
تقييم ضرورى لمرحلة الأحادية القطبية الراهنة
قد يكون من المبكر تقييم ما جناه العالم خلال مرحلة الأحادية القطبية التى لا نزال نعيشها منذ تفكك الاتحاد السوفيتى واعتلاء الولايات المتحدة قمة النظام العالمي. حدث تحول فى توزيع القدرات الاقتصادية والعسكرية، والسياسية أيضا، خلال العقد الأخير، نتج عنها تراجع فى فجوة القوة بين الولايات المتحدة والقوة/ القوى التالية فى النظام العالمي، وظهرت مجموعات اقتصادية ومؤسسات مالية دولية باتت تلعب دورا أكبر فى إدارة التفاعلات الدولية، والمشاركة فى حوكمة هذه التفاعلات وبعض الوظائف الأخرى داخل النظام العالمي، لكن رغم كل ذلك لا يزال التوافق قائما بين أساتذة العلاقات الدولية على أنه مازال يفصلنا بعض الوقت على أفول النظام أحادى القطب. لكن هذا لا يمنع الحاجة إلى تقييم مرحلة الأحادية القطبية التى نعيشها، وهى حاجة ليست أكاديمية فقط، لكنها حاجة سياسية أيضا، فهذا التقييم يؤسس بالتأكيد لحجم الحاجة إلى أفول هذا النظام.
هناك مؤشرات عدة لتقييم أداء النظام العالمي، لكن يظل هناك مؤشران أساسيان، أولهما قدرة النظام على تحقيق الاستقرار والأمن العالميين، ويعنى ذلك مدى ارتباط النظام العالمى بغياب الصراعات والأزمات الدولية والإقليمية، أو قدرته على تسوية أى صراعات وأزمات قد نشأت بالفعل. المؤشر الثاني، يتعلق بطبيعة النظام الاقتصادى والتجارى العالمى السائد، بدءا من درجة استقرار هذا النظام، ومدى قدرته على الوفاء باحتياجات الاقتصادات الناشئة (القدرة على النفاذ إلى الأسواق الدولية، توفير مصادر التمويل، خاصة تمويل التنمية، استقرار أسعار الصرف الدولية، السيطرة على مصادر التضخم العالمي... إلخ).
وتجدر الإشارة أولا إلى أن العلاقة بين النظام العالمى والأمن والاستقرار العالميين لا تأخذ اتجاها واحدا؛ فلا يزال هناك تباين فى وجهات النظر بشأن هذه العلاقة، وهو ما يؤكده تطور واقع العلاقات الدولية، إذ يعتمد الأمر فى التحليل الأخير على طبيعة القوة المهيمنة على قمة النظام أحادى القطب، وطبيعة السياسات الدولية التى تتبناها وتدافع عنها هذه القوة، وهو ما يفتح المجال أمام تقييم أداء النظام أحادى القطب الحالى من زاوية طبيعة السياسات الدولية التى جرى تطبيقها خلال العقود الثلاثة ونصف الأخيرة.
فى هذا السياق، يمكن القول إن النظام أحادى القطب الحالى تكرست خلاله مجموعة من السياسات الدولية التى عمقت من حالة عدم الاستقرار.
أولاها ــ سياسة الحرب على الإرهاب التى انطلقت عقب أحداث سبتمبر 2001، والتى أسست لسلسلة من التدخلات العسكرية فى عدد من الدول، بدعوى القضاء على الإرهاب. شمل ذلك أفغانستان، ومستويات مختلفة من التدخل العسكرى فى باكستان والعراق وسوريا، وغيرها. لكن من الناحية العملية لم تؤد هذه السياسة إلى القضاء على الإرهاب، بل انتهت بعودة طالبان إلى السلطة فى أفغانستان، والتى مثلت مسرحا أساسيا لتدشين هذه السياسة، بجانب ظهور تنظيمات أكثر تشددا بالمقارنة بما كان عليه المشهد عند بدء هذه السياسة.
