logo
"فراشة" محمود درويش في هولندا

"فراشة" محمود درويش في هولندا

العربي الجديد٢١-٠٦-٢٠٢٥
بعد نحو 17 عاماً على صدور "أثر الفراشة" ورحيل صاحبه، يُحتفى بالديوان وبشاعره
محمود درويش
في ترجمة هولندية هي الأولى من نوعها. فقد صدرت حديثاً الترجمة الهولندية للكتاب، الذي شكّل آخر ما قدّمه درويش لقرّائه قبل وفاته.
أنجز
الترجمة
المستعرب الهولندي البارز ريتشارد فان ليوين، المعروف بجهوده في نقل الأدب العربي إلى الهولندية، إذ سبق أن ترجم أعمالاً لعدد من أبرز الشعراء والروائيين العرب، إضافة إلى ترجمته الكاملة لـ"ألف ليلة وليلة"، كما نقل إلى الهولندية كتابات ابن بطوطة، وأعمالاً لكتاب مثل نجيب محفوظ، يوسف إدريس، الطيب صالح، زكريا تامر، وإبراهيم الكوني، وغيرهم من أعلام السرد العربي.
ولأن اسم محمود درويش ليس غريباً على الأذن الأوروبية، شأنه في ذلك شأن أدونيس وجبران خليل جبران، بوصفهم من أبرز الشعراء العرب حضوراً في الوعي الثقافي الغربي، فقد رافقت الترجمة الهولندية لـ"أثر الفراشة" تغطيات صحافية عديدة ربطت – كالعادة – بين تجربة درويش الشعرية والقضية الفلسطينية.
هذا الربط الذي يتكرّر باستمرار، عاد ليظهر هذه المرّة على خلفية المجازر المستمرة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة منذ 20 شهراً، ما أسهم في إخراج العمل من سياقه الإبداعي الخاص داخل تجربة درويش، وحصره في سياق سياسي ضيّق يختزل غنى احتمالاته التأويلية.
وقد عزّز هذا التوجّه المترجم نفسه، ريتشارد فان ليوين، من خلال مقدّمته الموجزة للكتاب، التي لم تتجاوز استعراضاً لحياة درويش منذ ولادته حتى وفاته، مع التركيز على علاقته بالسلطة الفلسطينية، واعتباره في مرحلة ما "صوت فلسطين"، وفق تعبيره.
حُصِرَ في سياق سياسي ضيّق يختزل غنى احتمالاته التأويلية
ما زلت أذكر الحالة التي صنعها كتاب "أثر الفراشة" في المشهد الثقافي العربي عند صدوره عام 2008، ،إذ اعتبر الكثيرون أنَّ درويش تعمّد أن يكتب محاولاته الأولى ضمن قصيدة النثر، دون أن يسمّيها، خوفاً من أن يصدم الذائقة القرائية التي تعوّدت إخلاصه للتفعيلة، ومن ثم كان الخيار الأسلم من وجهة نظر درويش أن يقدّم هذه التجارب ضمن إطار أوسع مثل كلمة "يوميات" التي زينت الغلاف الأمامي لـ"أثر الفراشة".
ولعل أكثر الشعراء العرب الذين كتبوا عن الكتاب كان الشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر، الذي كتبَ أكثر من مادة جادّة حول الكتاب، وكان في رأيي أوّل من كشف لعبة درويش المدسوسة بذكاء ضمن كتابه، وهي تجريبه لقصيدة النثر دون أن يتورّط في الإعلان عن ذلك. يقول ناصر: "ليس علينا، كقرّاء، أن نلتزم بما يسمي به محمود درويش كتابه. لأنّ الكتاب يعطينا الحق في اختيار