"الحشيش" اللبناني... قريباً من مادة قاتلة إلى مورد للدولارات
قبل خمسة أعوام، أقرّ البرلمان اللبناني قانون تشريع القنب الهندي للأغراض الطبية والصناعية، لتصبح بيروت أوّل عاصمة عربية تقدِم على هذه الخطوة. لكنّ ما وُصف يومذاك بالمنعطف التاريخي بقي حبيساً في الأدراج، إلى أن وضع رئيس الحكومة اللبناني نواف سلام – بعد طول انتظار وتراكم للتعطيل الحكومي – عجلات قانون "القنب الهندي" على سكّة التنفيذ. فمن السراي الكبير أُطلق "مسار تشكيل الهيئة الوطنية للقنب الهندي" بوصفها البوابة التنفيذية لتحويل النبتة، المدموغة تاريخيًا بسمعة "الاقتصاد القاتل"، إلى مورد طبي وصناعي مُشرع، قادر على تحريك الاقتصاد الشرعي، وتغذية قطاعات شتى، أبرزها الدواء والنسيج، وجذب استثمارات خارجية طال غيابها عن المشهد اللبناني. بدا الإعلان في الوهلة الأولى خطوة تقنية؛ غير أنّه في عمقه رسالة ثقة ومحاولة تبييض لصورة الدولة أمام المانحين، ورسالة أمل – وإن كانت خجولة – لمنطقتي بعلبك والهرمل اللتين تعيشان منذ عقود بين التهميش والملاحقات الأمنية.
إذن، فصل جديد يفتح اليوم في سيرة القانون الرقم 178/2020، مجيزًا زراعة القنب الهندي "لأغراض طبية وصناعية". خمسة أعوام مضت من دون أن يشكَّل الجهاز التنظيمي المنوط به ترجمة القانون إلى إجراءات وتشريعات فرعية، ومن دون أن يحصل أيّ مزارع أو مستثمر على رخصة واحدة. فهل تتحوّل "الحشيشة" من عبء أمني إلى أصل إنتاجي يرفد الناتج المحلي بإيرادات صعبة ويعيد توزيع الدخل على نحو أكثر عدالة؟
هيئة وطنية منظّمة
يشرح وزير الزراعة الدكتور نزار هاني في حديثه إلى "المدن" الآلية المزمع اعتمادها في تشكيل الهيئة الناظمة لإدارة القنب الهندي قائلًا: "إن الهيئة الوطنية المنظِّمة لزراعة القنب أُدرجت على جدول التعيينات، بانتظار أن تضع اللجنة المختصة المواصفات المطلوبة. تتكوّن الهيئة من سبعة أعضاء: خمسة يمثلون الوزارات الآتية: الزراعة، الصناعة، العدل، الداخلية ممثلة بمدير مكتب مكافحة المخدرات، والصحة عبر مدير الدائرة المعنية بالمخدرات؛ إضافة إلى خبيرين يُختاران بعد فتح باب الترشيحات وإجراء مقابلات لاختيار الأكفأ. بعد تسمية المندوبين من الوزارات واختيار الخبيرين يصدر قرار تشكيل الهيئة الوطنية".
في ما يخصّ الإيرادات المتوقعة يشير هاني: "قدَّرت خطة ماكنزي العائدات بنحو مليار دولار، بينما تشير دراسات أخرى إلى أنها تتراوح بين مليار وثلاثة مليارات دولار. ولا يُشترط أن تُعطى الأولوية للتصدير، إذ إن عددًا من شركات الأدوية ينتظر بدء الزراعة ليباشر تصنيع الأدوية، ولا سيما تلك التي تُحضّر ببساطة من زيت القنب. كذلك يمكن تطوير صناعات قائمة على الألياف والكتلة الحيوية لإنتاج الأقمشة وغيرها. قد تُصدَّر هذه المنتجات، غير أن التوقعات تشير أيضًا إلى استهلاك محلي كبير".