ثانيتها ــ التوسع فى سياسة التدخل العسكرى تحت دعاوى مختلفة، شملت بجانب الحرب على الإرهاب، نشر الديمقراطية وإصلاح الدول الفاشلة ووضعها من جديد على مسار الدول الطبيعية، من خلال إزاحة أنظمة سياسية قائمة. لكن أيضا من الناحية العملية لم تنجح هذه السياسة فى نشر الديمقراطية، سواء داخل الدول المستهدفة أو فى جوارها الجغرافى استنادا إلى افتراض تفعيل نظرية المحاكاة أو «الدومينو». وكانت النتيجة العملية هى النجاح فى إزاحة أنظمة دون القدرة، أو حتى وجود إرادة حقيقية، فى بناء أنظمة بديلة مستقرة أو فعالة.
ثالثتها ــ عودة الحروب النظامية الكبيرة، والمثال الأبرز هنا هو الحرب الروسية ــ الأوكرانية، التى ارتبط بها وجود حرب أخرى بالوكالة بين روسيا والناتو. كان من الممكن تجنب هذه الحرب لو تعامل النظام العالمى القائم بجدية مع الشواغل الأمنية لروسيا باعتبارها أحد الفاعلين الرئيسيين داخل هذا النظام، وعدم تحول توسع الناتو إلى ساحة وأداة لتعميق الهواجس الأمنية الروسية. عدم تفهم الشواغل الأمنية للكثير من الفاعلين الدوليين والإقليميين أدى أيضا إلى خلق حالة من الهشاشة الأمنية فى أقاليم أخرى، بل ساهم كذلك فى ظهور مشروعات لامتلاك القوة النووية، بعضها نجح بالفعل فى تطوير وامتلاك السلاح النووي، رغم نظام حظر الانتشار النووي، ما شكل ضربة قوية لهذا النظام الذى تقف وراءه القوة العظمى التى تقود النظام أحادى القطب.
رابعهتا ــ تقويض المبادئ الأساسية التى قام عليها النظام العالمي، ليس فقط مع لحظة تكريس النظام أحادى القطبية الراهن، لكن التى تأسس عليها هذا النظام منذ معاهدة وستفاليا عام 1648، ومنذ إنشاء المؤسسية الدولية التى ظهرت عقب الحرب العالمية الثانية، خاصة مبدأى احترام السيادة وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، وهما شرطيان رئيسيان لاستقرار النظام العالمي. لقد جرى التوسع فى العديد من السياسات التى مثلت تقويضا لهذين المبدأين، بجانب تهميش الأمم المتحدة ووكالتها ومؤسساتها المتخصصة، الأمر الذى قد يقوض فى المدى المتوسط أسس النظام العالمي، سواء فيما تبقى من مرحلة الأحادية القطبية، أو ما بعد هذا النظام إذا توافقت القوى الدولية على هذا التوجه الخطير.
خامستها ــ وعلى المستوى الاقتصادى أيضا، جرى خلال السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ عام 2018، تدشين عدد من السياسات التى ساهمت فى تقويض النظام الاقتصادى والتجارى العالمي، شملت العودة إلى سياسات الحمائية التجارية، والتوسع فى سياسة العقوبات الاقتصادية والتجارية، الأمر الذى أسس لسياسة مماثلة على المستوى الاقتصادى.
ليست هذه هى كل السياسات التى جرت خلال مرحلة الأحادية القطبية الراهنة، لكنها تمثل فى تقديرى السياسات الأكثر تأثيرا فى الحكم على أداء النظام العالمى خلال هذه المرحلة. بعض هذه السياسات ارتبط بالمرحلة الانتقالية التى دخلها النظام العالمى خلال السنوات الخمس الأخيرة، بشكل خاص، لكن كان من الممكن أن تأخذ هذه السياسات منحى آخر فى حالة تبنى القوة المهيمنة توجهات من شأنها الحفاظ على الأمن والاستقرار العالميين. السؤال المطروح الآن هل كان من الممكن أن تشهد الأحادية القطبية سياسات مغايرة فى حالة تربع قوة أخرى على قمة النظام؟ هل ستتغير هذه السياسات جوهريا فى حالة انتهاء الأحادية القطبية الراهنة؟ تلك أسئلة ستظل مفتوحة سنوات مقبلة.
