
هل تلاعب نتنياهو بالمفاوضات على مدى عامين؟
لكن حماس ترد على ذلك في كل مرة بأنها أبدت مرونة وتجاوبا مع المقترحات التي يقدمها الوسطاء، ووافقت عليها في أكثر من مناسبة، متهمة نتنياهو "بالتلاعب" وإعاقة التوصل إلى حل شامل يضمن وقفا دائما لإطلاق النار. وهذا ما أيدته أطراف إقليمية ودولية قائلة إن العراقيل الأساسية أمام أي اتفاق تأتي من الجانب الإسرائيلي.
"تلاعب" نتنياهو هذا تجلى في الأيام الأخيرة، قبيل زيارته لواشنطن ولقائه الرئيس الأميركي دونالد ترامب ، حيث أرسل في الوقت نفسه وفدا للدوحة من أجل التفاوض، في مشهد يوحي أمام الغرب بأنه جاد فعلا في الوصول إلى اتفاق مع المقاومة الفلسطينية، وعندما نجحت زيارته وعاد من الغرب أعلن اليوم الأحد أنه وافق على مقترح المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف ، ومقترح الوسطاء لإنجاز صفقة تبادل، لكن حماس هي التي رفضت.
وفي مقابلات مع الجزيرة نت، يتناول باحثون وخبراء في الشأن الإسرائيلي الأسباب التي تدفع رئيس الوزراء الإسرائيلي لاتباع هذا السلوك المتكرر مع كل مشروع اتفاق، والمبررات التي يستند إليها، والأهداف التي يسعى لتحقيها من ذلك، وكيف يمكن للوسطاء وللمقاومة التعامل مع مثل هذا السلوك الذي ينتهجه نتنياهو؟
مبررات نتنياهو
ومع تكرار السيناريو نفسه من قبل نتنياهو، تصبح المبررات التي يسوقها واهية ولا تستند إلى منطق حقيقي مرتبط بما يسوقه ضد الطرف الفلسطيني في سبيل تلاعبه بالمفاوضات وهروبه من بعض محطاتها، حسب ما يراه مدير مركز رؤية للتنمية السياسية أحمد عطاونة.
فالفلسطينيون -حسب عطاونة- التزموا مرارا وبشكل حرفي بما يتم الاتفاق عليه، كما حدث في اتفاق يناير/تشرين الثاني الماضي، لكن نتنياهو سرعان ما انقلب عليه على نحو مفاجئ في مارس/آذار الماضي.
وهذا السلوك من قبل نتنياهو لا يجد عطاونة مبررا له إلا الدعم المطلق من الولايات المتحدة والغرب، "فهو لا يستند إلى أي منطق سوى منطق القوة وضمان الإسناد الغربي الدائم".
أما المحلل السياسي والباحث في العلاقات الدولية والإستراتيجية عبد الله عقرباوي فيرى أن الغرض من دخول نتنياهو جولة التفاوض الأخيرة لم يكن تحقيق صفقة حقيقية، بل احتياج داخلي لتمرير زيارته إلى واشنطن وتحسين صورته عند ترامب وتخفيف الضغوط عليه.
ومن أجل ذلك لجأ إلى تقديم ورقة تفاوضية "هي الأسوأ" لمنع الوصول إلى أي اتفاق، بهدف كسب صورة التفاوض فقط ولضمان إفشال أي إمكانية حقيقية للوصول لاتفاق، حسب ما قاله عقرباوي.
ويذهب الباحث نفسه إلى أن هناك توافقا إستراتيجيا بين نتنياهو والإدارة الأميركية (الحالية والسابقة) حول أهداف الحرب في غزة، وأن نتنياهو يبرر عدم الوصول للاتفاق بأن أهدافه من الحرب لم تتحقق بعد، كما يستخدم ضغوط شركائه في الحكومة اليمينية لتبرير هذا التعنت، ويجد في ترامب حليفًا يشاركه هذه الرواية عبر دعم قانوني وسياسي.
