logo
الأدب والألم: كيف يولد الجمال من رماد البؤس؟

الأدب والألم: كيف يولد الجمال من رماد البؤس؟

الجزيرةمنذ 5 أيام
كتب بول فيرلين في القرن التاسع عشر عنوانًا صار لاحقًا تسميةً لجيلٍ كامل من الحالمين المعذَّبين: "الشعراء الملعونون". بكلماتٍ قليلةٍ منح هؤلاء المبدعين هويتهم الأعمق: غرباء عن المجتمع، عن قواعده الوديعة، عن طمأنينته المزيّفة، عن الأحلام الآمنة التي لا تهزّ شيئًا. كانوا – وما زالوا – يكتبون في هامش الحياة، ويعيشون على الحافة نفسها التي يخشى الناس الاقتراب منها، ثم يتركون وراءهم نصوصًا تلتمع كنيازك صغيرةٍ على عتبة العدم.
فيرلين صنّف تريستان كوربيير، وآرثر رامبو، وستيفان مالارميه، ثم عاد في طبعة لاحقة ليضيف اسمه إلى اللائحة، كأنه يعلن انتماءه بنفسه إلى لعنةٍ كان هو أول من سمّاها. ثم امتدّ المصطلح ليضمّ أسماءً أخرى لم يحتملها زمانها: اللورد بايرون، جون كيتس، جيرار دو نيرفال، إدغار آلان بو، شارل بودلير، أنطونين آرتو… قائمة طويلة لنجومٍ سقطوا قبل أن يروا وهجهم يسطع. وإذا كان العالم قد عرف «الشعراء الملعونين» على يد فيرلين وبودلير ورامبو، فإن للثقافة العربية أيضًا تاريخًا حافلًا بمن طرزوا دواوينهم بخيوطٍ من وجعٍ لا يُخفى.
أبو الطيب المتنبي مثلًا، الذي لم يُساوم على كرامته، عاش معظم أيامه مشردًا هاربًا من حسد الأمراء وخيانة الرفاق، وكتب أجمل شعره بين أسفارٍ وحروبٍ وخيباتٍ مريرةٍ مع الكبار والصغار معًا. يقول:
رماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاء من نبالِ..
ف حتى القويّ الفخور بأناه الهائلة كان يعرف طعم الخيبة والمرارة والخذلان.
ولن ننسى المعري، الذي فقد بصره صغيرًا، ثم فقد حنان أسرته واحدًا بعد آخر، فغرق في عزلته الكبرى، وكتب روائعه كأنما يحاور العالم كله بلسانه وحده، ساخرًا من البشر، عاشقًا للمعنى، متشككًا حتى في بديهيات زمانه. ومع ذلك ترك أبياتًا من أصفى ما خطه شاعر، وأوصى أن يُكتب على قبره:
ثم هناك بدر شاكر السياب، الذي أضاء الشعر الحرّ بجسده المريض. تآكل جسده مرضًا وفقْرًا ونفيًا، لكنه في لياليه الطويلة في سريرٍ المرض، كتب ما صار اليوم نبراسًا لجيلٍ بأكمله. قصائده الأخيرة تكاد تشبه آهاته. قال ذات مرة:
حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق.
كأنما الجمال يولد من ظلال الفقر والمنفى.
إعلان
وإذا تقدّمنا قليلًا وجدنا غسان كنفاني: منفيٌ آخر، صحفي وكاتب وروائي، عاش كل عمره القصير وهو يعرف أن الموت يلاحقه في حقيبة السفر. لم ينعم بدارٍ ولا أرضٍ ثابتة، ومع ذلك صاغ من غربته بيوتًا من قصصٍ ومقالاتٍ بقيت شاهدًا حيًّا على أن فلسطين يمكن أن تُروى حتى من دمٍ لم يجفّ بعد. وحتى في حاضرنا القريب نرى شعراء وكُتّابًا عربًا عاشوا في الظلّ رغم موهبتهم: مات محمود درويش والمنفى في جيبه، وظلّ نزار قباني يرثي من أحبّهم واحدًا تلو الآخر: ابنه توفيق، زوجته بلقيس… وعندنا في موريتانيا أمثلة كثير من فاضل أمين إلى المرحوم الشيخ بلعمش..
إن البيت الذي نكتبه لا يجمّل حياتنا بقدر ما يبررها. والقصيدة الجيدة ليست مخدّةً وثيرَة، بل هي ضمادةٌ على جرحٍ قديم، أو شاهدٌ على جرحٍ لم يندمل بعد. لكن ما معنى أن يكون الشاعر ملعونًا؟ إنه باختصار إنسانٌ رفض الامتثال للشائع والعامّ، إنه غريب الأطوار متقلب الأمزجة. ليس اجتماعيًا حتى مع نفسه، يعاند الحظ ويدمّر نفسه ببطء، أو يحرقها دفعةً واحدة، ليترك وراءه جُملةً أو بيتًا أو ديوانًا لا يشبه غيره.