تسميات أخرى، باعتبار القراءة حمّالة أوجه، كما أنّ القراءة تمنحنا، مثلما أسلفت، حق وضع النصوص على الرف الذي نرغبه. يمكنني، والحال، أن أسمي شعره شعراً ونثره قصائد نثر، لا يوميات. وفي ظنّي أنَّ درويش اقترب، في (يومياته) هذه، أكثر من أي مرّة أخرى، من قصيدة النثر بالمعنى الغربي للكلمة. أي القصيدة ذات الكتلة النثرية العريضة، التي لا تأنف من السرد والإخبار والتأمل والتداعي".
في نهاية يناير/ كانون الثاني عام 2008، وقبل نحو سبعة أشهر فقط من رحيل درويش، في التاسع من أغسطس/ آب، من العام نفسه، بدأ الشاعر الفلسطيني الراحل حديثه في حفل إطلاق كتابه الجديد آنذاك "أثر الفراشة"، والذي استضافته قاعة مسرح البلد في عمّان، بالإعلان عن عجزه عن تصنيف كتابه الجديد، وأضاف: "هذا الكتاب الذي استعصى بالنسبة لي على التعريف، فلا أعرف إن كان شعراً أم نثراً، أم نصوصاً تقف على التخوم المشتركة بين الشّعر والنثر".
مع هذه الخصوصية التي يحتلّها "أثر الفراشة" في المشروع الشعري الأكبر لشاعر في حجم درويش، كان على المترجم الاعتناء بالسياق الذي يأتي الكتاب ضمنه، لا أن يقدم بوصفه مجرد "يوميات كتبها الشاعر في السنوات الأخيرة من حياته"، أو جمل من قبيل: "في "أثر الفراشة"، يكتب محمود درويش عن الحب والفقد وألم المنفى"! كما جاء في تقديم الناشر على الغلاف الخلفي للكتاب.
يبدو أن الأمور لم تتغير كثيراً بالعودة إلى "أثر الفراشة" نفسه، بعد 17 عاماً من صدوره الأول. يقول في قصيدة "أبعد من التماهي": "أَجلسُ أمام التلفزيون، إذ ليس في وسعي أن أفعل شيئاً آخر. هناك، أمام التلفزيون، أَعثُرُ على عواطفي، وأَرى ما يحدث بي ولي. الدخان يتصاعد مني. وأَمدُّ يدي المقطوعةَ لأمسك بأعضائي المبعثرة من جسومٍ عديدة، فلا أَجدها ولا أهرب منها من فرط جاذبيّة الألم. أَنا المحاصَرُ من البرِّ والجوِّ والبحر واللغة. أقلعتْ آخرُ طائرةٍ من مطار بيروت ووضعتني أمام التلفزيون، لأشاهد بقيَّة موتي مع ملايين المشاهدين، لا شيء يثبت أني موجود حين أفكِّر مع ديكارت، بل حين ينهض مني القربان، الآن، في لبنان.
أَدخُلُ في التلفزيون، أنا والوحش. أَعلم أنَّ الوحش أقوى مني في صراع الطائرة مع الطائر. ولكني أَدمنت، ربما أكثر مما ينبغي، بُطُولَةَ المجاز: التهمني الوحشُ ولم يهضمني. وخرجتُ سالماً أكثر من مرة. كانت روحي التي طارت شَعَاعاً مني ومن بطن الوحش تسكن جسداً آخر أَخفَّ وأَقوى، لكني لا أعرف أين أنا الآن: أمام التلفزيون، أم في التلفزيون. أما القلب فإني أراه يتدحرج، ككوز صنوبر، من جبل لبناني إلى رَفَح!".
* شاعر وكاتب من مصر
آداب
التحديثات الحية
صُنع الله إبراهيم.. سيرة جسد يقاوم هشاشته
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