ويضيف: "تعيّن الهيئة المنظِّمة فريق عمل ومديرًا عامًا تقترحه على مجلس الوزراء، الذي يصدر بدوره قرار التعيين. وتتولى الهيئة وضع الأطر التنظيمية الكاملة: آليات الترخيص، والكشوف، والمتابعة، والتصنيع، سواء في البيوت البلاستيكية أو في المصانع. للمؤسسات البحثية دور أساسي؛ فمنذ إقرار القانون تعاون باحثون وخبراء ومختبرات لبنانية وأجنبية لدراسة خصائص الزيت والنبتة وتحديد الأصناف المناسبة للزرع. وتعمل الوزارات المعنية داخل الهيئة بالتنسيق مع سائر الوزارات لضمان إدارة فعالة ومستدامة لهذا القطاع".
لكن هاني لا ينفي أنّ "أبرز التحديات هي ما يواجه القطاع الزراعي عمومًا: شح المياه، وتغير المناخ، وتقلص المساحات المزروعة. وقد أظهرت التجارب أن الزراعة داخل البيوت البلاستيكية تتيح إنتاجًا أكبر وأسرع. وستواكب وزارة الزراعة هذه العملية تنظيمًا ورقابة وتدريبًا للمزارعين لزيادة الإنتاجية. إذا ما تحقق ذلك فسيشكّل القنب إضافة كبيرة للقطاع الزراعي، إذ يتمتع بميزة تفاضلية تناسب مناخ لبنان، ما يدعم الاقتصاد والمزارعين في المناطق البعيدة عن المدن ويحسّن أوضاعهم المعيشية والاجتماعية والصحية".
من ماكنزي إلى واقع الأرقام
حين أطلقت شركة "ماكنزي أند كومباني" خطة "رؤية لبنان الاقتصادية" في 2020، كانت زراعة القنب عنوانًا صحافيًا أكثر منه مشروعًا جاهزًا. قُدّرت الإيرادات المحتملة بأربعة مليارات دولار على أساس رفع المساحات القانونية من "صفر" إلى "1000 هكتار" في خمسة أعوام. لكن واضعي التقرير قدّموا أرقامًا من دون منهجية واضحة: فلبنان، وفق تقارير الأمم المتحدة، ثالث أكبر منتج غير قانوني في العالم بعد المغرب وأفغانستان، وتزيد المساحات المزروعة فعليًا على 30 ألف هكتار في البقاع الشمالي؛ فكيف تُحتسب نقطة الانطلاق "صفرًا"؟
فرضية ماكنزي الأهم – تحويل معظم المزارعين إلى القطاع الرسمي بحلول 2035 – تواجه هواجس اجتماعية وأمنية شائكة. التجارب السابقة لإحلال زراعات بديلة (زعتر، عنب) أخفقت لأن هوامش ربحها لا تداني أرباح الحشيشة. كما أن نماذج التحريش العشوائي والحملات الأمنية لتلف المحاصيل زادت الشرخ بين الدولة وأهل المنطقة، وأدّت إلى دورنة اقتصاد غير رسمي يحكمه سماسرة وسلاح. لذا تصبح الحوافز المالية والضمانات القانونية شرطًا لا مفر منه لنجاح المشروع.
فجوة التشريع… والتنافسية الدولية
لعبة الوقت تشكّل متغيرًا حاسمًا. الأسواق الكبرى – كندا، هولندا، أوروغواي، وأستراليا – سبقت لبنان بسنوات في وضع قواعد اللعب والتصدير. ألمانيا، مثلًا، تستورد 90 في المئة من احتياجاتها من القنب الطبي، لكنها وقّعت منذ آذار 2024 عقودًا طويلة الأمد مع خمس دول، ما يقلص نافذة الفرص أمام الداخلين الجدد. وفوق ذلك يفرض الاتحاد الأوروبي تتبعًا صارمًا لمسار كل شحنة من المزرعة إلى المريض. لهذا فإن بناء سمعة "صنع في لبنان" سيحتاج إلى شهادتي "غلوبال غاب" و"جي إم بي" اللتين تفترضان بنية تحتية رقمية تمكّن السلطات من الرقابة اللحظية.
هنا يبرز سؤال الجدوى: هل تكفي مزايا المناخ والتربة لجعل لبنان منافسًا؟ الدراسة الأولية التي أنجزتها كلية الزراعة في الجامعة الأميركية في بيروت عام 2023 تظهر أن تكلفة إنتاج الغرام الواحد من زيت القنب في بيوت بلاستيكية لبنانية لا تتعدى دولارًا واحدًا، مقابل 1.4 دولار في كندا و 1.2 دولار في البرتغال. الكلفة التنافسية حقيقة، لكنها هشة أمام اختناقات الكهرباء والتمويل وغياب الحوافز الضريبية. وبالتالي فإن أي تأخر في إصدار المراسيم أو انزلاق في التعقيدات البيروقراطية سيفقد لبنان امتيازه السعري، تمامًا كما حدث في ازدهار قطاع النبيذ ثم تعثّره أمام الرسوم الجمركية وكلفة النقل.