لكن هذا "التلاعب" لدى نتنياهو يأخذ مستوى أكبر عند الباحث السياسي والخبير في الشأن الإسرائيلي ساري عرابي، إذ يذهب إلى أن نتنياهو يمتلك قابلية عالية للتلاعب ليس فقط بالأطراف الفلسطينية والدولية، بل أيضًا بالمجتمع الإسرائيلي نفسه (أهالي الأسرى، والمعارضة، وأطراف الائتلاف)، ويستغل موقعه ومعلوماته الأمنية والسياسية للبقاء في السلطة وتثبيت خطته.
ويضيف عرابي أن نتنياهو يسوق مبررات سياسية أمام المجتمع الإسرائيلي، ويسوّق لمسألة تغييره وجه الشرق الأوسط وتحقيق إنجازات أمنية وجيوسياسية يجب أن تكتمل، ولهذا يُطلب منه الصبر وتحمل الأثمان".
أهداف نتنياهو
المحللون والخبراء في تصريحاتهم للجزيرة نت أجمعوا على أن أهداف "تلاعب" نتنياهو بالمفاوضات متعددة المستويات والاتجاهات، وبعضها يكون داخليا والأخرى قد تشمل النواحي الإقليمية أو الدولية، ويمكن إجمالها في النقاط التالية:
أولا- أهداف إستراتيجية بعيدة المدى:
وتتمثل في استكمال مشروع تدمير بنية المقاومة في غزة، وتجريدها من السلاح، وتغيير المشهد السياسي والمقاوم لمنع تكرار مشهد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ، بالإضافة إلى مشروع تغيير وجه الشرق الأوسط لصالح إسرائيل عسكريا واقتصاديا وسياسيا وتوسيع الاتفاقيات الإبراهيمية والتطبيعية.
ثانيا- أهداف تكتيكية داخلية:
ويأتي على رأسها الحفاظ على التحالف الحكومي اليميني وعدم الذهاب لانتخابات مبكرة إلا عندما يطمئن نتنياهو إلى نتائجها، وتنفيذ تغييرات في مؤسسات الدولة (بنية المؤسسة الأمنية والعسكرية والحرب على الدولة العميقة).
ثالثا- أهداف على المستوى الفلسطيني:
مثل تصفية الكيان السياسي الفلسطيني والقضية الوطنية عبر ضم الضفة وتعزيز الاستيطان.
رابعا- أهداف شخصية ترتبط بنتنياهو نفسه:
الأمر هنا لا يقف عند الحفاظ على ائتلافه الحاكم، بل يمتد إلى الخوف من خروجه شخصيا من المشهد السياسي مصحوبا بعار قانوني أو تاريخي، والتأسيس لنفسه كصاحب إنجاز تاريخي بوصفه "بطل إسرائيل الذي استطاع الحفاظ على الدولة، ومحا عار 7 أكتوبر".
كيف التعامل مع نتنياهو؟
أمام هذا السلوك، يشدد عطاونة على أن خيار المقاومة الفلسطينية هو الخيار الوحيد المجرب تاريخيًا؛ فقد نجح الفلسطينيون مرارا في تعطيل مشاريع الاحتلال (التهجير، والتوطين، وروابط القرى، والسلام الاقتصادي)، مؤكدا أن الفلسطينيين رغم معاناتهم قادرون على إفشال السياسات الإسرائيلية.
كما طالب مدير مركز رؤية للتنمية السياسية بأن يكون الوسطاء أكثر وضوحًا في تحميل الاحتلال المسؤولية عن تعطيل الاتفاقيات، وألا تبقى الضمانات بيد الولايات المتحدة فقط، بل ينبغي إشراك قوى دولية أخرى ذات تأثير في عمليات الوساطة.
وليس بعيدا عن ذلك جاء رأي عقرباوي، إذ يرى أن السبيل الوحيد لإنهاء العدوان هو كسر آلة الاحتلال عسكريًا في الميدان، لأن الضغط العسكري ينعكس على القيادات السياسية ويزعزع الائتلاف ويؤدي إلى تآكل التأييد الشعبي مع الزمن.