......................
إن العلاقة بين النظام العالمى والأمن والاستقرار العالميين لا تأخذ اتجاها واحدا؛ فما زال هناك تباين فى وجهات النظر بشأن هذه العلاقة، وهو ما يؤكده تطور واقع العلاقات الدولية، إذ يعتمد الأمر فى التحليل الأخير على طبيعة القوة المهيمنة على قمة النظام أحادى القطب، وطبيعة السياسات الدولية التى تتبناها وتدافع عنها هذه القوة
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


النهار المصرية
منذ 11 ساعات
- النهار المصرية
هل يقود النووي الإيراني المفاوضات مع أمريكا إلى نفق مُظلم؟.. تحليل مُهم للغاية
جولة خامسة من المفاوضات بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين إيران بشأن الملف النووي في روما، تختلف كثيراً عن الجولات السابقة، خاصة مع مصاحبة هذه الجولة بتهديدات جمة على مختلف المستويات، السياسية والاقتصادية وأيضاً العسكرية، تزيد هذه التهديدات كلما وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود. قدّم الدكتور محمد مُحسن، خبير الشئون الإيرانية، تحليلاً مُهماً بشأن الجولة الخامسة من المفاوضات، مُجيباً على مختلف الأسئلة المُتعلقة بها، موضحاً أن الجولة مهمة للغاية، لأنها تهتم هذه المرة بوضع آخر نقاط على آخر حروف بين أمريكا وإيران، إذ يُذهب إلى الجولة إيرانياً تحت تهديد إسرائيل، خاصة مع تجهيز إسرائيل لعملية عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية، ذلك الأمر الذي أكره إيران بشئ أو بأخر للذهاب إلى هذه الجولة. التخصيب أمر لا يمكن التفاوض عليه وفق تحليل «مُحسن» تذهب إيران إلى هذه الجولة لتقول للأمريكان إن مسألة الحديث عن التخصيب أمر لا يمكن التفاوض عليه ولكن يُمكن التفاوض على نسبة التخصيب، أما أن أمريكا تطلب عدم تصخيب اليورانيوم حتى عند مستوى 1% فهو خط أحمر إيراني لا يمكن أن تقبل به إيران وإلا تقبل بمهذلة ومهانة تاريخية. تأتي الجولة الخامسة، وسط تهديدات عديدة، حسب الدكتور محمد مُحسن، إذ يتم الضغط على إيران للذهاب إلى طاولة المفاوضات في وضع أضعف من وضعها في 2015، فعلى المستوى الفني، تمتلك إسرائيل القدرة على ذلك بعد أن أمدتها أمريكا بأنواع من القنابل والقذائف الخارقة للحصون والكهوف الجبلية ومع ذلك إيران لديها القدرة على الرد الممثال وربما الأكثر وفق تقارير أمريكية. مدينة نووية بالكامل تحت الأرض في تطور خطير للمسألة، ذكرت تقارير إعلامية أمريكية وإسرائيلية، أن إيران نفذت تجربة نووية قبل عدة أشهر في الصحراء، وأنشأت مدينة نووية بالكامل تحت الأرض في صحراء سمان. للعقوبات بُعد مُهم في مسألة الضغط على إيران، إذ تُصدر أمريكا عقوبات شبه أسبوعية تستهدف القطاعات الحيوية في إيران، حسبما أكده الخبير في الشئون الإيرانية، موضحاً أن العقوبات كانت في البداية تتعلق بالصواريخ البالستية الإيرانية ثم بدأت تتطور إلى أن استهدفت قطاعات اقتصادية حيوية لشل حركة وقدرة لزيادة الضغط عليها حتى تضطر للقبول بإملائات سياسية وشروط ربما لا تقبلها في ظل الظروف الطبيعية. إيران لديها أوراق ضغط أقل لم يكن وضع إيران حالياً على الساحة الدولية في أفضل حالة لها، إذ أكد الدكتور محمد مُحسن، أن إيران لديها أوراق ضغط أقل من السابع من أكتوبر 2023، وبعد سقوط النظام السوري وتراجع الجماعات المؤيدة لها كحزب الله، فضلاً عن تراجع القوة العسكرية للجماعات التي كانت على وفاق مع إيران في قطاع غزة، فكل ذلك يشير إلى أن إيران لم يعد لديها القدرة التفاوضية الهائلة، فضلاً عن الضغوط التي تُمارس على إيران في الجبهة الشرقية مع طالبان، إذ تنفذ طالبان حرباً مائية مع إيران لتجفيف الأنهار التي تذهب إليها.


