logo
هكذا يتلاعب المستبدون بماضي الشعوب للسيطرة عليها

هكذا يتلاعب المستبدون بماضي الشعوب للسيطرة عليها

الجزيرة٠٩-٠٥-٢٠٢٥

لم يبالغ المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف، وهو يتحدث عن خوف الجماهير من فقدان ذاكرتها، وهو خوف يعبّر عن نفسه ـ غالبًا ـ بشكل باثولوجي، ويفتح الباب على مصراعيه، كما يقول، "لتجار الحنين للماضي، الأمر الذي جعل الذاكرة والحنين إلى الماضي واحدة من أكثر الأشياء الرائجة في المجتمع الاستهلاكي".
وللسبب ذاك، ولأسباب أخرى، يجب ألا نترك الذاكرة مطية لتجار الحنين أو حراس المعابد القديمة، كما يتوجب ألا نتركها فريسة للعبث السياسي وللسلطوية والفلكلورية والانتقائية.
إن العمل الذي صدر مؤخرًا للباحث المغربي زهير سوكاح : "دراسات الذاكرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية. مقاربات وقضايا جديدة" (دار خطوط وظلال 2025) يندرج في إطار هذا السياق، وهو جاء ليردم فجوة كبيرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية العربية بشأن هذا الموضوع، وذلك على الرغم من أن الحرب المعلنة وغير المعلنة على المجتمعات العربية هي حرب على ذاكرتها أيضًا.
ففي مكان ما، هم بصدد صناعة ذاكرة جديدة لنا، ذاكرة بلا ذاكرة أو ذاكرة مشوهة، غربلتها النيوليبرالية وعبثت بهويتها المتعددة عقود الاستبداد والتخلف، عاجزة ليس فقط عن التذكر ولكن أيضًا عن النسيان.
يمتلك سؤال الذاكرة الجمعية، إذن، أهمية قصوى في السياق العربي اليوم. إنه سؤال يتقاطع عنده مجموع الأسئلة الأخرى: أي علاقة بالحداثة الغربية؟ كيف نقرأ تراثنا الحضاري؟ في أي مجتمع نريد أن نعيش؟ أي شكل من أشكال السلطة السياسية وأي علاقة بها؟
إعلان
وما يتفرع عن هذه الأسئلة من قضايا أخرى، كثيرة، تمتد من العلاقات بين الجنسين، بين الأجيال داخل الأسرة وخارجها، القيم التي تسود المجتمع، بنية المؤسسات الاجتماعية، العلاقة بين الدين والسياسة.. إلخ.
والواقع أننا إذا التفتنا إلى قرن من التفكير العربي، فسنجده قد انشغلَ منذ بداياته بهذا السؤال، وكان واعيًا بمركزيّته، ولكنّه في أغلب الأحيان سينحو منحًى توفيقيًا أو استغرابيًا أو سلفيًا، فتلك هي الأجوبة الثّلاثة التي سيقدّمها عن هذا السؤال.
دون أن يعني ذلك أنّنا لا نقف أيضًا على تيار رابع داخل الفكر العربيّ، وهو الذي يمكننا – ولا غروَ- أن نصفه بالنقدي، ذلك الذي نلتقيه مع محمد أركون و"نقد العقل الإسلامي" أو "الجابري و"نقد العقل العربي" وعبدالله العروي، والذي يمكننا أن نقرأ مشروعه باعتباره "نقدًا للعقل اللاتاريخي". إذ أدرك هؤلاء المفكرون أنّ الموقف من الماضي يحدد بشكل عضوي موقفنا من الحاضر والمستقبل.
ولكن، وعلى الرغم من أهمية هذه المساهمات الفكرية وغيرها، من مثل تلك التي قدمها الخطيبي في تفكيكه لذاكرة الجسد، هذا الغائب الكبير، للثقافة العربية المعاصرة، فإنّ الأوان قد آن لنتجاوز اللغة النضالية والروح الأيديولوجية والتشرذم الإبستمولوجي التي طبعت قرنًا من التفكير العربي، وبلغة أخرى، لقد آن الأوان لنفكر في الذاكرة بشكل علمي، وبتعبير آخر: إن علينا أن نؤسس نوعًا من علم الذاكرة.