البعد الاجتماعي: أهل البقاع بين الأمل والحذر
قد يبدو للوهلة الأولى أن قرار الترخيص سيبعث البشرى في قلوب مزارعي بعلبك والهرمل الذين يعيشون على "الكيف" منذ الانتداب الفرنسي. لكن الواقع أكثر تعقيدًا؛ فالقانون الجديد يعرّف النبتة المسموح بها بأنها تلك التي تحتوي على نسبة THC أقل من 1 في المئة (بعد تعديلات اللجنة الفرعية)، فيما تتخطى النسبة في الأصناف المتوارثة 7–12 في المئة. بعبارة أوضح، البذور البلدية التي تعطي منتجًا يغري السوق السوداء أصبحت عمليًا خارج إطار الشرعية الجديدة. إنه فصل حاد بين اقتصاد غير رسمي مرتفع الربحية وآخر رسمي ربحيته أقل لكنه يعد بحماية قانونية واستقرار طويل الأمد.
إشكالية أخرى تطفو وهي أن القانون خالٍ من أي "مفعول رجعي" أو مسار عفو للمزارعين الملاحقين منذ عقود. فهؤلاء عالقون بين ملفات أمام القضاء العسكري ومذكرات توقيف تثقل سجلًا مرهقًا للنظام الجزائي. وتجربة مشروع العفو العام الذي سقط في لجنة الإدارة والعدل عام 2018 تعلمنا أن العقبة ليست قانونية فحسب، بل سياسية وطائفية. ومن دون مقاربة إنمائية شاملة تعيد الثقة بين الدولة ومحيط القنب سيبقى جزء من الإنتاج في الظل، محافظًا على تسعيرة تفيض أرباحًا على جيوب النافذين، ومكبِّلًا أي قدرة للقطاع الرسمي على التوسع. وهنا يطرح خبراء التنمية الزراعية صيغة "رخصة انتقالية" (Transitional License) تُمنَح للمزارع القائم ريثما يستوفي معايير الزراعات المراقَبة خلال ثلاث سنوات، مع جدول تقسيط للرسوم السنوية.
هيكلية الضرائب وآلية تقاسم الريع
من منظور مالي يُفترض أن يمول قطاع القنب خزينة الدولة عبر عنصرين: رسم الإنتاج (Excise) ورسم القيمة المضافة على المنتجات التحويلية. لكن المقاربة الحكيمة، بحسب الاختصاصيين، هي هندسة ضريبة متدرجة تحفز الاستثمار أولًا ثم تزيد الاقتطاع مع اقتراب القطاع من مرحلة النضج. فاستيفاء 15 في المئة من عائدات البيع في السنوات الثلاث الأولى ثم رفعها تدريجيًا إلى 25 في المئة قد يوازن بين جاذبية الاستثمار وحصيلة الخزينة.
بين "الحشيشة" غير الشرعية و"القنب" الطبي المنظَّم يقف لبنان أمام خيار تاريخي: اختبار قدرة الدولة على إنتاج سياسة عامة تتجاوز الشعبوية، وعلى بناء مؤسسة تنظيمية ذات صدقية، وعلى مداواة جروح الإنماء غير المتوازن في البقاع. الرهان ليس ماديًا فحسب؛ إنه أيضًا رهان على استعادة الثقة بين الدولة والمزارع، بين الاقتصاد الشرعي و"اقتصاد الظل"، وعلى تحويل لبنان من ممر تهريب إلى منصة تصدير مستدامة.
إذا نجحت الحكومة في إرساء قواعد اللعبة بشفافية وحوكمة سيصبح القنب نموذجًا لما يمكن لاقتصاد عالي القيمة قائم على المعرفة الزراعية والصناعات الدوائية أن يحققه لبلد يختنق بأزماته. أمّا إذا تعثّرت – كما تعثرت مشاريع كثيرة من قبل – فإن الخيبة ستعمق أزمة الريف، وتعيد إنتاج الدورة المفرغة بين التهميش والهشاشة الأمنية.