نافذة على العالم
منذ 5 أيام
- نافذة على العالم
محليات قطر : سي إن إن: قطر أصبحت محورًا للدبلوماسية في العالم وتعمل كأمم متحدة مصغرة
الاثنين 19 مايو 2025 12:01 صباحاً نافذة على العالم - محليات 464 18 مايو 2025 , 07:50م سمو الأمير يتقدم مستقبلي رئيس الولايات المتحدة الأمريكية لدى وصوله مطار حمد الدولي. الدوحة – موقع الشرق قالت شبكة CNN الأمريكية إن دولة قطر أصبحت الآن محورًا للدبلوماسية، وجعلت نفسها لا غنى عنها في السياسات الخارجية لرؤساء الولايات المتحدة الأمريكية من الجمهوريين والديمقراطيين. وأكدت شبكة CNN في تحليل لزيارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، التاريخية لمنطقة الخليج، أن قطر أصبحت تعمل كأمم متحدة مصغرة، مضيفه " قطر الدولة الصغيرة في الحجم، والتي يسكنها 2.5 مليون نسمة، أصبحت الآن محورًا للدبلوماسية، إنها تربط بين أطراف الصراعات، بما في ذلك الولايات المتحدة وإيران وروسيا وأوكرانيا وحماس وإسرائيل ولبنان والفصائل المنافسة له، طالبان والكونغو. وتابعت الشبكة عبر كبير مراسليها ستيفن كولينسون "إذا نشبت حربٌ تحتاج إلى إنهاء أو تحرير رهينة، فستكون قطر، التي تعمل كأمم متحدة مصغّرة، ومع تآكل الهياكل الجيوسياسية الدولية، صنعت حكومة الدوحة اسمًا لها كوسيطٍ نادرٍ في النزاعات المُستعصية بين الأعداء، والتي قد تمتد أحيانًا على بُعد آلاف الأميال خارج حدودها". وأضاف عبر التقرير "لا شك أن قطر لديها واحدة من أكثر وزارات الخارجية انشغالًا في العالم. فقد عملت على إطلاق سراح الرهائن وجهود وقف إطلاق النار في خضم الحرب الإسرائيلية على غزة، وأرسلت مليارات الدولارات كمساعدات للمدنيين الفلسطينيين. ولعبت دورًا كبيرًا في تسهيل إجلاء الولايات المتحدة من أفغانستان. وفي هذا الأسبوع، شاركت قطر مع مصر في التفاوض مع حماس لتأمين إطلاق سراح آخر رهينة أمريكي على قيد الحياة في غزة، "عيدان ألكسندر". واختتم التقرير بالقول إن " الدوحة حافظت على قنوات مفتوحة مع روسيا التي جعلها غزو أوكرانيا منبوذة دوليًا. وقد ساعدها ذلك في تسهيل إطلاق سراح مجموعات عديدة من الأطفال الأوكرانيين المحاصرين في الصراع. كما توسطت قطر بين إدارة بايدن ونظام مادورو في فنزويلا في عملية أدت إلى إطلاق سراح 10 أمريكيين. وتستضيف محادثات السلام بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ومتمردي حركة إم23 المدعومة من رواندا بهدف إنهاء القتال الذي أودى بحياة الآلاف من الأشخاص وأدى إلى أزمة إنسانية".