وهو علم يتوجب أن ينبثق من السياق العربي وأسئلته، وفي حوار نقدي مع حقل دراسات الذاكرة في الغرب، ولمّا أقول نقديًا، أعني أنه يجب ألا نتعامل مع المنجز الغربي في هذا السياق بمنطق الموضة، كما درجنا على فعل ذلك، بل أن نكون على وعي شديد، بأن أسئلتنا قد تختلف كما قد تلتقي مع أسئلته، وأن الأجوبة التي قد ننتهي إليها في مرحلة معينة، لن تكون بالضرورة نسخة طبق الأصل عن تلك التي انتهوا إليها في الغرب.
إن هذا الكتاب- والذي أنجزه باحث متمرّس بالموضوع، انتبه إلى ضرورة تبيئة هذا العلم عربيًا، لما له من أهمّية قصوى بالنسبة لسياقنا- يمثل أول مدخل باللغة العربية حول حقل "دراسات الذاكرة" Memory Studies، وهو ينفتح على مقاربات بتخصصية، تمتد من التاريخ إلى الأدب والسوسيولوجيا.. إلخ.
ويتوقف عند مختلف الأبعاد الاجتماعية والثقافية والتاريخية للذاكرة، مؤكدًا أن حقل دراسات الذاكرة لا يهتم بالتمثلات الفردية والجمعية للماضي فقط، بل يتوقف عند نتائج تلك التمثلات على حاضر الناس وينعكس أيضًا في تصوراتهم للمستقبل.
إن استدعاء الماضي يرتبط بالحاضر وحاجاته، والمؤرخ، كما كتب جاك لوغوف، "خاضع للزمن الذي يعيش فيه"، وهو يكرّر هنا ما أشار إليه موريس هالبڤاكس، وهو يؤكد أن "الذاكرة لا تُحيي الماضي ولكن تُعيد تشكيله".
لا يمثل الماضي كُلًا جوهرانيًا، كما تحاول أن تقنعنا بذلك القراءات الأرثوذكسية أو الأيديولوجية أو حتى الانتقائية وغير المنهجية، فالأمر لا يتعلق هنا بذاكرة تابثة، فالذاكرة، شأنها في ذلك شأن كل الأشياء الأخرى، لا تسلم من لعبة التاريخ ومكره.
إنها تخضع لتحولات مستمرة، وقد تتعرض لاستعمالات وتأويلات مغرضة، مثل تلك الذاكرة الطائفية التي تلقي بظلالها المقفرة اليوم على الحاضر العربي.
ألم يكتب المؤرخ الفرنسي جان شينو أن الطبقات المهيمنة تتلاعب بالماضي، وأن "النظام السياسي ينظم الزمن الماضي ويشكل صورته وفقًا لمصالحه السياسية والأيديولوجية"؟، مؤكدًا أن قراءات الماضي أو المعرفة التاريخية، "يمكن أن تعمل في خدمة المحافظة الاجتماعية وفي خدمة النضالات الشعبية… وكل واحد يختار ماضيه، وهذا الاختيار ليس بريئًا".
يتحول الماضي دومًا إلى نوع من الوصاية أو الإكراه، حين نربطه بقراءة محددة، مُختزَلة ومُختزِلة، أو حين نصبغ عليه صلاحية فوق تاريخية. فبقدر ما تؤدي خسارة الذاكرة الجمعية عند الشعوب والأمم إلى اضطرابات خطيرة في الهوية الجمعية، كما يؤكد ذلك لوغوف، بقدر ما يهدد تضخمها، أو تحولها، في تعبير هيغل، إلى " عبء تاريخي"، ما يمكن أن نصطلح عليه بـ "الحقوق التاريخية للأجيال المقبلة"، ويحكم على هذه الهوية الجمعية بالجمود.
ولقد كان لوغوف منتبهًا إلى ذلك، وهو يدعونا إلى العمل من أجل "أن تستخدم الذاكرة الجمعية لتحرير البشر، لا استعبادهم"، وهو الأمر نفسه الذي سيتوقف عنده بول ريكور وهو يتحدث عن "الذاكرة المتلاعب بها"، وعن سوء استعمال الذاكرة والنسيان من طرف السلطة، أو ما يسميه بالذاكرة المجروحة أو الأداتية، لأنه قد تم الانحطاط بها إلى مستوى الأداة الأيديولوجية، وهنا يقف ريكور على ذلك التداخل "بين إشكالية الذاكرة وإشكالية الهوية، الجمعية منها والشخصية"، وهي إشكالية تطرح نفسها بقوة في السياق العربي، ولكن بشكل مؤدلج ومزيف، أو بشكل يجعلنا نعيش الذاكرة باعتبارها هوية، وليس في هوية لها ذاكرة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