إن البيت الذي نكتبه لا يجمّل حياتنا بقدر ما يبررها. والقصيدة الجيدة ليست مخدّةً وثيرَة، بل هي ضمادةٌ على جرحٍ قديم، أو شاهدٌ على جرحٍ لم يندمل بعد. لكن ما معنى أن يكون الشاعر ملعونًا؟ إنه باختصار إنسانٌ رفض الامتثال للشائع والعامّ، إنه غريب الأطوار متقلب الأمزجة. ليس اجتماعيًا حتى مع نفسه، يعاند الحظ ويدمّر نفسه ببطء، أو يحرقها دفعةً واحدة، ليترك وراءه جُملةً أو بيتًا أو ديوانًا لا يشبه غيره.
ربما لا مثال أصدق من شارل بودلير. رجلٌ حمل أزهارًا سماها «أزهار الشر»، فنُعتت قصائده بالمريضة والمنحرفة، حتى إن جريدة "لو فيغارو" كتبت وقتها أن ديوانه ليس سوى مستشفى مفتوح على كل عاهات الروح وتعفّنات القلب. لكن تلك القصائد التي حاكموه من أجلها وغرّموه عليها خمسين ألف فرنك، هي نفسها التي جعلت الأدب الفرنسي – فيما بعد – ينحني أمام اسمه.
غادر بودلير إلى بلجيكا ليهرب من عقوبة السجن، ولم يسانده في باريس من الكتّاب إلا صوتٌ بعيدٌ في المنفى: فيكتور هوغو، الذي كتب له في رسالةٍ خالدة: "أزهار شرك تخطف الأبصار… تشع على العالم كالكواكب والنجوم".
ما الذي تركه بودلير؟ دواوين شعر، مريض كتب في قلبه خلاصًا من كآبة العالم، لحظات مكثّفة من السعادة حين كانت القصيدة تأتي إليه في قلب نوبةٍ سوداء. عاش منبوذًا، ومات قبل أن تعترف به حتى أمه. لكنه انتصر أخيرًا، فالذين وصفوه بالمريض، عادوا يدرّسون قصائده بعد قرنٍ كاملٍ من موته.
لم يكن بودلير وحده، رامبو الذي هرب من الشعر مبكرًا وفيرلين الذي كتب لعنته بيده، ومثلهم جيرار دو نيرفال الذي قضى أيامه الأخيرة يكتب عن الحلم قبل أن يلفّ حبلاً حول عنقه.
ولا ننسى إدغار آلان بو الذي مات غريبًا في زقاقٍ باردٍ بعدما ابتكر قصص الرعب والتحقيق قبل زمانها. وحتى نيتشه الذي كتب "هكذا تكلم زرادشت" ثم خذلته دماغه وهو في الأربعين، فكأن للعبقرية ضريبةً لا بدّ منها.
لكن التاريخ الأدبي ليس أسودَ كلّه، هناك وجوهٌ أخرى تشبه الضوء، مثل فيكتور هوغو الذي عاش ملكًا بين الكتّاب، ربح المال والحب والشهرة في حياته كلها تقريبًا، لكنه لم ينجُ كليًّا من لعنة الأدب: فقد دفن أبناءه واحدًا تلو الآخر، وجُنّ أخوه، وغرقت ابنته ليوبولدين غرقًا مروّعًا مع زوجها العاشق الذي حاول انتشالها فغرق معها، ليترك هوغو يكتب وهو يبكي عقودًا بعدها.
ما الذي يريد الأدب أن يقوله هنا؟
ليس شرطًا أن تكون الحياة مأساوية لتكتب نصًّا عظيمًا، لكنّ الحقيقة أن الجمال الأعلى في الأدب غالبًا ما يُولد في قلب ألمٍ هائل. إن القصيدة أو الرواية ليست لحظة تسليةٍ طريفة، بل حُفرٌ سرّية في جدار العالم. وحين نقرأ بودلير أو رامبو أو المتنبي أو المعري، فإننا لا نقرأ حروفًا مرتّبةً بعناية فقط – بل نقرأ ندوبًا عميقةً في روحٍ متعبةٍ، أصرّت أن تهدي القارئ خلاصها الصغير.
لذلك سيظلّ الأدب الكبير أقرب إلى شُرفةٍ مفتوحةٍ على الريح: يأتي إليه من يحتمل البرد كي يرى العالم من زاويةٍ غير مألوفة. سيظلّ الأدب أفضل شاهدٍ على أن الجمال الحقّ ليس رفاهيةً ولا زينةً تُعلّق على الرفوف، بل هبةٌ هشّةٌ يُدفع ثمنها من القلب أولًا. وهكذا، كلّما طويتَ ديوانًا أو روايةً تركها شاعرٌ ملعونٌ أو كاتبٌ مفجوع، تذكّر: هذا النص الجميل كان – يومًا – حريقًا في صدر صاحبه. وهذا هو السرّ البسيط: لا شيء بلا شيء… ولا قصيدة بلا ثمن.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