أما فيما يخص العملية التفاوضية، فيذهب الباحث نفسه إلى أنه ينبغي على المقاومة وقف قبول أي اتفاقيات جزئية لا تضمن وقف إطلاق النار الدائم، لأن مثل هذه الاتفاقات تدعم إستراتيجية نتنياهو وتقوي موقفه وتمنحه مكاسب من دون تحقيق الأهداف الفلسطينية.
أما عرابي فيرى أن معضلة المقاومة تكمن في موازين القوة شديدة الاختلال لصالح الاحتلال، ويتوجب على المقاومة الصمود حتى النفس الأخير، ورفض أي صفقات تكرس مشاريع الاحتلال، مثل مخيمات الاعتقال أو المدن الإنسانية أو التمهيد للتهجير.
كما يشير الخبير في الشأن الإسرائيلي إلى أن دور الوسطاء يظل محدودا للغاية بسبب تحكم القرار الأميركي والإسرائيلي الكامل في مجرى المفاوضات، مما يحتم على المقاومة مواصلة المواجهة، مع مراعاة ضرورة البحث عن حلول إنسانية عاجلة للفلسطينيين داخل القطاع.
وعلى مدى ما يقرب من عامين، استضافت الدوحة عدة جولات من المفاوضات بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، وفشلت جميعها في التوصل إلى وقف إطلاق النار والعدوان المستمر على قطاع غزة منذ نحو عامين، إلا في محطة واحدة مطلع العام الحالي قبيل تولي ترامب مقاليد الحكم في أميركا، لكن سرعان ما أفشل نتنياهو هذا الاتفاق وعاد لقصف القطاع.
وأوقع العدوان الإسرائيلي نحو 197 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، وأكثر من 10 آلاف مفقود تحت ركام منازلهم أو في الطرق والشوارع بعد عجز فرق الإسعاف والدفاع المدني عن الوصول إليهم نتيجة القصف الإسرائيلي المستمر، حسب إحصاءات وزارة الصحة في غزة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 22 دقائق
- الجزيرة
الأنصاري: فرق التفاوض لا تزال في الدوحة ولا موعد لزيارة ويتكوف
قال المتحدث باسم وزارة الخارجية القطرية ماجد الأنصاري إن المفاوضات لوقف إطلاق النار في قطاع غزة لا تزال في المرحلة الأولى، مؤكدا أن فرق التفاوض لا تزال في الدوحة وأن قطر تواصل جهودها للوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة بأسرع وقت ممكن. وأضاف الأنصاري في مؤتمر صحفي عقده في الدوحة أن ما يجب أن يتم دوليا هو إيقاف السلوك العبثي الإسرائيلي في المنطقة، موضحا أنه لا يوجد موعد زمني لزيارة المبعوث الأميركي ويتكوف إلى الدوحة. على صعيد آخر، رحب المتحدث باسم الخارجية القطرية بالخطوات التي اتخذتها الحكومة السورية لإنهاء الاحتقان في السويداء. وفيما يلي أهم ما ورد في المؤتمر على لسان المتحدث باسم الخارجية القطرية: المفاوضات لوقف إطلاق النار في قطاع غزة لا تزال في المرحلة الأولى للتوصل لاتفاق مبادئ. جهودنا مستمرة للوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة بأسرع وقت ممكن. فرق التفاوض لا تزال في الدوحة والتوجه هو الوصول لاتفاق مبادئ بشأن غزة. ليس لدينا موعد زمني لزيارة المبعوث الأميركي ويتكوف إلى الدوحة. هناك تواصل كثيف سواء في الدوحة أو الولايات المتحدة للتوصل لاتفاق بشأن غزة. اللقاءات مستمرة في الدوحة