في الميزان الأخير لا يملك لبنان ترف إضاعة فرصة جديدة؛ فقيمة القنب ليست في بذوره وأزهاره فحسب، بل في قدرته على إثبات أن الإصلاح الاقتصادي ممكن حين تتقدم الإرادة السياسية ويصاغ التشريع على أساس العلم وحسابات الجدوى لا المحاصصة والصفقات العمياء.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


بيروت نيوز
منذ ساعة واحدة
- بيروت نيوز
أوكرانيا تعلن كلفة الأضرار الروسية في عملية العنكبوت
وكتب الجهاز عبر تليغرام '7 مليارات دولار: هذه هي الكلفة المقدّرة (لخسائر) الطيران الاستراتيجي لروسيا الذي ضُرب اليوم في العملية الخاصة لأس بي يو'، والتي حملت اسم 'شبكة العنكبوت'. 117 مسيرة بدوره، كشف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأحد، أن 117 مسيرة استخدمت في الهجوم المنسق على الطيران الحربي الروسية والذي حمل اسم 'شبكة العنكبوت'. كما وصف نتائج الهجوم المنسّق بطائرات مسيّرة الذي نفذته قواته على مطارات عسكرية روسية بـ'الرائع'، مؤكدا أنها العملية 'الأبعد مدى' لبلاده داخل روسيا. وقال زيلينسكي 'هذه هي عمليتنا الأبعد مدى حتى الآن'، وأكد أيضا أن العناصر الذين شاركوا في الهجوم 'تم إخراجهم من الأراضي الروسية في الوقت المناسب'.


بيروت نيوز
منذ ساعة واحدة
- بيروت نيوز
بعد الهجوم على روسيا.. اليكم التعليق الاول لزيلينسكي
أشاد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الأحد، بالنتائج 'الرائعة' للهجوم المنسّق بطائرات مسيّرة الذي نفذته قواته على مطارات عسكرية روسية. وقال زيلينسكي، على حسابه في منصة 'إكس': 'هذه هي عمليتنا الأبعد مدى حتى الآن'، واصفا النتائج بأنها 'رائعة للغاية'. وأكد أيضا أن العناصر الذين شاركوا في الهجوم 'تم إخراجهم من الأراضي الروسية في الوقت المناسب'. وتابع: 'عامٌ وستة أشهر وتسعة أيام من بدء التخطيط وحتى التنفيذ الفعلي'. وأوضح: 'بالطبع، لا يُمكن الكشف عن كل شيء في هذه اللحظة، لكن هذه أفعال أوكرانية ستُخلّد في كتب التاريخ بلا شك'. وأبرز: 'أوكرانيا تدافع عن نفسها، وهذا حقٌّها – نحن نبذل قصارى جهدنا لجعل روسيا تشعر بالحاجة إلى إنهاء هذه الحرب'. هذا وقال مسؤول حكومي أوكراني لرويترز، الأحد، إن أوكرانيا لم تخطر الولايات المتحدة مسبقا بالهجمات التي شنتها بطائرات مسيرة على قواعد جوية روسية. وأعلن جهاز الأمن الأوكراني مسؤوليته عن الهجمات على أربع قواعد، وقال مسؤول أمني إن الهجمات أصابت 41 طائرة حربية روسية في المجمل. وحسب ما نقلت وكالة فرنس برس، فإن أوكرانيا تقدّر كلفة الضرر اللاحق بالطائرات العسكرية الروسية بـ7 مليارات دولار. وأكدت روسيا، الأحد، 'اندلاع النيران' في عدد من طائراتها العسكرية، جراء هجوم واسع بمسيّرات أوكرانية، مشيرة إلى توقيف مشتبه فيهم على علاقة بالهجوم.