حسن آل ثاني.. قطري يساهم في تغيير مفهوم اليوغا بالعالم العربي
حسن آل ثاني.. قطري يساهم في تغيير مفهوم اليوغا بالعالم العربي

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • الجزيرة

حسن آل ثاني.. قطري يساهم في تغيير مفهوم اليوغا بالعالم العربي

تعد اليوغا من أقدم الفنون الروحية والجسدية التي أسهمت في تحسين جودة حياة الناس في العالم. وفي العالم العربي، كانت هناك تصورات محدودة ومتشككة في ممارسة اليوغا غالبا، لأنها كانت ترتبط بثقافات غربية أو ذات طابع ديني معين. ومع ذلك، ظهرت في دولة قطر شخصية بارزة لعبت دورا في تغيير الصورة التقليدية لليوغا وتقديمها كوسيلة لتعزيز الصحة النفسية والجسدية، بعيدا عن المفاهيم السلبية السابقة. الممارس الشيخ حسن بن محمد آل ثاني، بدأ اليوغا منذ أكثر من 13 سنة، وركز طوال مسيرته على توصيل فوائد اليوغا بشكل ميسر وملائم للمجتمع العربي والإسلامي. وقال الشيخ حسن، إنه اختار أن يمارس اليوغا بأسلوب يتماشى مع القيم والثوابت الدينية والثقافية لدول الخليج والعالم العربي، الأمر الذي جعله مصدر إلهام وتغيير في المفاهيم الشائعة. اليوغاسانا التنافسية وقد تم تكريم الشيخ حسن كشخصية مؤثرة في عالم اليوغا، وذلك ضمن فعاليات النسخة الثانية للمعسكر التدريبي لحكام ومدربي رياضة اليوغاسانا التنافسية، الذي استضافته اللجنة الإماراتية لليوغا، تحت مظلة اتحاد الرياضة للجميع. وشارك في المعسكر ممثلون من سبع جنسيات عربية منها: الإمارات، السعودية، مصر، فلسطين، سوريا، وقطر، إلى جانب مشاركين من 13 جنسية مختلفة مقيمين في دولة الإمارات، منها: الهند، باكستان، فنزويلا، روسيا، إيطاليا، وإيران. ويهدف هذا المعسكر إلى تأهيل الكوادر الوطنية وإعداد نخبة من المدربين والحكام لتطوير اليوغا في الدول العربية، الآسيوية، والأفريقية، خاصة في ظل توسع أنشطة الاتحاد الآسيوي لرياضات اليوغاسانا، واحتضانه اللجنة الأفروآسيوية لليوغا والاتحاد الآسيوي لليوغا. وقد أشاد المشاركون بمدى تطور واهتمام الدول العربية برياضة اليوغا، لا سيما باعتبارها رياضة مجتمعية وصحية وأيضا تنافسية، كما شكل هذا اللقاء منصة لتبادل الخبرات وتعزيز التعاون الدولي بين القيادات العربية والآسيوية والأفريقية في هذا المجال. محتوى تثقيفي وذكر الشيخ حسن أنه يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي في نشر محتوى تثقيفي، يظهر كيف يمكن ممارسة اليوغا بشكل آمن وملائم، بعيدا عن الاتهامات أو سوء الفهم. وأضاف أنه من خلال مشاركاته، أصبح لدى العديد من الناس نظرة إيجابية، وبدأت الممارسة تنتشر تدريجيا لدى فئات مختلفة وخاصة الأقارب. وعزز الشيخ حسن مفهوم اليوغا كجزء من نمط حياة صحي، وليس فقط تمرينا جسديا، بل أداة لتعزيز الصحة النفسية والتخلص من التوتر والضغوط اليومية. إضافة إلى ذلك، شارك الشيخ حسن في فعاليات ومهرجانات يوغا على مستوى قطر والعالم، وأصبحت تلك الفعاليات منصة للتواصل بين ممارسي اليوغا من مختلف الدول، مما عزز من تقبل الفكرة بشكل أوسع، وتمكن من بناء جسر بين التراث العربي والإسلامي، وفهم أعمق لليوغا، كممارسة روحية وصحية متعددة الأبعاد. وقال أحد المنظمين، إن الشيخ حسن بن محمد، هو شخص مثابر وشخصية ملهمة، استطاع من خلال جهوده المتواصلة أن يغير تصور المجتمع العربي عن اليوغا، حيث أصبحت أكثر قبولا وانتشارا، مع الحفاظ على هويتها الثقافية والدينية.