نافذة على العالم
منذ 5 أيام
- نافذة على العالم
أخبار العالم : تحليل.. قطر تعمل كأمم متحدة مصغرة.. وترامب يتمنى أن تكون أمريكا أشبه بالخليج
الأحد 18 مايو 2025 06:30 مساءً نافذة على العالم - تحليل بقلم الزميل بشبكة CNN، ستيفن كولينسون (CNN)-- من الواضح أن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، يتمنى أن تكون أمريكا أشبه بدول الخليج التي زارها في أول رحلة خارجية كبيرة له في ولايته الجديدة. حظي باستقبال حافل يليق بالملوك، ففي المملكة العربية السعودية استقبله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بأسلوب فاق كل التقدير الذي حظي به الرئيس الأمريكي من كبار مسؤوليه في الوطن. واستُقبل ترامب بالجمال وشاحنات "سايبرترك" الحمراء وسجادة حمراء في محطته التالية في قطر، الأربعاء، بعد هبوطه بطائرته الرئاسية القديمة - بدلاً من طائرة 747-8الأحدث التي يرغب مضيفوه في إهدائه إياها. Credit:) وقال ترامب في خطاب هام ألقاه في الرياض: "لقد أطلقنا العصر الذهبي لأمريكا، يمكن للعصر الذهبي للشرق الأوسط أن يستمر معنا". وتُعد رحلته، التي شملت أيضًا توقفًا في الإمارات العربية المتحدة، نافذة على ولايته الثانية. إغداق ترامب الاهتمام على دول الخليج يُسلط الضوء أيضًا على صعود المنطقة إلى القوة الجيوسياسية والاقتصادية. فالقوة المالية للسعوديين والقطريين والإماراتيين الأثرياء بالنفط تُهندس تحولًا في موازين القوى من الغرب إلى الشرق. وهذا واضح في قطر، فهذه الدولة الصغيرة (أصغر من ولاية كونيتيكت)، والتي يسكنها 2.5 مليون نسمة، أصبحت الآن محورًا للدبلوماسية، وجعلت نفسها لا غنى عنها في السياسات الخارجية للرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين. إنها تربط بين الدول المتحاربة والجماعات المعادية، بما في ذلك الولايات المتحدة وإيران وروسيا وأوكرانيا وحماس وإسرائيل ولبنان والفصائل المنافسة له، طالبان والكونغو ومتمردو حركة إم23. إذا نشبت حربٌ تحتاج إلى إنهاء أو تحرير رهينة، فستكون قطر، التي تعمل كأمم متحدة مصغّرة. Credit: BRENDAN SMIALOWSKI/AFP via Getty Images) كيف جعلت قطر نفسها وسيطًا دبلوماسيًا لأمريكا؟ أسفر بحث ترامب المتواصل عن "مكاسب" عن استثمارات جديدة بقيمة 600 مليار دولار للولايات المتحدة، الثلاثاء، ومن الطبيعي أن تتضخم هذه الأرقام بسبب عدّ الصفقات السابقة والوعود المستقبلية التي لم تتحقق. ولكن كان هناك أيضًا نصر للشعب السوري، حيث أعلن ترامب رفع العقوبات الأمريكية بعد سقوط نظام الأسد العام الماضي - وهو أحدث قرار رئاسي من سلسلة قرارات قد تُثير حفيظة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. واجتمع ترامب صباح الأربعاء مع الزعيم السوري، في تطور لافت بالنظر إلى أن أحمد الشرع كان في السابق جهاديًا، وكانت الولايات المتحدة قد رصدت مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه (ألغت الولايات المتحدة المكافأة في ديسمبر/ كانون الأول بعد أن عمل الشرع على بناء علاقات