بشأن غزة للوصول إلى إطار تفاوضي. نرحب بالخطوات التي اتخذتها الحكومة السورية لإنهاء الاحتقان في السويداء. ندين السياسات الإسرائيلية غير المسؤولة في المنطقة. لقاءاتنا مع طرفي الصراع بشأن غزة تتم معهما كل على حدة للتوصل إلى اتفاق إطار. لا يمكننا أن نقبل حالة غياب المساءلة للسلوك العبثي الإسرائيلي في المنطقة. ما يجب أن يتم دوليا هو إيقاف السلوك العبثي الإسرائيلي في المنطقة. ما دامت هناك لقاءات في الدوحة هذا يعني أن المفاوضات بشأن غزة مستمرة. ليس هناك جمود بشأن المحادثات للتوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة. لا يمكن لأي وسيط أن يضع مدى زمنيا للمفاوضات سواء بشأن غزة أو أي ملف آخر. غير معنيين بتصريحات أصحاب التكسب السياسي في القضايا وجهودنا مستمرة بشأن غزة. الاتفاق الإطاري سيكون الأساس الذي ستنطلق منه المحادثات غير المباشرة.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
بناء الاستقرار الإقليمي من رماد حرب نتنياهو على الاتفاق النووي
قبل عشرة أعوام، انضممتُ إلى نظرائي من الصين، وفرنسا، وألمانيا، وروسيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي؛ للإعلان عن إنجاز دبلوماسي فريد، أنهى سلميًّا أزمة غير ضرورية، أُسست على أكاذيب وسياسة فجّة لتأزيم الوضع الأمني؛ بهدف صرف انتباه العالم عن التهديد النووي الحقيقي للسلام في غرب آسيا. احتفل العالم بأسره بإبرام الاتفاق النووي الإيراني، المعروف رسميًا باسم: "خطة العمل الشاملة المشتركة" (JCPOA)، إلا أن نتنياهو وقادة نظام الفصل العنصري النووي الإسرائيلي رأوا- وما زالوا يرون- في السلام والاستقرار "التهديد الوجوديّ" الحقيقيّ، وقد تعهدوا علنًا بتدمير هذا الاتفاق. واليوم، يعمل بعض مَن تولّوا المسؤولية بعدنا ما في وسعهم للتعامل مع تبعات عدوان وقع وسط مفاوضات نووية جديدة. هذا العدوان ارتكبته قوة مارقة في غرب آسيا تمتلك أسلحة نووية وليست عضوًا في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، واستهدفت منشآت نووية مؤمّنة لدولة عضوٍ في المعاهدة، وقرنت ذلك بجرائم حرب أخرى من قصف للأحياء المدنية، ومراكز رعاية الأطفال، والعلماء، والقادة العسكريين أثناء إجازاتهم. والواقع أن جزّار غزة ذهب حتى أبعد من ذلك، حين استهدف قادة الدولة، في انتهاك لموروث إنساني عمره آلاف السنين، وهو ما يكشف بوضوح المسعى العلني والمقصود لإغراق المنطقة في الفوضى وعدم الاستقرار. وحين تعثرت حملة هذا المعتدي المارق، هُرعت الدولة الوحيدة التي استخدمت السلاح النووي إلى نجدته، فهاجمت ، بتهوّر ، منشآت نووية سلمية، في محاولة يائسة لوقف التقدّم الإيراني في مجال الطاقة النووية السلمية. ويا للمفارقة!