فلا استقرار أو ازدهار اقتصادي دون استقرار سياسي وبيئة آمنة يطمئن فيها الجميع في ظل دولة موحدة لا تتنازع فيها الجماعات العرقية والمذهبية، ثم يلحق ذلك سن التشريعات والقوانين الاقتصادية الجاذبة للاستثمار وطمأنة المستثمرين واستقلال القطاع المصرفي وغيرها من الخطوات التي يجب أن تأتي استغلالاً لحالة الزخم ورغبة قوى إقليمية ودولية عديدة في رؤية سورية مستقرة واستعدادها للدعم والمساندة. وخلاصة القول إن قرار ترمب برفع العقوبات عن سورية كان أحد أنجح مستهدفات الزيارة وأضاف إنجازاً جديدا للمملكة ودبلوماسيتها وقوتها الناعمة وإثباتاً جديداً على ما يحظى به سمو ولي العهد من مكانة وعلاقة قوية تجمعه بأبرز القادة العالميين وعلى رأسهم الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وخبرة كبيرة في التعامل معهم، وتحقيق هذا المطلب تعود أهميته إلى أهمية سورية المستقرة للسلم والاستقرار الإقليميين وللولايات المتحدة نفسها، فلا ننسى أنه ما لم تعتمد الولايات المتحدة هذا القرار فلم يكن أمام الدولة السورية بداً من اللجوء إلى خصومها ومنافسيها الرئيسين كالصين وروسيا وإيران، والذي يتبقى الآن على الحكومة السورية بمساعدة محيطها الإقليمي والقوى الدولية الداعمة لها أن تحسن الاستفادة من هذا القرار. *أستاذ زائر بكلية الزراعة وعلوم الحياة، قسم الهندسة الزراعية والنظم البيولوجية بجامعة أريزونا، توسان، أريزونا، الولايات المتحدة.