'المرجا الزرقاء'.. رحلة طفل أعمى إلى بحيرة استعادة البصر والبصيرة
'المرجا الزرقاء'.. رحلة طفل أعمى إلى بحيرة استعادة البصر والبصيرة

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

'المرجا الزرقاء'.. رحلة طفل أعمى إلى بحيرة استعادة البصر والبصيرة

'الجمال محجوب عن أعين أولئك الذين لا يبحثون عن الحقيقة'. هذا ما يخبرنا به فنان السينما المخرج الروسي 'أندريه تاركوفسكي'، في معرض حديثه عن معنى الوجود وغايته، وينحصران -في رؤيته- بين جدران التذوق الشخصي لمفردات الحياة، بكل ما تنطوي عليه من عطايا محسوسة، وأخرى تحتاج بلا شك إلى سعي محموم، يضمن لصاحبه بلوغ الجوهر المستور عن الأعين. والطفل يوسف بطل أحدث أفلام المخرج المغربي المرموق داوود أولاد السيد 'المرجا الزرقاء' (2024)، ينطلق مع جده العجوز في رحلة بحث عن البحيرة الزرقاء، التي تقع بين الحدود الصحراوية الشاسعة، ظنا منه أنها قد تعيد إليه بصره المسلوب. الأحداث تدور حول يوسف (الممثل يوسف أقادير) المكفوف البصر، الذي يقطن إحدى القرى النائية مع جده وجدته، وتتبدل حياته فجأة، بعد أن تناهت إلى مسامعه قدرة تلك البحيرة المبروكة على إعادة البصر المفقود. فما العلاقة إذن بين حكاية فيلمنا والاقتباس الذي ذكرنا؟ لإجابة هذا السؤال، ينبغي النظر إلى ماهية رحلة البطل ذاتها، التي تدور في سياق الوصول إلى الشفاء. هذا ما تبدو عليه ظاهريا، لكن الحقيقة أنها تحتوي على ما هو أعمق، فالبحث عن العلاج هو في حقيقة الأمر ليس إلا نبشا عن المكنون في الداخل الإنساني، وهذا الكنز المطمور يكشف حيثياته تلقائيا للمريد الباحث عن المعنى والجوهر. وهكذا نصبح أمام حكاية بسيطة الهيئة الشكلية، لكن بقدر تلك البساطة الآسرة، فإن المضمون مراوغ ماكر، إذ يتضمن مستويات قراءة متعددة الطبقات؛ يقع المستوى الأول الواضح بين أسوار المثابرة والإصرار، للوصول الآمن والمشروع إلى مرفأ الحلم، أما الطبقة الأخرى المستترة الأكثر عمقا، فينسج السرد خيوطها بدأب وعلى مهل، وتدور بين أتون البحث عن الذات، وما يرافق هذا السعي من إمساك بتلابيب الحقيقة، التي تتباين بالتأكيد من إنسان إلى آخر، كل بحسب معية إدراكه وقدرة تحصيله. وهذه النوعية من الأفلام -التي تسمى السينما الروحية- تلجأ إلى صياغة فنية مغايرة عن المألوف، تجنح نحو القول بالإشارة والتلميح، والابتعاد عن الإفصاح الصريح المباشر. فهل نجح فيلمنا في تغليف سياقه بالإحداثيات المستترة؟ أم كشف عن خبيئته علانية؟ تصاعد سردي على نمط موسيقي تكمن إجابة هذا السؤال بين رحى السيناريو المحكم البناء، الذي اشترك في كتابته مجيد سداتي والحسين الشاني وداود أولاد السيد، فقد اختار السرد أن يطلق مضمار الحكي من واقع بداية صوتية، في تطبيق عملي لمقولة مخرج الفيلم عن الصوت 'إن الصورة نراها ولا نرى الصوت، هو موجود وغامض، وهو الذي يعبر عما لا نراه'. وهنا نسمع أصوات أطفال يركضون ويلعبون، ثم نسمع أحدهم ينادي يوسف أن يشاركهم