، فمعظم هذا التقدّم تم بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق بشكل أحادي. وفي الوقت ذاته، كان المسؤولون الجدد في الدول الأوروبية الثلاث (E3) والاتحاد الأوروبي- الذين حلّوا محل نظرائي السابقين- يتفاخرون بأن "نتنياهو يقوم بالأعمال القذرة نيابةً عنهم"، وراحوا يهددون، بسوء نية مطلق، بتفعيل "آلية فض النزاع" المنصوص عليها في الاتفاق النووي، وقرار مجلس الأمن رقم 2231. لقد قاموا بذلك رغم أنهم، قولًا وفعلًا، قد أنهوا عمليًا صفتهم كأطراف في الاتفاق، عندما تبرَّؤُوا من ركنه الأساسي؛ فطالبوا بتفكيك برنامج إيران السلمي لتخصيب اليورانيوم، عندما فشلوا -بصورة فاضحة- في الوفاء حتى بالحد الأدنى من التزاماتهم الاقتصادية والمالية تجاه إيران، وذلك طوال سبعة من الأعوام العشرة الماضية على الأقل. ففي 20 يوليو/ تموز 2021، قدّمتُ حجة قانونية مفصّلة من 140 صفحة للأمين العام للأمم المتحدة، نشرت لاحقًا كوثيقة للجمعية العامة (A/75/968)، ولمجلس الأمن (S/2021/669)، شرحت فيها عدم أهلية الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية الثلاث لتفعيل آلية فض النزاع والتي يُطلقون عليها زيفًا "آلية التراجع التلقائيّ" (Snapback)، وهي عبارة لم ترد قط في نص الاتفاق، ولا في قرار مجلس الأمن. هذه الحجة القانونية التي وثّقتُها دعمتها الآن تصريحات وسلوكيات لاحقة من قبل الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية الثلاث، أعلنوا فيها بوضوح انسحابهم من وضع "الشركاء في الاتفاق النووي". لقد دحضت القوات المسلحة الإيرانية، مرة أخرى، وبقدراتها العسكرية المحلية، أسطورة إسرائيل التي لا تقهر، وكشفت هشاشة هذا التغطرُس، فيما أحبط الشعب الإيراني الشجاع والمعتز بكرامته أوهام نتنياهو وزمرته في تفكيك إيران. وأثبتت إيران مجددًا أنه حتى إذا اجتمعت قوتان نوويتان فإنهما لا تستطيعان تركيع دولة ذات حضارة عمرها آلاف السنين. غير أن الأمر قد بات جليًّا الآن: فوَهْم إسرائيل في الهيمنة الإقليمية و"العدوان حسب الطلب" يقوم على زعزعة استقرار إيران، تليها قوى إقليمية أخرى، لتكون النتيجة هي الفوضى والانقسام والخراب في دول غرب آسيا الإسلامية. هذا ليس في مصلحة دول المنطقة، ولا في مصلحة أصدقائنا في الصين وروسيا، اللتين تقوم مصالحهما الوطنية على الاستقرار، كما أنه لا يتّسق مع التوجّه الإستراتيجي للولايات المتحدة وأوروبا. لكنّ نتنياهو ومنافقيه من أنصار "بيبي أولًا" في الغرب أظهروا أنهم قساة لدرجة إغراق العالم في حروب لا تنتهي، لا لشيء إلا ليُطيلوا أعمارهم السياسية الفاسدة وأوهامهم التوسعية المبنية على الفصل العنصري والإبادة الجماعية والعدوان على جيرانهم العرب، مشفعين ذلك بالابتزاز والفضائح المتواصلة والضغط غير المشروع في الغرب. وعليه فإن المجتمع الدولي مطالب بأن يبادر فورًا إلى معالجة هذا التهديد الجذري للسلام والأمن الإقليمي والعالمي، والذي يهدد كذلك المصالح الوطنية لمعظم الدول، ويقوّض رفاه شعوب المنطقة وخارجها. لقد شهدت بنفسي، خلال أكثر من أربعة عقود من العمل الدبلوماسي -ومنها السعي الإسرائيلي الموثق لتعطيل مفاوضات تبادل الرهائن الأميركيين في لبنان بأسرى لبنانيين وفلسطينيين في إسرائيل عام 1991- شهدت أن