كيف عمّق فيلم "الحراس الخالدون 2" أزمة أبطاله بدلا من إنقاذهم؟
كيف عمّق فيلم "الحراس الخالدون 2" أزمة أبطاله بدلا من إنقاذهم؟

الجزيرة

timeمنذ 4 ساعات

  • الجزيرة

كيف عمّق فيلم "الحراس الخالدون 2" أزمة أبطاله بدلا من إنقاذهم؟

لعل أخطر ما في سلسلة أفلام "الحراس الخالدون" (The Old Guards)، خاصة بعد صدور الجزء الثاني منها، هو تلك العزلة التي أدت إلى ميلاد فكرة تجمع بين أفلام الحركة والنزوع الإنساني إلى الخلود وتجنب الموت، ومن ثم التعايش بين "الخالدين" و"الفانين". ورغم جنوح أفكار الأفلام الهوليودية بشكل خاص إلى الغريب والعجيب والمقزز أحيانا، ومنها أفلام مصاصي الدماء وأفلام الأشباح، وغيرها من المسوخ، فإن استعراض ثقافة الخالدين في صراعهم ضد عشاق الحروب وتجار وصناع السلاح لحماية البشرية منهم هي الأغرب على الإطلاق، ذلك أنها مع قربها من الواقع العالمي البائس، تحاول اختراع أبطال خارقين جدد وخالدين، لكن الفيلم يقبض على أرواحهم ويحولهم إلى بشر عاجزين عن الفعل في لحظات مفصلية. ورغم تغيير المخرج والاستعانة بكاتب سيناريو ثالث في الجزء الثاني من السلسلة، فإن فارق المستوى الفني بين العملين لم يكن كبيرا، إذ استمر ذلك التباطؤ في الإيقاع، وتبقى أزمة السلسلة في التجريد الذي يصعب استيعابه من قبل فئة المشاهدين البسطاء الذي لا يستطيعون تصور الخلود وعدم الموت والشفاء الفوري للإصابات مهما كانت خطورتها، وإذا استوعب المشاهد البسيط أن شخصا ما لا يموت، فإنه بالتأكد لن يستمر في تخيل ذلك الهم المترتب على العيش لعشرات القرون، والعبء الذي يثقل الذاكرة ويرهق الوجدان. صراع متعدد الاتجاهات يرتكز الصراع الرئيسي على الأسئلة الأخلاقية والوجودية المطروحة في الفيلم الأول، مع توسيع نطاق المخاطر إلى نطاق أكثر شمولية وعاطفية. في جوهره الصراع ثنائي: معركة خارجية ضد عدو جديد قوي يسعى لاستغلال الخالدين، وصراع داخلي بين أعضاء المجموعة وهم يواجهون الخيانة والخسارة والثمن النفسي للحياة الأبدية. يشتد الصراع الخارجي عندما تعود كوين، التي سجنت في أعماق المحيط، ليس كحليفة، بل كقوة معقدة وانتقامية، فقد زعزعت قرون من السجن والمعاناة نظرتها للعالم. وكانت هي وآندي (تشارليز ثيرون) تربطهما رابطة متينة، تعتقد كوين الآن أن خلودهما لا ينبغي إخفاؤه، بل استغلاله كسلاح. يخلق هذا الاختلاف قوة جديدة داخل المجموعة، ويتحدى مبادئهم الأخلاقية المتمثلة في حماية البشرية، لا حكمها. ويبرز الصراع الداخلي حول الثقة والهوية. آندي، التي أصبحت الآن فانية بعد فقدانها قدراتها، عليها أن تتصارع مع ضعفها الجديد، أما "نايل"، القادمة الجديدة من الجزء الأول، فتتولى دورًا حاسما، مما يخلق توترا بين الأجيال: بين المحاربين المخضرمين وصوت التغيير الصاعد. تواجه المجموعة انقسامات ليس فقط بسبب التهديدات الخارجية، ولكن أيضًا بسبب الأسرار القديمة، والإرهاق العاطفي، واختلاف الرؤى حول هدفهم. بينما يواجه الخالدون مصالح الشركات والجيش القوية التي تحاول تسخير موهبتهم لتحقيق الربح والسيطرة، يصبح السؤال: هل يمكنهم البقاء متحدين؟ أم أن عبء الحياة الأبدية -والندوب التي تتركها- سيدمرهم في النهاية من الداخل؟ عبء الخلود تبدأ أحداث فيلم "الحراس الخالدون 2" الذي يحتل قمة قائمة المشاهدة على منصة نتفليكس، بعد أحداث الفيلم الأول بفترة وجيزة، مصورا حالة المحاربين الخالدين بقيادة آندي في حالة تشتت، وإحباط. يدفعون ثمن انفرادهم بالخلود أو فقدهم إياه كما في حالة آندي. يجتمع الفريق لمواجهة تهديد شامل لا يتعلق بالبشرية فقط، بل يختبر أيضا ولاءهم وأخلاقهم وهدفهم كمحاربين قدماء يعيشون في العالم الحديث. تُضيف عودة كوين (فيرونيكا نغو)، التي كانت سجينة تحت سطح البحر لقرون، مسارا دراميا مغايرا، يضيف جديدا إلى ديناميكية المجموعة. تتبلور تيمة الفيلم في النهاية، ذلك أن ما بدأ كمهمة، سرعان ما تحول إلى محاسبة على الهوية والشعور بالذنب وثمن الخلود. يدور الجزء الأول حول عبء الحياة الأبدية، ويتعمق الثاني في دراسة التآكل العاطفي المصاحب لذلك العبء. ويستعرض الأثر النفسي للخلود، وكيف يُضعف الزمن ليس الجسد فحسب، بل المعنى والحب والإيمان بالهدف المرء، إذ إن كل شخصية مسكونة بالأرواح التي أزهقتها، والأشخاص الذين فقدتهم، وخفة عدم الانتماء الحقيقي لأي عصر. تستطيع أن تتأكد -من مجرد المشاهدة- أن ثمة ممثلة بديلة هي من أدت مشاهد القتال الخاصة بالنجمة القادمة من جنوب أفريقيا تشارلز ثيرون، إذ لا يتفق إيقاع الحركات القتالية وروحها مع أداء الشخصية الذي يبدو حساسا وعاطفيا إلى درجة كبيرة، مقابل تلك الروح العنيفة في المعارك. ولعل رد فعلها، الذي جاء هادئا، بعد خلود دام أكثر من 15 قرنا حين فقدت هذه القدرة لا يتفق أبدأ ومنطق الحكاية. وتقدم الممثلة ذات الأصول الأفريقية، كيكي لاين، دور "نايل"، بأداء بسيط يوازن بين المثالية والصراع الداخلي، أما "فيرونيكا نغو" أو كوين، فتقدم أداء شرسا ومقلقا إثر تحررها من سجن دام 500 عام، لكنها تقاتل -من دون منطق قوي- "آندي" التي خذلتها ولم تحاول تحريرها. يقدم كل من ماتياس شونارتس ومروان كنزاري ولوكا مارينيلي. أحزان الخالدين حاولت المخرجة فيكتوريا ماهوني أن تضفي طابعا أكثر حميمية في العمل، مبتعدةً عن القتال المتواصل، لتركز على تطور الشخصية، لكن ذلك التركيز أثر بشكل ما على إيقاع الفيلم، في حين استعرض السيناريو الصراع الداخلي لكل شخصية، وهو ما جعل الحوار أقوى وأكثر عمقا. منذ اللقطة الأولى، يلاحظ المشاهد البرودة والكآبة اللتين تسيطران على العمل بفضل درجات اللونين الأزرق الفولاذي والرمادي والذهبي الباهت على الشاشة، وتدعمها تلك الحيرة الوجودية للأبطال وإصاباتهم المستمرة في المعارك. ويأتي استخدام اللقطات الواسعة والحركة البطيئة في مشاهد القتال المشحونة عاطفيًا ليعكس أثرا فوريا على المشاعر، في حين تعكس الرموز المتكررة، مثل الزجاج المكسور والماء والنار المتلألئة، مواضيع الذاكرة والانكسار وخشية الزوال. تلعب الرمزية دورا هادئا ولكنه مؤثر في جميع المشاهد. في أحد المشاهد، تقف آندي في كاتدرائية متداعية مُحاطة بزجاج مكسور وأحجار. إنها استعارة بصرية لما أصبحت عليه هذه الشخصيات: مقدسة سابقا، والآن مُحطمة. وبالمثل، تعود المرايا والماء والنار للظهور في جميع المشاهد، كل عنصر منها يعكس مواضيع الهوية، والمحو، والبعث. نجح الجزء الثاني من السلسلة في تجاوز سابقه، بقدر قليل، بمحاولته بث الروح والمعنى في جسد العمل، وهو أمر ربما لا يرضي عشاق أفلام الحركة والمعارك، لكنه جيد لمن يبحثون عن عمل فني يرضي العقل كما يخاطب الوجدان.

