
بين المحرقة والموت البطيء
د. أيوب أبودية
عند الحديث عن الإبادة الجماعية، يتبادر إلى الأذهان النموذج النازي خلال الحرب العالمية الثانية، حيث سعى النظام الهتلري إلى "حل نهائي" للمسألة اليهودية، من خلال الإعدام الجماعي، حرق الجثث في الأفران، وتجريد الضحايا من آدميتهم بسرعة وحشية. كانت تلك إبادة ميكانيكية بامتياز، مدفوعة بأيديولوجيا عنصرية صريحة، تدار بعقلية صناعية تنشد الكفاءة في قتل الملايين خلال سنوات معدودة.
لكن في غزة، هناك نموذج مختلف من الإبادة، لا تنفّذ بالقنابل وحدها، بل بالحصار، والحرمان، والإفقار، والتجويع. إنّها ليست إبادة في ساعات، بل إبادة في سنوات، تقتل الإنسان قبل أن يموت، تسحقه بالبؤس، وتدفنه حيًا في ركام العطش والجوع والخذلان وتحت أنقاض بيته.
مارس النازيون إبادة اليهود في سياق أيديولوجي يرى فيهم خطرًا بيولوجيًا يجب استئصاله. كانت أدوات القتل تشمل غرف الغاز، الرمي بالرصاص، التجويع في المعسكرات، والعمل القسري حتى الموت. قُتل في تلك المحرقة قرابة ستة ملايين يهودي كما يدعون، وتمّت العملية بمنهجية مروعة، حيث كانت القطارات تنقلهم إلى معسكرات مثل "أوشفيتز" حيث يُقتل الآلاف في ساعات، وتُحرق جثثهم في أفران عملاقة صُمّمت خصيصًا لهذا الغرض.
سرعة التنفيذ، والوضوح الأيديولوجي، والتجرّد من أي شعور إنساني، جعلت من المحرقة جريمة لا مثيل لها من حيث البشاعة الصناعية، وأثارت رعب العالم لعقود.
لكن ماذا عن الإبادة البطيئة في غزة؟
إنها لا تأتي بصيحات نازية، ولا تُدار عبر غرف غاز، بل تُغلف بخطابات "الأمن"، و"محاربة الإرهاب"، و"الردع". منذ سنوات طويلة وغزة محاصرة من الجو والبر والبحر. تُمنع عنها الكهرباء، الأدوية، المياه، المحروقات، وحتى الغذاء. تقطع إسرائيل عنها الحياة شريانًا بعد آخر، تحت سمع وبصر العالم.
يُمنع المرضى من السفر لتلقي العلاج. يُمنع الصيادون من الصيد. يُجبر الأطفال على النوم عطشى. تُقصف المدارس والمستشفيات والمخابز ومحطات المياه، وعندما يحاول أهل غزة الاستغاثة، يُتهمون بالتطرف، وتُغلق في وجوههم أبواب العالم.
الفرق الجوهري بين الإبادة النازية والإبادة الغزية، هو الإيقاع. ففي الأولى، كان الهدف قتل الإنسان بسرعة، وإنهاء وجوده كليًا خلال أشهر أو سنوات. أما في غزة، فالهدف هو تدمير الحياة نفسها دون إنهاء الجسد مباشرة: ترك الناس يموتون ببطء، يفقدون الأمل، ينحني أطفالهم تحت ثقل سوء التغذية، ويُجبرون على شرب المياه المالحة أو العادمة.
يقتل الجوع، كما يقتل العطش. لكنه يقتل على مهل. يقتل بينما يبقى الضحية حيًا بالشكل الظاهري، ميتًا في التفاصيل. هذا الشكل من القتل لا يقل بشاعة عن غرف الغاز، بل ربما يفوقها قسوة لأنه يعذب الإنسان يومًا بعد يوم، ويجعل العالم شريكًا في الجريمة عبر صمته الطويل.
ما يزيد من مأساوية الموت الفلسطيني، هو غياب الاعتراف العالمي الرسمي بكون ما يحدث في غزة إبادة بطيئة. بعد الحرب العالمية الثانية، وقفت البشرية أمام المحرقة النازية بحالة من الذهول، واعتُرف بها كجريمة كونية. أُقيمت المتاحف، وأُقرّت القوانين لمنع تكرارها.
أما في حالة غزة، فالعالم يشاهد المجاعة، الحصار، ودفن الأطفال تحت الأنقاض، ثم يواصل أعماله اليومية كأن شيئًا لم يكن. حتى بعض القوى الكبرى، التي ترفع راية حقوق الإنسان، تموّل آلة الحصار والقتل، وتمنح إسرائيل غطاءً دبلوماسيًا دائمًا. يُطلب من الفلسطينيين "ضبط النفس" حتى بعد أن يُذبح أطفالهم.
المحرقة اليهودية لم تُنس، لأنها أصبحت جزءًا من الوعي العالمي، بل وتم استغلالها سياسيًا في بعض الأحيان. أما مأساة غزة، فمهددة بأن تُنسى رغم أنها مستمرة، تُبثّ مشاهدها حيًا على الهواء، ويعيشها الملايين لحظة بلحظة.