دبلوماسية مع نظامه الجديد). وانضم إلى ترامب والشرع شخصيًا في اجتماع الأربعاء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بالإضافة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي انضم هاتفيًا. ويُركّز البيت الأبيض على أن جولة ترامب اقتصادية بالدرجة الأولى. لكن زيارته إلى قطر سلطت الضوء على الترابط بين السياسة الاقتصادية والأمنية الأمريكية. ولضمان أمنها في منطقةٍ مُضطربةٍ تُعاني من صراعاتٍ حدودية، جعلت قطر نفسها لا غنى عنها للولايات المتحدة وحلفائها. ففي قاعدة العديد الجوية الشاسعة، والتي كانت سريةً في السابق، والتي بنتها في الصحراء خارج الدوحة، تمتد مدارج الطائرات والمنشآت العسكرية الأمريكية على مد البصر. ومع تآكل الهياكل الجيوسياسية الدولية، صنعت حكومة الدوحة اسمًا لها كوسيطٍ نادرٍ في النزاعات المُستعصية بين الأعداء، والتي قد تمتد أحيانًا على بُعد آلاف الأميال خارج حدودها. قال وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، لصحيفة واشنطن بوست في مقابلة نُشرت، الاثنين: "نحن دولة صغيرة، لكن لدينا تواصلًا طويل الأمد. أحيانًا، يُمكّنك كونك دولة صغيرة من التحرك بسرعة والقدرة على التواصل مع الجميع". ولا شك أن قطر لديها واحدة من أكثر وزارات الخارجية انشغالًا في العالم. فقد عملت على إطلاق سراح الرهائن وجهود وقف إطلاق النار في خضم الحرب الإسرائيلية على غزة، وأرسلت مليارات الدولارات كمساعدات للمدنيين الفلسطينيين. ولعبت دورًا كبيرًا في تسهيل إجلاء الولايات المتحدة من أفغانستان. وفي هذا الأسبوع فقط، انضمت قطر إلى مصر في التفاوض مع حماس لتأمين إطلاق سراح آخر رهينة أمريكي على قيد الحياة في غزة، عيدان ألكسندر. وحافظت الدوحة على قنوات مفتوحة مع روسيا التي جعلها غزو أوكرانيا منبوذة دوليًا. وقد ساعدها ذلك في تسهيل إطلاق سراح مجموعات عديدة من الأطفال الأوكرانيين المحاصرين في الصراع. كما توسطت قطر بين إدارة بايدن ونظام مادورو في فنزويلا في عملية أدت إلى إطلاق سراح 10 أمريكيين. وتستضيف محادثات السلام بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ومتمردي حركة إم23 المدعومة من رواندا بهدف إنهاء القتال الذي أودى بحياة الآلاف من الأشخاص وأدى إلى أزمة إنسانية. وأثار استعداد قطر للتعامل حتى مع أكثر الجماعات تطرفًا غضب جيرانها أحيانًا، بمن فيهم السعوديون، الذين شهدت معهم عدة انقسامات دبلوماسية، وفي الولايات المتحدة، اتُهمت قناة الجزيرة، وهي شبكة إخبارية ممولة جزئيًا من الحكومة القطرية، بالتحيز خلال حرب العراق. ودعا المشرعون في واشنطن الإدارات الأمريكية مرارًا إلى قطع العلاقات مع قطر لسماحها للمتطرفين المنتمين إلى طالبان وحماس والإخوان المسلمين بالعيش والعمل هناك. ولكن انفتاحها غالبًا ما أفاد السياسة الخارجية الأمريكية. فبإمكان قطر التحدث إلى أطراف متحاربة لا تستطيع الحكومة الأمريكية التواصل معها. لقد أصبحت قطر أداة دبلوماسية قوية لرؤساء الولايات المتحدة. وقال ستيفن كوك، من