إضاءة على أدب "اليوتوبيا".. مسرحية الإنسان الآلي نموذجا
إضاءة على أدب "اليوتوبيا".. مسرحية الإنسان الآلي نموذجا

الجزيرة

timeمنذ 16 ساعات

  • الجزيرة

إضاءة على أدب "اليوتوبيا".. مسرحية الإنسان الآلي نموذجا

عند الحديث عن أدب اليوتوبيا، نجد أنها تنقسم إلى نوعين رئيسيين: اليوتوبيا المثالية، التي تصور الإنسان في أكمل صورة وتثق بخيره وطبيعته المعطاءة، وتقيم فردوسها الأرضي على أساس من المثل الأخلاقية والروحانية. واليوتوبيا العلمية، التي تقوم على أساس علمي وتقيم سعادتها المنشودة على ركائز تكنولوجية تبشر بمزيد من الإنجازات العلمية المسخرة لتوفير رفاهية الإنسان وهنائه المعاصر. وبين اليوتوبيا المثالية، المتخوفة على مصير الإنسان الحيوي، واليوتوبيا العلمية، المتبنية للمذهب الميكانيكي في الإنسان والآلة على حد سواء، انقسم العلماء والمفكرون والكتاب. وظهر في المجتمع الصناعي المتقدم تيار بارز لليوتوبيا المثالية، وقف في وجه الفلسفة المادية الميكانيكية التي تحلم بتوفير السعادة لبني الإنسان. واليوتوبيا المثالية تيار فلسفي قديم ممتد عبر تاريخ البشرية، من أرسطو والفارابي إلى شوبنهاور وهنري برغسون ولويد مورغان. غير أن الإمعان في التكنولوجيا، الذي أفرزته الثورة الصناعية ، والمبالغة في تطويرها والتدليل على قدرتها على توفير السعادة الدنيوية، انطوى على محاذير وأخطار وتخوفات. وقد دفعت هذه التوجهات دعاة اليوتوبيا المثالية إلى الوقوف في وجه المغالاة التكنولوجية، التي رفعت الإنسان إلى قلب "غابة إلكترونية موحشة"، حولت الآلة الصناعية إلى سلطان يسيطر على هذه الغابة ويتحكم بمصيرها. ولعل الكاتب المسرحي التشيكي كارل تشابيك يقف في طليعة الكتاب الرواد الذين تصدوا لظاهرة اليوتوبيا العلمية، المبشرة بسعادة الإنسان والمهددة لحاضره ومستقبله في آن واحد. وتعد مسرحيته "الإنسان الآلي" نموذجا حيا لهذا الاتجاه الفكري المناهض لحركة اليوتوبيا العلمية المتغطرسة. اليوتوبيا والكارثة الآلية في هذه المسرحية، التي تدور حول "إنسان روسوم الآلي"، يتصدى "تشابيك" للحلم التكنولوجي القائم على تطوير ميكانيكية الآلة الصناعية، ويكشف بأسلوب درامي ما يمكن أن ينطوي عليه هذا الحلم من كوابيس وأخطار. ولكي يدير الكاتب المسرحي دفة الصراع، يضعنا أمام فريقين متضادين في الموقف والاتجاه: الفريق الأول: هو فريق حالم، متحمس لفكرة تطوير الإنسان الآلي بروح صوفية تأملية، تصل به إلى وضع كمالي من أجل توفير الرفاهية الاقتصادية في عالم الإنسان، ورفع مستوى المعيشة، وتوفير الراحة من خلال خفض