لكن هل تنجح إسرائيل في طمس معالم هذه الجريمة؟ أم أن التاريخ، كعادته، سيحاكمها لاحقًا كما حاكم النازيين؟ هل سيأتي يوم يُبنى فيه "متحف غزة" في قلب أوروبا، تذكارًا لأطفال ماتوا من الجفاف والجوع؟ أم أن الذاكرة العالمية لا تتحمل سوى مأساة واحدة في القرن؟
الإبادة ليست فقط ما يُنجز بالقتل الفوري. بل هي كلّ فعل ممنهج يهدف إلى محو شعب، سلبه كرامته، تجريده من أسباب الحياة، ودفعه نحو الزوال ببطء أو بسرعة. إن ما يجري في غزة هو إبادة بكل معنى الكلمة، لكنها إبادة من نوع مختلف: أكثر خبثًا، وأكثر طولًا، وأكثر ألمًا.
من واجب العالم أن يعترف بذلك. ليس فقط من باب الأخلاق، بل من أجل أن تظل الإنسانية تستحق هذا الاسم. فكما أُدينت الإبادة السريعة في الماضي، يجب أن تُدان الإبادة البطيئة في الحاضر، وأن لا تُترك غزة تموت في صمت، بينما تتفرج البشرية.
تابعو جهينة نيوز على

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


سواليف احمد الزعبي
منذ 15 ساعات
- سواليف احمد الزعبي
السفينة 'حنظلة' تواصل الإبحار نحو غزة بعد عودة الاتصال بناشطيها / فيديو
#سواليف تواصل #السفينة_حنظلة رحلتها إلى #غزة لكسر #الحصار عنها بعدما أعلنت المسؤولة عن السفينة عودة الاتصال بها بعد نحو ساعتين من انقطاعه ليل الخميس إثر اقتراب #طائرات_مسيرة منها. وبث تحالف ' #أسطول_الحرية ' آخر دقائق من تسجيلات كاميرات المراقبة في السفينة قبل انقطاع الاتصال بها. وقال مراسل الجزيرة محمد البقالي من على متن السفينة إن طائرات مسيرة أحاطت بالسفينة المتجهة إلى غزة، وأضاف أن طاقم السفينة قام بتفعيل خطة الطوارئ. وأثار تحليق الطائرات المسيرة قرب السفينة مخاوف من احتمال تعرضها لهجوم، قبل أن يعاد التواصل معها. For about two hours, our Freedom Flotilla boat's communications were interrupted and drones were observed near the boat, raising serious concerns of potential attack. Connection has now been re-established. 'Handala' is continuing its mission and is currently less than 349… — Freedom Flotilla Coalition (@GazaFFlotilla) July 24, 2025 وأكد تحالف 'أسطول الحرية' عودة الاتصال بالسفينة 'حنظلة'، وقال إن جميع أفراد طاقمها بخير. وقد طالب ناشطون أميركيون وفرنسيون من فريق السفينة 'حنظلة' حكوماتهم بالتدخل لمنع إسرائيل من مهاجمة السفينة أو اعتراضها. وأكد الناشطون، الذين يسعون لكسر حصار غزة، أن تحركهم نابع من شعورهم بالمسؤولية تجاه جريمة الإبادة في القطاع الفلسطيني. "نحن بخير" المخرج الأمريكي والناشط على متن "حنظلة" جيكوب بيرغر ينشر فيديو عن وضع الناشطين في السفينة عقب انقطاع الاتصال بها.#عربي21 — عربي21 (@Arabi21News) July 24, 2025 وأبحرت 'حنظلة' يوم 13 يوليو/تموز الجاري من ميناء غاليبولي الإيطالي، وعلى متنها 21 ناشطا دوليا من جنسيات متعددة، بينهم 7 أميركيين، ومن ضمنهم الممثل اليهودي الأميركي جاكوب بيرغر، وعضو البرلمان الأوروبي إيما فورو، والنائب الفرنسي غابرييل كاتالا، إضافة إلى مراسل الجزيرة محمد البقالي. ووفقا لمراسل الجزيرة، فإن 'حنظلة' سفينة صيد قديمة صنعت عام 1968، ولا تحمل سوى الناشطين وبعض الهدايا البسيطة. وأشار إلى أنها الرحلة الـ36 لأسطول الحرية منذ إنشائه. إعلان ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 يشن جيش الاحتلال حرب إبادة على سكان قطاع غزة أسفرت حتى الآن عن استشهاد أكثر من 59 ألف فلسطيني وإصابة أكثر من 143 ألفا وتشريد كل سكان القطاع تقريبا، وسط دمار لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، وفقا لما وثقته تقارير فلسطينية ودولية.