النخبة السياسية الإسرائيلية مستعدة دائمًا للتضحية بكنوز وأرواح وحريات أقرب حلفائها من أجل مكاسب تافهة. كل من يتوهم أن إسرائيل ستمنحه الأمن والمساعدة سيستيقظ يومًا على الحقيقة المرّة: لقد جُعِل خطًا دفاعيًا أوليًا لإسرائيل دون مقابل. والحقيقة أن مرتكز سياسة نتنياهو هو الفوضى والشقاق وعدم الاستقرار. والتهديد الوجودي الحقيقي -في نظرهم- هو التعاون الإقليمي، سواء تمثّل في إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط (وهو المطلب الذي اعتمدته الجمعية العامة منذ 1974)، أو من خلال صيغة للأمن والتعاون في منطقة مضيق هرمز، كما جاء في الفقرة 8 من قرار مجلس الأمن رقم 598 (الصادر 1987). وكما قال رئيس وزراء قطر السابق بذكاء، فإن منطقتنا- بل والعالم أجمع، بمن في ذلك أعضاءُ مجلس الأمن الدائمون- لا يمكن أن تزدهر وهي تعيش تحت ظلال مغامرات إقليمية جديدة مدفوعة بأجندات داخلية إسرائيلية. لقد آن الأوان كي يتخذ مجلس الأمن خطوات عملية لوضع إطار إقليمي للحوار، وبناء الثقة، والتعاون بين دول منطقة هرمز أو غرب آسيا الإسلامية، تحت مظلة مناسبة من الضمانات الدولية من مجلس الأمن وأعضائه الدائمين. لقد طرحت إيران مبادرات واضحة لتعزيز الأمن الإقليمي، مثل: "مبادرة هرمز للسلام" (HOPE) 2019، و"رابطة حوار غرب آسيا الإسلامي" (MWADA) 2024. وهذه المبادرات تمثّل دعوات مفتوحة للحوار والتعاون، وكل دولة في المنطقة أو خارجها معنية بشكل مباشر بإفشال مخططات زعزعة الاستقرار الإقليمي. واليوم، فإن على دول المنطقة التي يشملها نطاق مبادرتَي HOPE وMWADA -بما في ذلك البحرين، ومصر، والعراق، والأردن، والكويت، وعُمان، وقطر، والسعودية، وسوريا، وتركيا، والإمارات، واليمن- وبعد أن شاهدت بنفسها بعض ملامح المستقبل الخطير الذي تخطط له إسرائيل، أن تنهض بمسؤولياتها، وتبادر إلى تقديم مقترحات فردية أو جماعية، سواء لتطوير المبادرات الإيرانية القائمة أو لعرض تصورات بديلة. وينبغي لهذه الدول أن تتحرّك معًا، وبدون مزيد من التأخير، وتدعو مجلس الأمن إلى إصدار قرار يدعم ترتيبات إقليمية، تقوم أساسًا على رؤية مشتركة تتفق عليها دول المنطقة نفسها. لقد بيّنت السنوات العشر منذ توقيع الاتفاق النووي أن سياسة الإكراه تضر حتى بمن يبدأ بها. أما الدبلوماسية، من أجل مستقبل قائم على الرؤية المشتركة، والأمل، والمكاسب المتبادلة، فهي كانت، وستظل إلى الأبد، الخيار المعقول الوحيد. والوقت لا يرحم.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
مدينة "الخليل" بين تضييق الاحتلال وحيرة التساؤلات