ساعات العمل وتجنيب العامل الكدح والشقاء. ويمثل هذا الفريق في المسرحية السيد هاري دومين، المدير العام لمصانع روسوم للإنسان الآلي العالمي، إذ نجده في الفصل الأول يتحدث بحماس وتفاؤل إلى السيد "الكويست"، مدير التوريدات، قائلا: "خلال 10 سنوات، سيقوم إنسان روسوم الآلي بإنتاج الكثير من القمح والقماش، وسيحصل كل فرد على ما يريد، وبهذا لن يكون هناك فقر… والأشياء ستصبح من دون ثمن". أما الفريق الثاني: فهو فريق متشكك في نتائج الحلم التكنولوجي، ومتخوف من وقوع الإنسان في عبودية الآلة الإلكترونية، ومتمسك بحيوية العمل الإنساني. ويمثل هذا الفريق السيد "الكويست" نفسه، إذ يقول لدومين: "لقد كان في العمل لذة جميلة يا دومين… كان العمل شيئا عظيما في الإنسانية… آه! لقد كان هناك نوع من الفضيلة في الكدح والتعب". وببراعة في نسيج الحوار وعرض الحدث المسرحي، يخص الكاتب كارل تشابيك الفصل الأول من المسرحية بالكشف عن محاولات العلماء لتحقيق الفردوس الآلي، ويتماشى بحيادية مع حلمهم اليوتوبي الجميل الذي يراود عقولهم. لدرجة أننا نرى آنسة مندفعة تدعى "هيلينا جلوري"، يدفعها إعجابها بالإنسان الآلي إلى إنشاء جمعية خيرية للرفق به. وتزور مصنع روسوم من أجل هذا الغرض، لكنها تصطدم بواقع تكوين هؤلاء "الناس الآليين" القابلين للتفكيك والتركيب، والمجردين من العاطفة والإحساس. وسرعان ما تفزع الآنسة هيلينا مما تكتشف، ولا تخفي اشمئزازها من هذه الظاهرة التي كانت غائبة عن بالها. الوجه القبيح للمشروع اليوتوبي ينقل الكاتب المصنع الآلي برمته إلى خشبة المسرح، وبعد أن يعرض حلم العلماء في الطبيعة، يبدأ بالتدريج في الانفصال عن حلمهم، ليبرز الوجه القبيح والشاذ لمشروعهم اليوتوبي. ولا يخلو الحوار من التهكم على طريقة تفكير هؤلاء العلماء، وعلى أسلوب علاقاتهم الإنسانية؛ فمثلا، يعرض السيد "دومين" الزواج على الآنسة "هيلينا جلوري" بطريقة آلية مثيرة للضحك، فيقول وهو ينظر إلى ساعته: "لثلاث دقائق أخرى… إذا لم تتزوجيني، فعليك أن تتزوجي واحدا من الخمسة الآخرين!". ورغم موافقة هيلينا على الزواج من دومين، فإن الفصول الثلاثة التالية تكشف عن موقف المؤلف الصارم والمنحاز إلى أدب اليوتوبيا المضادة. ففي الفصل الثاني، تقرأ أنباء من الصحف العالمية تقول: "حرب آلية في البلقان… الجنود الآليون لا يرحمون أحدا… الآليون يذبحون أكثر من 700 ألف مواطن!". وحقيقة ما يحدث، أن فريق العلماء المتحمسين، وعلى رأسه الدكتور جول، رئيس قسم الفسيولوجيا بمصانع روسوم، يتمكن من تخليق "إنسان روسوم العالي" الذي يصبح في وسعه