المتوكل طه.. الشعر الفلسطيني منذ إبراهيم طوقان
المتوكل طه.. الشعر الفلسطيني منذ إبراهيم طوقان

العربي الجديد

timeمنذ 2 أيام

  • العربي الجديد

المتوكل طه.. الشعر الفلسطيني منذ إبراهيم طوقان

في لحظة الحصار والإبادة الاستعمارية، يصبح الشعر وثيقة وجود. من هذا المنظور، يأتي كتاب "في الشعر الفلسطيني: من الثورة إلى الحرب (إبراهيم طوقان، أبو سلمى، محمود درويش، شعر الضفة والقطاع)" للشاعر الفلسطيني المتوكل طه ، الصادر حديثاً عن دار الشروق للنشر والتوزيع في الأردن وفلسطين. يقع الكتاب في 160 صفحة، ويقدّم قراءة معمّقة لمسيرة الشعر الفلسطيني منذ بداياته الأولى مع الثورات في أوائل القرن العشرين. لا يقدّم الكتاب سرداً تاريخياً، بل يحكي قصة الشعر الفلسطيني، ويبدأ بمحطّة أولى لا يمكن تجاوزها: إبراهيم طوقان ، الذي يعتبره المؤلّف الأب الروحي للشعر الفلسطيني الحديث، وواحداً ممن أسّسوا القصيدة المقاومة بصيغتها الترابية. يركّز الكتاب على قصيدته الشهيرة "الثلاثاء الحمراء"، التي رثى فيها الشهداء الثلاثة الذين أعدمتهم سلطات الانتداب البريطاني: محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي، عام 1930. ثم ينتقل طه إلى عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، في قراءات تسلط الضوء على المفاهيم الثورية التي طبعت قصائده قبل النكبة. ويوضح أن أبو سلمى كتب الثورة قبل أن تتفجّر، واشتغل على تأصيل خطابها الشامل شعرياً، بلغة تعبّر عن رؤية عميقة للواقع والتاريخ معاً. أما القسم الثالث، فيقدّم قراءة جديدة في شعر محمود درويش ، لا من باب رمزيته الوطنية أو شهرته الكونية، بل من خلال علاقته المعقدة بمفاهيم مثل: السلام، والتعايش، وأوهام الحلول. يضيء المتوكل طه على مواقف درويش السياسية كما تتبدّى في دواوينه، ويعيد قراءة نصوصه بمنهجية تمزج بين النقد الشعري والتحليل السياسي. يركّز الكتاب على القصيدة الفلسطينية داخل الأرض المحتلة – الضفة والقطاع – من حيث فرادتها وضرورتها. فالقصيدة هنا لم تكن مجرّد فن، بل شكلاً من أشكال الصمود. ويرى المتوكل طه أن الشعر الفلسطيني ليس تياراً واحداً ولا تجربة موحّدة، بل مشهد مركّب تعددت فيه المرجعيات وتنوّعت الخلفيات. الشتات شكّل جزءاً من هذا التنوّع، كما فعلت الانتماءات السياسية والأيديولوجية. وبينما سلك الشعر في الخارج دروب التجريب والانفتاح الجمالي، بقي الشعر في الداخل يكتب بطريقة مختلفة ويصارع بأسلوبه الخاص ليبقى ويشهد. كتب التحديثات الحية جوني منصور يوحّد تاريخ الفلسطينيين ضدّ سرديات الاستعمار كذلك يقف الكتاب عند نكسة عام 1967، حيث ولدت القصيدة الفلسطينية في الأرض المحتلة كقصيدة جماعية بامتياز، مشبعة بروح الجماعة والمكان والتحريض. ومع التحولات التي أعقبت عام 1992، وما صاحبها من تغيّر في المفاهيم والمصطلحات والمزاج الجمعي، دخلت القصيدة في الداخل الفلسطيني مرحلة جديدة، واجهت فيها تحديات ثقافية واجتماعية مختلفة، واضطر الشعراء إلى إعادة التفكير في علاقتهم بالسلطة، وبالآخر، وبالعالم، والسعي لإنتاج لغة وأفق يعيدان للتجربة الشعرية توازنها. أما بعد العدوان الإبادي على غزة، فيتوقّع الكتاب أن تخرج نصوص شعرية جديدة، معجونة بالدم والركام والخذلان، لكنها لا تخلو من العبقرية والتميّز، نصوص تستمد طاقتها من المأساة وتعيد تشكيل الواقع شعرياً، بحدّةٍ ومفارقات قد تجعلها من أبرز ما يُكتب في أدب المقاومة المعاصر المتوكل طه شاعر وكاتب فلسطيني من مواليد قلقيلية عام 1958، حاصل على الدكتوراه في الآداب. أصدر نحو ستين كتاباً في الشعر والسرد والنقد والفكر، وتُرجمت أعماله إلى عدة لغات. عمل محاضراً وسفيراً وانتُخب أميناً عامّاً لاتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين، وكان رئيس تحرير "المنصة الثقافية"، وعضواً في مجالس أمناء عدة مؤسسات ثقافية وأكاديمية.