صورتهم، فيفاجئنا صوته أثناء عرضه لالتقاط الصورة لهم، وعندئذ تختفي الشاشة السوداء على حين بغتة، وينفتح الإطار على لقطة استهلالية للأطفال، في حين يصوب يوسف كاميرا هاتفه نحوهم. تمثل البداية الصوتية -المكللة بالشاشة السوداء- نوعا من التضامن مع الشخصية الرئيسية، أو -بمعنى أكثر دقة- دلالة وإشارة يسيرة عن يوسف، وكأننا أمام تمهيد أوّلي، لا عن البطل الرئيسي فحسب، بل عن البيئة العامة للأحداث كذلك، التي يقدمها البناء الدرامي في سرد حداثي مبتكر، مع ما يبدو عليه من تقليدية واضحة، تدعمها خطية السرد. فالحقيقة أن السرد أقرب في تكوينه إلى المقطوعة الموسيقية، التي تتكون عادة من أربع حركات، أولاها سريعة كالسوناتا، وفيها تمهيد عن الشخصيات ومحاولات كشف ملامحها الأولية. ومع بزوغ الحبكة ينطلق الفصل الثاني، القائم على رحلة البحث عن الحيز الجغرافي للبحيرة الزرقاء، وهنا نصل إلى الحركة الثانية البطيئة الإيقاع، وعند الوصول إلى البحيرة نصل إلى الحركة الثالثة الخاطفة السريعة، أما الحركة الرابعة فتطالعنا عند العودة من الرحلة. والواقع أن الاستعانة بهذا النمط من البنية الدرامية، أضفت قدرا لا بأس به من العذوبة والشاعرية على الهيكل العام للسرد، وأسهمت في تغليف النسيج العام بالسهولة والسلاسة، وتلك حيلة مراوغة تبطن أفكارا ودلالات أكثر غموضا، تحتاج إلى تأويل وقراءة هادئة، سعيا إلى الوصول لما يقبع بين السطور. عين مستعارة تعوض فقد النور مع وصول اليوم الدراسي إلى نهايته، يلتقي الجد علال (الممثل محمد خيي) بيوسف، فينطلقان في سيارة الأجرة التي يملكها نحو المنزل، وفي تلك الأثناء يعرج الجد على مصفف الشعر، لتهذيب شعر الطفل الذي أصابه الطول المفرط، وبينما ينتظر دوره، يلاحظ الجد انبهار يوسف بآلة تصوير يعرضها أحد الباعة الجائلين، فلا يتردد لحظة واحدة في الشراء، فالعمل على بهجة الحفيد يعد من أهم أولوياته. وحين تحل الكاميرا ضيفا على حياة يوسف، تبدأ حياته في التبدل التدريجي، فيطالعنا على الدوام ممسكا بالكاميرا، يلتقط كل ما تلمسه يداه، أو كل ما يشعر بوجوده في حدود محيطه المنغلق عليه. والمفارقة أنه يلتقط صورا حسنة الجودة، وعندها يمكن قراءة دلالة تلك الكاميرا، التي قد تبدو حيلة دفاعية يلجأ إليها، ليعوض بها فقدان نور عينيه، وهذا صحيح بدرجة كبيرة، لكن بقليل من التبصر نرى رمزية الكاميرا، فهي تبدو عينا مستعارة، يرى بها الطفل ما حوله، ويكتشف ما كان يعجز عن رؤيته أو الإحساس به، فلكل منا عصاه التي يتكئ عليها لقراءة مفردات هذا العالم، والكاميرا هنا تتضاعف قيمتها على نحو أكثر تقديرا. تقول الكاتبة والمصورة سوزان سونتاج، إن التقاط الصور امتلاك للمادة المصورة، وبذلك يدخل الإنسان في علاقة مع العالم، تجعله يشعر بلذة المعرفة، فالصورة نموذج مصغر عن الحقيقة، وبالعودة إلى العلاقة الوطيدة بين بطلنا والكاميرا، نجد أنها ستصاحبه طيلة أيامه المقبلة، وخلال رحلته الشاقة نحو البحيرة الزرقاء، يرى