صناعة الناس الآليين والإشراف عليهم. وسرعان ما يتمرد هذا الإنسان الجديد على العلماء، وينفصل عن المصنع، ويأخذ في صناعة الناس الآليين وقيادتهم باستقلالية وعدوانية غريبة تجاه الإنسان البشري أينما كان. وهنا يبلغ الصراع المسرحي ذروته، إذ يظهر فريق ثالث من الناس الآليين، يمثل الخطر الحقيقي. هذا الفريق المتغطرس يضع الفريقين البشريين المتصارعين على جبهة دفاعية واحدة. ويتجسد في هذا الفريق الثالث الخطر الآلي الحقيقي على إنسان هذا العصر. ويبقى الصراع الدرامي ماثلا في الذروة، حين ينزل العقاب من السماء: فلا تسجل حالة ولادة بشرية واحدة، ويتوقف التناسل البشري. فهذه الخادمة "إما" تصرخ في هلع شديد: "إن الناس ما عادوا يولدون… هذا هو العقاب!". أما ريست، رائد الفريق المتحفظ منذ البداية، فنراه يصلي ضد التقدم العلمي، ويطلب من الله أن يهدي دومين وكل من ضلوا السبيل. إلا أن الواقعة تكون قد وقعت فعلا، بعد أن تمردت "الناس الآلية" على سادتها الحالمين من البشر، من دون إحساس أو وازع من ضمير. وتظل المشكلة الحضارية تتفاقم، إلى أن يجد علماء المصنع أنفسهم محاصرين من القوى الآلية التي صنعوها وطوروها، ومهددين بالحرق والتدمير. أما الفصلان الثالث والرابع من هذه المسرحية التعبيرية الرائعة، فينطويان على فجيعة حضارية مأساوية تنبأ بها المؤلف لإنسان هذا العصر، المتغطرس في اعتداده بقدراته العلمية. إذ تنتهي المسرحية بتدمير مصنع روسوم الآلي على رؤوس علمائه ومهندسيه، بقيادة زعيم الجنود الآليين "راديوس"، وذلك بعد أن تكون الجيوش الآلية قد قضت على بني البشر جميعا. يهمنا في نهاية هذه الدراسة الطائرة لأطرف وأعمق عمل درامي وضعه المؤلف التشيكي "كارل تشابيك"، أن نشير إلى سمتين بارزتين تميزت بهما فكرة المسرحية. السمة الأولى: هي التعبير عن الإيمان القوي بالخالق، وهو التعبير الذي يمثله "الكويست"، مدير التوريدات، الذي يكفر بنظرة "دومين" العلمية المغرورة، تلك النظرة التي تتخلى عن الجانب الروحاني في حياة الإنسان. ولهذا السبب، أبقى المؤلف "الكويست" حيا عند تدمير المصنع، دون بقية شخوص المسرحية، ليسارع إلى التفتيش عن الإنجيل في درج المكتب، ويفتحه ليقرأ: "ورأى الله كل ما عمله، فإذا هو حسن جدا". السمة الثانية: هي سعة الخيال العلمي، الذي حلق فيه الكاتب، وجعله يتجلى في تنبؤاته المستقبلية المبنية على واقع التقدم الآلي. إن هذه المسرحية العالمية تظل تشكل النموذج الحي لمسرح اليوتوبيا المثالية، الذي تصدى -وما يزال- لمخاطر صراع الإنسان المعاصر مع الآلة، في بحثه عن الفردوس الأرضي.