مهرجان أفينيون... استماع معاصر إلى أم كلثوم
مهرجان أفينيون... استماع معاصر إلى أم كلثوم

العربي الجديد

time٠٨-٠٧-٢٠٢٥

  • العربي الجديد

مهرجان أفينيون... استماع معاصر إلى أم كلثوم

في دورته التاسعة والسبعين، التي انطلقت في الخامس من الشهر الحالي وتستمر حتى السادس والعشرين منه، يُخصّص مهرجان أفينيون الفرنسي (Avignon Festival) مساحة استثنائية للاحتفاء ب اللغة العربية ، في بادرة فنية وثقافية تمثّل انفتاحاً نادراً من أحد أعرق المهرجانات الأوروبية على الثقافة العربية، بماضيها وتراثها وحاضرها المعاصر. واختار مدير المهرجان، البرتغالي تياغو رودريغيز (Tiago Rodrigues)، كلمة "معاً" شعاراً لهذه الدورة، مستلهماً الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش . وتُستحضَر هذا العام أجواء "ألف ليلة وليلة" ضمن الروح العامة للمهرجان، بحسب المنظمين. وبعد أن كانت اللغتان الإنكليزية والإسبانية ضيفتي الشرف في الدورتين السابقتين، تحلّ اللغة العربية ضيفة هذا العام، ليس بوصفها وسيلة تواصل فحسب، بل باعتبارها بوابة إلى مشهد ثقافي حيّ ومتنوّع. ويُخصّص نحو ثلث البرنامج لهذا التوجّه، ما يتيح للجمهور الفرنسي والدولي نافذة واسعة على الإبداع المسرحي والموسيقي العربي، بتنوّعه الجغرافي وتعدّد أساليبه الفنية. لحظات تجريبية في بيانه الافتتاحي، أوضح تياغو رودريغيز أنّ اختيار اللغة العربية ضيفة شرف هذا العام ينطلق من الإيمان بقدرة الفنون على مدّ جسور الحوار والانفتاح، مشيراً إلى أنّ العربية "لغة المعرفة والحوار التي يتحدث بها الناس من جميع المعتقدات والأديان". تحت هذا العنوان العريض، تتوزّع فعاليات عربية عدّة في مجالات المسرح والرقص والموسيقى والقراءات الشعرية والحوارات الفكرية. ومن بين أبرز الأسماء المشاركة: الممثلة المغربية بشرى أهريش، والمخرج اللبناني علي شحرور، والثنائي التونسي سلمى وسفيان عويصي، والفلسطيني بشار مرقص، والسورية خلود باسل، وغيرهم من الفنانين الذين يمثّلون مشارب ومدارس فنية متنوّعة، تجمع بين الانخراط السياسي والانشغال الجمالي، وبين التراث المحلي والتجريب الحداثي. نجوم وفن التحديثات الحية تضامن مع الفلسطينيين يرافق مهرجان أفينيون المسرحي في حضرة أم كلثوم في ساحة الشرف في قصر البابوات، الفضاء الرمزي الأبرز في مهرجان أفينيون، تحتضن الدورة الحالية فعالية خاصة تُحيي الذكرى الخمسين لرحيل كوكب الشرق أم كلثوم ، من خلال عرض موسيقي ضخم من إنتاج مشترك بين مهرجان أفينيون ومعهد العالم العربي في باريس. يحمل العرض طابعاً احتفالياً ويجمع سبعة فنانين وموسيقيين من خلفيات موسيقية وجغرافية متنوّعة، تحت إشراف الموسيقي والمنتج اللبناني زيد حمدان، المعروف