مجلس العلاقات الخارجية، للصحفيين في إحاطة صحفية عُقدت مؤخرًا: "يلعب السعوديون دورًا في التوسط مع الأوكرانيين والروس. وقد لعبت الإمارات دورًا فعالًا في إعادة الأمريكيين المسجونين ظلمًا في روسيا إلى ديارهم". من الواضح أن للقطريين دوراً كبيراً في غزة وفي التوصل إلى وقف إطلاق النار هناك. والآن لدينا العُمانيون، المنخرطون بعمق ليس فقط في المفاوضات النووية، بل أيضاً مع الحوثيين. وأضاف كوك: "يبدو أن إدارة ترامب تنظر إلى شركاء أمريكا في الخليج كمحاورين موثوق بهم، وليسوا حلفاء معاهدات في أوروبا أو شركاء آخرين". ولكن يبدو أن اللمسة القطرية البارعة قد خذلتها في الأزمة الجديدة بشأن طائرة الرئاسة الأمريكية، إذ اعتبر النقاد عرض طائرة 747 جديدة لسد الفجوة ريثما تدخل الطائرات الرئاسية الجديدة الخدمة، محاولةً سافرة للتأثير على ترامب، الذي قال إنه سيكون "غبيا" إن رفضها. لن تبدو هذه الهدية مُخالفةً للدستور فحسب، بل ستُضطر الاستخبارات الأمريكية إلى فحص الطائرة بدقةٍ لضمان عدم تعريضها للخطر من قِبل قوى خارجية، وقد سلط العرض الضوء على جانبٍ مُظلمٍ لقطر: سجلها في مجال حقوق الإنسان، الذي وصفته وزارة الخارجية في عهد بايدن بأنه مُلطخٌ بالاعتقالات السياسية، وقيودٍ على حرية التعبير، ونظامٍ قانونيٍّ مُتداعٍ. ويُبدي بعض الجمهوريين حذرهم من هذه الفكرة، إذ قال السيناتور راند بول، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية كنتاكي، على قناة فوكس نيوز، الاثنين: "الكثير من أبناء قطر ممنوعون من المشاركة في الحكومة. وبعض الأقليات الدينية في قطر تُعامل معاملةً سيئة. ولذلك، لم أكن من أشد المُعجبين بها"، مضيفا: "أتساءل إن كانت هذه الهدية الكبيرة ستُؤثر على قدرتنا على تقييم سجلهم في مجال حقوق الإنسان.. لن أقبل، هذا رأيي الشخصي. لا أعتقد أنها فكرة جيدة". Credit:) يُشيد ترامب بـ"التحول" الذي يتمنى محاكاته يسعى ترامب جاهدًا لاستقطاب استثمارات خليجية لموازنة استراتيجيته القائمة على الرسوم الجمركية لإعادة تشكيل الاقتصاد الأمريكي، لكنه انبهر بالتحولات التي أحدثتها دوله المضيفة في أراضيها، والتي لا تُثقلها لوائح التخطيط والقيود البيئية التي غالبًا ما يُبدي تذمره منها في الولايات المتحدة. وبفضل صناديق الثروة السيادية، يُحدثون ثورة في الرياضة والفنون من خلال بناء مدن حديثة شاسعة، وشبكات نقل، وملاعب لضمان مستقبلهم في ظل استنزاف موارد الكربون، إذ استضافت قطر كأس العالم لكرة القدم عام 2022، كجزء من استراتيجية علاقات عامة يُدينها النقاد باعتبارها محاولة "لتلميع" سجلها السيئ في مجال حقوق الإنسان، وأطلقت المملكة العربية السعودية حملات إنفاق ضخمة لتمويل الفرق والدوريات الرياضية، وفي لعبة مزدوجة تجمع بين السياسة والرياضة، أسست دوريًا محترفًا للغولف وأقامت فعاليات في منتجعات ترامب، وستقام فيها بطولة كأس العالم في عام 2034. ويتسلل الإعجاب، بل وحتى الحسد، إلى صوت ترامب في منطقة يشعر فيها براحة أكبر بكثير من مباني أوروبا القديمة.