المدن
منذ ساعة واحدة
- المدن
"الحشيش" اللبناني قريباً... من مادة قاتلة إلى مورد للدولارات
قبل خمسة أعوام، أقرّ البرلمان اللبناني قانون تشريع القنب الهندي للأغراض الطبية والصناعية، لتصبح بيروت أوّل عاصمة عربية تقدِم على هذه الخطوة. لكنّ ما وُصف يومذاك بالمنعطف التاريخي بقي حبيساً في الأدراج، إلى أن وضع رئيس الحكومة اللبناني نواف سلام – بعد طول انتظار وتراكم للتعطيل الحكومي – عجلات قانون "القنب الهندي" على سكّة التنفيذ. فمن السراي الكبير أُطلق "مسار تشكيل الهيئة الوطنية للقنب الهندي" بوصفها البوابة التنفيذية لتحويل النبتة، المدموغة تاريخيًا بسمعة "الاقتصاد القاتل"، إلى مورد طبي وصناعي مُشرع، قادر على تحريك الاقتصاد الشرعي، وتغذية قطاعات شتى، أبرزها الدواء والنسيج، وجذب استثمارات خارجية طال غيابها عن المشهد اللبناني. بدا الإعلان في الوهلة الأولى خطوة تقنية؛ غير أنّه في عمقه رسالة ثقة ومحاولة تبييض لصورة الدولة أمام المانحين، ورسالة أمل – وإن كانت خجولة – لمنطقتي بعلبك والهرمل اللتين تعيشان منذ عقود بين التهميش والملاحقات الأمنية. إذن، فصل جديد يفتح اليوم في سيرة القانون الرقم 178/2020، مجيزًا زراعة القنب الهندي "لأغراض طبية وصناعية". خمسة أعوام مضت من دون أن يشكَّل الجهاز التنظيمي المنوط به ترجمة القانون إلى إجراءات وتشريعات فرعية، ومن دون أن يحصل أيّ مزارع أو مستثمر على رخصة واحدة. فهل تتحوّل "الحشيشة" من عبء أمني إلى أصل إنتاجي يرفد الناتج المحلي بإيرادات صعبة ويعيد توزيع الدخل على نحو أكثر عدالة؟ هيئة وطنية منظّمة يشرح وزير الزراعة الدكتور نزار هاني في حديثه إلى "المدن" الآلية المزمع اعتمادها في تشكيل الهيئة الناظمة لإدارة القنب الهندي قائلًا: "إن الهيئة الوطنية المنظِّمة لزراعة القنب أُدرجت على جدول التعيينات، بانتظار أن تضع اللجنة المختصة المواصفات المطلوبة. تتكوّن الهيئة من سبعة أعضاء: خمسة يمثلون الوزارات الآتية: الزراعة، الصناعة، العدل، الداخلية ممثلة بمدير مكتب مكافحة المخدرات، والصحة عبر مدير الدائرة المعنية بالمخدرات؛ إضافة إلى خبيرين يُختاران بعد فتح باب الترشيحات وإجراء مقابلات لاختيار الأكفأ. بعد تسمية المندوبين من الوزارات واختيار الخبيرين يصدر قرار تشكيل الهيئة الوطنية". في ما يخصّ الإيرادات المتوقعة يشير هاني: "قدَّرت خطة ماكنزي العائدات بنحو مليار دولار، بينما تشير دراسات أخرى إلى أنها تتراوح بين مليار وثلاثة مليارات دولار. ولا يُشترط أن تُعطى الأولوية للتصدير، إذ إن عددًا من شركات الأدوية ينتظر بدء الزراعة ليباشر تصنيع الأدوية، ولا سيما تلك التي تُحضّر ببساطة من زيت القنب. كذلك يمكن تطوير صناعات قائمة على الألياف والكتلة الحيوية لإنتاج الأقمشة وغيرها. قد تُصدَّر هذه المنتجات، غير أن التوقعات تشير أيضًا إلى استهلاك محلي كبير". ويضيف: "تعيّن الهيئة المنظِّمة فريق عمل ومديرًا عامًا تقترحه على مجلس الوزراء، الذي يصدر بدوره قرار التعيين. وتتولى الهيئة وضع الأطر التنظيمية الكاملة: آليات الترخيص، والكشوف، والمتابعة، والتصنيع، سواء في البيوت البلاستيكية أو في المصانع. للمؤسسات البحثية دور أساسي؛ فمنذ إقرار القانون تعاون باحثون وخبراء ومختبرات