بأعماله التي تمزج بين التراث العربي وأنماط الموسيقى الإلكترونية المعاصرة، ما يمنح العرض بُعداً خاصاً من ناحية التقديم والأسلوب، بعيداً عن الصورة التقليدية للحفلات التكريمية. يشارك في هذا العمل عدد من الفنانين العرب والفرنسيين، من بينهم: عبد الله منياوي ومريم صالح وناتاشا أطلس من مصر، وسعاد ماسي وكاميليا جوردانا من الجزائر، إضافة إلى فرقة موسيقية تضمّ عازفين من لبنان وتونس والمغرب. ما يلفت في هذا العرض أنّه لا يقدّم أم كلثوم بوصفها أيقونة ماضوية فقط، بل يستحضرها كجسر فني يربط بين التقليد والحداثة، وبين الأصالة والانفتاح على الآلات والتقنيات الموسيقية الجديدة. إنها لحظة وجدانية وتاريخية، تدعو الجمهور الأوروبي إلى الاستماع إلى أغاني أم كلثوم واختبار هذا الإرث الكبير بروح الحاضر وابتكار الشباب. ليلة عربية لا يقتصر الحضور العربي في مهرجان أفينيون على العروض الفنية فقط، بل يمتدّ إلى الحوارات والندوات والقراءات، التي ينظّمها المهرجان بالشراكة مع معهد العالم العربي. من بين المشاركين في هذه اللقاءات: الروائية الفرنسية من أصول مغربية ليلى سليماني، والصحافي اللبناني نبيل واكيم، والمؤرخ الفلسطيني إلياس صنبر. تتناول هذه الفعاليات موضوعات متنوّعة، مثل العلاقة بين اللغة والهوية، وتمثيل العالم العربي في الإعلام والثقافة الغربية، وتجارب الترجمة، وتاريخ المسرح العربي . كما ينظّم مهرجان أفينيون ليلة عربية خاصة، تتضمّن عروضاً موسيقية وقراءات شعرية وفيديوهات أدائية، تعكس تنوّع المشهد الفني العربي المعاصر، وتبرز تقاطعاته مع قضايا العصر، من المناخ والهجرة، إلى النسوية وتعدّد الهويات. من الواضح أنّ المهرجان، في نسخته الحالية، لا يطرح اللغة العربية بوصفها لغة جمالية فقط، بل يقدّمها مدخلاً إلى فضاء ثقافي غني ومتشابك، تتلاقى فيه تيارات من المغرب والمشرق والخليج، وتتفاعل فيه الذاكرة الجمعية مع ابتكارات الأجيال الجديدة. إنّه احتفاء نادر بلغة قلّما تحظى بهذا القدر من التقدير على منصات المهرجانات الكبرى في الغرب. ومع أنّ اللغة العربية ليست حاضرة هذا العام كلغة مهيمنة على كامل البرنامج، إلا أنّ جعلها "ضيفة شرف" يمثّل خطوة رمزية مهمّة، تعكس رغبة في المراجعة والانفتاح، وفي تصحيح نظرة نمطية طالما اختزلت الثقافة العربية في بعد تراثي جامد، أو في تمثيلات سياسية متوتّرة. إنها خطوة تضع اللغة العربية في مركز الاحتفاء، لا باعتبارها لغة الآخر، بل بما هي مدخل إلى ثقافة حيوية ومؤثرة. وفي حضرة أم كلثوم، وكلماتها التي تخترق الزمن، يجد الجمهور نفسه أمام لحظة نادرة تتقاطع فيها المقامات الموسيقية والنصوص الشعرية، من دون أن تغيب عنها ظلال اللحظة الراهنة وتعقيداتها.