ما تعجز عيناه عن إدراكه، وكأنها تضيف إليه بعدا معرفيا يعوض خسارته السابقة، ويعزز إحساسه الداخلي بالاكتمال. وهكذا تسهب الحركة الأولى من السرد في تقديم الشخصية وعالمها، وكشف موطن أزمتها الوجودية، فانعدام البصر يشكل عائق يوسف الأكبر نحو ملامسة مفردات عالمه الصغير، مع أنه يستعين طوعا بعناصر خارجية مثل عدسة الكاميرا، لكن ثمة شيء ما يزال مفقودا، لذا عندما تطرق أسماعه أقاويل أحد أصدقاء الجد عن قدرة البحيرة الزرقاء على الشفاء، يعمل على تحويل هذا الهاجس إلى حقيقة. ترى هل سيحالفه النجاح؟ رحلة في عالم بلا حدود بعد أن أنصت يوسف إلى بعض الأقاويل المتناثرة عن البحيرة البعيدة، يقرر الانطلاق إليها، ولا يبالي بالمسافة الشاسعة الاتساع بينهما، وهنا نصل إلى الحدث المحفز، الذي تتبدل عنده أفعال الشخصيات ورؤيتها، فيدخلنا السرد إلى الحركة الثانية، التي تشكل النسبة الكبرى من الرقعة السردية، وفيها تطالعنا رحلة الجد ويوسف الباحثة عن مياه تلك البحيرة الشافية. قبل أن تبدأ الرحلة تحمّم الجدة يوسف وتغسله، وكأنه يستعد لرحلة حج مقدس، ثم يستقل الجد علال والطفل سيارة الأجرة، ويبدآن مقارعة الطريق الطويل، وفي تلك الأثناء يلتقيان أناسا من هنا وهناك، كل لقاء يحمل بين طياته إضافة ومغامرة على حد السواء، وهكذا يكتشف الطفل ما لم يكن يدركه سابقا عن هذا العالم، فالرحلة تمثل خروجا طوعيا عن الشرنقة التي تغلف إطار حياته. وبنظرة بانورامية على خريطة حياته، نجد أنها تنتمي كلية إلى الهامش، ولا يعود السبب إلى جغرافية المكان ذاته، الواقع بالقرب من الصحراء أو على الأطراف، بل إن السياق المحيط بهذا النمط المعيشي، ومعاناة الشخصيات، كل هذه العوامل، ترسخ سلطة الهامش، على حساب المتن المتباعد في المجهول. يتوغل علال ويوسف في أحضان الصحراء المفرطة الاتساع، التي لا يبين لها أول من آخر، فالمعتاد في تلك الأحيان، أن يصبح المكان موحشا مدثرا بالخوف، وما يرافقه من مشاعر أخرى متناقضة، مثلما يقول الكاتب عبد الرحمن منيف 'الزمن في الصحراء يكتسب معنى آخر، يتحول إلى ذرات صغيرة، الثانية والدقيقة هي كل الزمن، ثم يبدأ ذلك الزمن بالتفتت إلى ما لا نهاية، كالصحراء بلا نهاية'. لكن الكاميرا هنا تعمد إلى العكس تماما، فتلتقط عدساتها جمال التكوينات الصحراوية المتسعة، وما تحمله رمالها الصفراء من نعومة وسحر، ومن ثم تتحول تلك الصورة الذهنية الكاذبة عن الصحراء إلى أخرى مألوفة، وفي تلك الأثناء تصاب سيارة الجد بعطب مفاجئ، ولا مفر حينها من الاستعانة بالجمال، ليكون وسيلة انتقال بديلة، وبذلك يتواصل كشف جماليات الصحراء، وما يقبع خلف سكونها من حياة أخرى مغايرة. مجاز البحيرة الزرقاء بعد مسيرة بضعة أيام في عمق الصحراء، يصل علال ويوسف إلى موطن البحيرة الزرقاء، أو هذا ما بدا عليه الأمر، فيتوقف الجد على حين فجأة، ويعلن أن الرحلة قد اكتملت، فقد وصلا إلى البحيرة المقدسة، وبذلك يصل السرد إلى الحركة الثالثة، لكن الكاميرا لا تمارس دورها في اقتناص ما تيسر من لقطات أو مشاهد للبحيرة. وهنا نتضامن مرة أخرى مع يوسف في محنته البصرية، فيندثر الخيط الفاصل بين الواقع والخيال، ويصبح السؤال عن ماهية تلك البحيرة أمرا واجبا، هل هي حقيقية؟ وهل وصلا إليها؟ أم أن وقود الجد نفذ، وعَمد إلى التوقف المفاجئ، لا أحد يدري على وجه الدقة. لا شك أننا أمام فيلم طريق، أي يدور حول رحلة ذاتية، تضطلع بها الشخصية الرئيسية، وعند اكتمال خيوطها، يتبدل المكنون الداخلي للشخصية، أو تكتسب صفة أو ميزة تنافسية عن السابق، وبتطبيق هذه المفاهيم النظرية على فيلمنا، يمكن بمنتهى السهولة واليسر التقاط ما يكفي ويفيض من التبدلات أو الفيوض، التي لحقت بشخصية يوسف. وهذا يحيلنا تلقائيا إلى الركن الأهم من أعمدة مضمون الفيلم، حيث الفارق بين البصر والبصيرة، فإذا كان بطلنا يعاني من انحسار البصر، فإن سخاء البصيرة الذاتية يشكل تعويضا رحبا عن هذه المعاناة، وتلك البصيرة تنمو قدرتها وتتشعب خلال تلك الرحلة، ومن ثم يكتسب هذا الترحال أبعادا إضافية، غير اكتشاف العالم، وقراءة المكونات المحيطة به. يلتقي يوسف في أحد المشاهد بأحد مشايخ الصوفية، وفي هذه الجلسة، يضفي الشيخ بعض سكينته وعلمه على قلب الطفل، فيغذي روحه ببعض الفيض الإلهي، ويجعله يرى هذا الكون الشاسع، لا بعينيه المنغلقتين بل بعين قلبه، وهي الأصدق والأنقى، وتكتمل تلك المعرفة بملاقاة البحيرة الزرقاء، وحينها يولد من رحم تلك الرحلة إنسانا مغايرا عن المعتاد، فقد تحقق كنز البصيرة، الأعلى درجات من محدودية النظر. وهل يستوي الأعمى والبصير؟ حلاوة المعرفة بعد مشقة الرحلة في الحركة الرابعة من المقطوعة السردية، يُتم يوسف طقوس رحلته على الوجه الأكمل، ثم يعود إلى قريته، وعندما تباغته صديقته زينب بالسؤال عن صور البحيرة الزرقاء، يلزم السكون ولا يرافقها بالرد، فلكل واحد بحيرته، التي لا يراها ولا يدرك كنهها سواه، وهنا تتضح مجازية الرحلة ذاتها، أو الغرض منها، ألا وهو إدراك العمق أو الكنز الشخصي، الذي يقبع بين صدر كل إنسان. وهنا تتجلى عناصر الصراع الدرامي، القائم على تحقيق المعرفة الكاملة بالذات، وللوصول إلى درجاتها الكاملة، لا بد من الولوج في خضم معاناة روحية ذاتية، وهذا ما جرت وقائعه مع يوسف، الذي انساب بين أمواج الرحلة، حتى عبر نحو الشاطئ المقابل المكلل بالمعرفة اليقينية. وللتعبير عن تلك المكنونات الروحية، يلجأ السرد إلى تطعيم الحكاية بالرمزية والشاعرية، التي تضفي على النسيج السردي بعدا صوفيا لا يخطئه مذاق المتفرج، ومن ثم يصيب الفيلم بالعذوبة والرقة، وقد أسهم الإيقاع المشدود كالوتر، في تغليف الحكاية بجرعة فياضة من السلاسة، مع ما تبطنه زوايا الفيلم من جرعات تأملية مكثفة، ستظل ماثلة في الذاكرة مدة ليست بالهينة. وفي سياق متقارب يقول المتصوف أبو علي الدقاق: من زين ظاهره بالمجاهدة، حسن الله سرائره بالمشاهدة. وبطلنا بعد مشقة الرحلة، ذاق حلاوة المعرفة، ومن ذاق عرف.

وفيّ لجدته ومحب لأسرته.. قصة مؤثرة وراء اسم لامين جمال
وفيّ لجدته ومحب لأسرته.. قصة مؤثرة وراء اسم لامين جمال

الجزيرة

timeمنذ 3 أيام

  • الجزيرة

وفيّ لجدته ومحب لأسرته.. قصة مؤثرة وراء اسم لامين جمال

يحظى لامين جمال نجم برشلونة باهتمام كبير من وسائل الإعلام، بعد الأداء الفني المذهل الذي قدّمه مع برشلونة هذا الموسم وقيادته الفريق للتتويج بـ3 ألقاب محلية. وليس هذا فحسب بل انهالت على لامين جمال عديد من عبارات المديح والإطراء من قبل الصحافة ونجوم كرة القدم، بسبب شخصيته القوية وأدائه الرائع، خاصة في المباريات الكبيرة. وُلد لامين جمال يوم 13 يوليو/تموز 2007 في بلدة إسبلوغاس دي يوبريغات الواقعة ضمن حدود برشلونة، لأب مغربي يدعى منير نصراوي، وأم من غينيا الاستوائية واسمها شيلا إيبانا. قبل ولادته بوقت قصير كانت أسرته تعيش ظروفا حرجة، فتلّقت مساعدة من شخصين في أثناء وجودها في إحدى محطات رحلتهم مهاجرين إلى برشلونة. سبب تسمية لامين جمال وحسب صحيفة "آس" الإسبانية، فإنه في الوقت الذي لم يتمكن فيه والدا جمال من دفع إيجار السكن الذي كانا يعيشان فيه، ساعدهما رجلان اسمهما لامين وجمال في توفير مسكن. وتقديرا لهما وفي بادرة امتنان، أطلق منير على طفله اسمهما معا، وهو ما يفسر الاسم المركب لنجم برشلونة المتألق. ونشأ نجم برشلونة الشاب في حيّ "روكافوندا" العمالي الذي تنتهي رموز بريده بالرقم 304، وهو الرقم الذي يشكّله جمال بأصابعه كلما سجل هدفا للبلوغرانا أو لمنتخب إسبانيا، وهي وسيلته للتعبير عن رفضه نسيان أصوله، بل وإظهارها لأوروبا والعالم. كما يحرص لامين جمال على وضع 3 أعلام على حذائه لإسبانيا والمغرب وغينيا الاستوائية، وهي الدول الثلاث التي تمثّل هويته من ناحية والده ووالدته وكذلك الفريق الوطني الذي يلعب له حاليا. وفاء لامين لجدته وحسب الصحيفة ذاتها، انفصل والداه وهو في سن مبكّرة، ورغم ذلك يحافظ جمال على علاقة طيبة مع كليهما، علما بأنه تربى على يد جدّته فاطمة التي غادرت مدينة طنجة المغربية قبل أكثر من 30 عاما للعيش في العاصمة الإسبانية مدريد. هناك عملت فاطمة لبعض الوقت مقدّمة رعاية لكبار السن، وبعد وفاة المسّن الذي كانت تهتم به تنّقلت في عدة بلدات إسبانية حتى استقرت بها الحال في برشلونة مع أبنائها الأربعة ومن بينهم منير والد لامين جمال. وعندما سطع نجم لامين جمال وأصبح يتقاضى راتبا كبيرا من كرة القدم إلى جانب عقد الرعاية من "أديداس"، فإن أول شيء فعله هو شراء منزل لجدته بالقرب من بيت أسرته، وفق ما أكده موقع "لارزون" الإسباني. ويولي لامين جمال اهتماما بالغا بأسرته، وآخرهم أخوه الأصغر كين الذي وُلد في السادس من سبتمبر/أيلول 2022، والذي يُعد بمثابة "القلب النابض" للاعب ويحرص على اصطحابه معه في معظم المباريات سواء لبرشلونة أو لمنتخب إسبانيا. وقد ظهر كين محمولا بين يدي لامين بعد عديد من المباريات المهمة، أبرزها احتفالات برشلونة بكأس ملك إسبانيا، وكذلك بعد الفوز على ريال مدريد في الجولة الـ35 من الدوري الإسباني. إعلان والآن أصبح لامين جمال (17 عاما) واحدا من أبرز نجوم برشلونة، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق، ولاعبا أساسيا في منتخب إسبانيا. ومنذ مشاركته لأول مرة مع الفريق الأول لبرشلونة في أبريل/نيسان 2023، خاض 104 مباريات بجميع البطولات، وسجل خلالها 24 هدفا وقدمّ 34 تمريرة حاسمة، وفق أرقام موقع "ترانسفير ماركت" الشهير، وقد حطّم عديدا من الأرقام القياسية. كما تُوج بـ4 ألقاب مع برشلونة هي الدوري الإسباني (2)، كأس ملك إسبانيا (1)، وكأس السوبر الإسباني (1)، بالإضافة إلى لقب كأس أوروبا (يورو 2024) مع منتخب إسبانيا.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store