لبنانية وأجنبية لدراسة خصائص الزيت والنبتة وتحديد الأصناف المناسبة للزرع. وتعمل الوزارات المعنية داخل الهيئة بالتنسيق مع سائر الوزارات لضمان إدارة فعالة ومستدامة لهذا القطاع". لكن هاني لا ينفي أنّ "أبرز التحديات هي ما يواجه القطاع الزراعي عمومًا: شح المياه، وتغير المناخ، وتقلص المساحات المزروعة. وقد أظهرت التجارب أن الزراعة داخل البيوت البلاستيكية تتيح إنتاجًا أكبر وأسرع. وستواكب وزارة الزراعة هذه العملية تنظيمًا ورقابة وتدريبًا للمزارعين لزيادة الإنتاجية. إذا ما تحقق ذلك فسيشكّل القنب إضافة كبيرة للقطاع الزراعي، إذ يتمتع بميزة تفاضلية تناسب مناخ لبنان، ما يدعم الاقتصاد والمزارعين في المناطق البعيدة عن المدن ويحسّن أوضاعهم المعيشية والاجتماعية والصحية". من ماكنزي إلى واقع الأرقام حين أطلقت شركة "ماكنزي أند كومباني" خطة "رؤية لبنان الاقتصادية" في 2020، كانت زراعة القنب عنوانًا صحافيًا أكثر منه مشروعًا جاهزًا. قُدّرت الإيرادات المحتملة بأربعة مليارات دولار على أساس رفع المساحات القانونية من "صفر" إلى "1000 هكتار" في خمسة أعوام. لكن واضعي التقرير قدّموا أرقامًا من دون منهجية واضحة: فلبنان، وفق تقارير الأمم المتحدة، ثالث أكبر منتج غير قانوني في العالم بعد المغرب وأفغانستان، وتزيد المساحات المزروعة فعليًا على 30 ألف هكتار في البقاع الشمالي؛ فكيف تُحتسب نقطة الانطلاق "صفرًا"؟ فرضية ماكنزي الأهم – تحويل معظم المزارعين إلى القطاع الرسمي بحلول 2035 – تواجه هواجس اجتماعية وأمنية شائكة. التجارب السابقة لإحلال زراعات بديلة (زعتر، عنب) أخفقت لأن هوامش ربحها لا تداني أرباح الحشيشة. كما أن نماذج التحريش العشوائي والحملات الأمنية لتلف المحاصيل زادت الشرخ بين الدولة وأهل المنطقة، وأدّت إلى دورنة اقتصاد غير رسمي يحكمه سماسرة وسلاح. لذا تصبح الحوافز المالية والضمانات القانونية شرطًا لا مفر منه لنجاح المشروع. فجوة التشريع… والتنافسية الدولية لعبة الوقت تشكّل متغيرًا حاسمًا. الأسواق الكبرى – كندا، هولندا، أوروغواي، وأستراليا – سبقت لبنان بسنوات في وضع قواعد اللعب والتصدير. ألمانيا، مثلًا، تستورد 90 في المئة من احتياجاتها من القنب الطبي، لكنها وقّعت منذ آذار 2024 عقودًا طويلة الأمد مع خمس دول، ما يقلص نافذة الفرص أمام الداخلين الجدد. وفوق ذلك يفرض الاتحاد الأوروبي تتبعًا صارمًا لمسار كل شحنة من المزرعة إلى المريض. لهذا فإن بناء سمعة "صنع في لبنان" سيحتاج إلى شهادتي "غلوبال غاب" و"جي إم بي" اللتين تفترضان بنية تحتية رقمية تمكّن السلطات من الرقابة اللحظية. هنا يبرز سؤال الجدوى: هل تكفي مزايا المناخ والتربة لجعل لبنان منافسًا؟ الدراسة الأولية التي أنجزتها كلية الزراعة في الجامعة الأميركية في بيروت عام 2023 تظهر أن تكلفة إنتاج الغرام الواحد من زيت القنب في بيوت بلاستيكية لبنانية لا تتعدى دولارًا واحدًا، مقابل 1.4 دولار في كندا و 1.2 دولار في البرتغال. الكلفة التنافسية حقيقة، لكنها هشة أمام اختناقات الكهرباء والتمويل وغياب الحوافز الضريبية. وبالتالي فإن أي تأخر في إصدار المراسيم أو انزلاق في التعقيدات البيروقراطية سيفقد لبنان امتيازه السعري، تمامًا كما حدث في ازدهار قطاع النبيذ ثم تعثّره أمام الرسوم الجمركية وكلفة النقل. البعد الاجتماعي: أهل البقاع بين الأمل والحذر قد يبدو للوهلة الأولى أن قرار الترخيص سيبعث البشرى في قلوب مزارعي بعلبك والهرمل الذين يعيشون على "الكيف" منذ الانتداب الفرنسي. لكن الواقع أكثر تعقيدًا؛ فالقانون الجديد يعرّف النبتة المسموح بها بأنها تلك التي تحتوي على نسبة THC أقل من 1 في المئة (بعد تعديلات اللجنة الفرعية)، فيما تتخطى النسبة في الأصناف المتوارثة 7–12 في المئة. بعبارة أوضح، البذور البلدية التي تعطي منتجًا يغري السوق السوداء أصبحت عمليًا خارج إطار الشرعية الجديدة. إنه فصل حاد بين اقتصاد غير رسمي مرتفع الربحية وآخر رسمي ربحيته أقل لكنه يعد بحماية قانونية واستقرار طويل الأمد. إشكالية أخرى تطفو وهي أن القانون خالٍ من أي "مفعول رجعي" أو مسار عفو للمزارعين الملاحقين منذ عقود. فهؤلاء عالقون بين ملفات أمام القضاء العسكري ومذكرات توقيف تثقل سجلًا مرهقًا للنظام الجزائي. وتجربة مشروع العفو العام الذي سقط في لجنة الإدارة والعدل عام 2018 تعلمنا أن العقبة ليست قانونية فحسب، بل سياسية وطائفية. ومن دون مقاربة إنمائية شاملة تعيد الثقة بين الدولة ومحيط القنب سيبقى جزء من الإنتاج في الظل، محافظًا على تسعيرة تفيض أرباحًا على جيوب النافذين، ومكبِّلًا أي قدرة للقطاع الرسمي على التوسع. وهنا يطرح خبراء التنمية الزراعية صيغة "رخصة انتقالية" (Transitional License) تُمنَح للمزارع القائم ريثما يستوفي معايير الزراعات المراقَبة خلال ثلاث سنوات، مع جدول تقسيط للرسوم السنوية. هيكلية الضرائب وآلية تقاسم الريع من منظور مالي يُفترض أن يمول قطاع القنب خزينة الدولة عبر عنصرين: رسم الإنتاج (Excise) ورسم القيمة المضافة على المنتجات التحويلية. لكن المقاربة الحكيمة، بحسب الاختصاصيين، هي هندسة ضريبة متدرجة تحفز الاستثمار أولًا ثم تزيد الاقتطاع مع اقتراب القطاع من مرحلة النضج. فاستيفاء 15 في المئة من عائدات البيع في السنوات الثلاث الأولى ثم رفعها تدريجيًا إلى 25 في المئة قد يوازن بين جاذبية الاستثمار وحصيلة الخزينة. بين "الحشيشة" غير الشرعية و"القنب" الطبي المنظَّم يقف لبنان أمام خيار تاريخي: اختبار قدرة الدولة على إنتاج سياسة عامة تتجاوز الشعبوية، وعلى بناء مؤسسة تنظيمية ذات صدقية، وعلى مداواة جروح الإنماء غير المتوازن في البقاع. الرهان ليس ماديًا فحسب؛ إنه أيضًا رهان على استعادة الثقة بين الدولة والمزارع، بين الاقتصاد الشرعي و"اقتصاد الظل"، وعلى تحويل لبنان من ممر تهريب إلى منصة تصدير مستدامة. إذا نجحت الحكومة في إرساء قواعد اللعبة بشفافية وحوكمة سيصبح القنب نموذجًا لما يمكن لاقتصاد عالي القيمة قائم على المعرفة الزراعية والصناعات الدوائية أن يحققه لبلد يختنق بأزماته. أمّا إذا تعثّرت – كما تعثرت مشاريع كثيرة من قبل – فإن الخيبة ستعمق أزمة الريف، وتعيد إنتاج الدورة المفرغة بين التهميش والهشاشة الأمنية. في الميزان الأخير لا يملك لبنان ترف إضاعة فرصة جديدة؛ فقيمة القنب ليست في بذوره وأزهاره فحسب، بل في قدرته على إثبات أن الإصلاح الاقتصادي ممكن حين تتقدم الإرادة السياسية ويصاغ التشريع على أساس العلم وحسابات الجدوى لا المحاصصة والصفقات العمياء.