"فراشة" محمود درويش في هولندا
"فراشة" محمود درويش في هولندا

العربي الجديد

time٢١-٠٦-٢٠٢٥

  • العربي الجديد

"فراشة" محمود درويش في هولندا

بعد نحو 17 عاماً على صدور "أثر الفراشة" ورحيل صاحبه، يُحتفى بالديوان وبشاعره محمود درويش في ترجمة هولندية هي الأولى من نوعها. فقد صدرت حديثاً الترجمة الهولندية للكتاب، الذي شكّل آخر ما قدّمه درويش لقرّائه قبل وفاته. أنجز الترجمة المستعرب الهولندي البارز ريتشارد فان ليوين، المعروف بجهوده في نقل الأدب العربي إلى الهولندية، إذ سبق أن ترجم أعمالاً لعدد من أبرز الشعراء والروائيين العرب، إضافة إلى ترجمته الكاملة لـ"ألف ليلة وليلة"، كما نقل إلى الهولندية كتابات ابن بطوطة، وأعمالاً لكتاب مثل نجيب محفوظ، يوسف إدريس، الطيب صالح، زكريا تامر، وإبراهيم الكوني، وغيرهم من أعلام السرد العربي. ولأن اسم محمود درويش ليس غريباً على الأذن الأوروبية، شأنه في ذلك شأن أدونيس وجبران خليل جبران، بوصفهم من أبرز الشعراء العرب حضوراً في الوعي الثقافي الغربي، فقد رافقت الترجمة الهولندية لـ"أثر الفراشة" تغطيات صحافية عديدة ربطت – كالعادة – بين تجربة درويش الشعرية والقضية الفلسطينية. هذا الربط الذي يتكرّر باستمرار، عاد ليظهر هذه المرّة على خلفية المجازر المستمرة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة منذ 20 شهراً، ما أسهم في إخراج العمل من سياقه الإبداعي الخاص داخل تجربة درويش، وحصره في سياق سياسي ضيّق يختزل غنى احتمالاته التأويلية. وقد عزّز هذا التوجّه المترجم نفسه، ريتشارد فان ليوين، من خلال مقدّمته الموجزة للكتاب، التي لم تتجاوز استعراضاً لحياة درويش منذ ولادته حتى وفاته، مع التركيز على علاقته بالسلطة الفلسطينية، واعتباره في مرحلة ما "صوت فلسطين"، وفق تعبيره. حُصِرَ في سياق سياسي ضيّق يختزل غنى احتمالاته التأويلية ما زلت أذكر الحالة التي صنعها كتاب "أثر الفراشة" في المشهد الثقافي العربي عند صدوره عام 2008، ،إذ اعتبر الكثيرون أنَّ درويش تعمّد أن يكتب محاولاته الأولى ضمن قصيدة النثر، دون أن يسمّيها، خوفاً من أن يصدم الذائقة القرائية التي تعوّدت إخلاصه للتفعيلة، ومن ثم كان الخيار الأسلم من وجهة نظر درويش أن يقدّم هذه التجارب ضمن إطار أوسع مثل كلمة "يوميات" التي زينت الغلاف الأمامي لـ"أثر الفراشة". ولعل أكثر الشعراء العرب الذين كتبوا عن الكتاب كان الشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر، الذي كتبَ أكثر من مادة جادّة حول الكتاب، وكان في رأيي أوّل من كشف لعبة درويش المدسوسة بذكاء ضمن كتابه، وهي تجريبه لقصيدة النثر دون أن يتورّط في الإعلان عن ذلك. يقول ناصر: "ليس علينا، كقرّاء، أن نلتزم بما يسمي به محمود درويش كتابه. لأنّ الكتاب