في الأسابيع الأخيرة، بدأت شوارع مدينة الخليل الفلسطينية تشهد مشاهد غير معتادة من التعزيزات العسكرية الإسرائيلية المكثفة، ما دفع السكان إلى طرح تساؤلات مريرة حول الأسباب الكامنة وراء هذا الانتشار غير المسبوق. ويبدو أن الدوريات العسكرية لم تعد تمر مرورًا عابرًا كما كان الحال سابقًا، بل أصبحت تتحرك ببطء، تتوقف في أماكن معينة، وتقوم بإغلاق الشوارع بشكل مفاجئ، ما يعطل حركة المارّة ويربك حياة السكان. ويبدو أن هناك نشاطًا استخباراتيًّا إسرائيليًّا واسع النطاق في المدينة، يستهدف بالدرجة الأولى أفرادًا يُعتقد انتماؤهم لحركة حماس، وسط تكتم شديد من جانب الاحتلال حول طبيعة هذا التحرك وتوقيته وأهدافه المباشرة. وفي خضم هذه الحالة من التضييق، يشعر السكان بأنهم يعيشون تحت مراقبة دائمة، حيث تنتشر الكاميرات، وتزداد وتيرة الاستجوابات العشوائية، ويُطلب من المارة أحيانًا فتح هواتفهم المحمولة للتفتيش. ربما تحولت الكيلو إلى سلسلة من العرقلة اليومية، بدءًا من إغلاق الشوارع ومرورًا بالتفتيش اليومي حتى التأخير لساعات على الحواجز، لجعل الحياة قاسية وصعبة. لكن تأتي هذه التحركات في وقت تشهد الضفة الغربية فيه توترات أمنية متصاعدة، وسط أحاديث عن نية إسرائيل توسيع عملياتها ضد عناصر تصفهم بـ"الناشطين المسلحين"، خاصة في المدن التي تعتبرها "حاضنة" للفصائل. وفي الخليل، يُنظر إلى هذه الإجراءات على أنها خطوة استباقية لكبح أي تحركات مستقبلية، لكنها في الواقع تعمّق عزلة السكان، وتضعهم في حالة اشتباك نفسي دائم مع المجهول. ما يثير قلق الأهالي أكثر هو الصمت الدولي تجاه هذه السياسات، التي تعطل حياة عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، دون أن تقابَل بأي مساءلة حقيقية أو حتى اهتمام إعلامي واسع. وفيما تواصل القوات الإسرائيلية تنفيذ عملياتها الأمنية المكثفة، تزداد وتيرة التوتر داخل المدينة، حيث يشعر الشباب على وجه الخصوص بأنهم تحت الاشتباه المستمر لمجرد كونهم من الخليل. كما أن البيوت الفلسطينية، التي لطالما قاومت الجدران والحواجز، باتت اليوم محاطة بعشرات النقاط العسكرية، الأمر الذي يطرح تساؤلًا حقيقيًا: هل تحوّلت المدينة العتيقة إلى ساحة تصفية استخباراتية مفتوحة؟ في انتظار الإجابات، يعيش الأهالي يومهم كأنهم في حقل ألغام، لا يعلمون متى ينفجر الغضب الشعبي، أو متى ستنتهي "الحملة الأمنية" التي باتت تسرق من الخليل روحها ربما تكون هذه الحملة الأمنية الواسعة مرتبطة بمحاولات إسرائيل لكسر أي بنية تنظيمية لحماس في الضفة الغربية، ضمن ما تسميه بـ"إستراتيجية الردع المبكر"، لكن هذا الردع، يتم على حساب حقوق الإنسان الأساسية، مثل حرية التنقل، وحق العيش بكرامة، والتنفس دون خوف من تفتيش أو اعتقال. وفي ظل هذا الواقع القاسي، يجد الفلسطينيون في الخليل أنفسهم بين مطرقة الاحتلال وسندان الغموض، وسط أسئلة تتكرر يوميًّا: إلى متى سيستمر هذا التوتر؟ وهل المدينة مرشحة لموجة قمع أشد في الأسابيع المقبلة؟ ويبقى الأكيد أن الخليل، بجغرافيتها الخاصة وتركيبتها الاجتماعية، ستظل بؤرة مشتعلة ما لم يُكسر هذا النمط من الضغط الأمني الخانق، ويُفتح أفق لحل يضمن كرامة الناس بدلًا من ملاحقتهم. وفي انتظار الإجابات، يعيش الأهالي يومهم كأنهم في حقل ألغام، لا يعلمون متى ينفجر الغضب الشعبي، أو متى ستنتهي "الحملة الأمنية" التي باتت تسرق من الخليل روحها.