الغد
منذ 16 ساعات
- الغد
ارتفاع حصيلة الشهداء الصحفيين في غزة إلى 232
اضافة اعلان وأدان المكتب الإعلامي الحكومي بأشد العبارات "قتل إسرائيل للصحفيين في غزة بشكل ممنهج"، ودعا الاتحاد الدولي للصحفيين واتحاد الصحفيين العرب وكل الأجسام الصحفية في كل دول العالم إلى إدانة هذه الجرائم الممنهجة ضد الصحفيين والإعلاميين الفلسطينيين في قطاع غزة.وأضاف المكتب في بيان، "نحمّل الاحتلال الإسرائيلي والإدارة الأميركية والدول المشاركة في جريمة الإبادة الجماعية مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا؛ نحملهم المسؤولية الكاملة عن ارتكاب هذه الجرائم النكراء الوحشية".واستشهد الصحفي آدم أبو هربيد جراء غارة شنتها مروحية إسرائيلية كما استشهد 3 من أقاربه وأصيبت زوجته بجراح خطيرة وأطفاله بجراح متوسطة.وبرز أبو هربيد منذ بداية الحرب في تغطية الأحداث الميدانية رغم النزوح والمجاعة والخطر المستمر. وقد واصل عمله الصحفي من داخل القطاع في ظروف شديدة القسوة.ومنذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 يشن جيش الاحتلال حرب إبادة على سكان قطاع غزة أسفرت حتى الآن عن استشهاد أكثر من 59 ألف فلسطيني وإصابة أكثر من 143 ألفا وتشريد كل سكان القطاع تقريبا، وسط دمار لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، وفقا لما وثقته تقارير فلسطينية ودولية.


وطنا نيوز
منذ 2 أيام
- وطنا نيوز
حماس تسلّم ردها للوسطاء ومحادثات مرتقبة في إيطاليا
وطنا اليوم:أعلنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، فجر اليوم الخميس، أنها سلمت الوسطاء ردّها على مقترح وقف إطلاق النار في قطاع غزة، بينما تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية عن حصول وفد التفاوض الإسرائيلي على تفويض لبحث إنهاء الحرب. وقالت الحركة في بيان مقتضب عبر تليغرام 'حركة حماس سلمت قبل قليل للإخوة الوسطاء ردّها وردّ الفصائل الفلسطينية على مقترح وقف إطلاق النار'، من دون ذكر تفاصيل. من ناحية أخرى، قال البيت الأبيض، الأربعاء، إن الولايات المتحدة تريد التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة والإفراج عن المحتجزين 'في أقرب وقت ممكن'، مشيرا إلى أن المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف سيلتقي في أوروبا مسؤولين من الشرق الأوسط لبحث مقترح اتفاق. وذكرت تقارير صحفية أميركية وإسرائيلية، أن ويتكوف سيعقد في إيطاليا لقاءات مع مسؤولين رفيعي المستوى من الشرق الأوسط. وذكر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الخميس، إن إسرائيل تدرس رد حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) على مقترح لوقف إطلاق النار في قطاع غزة. تفويض جديد في غضون ذلك، نقلت هيئة البث الإسرائيلية عن مصادر لم تسمها، إن فريق التفاوض الإسرائيلي في العاصمة القطرية الدوحة حصل على تفويض لبحث إنهاء الحرب مع الوسطاء. وقالت الهيئة إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب في غزة- يريد إنهاء الحرب خلال مرحلة وقف إطلاق النار، حسب وزراء تحدث إليهم أخيرا. ونقلت الهيئة عن مصادر أمنية قولها، إن تآكل قوة الجيش الإسرائيلي في غزة هو أحد الأسباب وراء رغبة نتنياهو ورئيس الأركان إيال زامير في إنهاء الحرب بعد الاتفاق. كما نقلت عن مصادر لم تسمها، إن رئيس الأركان أطلع نتنياهو على وضع القوات على الأرض و'هو أمر لا يمكن تجاهله'، مضيفة أن نتنياهو يدرك أن هناك رغبة لدى الجمهور أيضا في السعي لإنهاء الحرب. مطالب فلسطينية وفي تفاصيل المفاوضات الجارية في الدوحة، قالت صحيفة يسرائيل هيوم، إن حركة حماس طلبت انتشار القوات الإسرائيلية على مسافة 800 متر فقط من السياج الأمني في القطاع. وأشارت إلى أن الحركة طلبت إطلاق سراح عدد أكبر من الأسرى الفلسطينيين مقابل كل جندي إسرائيلي أسير. ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 يشن جيش الاحتلال حرب إبادة على سكان قطاع غزة أسفرت حتى الآن، عن استشهاد أكثر من 59 ألف فلسطيني وإصابة أكثر من 143 ألفا وتشريد كل سكان القطاع تقريبا، وسط دمار لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، وفقا لما وثقته تقارير فلسطينية ودولية. وعلى مدى أكثر من 21 شهرا، عقدت جولات عدة من مفاوضات غير مباشرة بين إسرائيل وحماس، بوساطة قطر ومصر. وخلال هذه الفترة، تم التوصل إلى اتفاقين جزئيين، الأول في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، والثاني في يناير/كانون الثاني 2025. وتهرب نتنياهو من استكمال الاتفاق الأخير، واستأنف حرب الإبادة على غزة في 18 مارس/آذار الماضي.