يعطينا الحق في اختيار تسميات أخرى، باعتبار القراءة حمّالة أوجه، كما أنّ القراءة تمنحنا، مثلما أسلفت، حق وضع النصوص على الرف الذي نرغبه. يمكنني، والحال، أن أسمي شعره شعراً ونثره قصائد نثر، لا يوميات. وفي ظنّي أنَّ درويش اقترب، في (يومياته) هذه، أكثر من أي مرّة أخرى، من قصيدة النثر بالمعنى الغربي للكلمة. أي القصيدة ذات الكتلة النثرية العريضة، التي لا تأنف من السرد والإخبار والتأمل والتداعي". في نهاية يناير/ كانون الثاني عام 2008، وقبل نحو سبعة أشهر فقط من رحيل درويش، في التاسع من أغسطس/ آب، من العام نفسه، بدأ الشاعر الفلسطيني الراحل حديثه في حفل إطلاق كتابه الجديد آنذاك "أثر الفراشة"، والذي استضافته قاعة مسرح البلد في عمّان، بالإعلان عن عجزه عن تصنيف كتابه الجديد، وأضاف: "هذا الكتاب الذي استعصى بالنسبة لي على التعريف، فلا أعرف إن كان شعراً أم نثراً، أم نصوصاً تقف على التخوم المشتركة بين الشّعر والنثر". مع هذه الخصوصية التي يحتلّها "أثر الفراشة" في المشروع الشعري الأكبر لشاعر في حجم درويش، كان على المترجم الاعتناء بالسياق الذي يأتي الكتاب ضمنه، لا أن يقدم بوصفه مجرد "يوميات كتبها الشاعر في السنوات الأخيرة من حياته"، أو جمل من قبيل: "في "أثر الفراشة"، يكتب محمود درويش عن الحب والفقد وألم المنفى"! كما جاء في تقديم الناشر على الغلاف الخلفي للكتاب. يبدو أن الأمور لم تتغير كثيراً بالعودة إلى "أثر الفراشة" نفسه، بعد 17 عاماً من صدوره الأول. يقول في قصيدة "أبعد من التماهي": "أَجلسُ أمام التلفزيون، إذ ليس في وسعي أن أفعل شيئاً آخر. هناك، أمام التلفزيون، أَعثُرُ على عواطفي، وأَرى ما يحدث بي ولي. الدخان يتصاعد مني. وأَمدُّ يدي المقطوعةَ لأمسك بأعضائي المبعثرة من جسومٍ عديدة، فلا أَجدها ولا أهرب منها من فرط جاذبيّة الألم. أَنا المحاصَرُ من البرِّ والجوِّ والبحر واللغة. أقلعتْ آخرُ طائرةٍ من مطار بيروت ووضعتني أمام التلفزيون، لأشاهد بقيَّة موتي مع ملايين المشاهدين، لا شيء يثبت أني موجود حين أفكِّر مع ديكارت، بل حين ينهض مني القربان، الآن، في لبنان. أَدخُلُ في التلفزيون، أنا والوحش. أَعلم أنَّ الوحش أقوى مني في صراع الطائرة مع الطائر. ولكني أَدمنت، ربما أكثر مما ينبغي، بُطُولَةَ المجاز: التهمني الوحشُ ولم يهضمني. وخرجتُ سالماً أكثر من مرة. كانت روحي التي طارت شَعَاعاً مني ومن بطن الوحش تسكن جسداً آخر أَخفَّ وأَقوى، لكني لا أعرف أين أنا الآن: أمام التلفزيون، أم في التلفزيون. أما القلب فإني أراه يتدحرج، ككوز صنوبر، من جبل لبناني إلى رَفَح!". * شاعر وكاتب من مصر آداب التحديثات الحية صُنع الله إبراهيم.. سيرة جسد يقاوم هشاشته

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store