بين "المهمة المستحيلة" و"فورمولا 1″.. توم كروز وبراد بيت في سباق النجاة من النسيان
بين "المهمة المستحيلة" و"فورمولا 1″.. توم كروز وبراد بيت في سباق النجاة من النسيان

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • الجزيرة

بين "المهمة المستحيلة" و"فورمولا 1″.. توم كروز وبراد بيت في سباق النجاة من النسيان

استعد الجميع لإلقاء كلمات الوداع لجيل النجوم الذين ظهروا في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الـ20، نجوم مثل توم كروز، براد بيت، جورج كلوني وغيرهم، إذ لم يعودوا مناسبين -في رأي البعض- لبطولة الأفلام اليوم، بعدما تغيرت شريحة المشاهدين، وحان الوقت لدخولهم مرحلة "التاريخ" وتعاقب الأجيال الحتمي. بيد أن عام 2025 أتى ليغير الدفة ويخبرنا أن هؤلاء النجوم لم ينتهوا بعد، بل أغلق فصل من حياتهم المهنية، ليبدأ فصل جديد مختلف وناجح. تعرض دور السينما حاليا فيلمين لاثنين من هؤلاء النجوم، الأول "المهمة المستحيلة" (Mission Impossible)، والآخر -الأحدث ومحل حديثنا اليوم- هو "فورمولا 1" (F1) من بطولة براد بيت. سباق جديد لبراد بيت "فورمولا 1" من إخراج جوزيف كوسينسكي، الذي أخرج سابقا فيلم "توب غن: مافريك" (Top Gun: Maverick). يشارك براد بيت البطولة كل من دامسون إيدريس، خافيير بارديم، وكيري كوندون. وتدور أحداث الفيلم في إطار درامي رياضي، وتم تصويره جزئيا في سباقات "فورمولا 1" الحقيقية حول العالم. وتحكي القصة عن سوني هايز (براد بيت)، وهو سائق سابق لسباقات "فورمولا 1″، اعتزل بعد حادثة خطيرة كادت أن تودي بحياته. عانى لاحقا من إدمان القمار، وعاد بعدها إلى التسابق في سباقات محلية محدودة الأهمية والشهرة، ويعيش حياته يوما بيوم. تأتيه دعوة من صديقه روبين (خافيير بارديم) للعودة إلى "فورمولا 1" لمرة أخيرة، لإنقاذ فريق روبين الذي يعاني من ضعف النتائج. ولن يقتصر دوره على العودة كسائق فقط، بل سيكون أيضا مدربا ومرشدا للسائق الشاب الموهوب جوشوا بيرس (دامسون إيدريس). ولم تقتصر شخصية سوني هايز على دور راعي البقر الوحيد، أو الرجل في منتصف العمر الذي يشعر بالضياع بعدما تحطمت أحلامه مبكرا، بل تجاوزت ذلك. فهو يرى في جوشوا بيرس مرآة لماضيه، فالشاب الذي يبلغ نفس عمر سوني حين أصيب في حادثة "فورمولا 1″، عانى من اليتم مثله، ويحمل نفس الموهبة والطموح والاندفاع. لذلك، لم ينجرف إلى منافسته كما رغب الشاب، بل اختار دورا مختلفا: المعلم الذي ينقل له خبراته ويعاونه على تجاوز أخطر مرحلة في مسيرته. وتتشابه هذه الفكرة إلى حد كبير مع ما قدمه توم كروز في فيلم "توب غن: مافريك"، حيث نجد الشخصية التي لا تزال بارعة في حرفتها -بل الأبرع- ولكن حان الوقت لتمرير هذه الخبرات إلى الجيل الأصغر، الأمر الذي يهدد ثقة البطل بنفسه، وقد تحول من نجم إلى شخصية ناضجة تصلح لأن تكون معلمة أكثر من كونها مصدرا للإعجاب. هذا الدرس تحديدا هو ما تعلمه كل من توم كروز وبراد بيت، وأنقذ مسيرتيهما من النقطة المفصلية التي تعثر عندها كثير من النجوم السابقين. فقد استطاعا تجاوزها حين أدركا أنهما لن يقدرا على لعب دور الرجل الوسيم والخطِر إلى الأبد، بل هما بحاجة لاختيار أدوار مختلفة. هذه الأدوار بالذات هي ما سمحت لهما بالاستمرار في المنافسة على شباك التذاكر العالمي حتى اليوم. فيلم يستحق العرض السينمائي استحوذت شركة آبل على حقوق التوزيع ضمن صفقة عملاقة، بينما حصلت شركة "وارنر برذرز بيكتشرز" (Warner Bros. Pictures) على حقوق التوزيع السينمائي. وسيُعرض الفيلم لاحقا على منصة "آبل تي في بلس" (Apple TV+)، ليصبح بذلك من أكبر الأفلام التي تحصل على هذا العرض المزدوج. فالجميع يعرف الآن أن مآل الأفلام هو المنصات، لكن الاتفاقية أوضحت أن الفيلم سيُعرض على آبل لاحقا، وهو متاح حاليا ليس فقط في صالات السينما، بل أيضا بتقنية عرض "آيماكس". ويُتيح ذلك للمتفرجين الاستمتاع بتجربة سينمائية كاملة، وقد تم تصويره بتقنية الآيماكس، وفي حلبات السباق الحقيقية لسباقات "فورمولا 1″، وكانت تلك الحلبات لا تزال تعمل أثناء التصوير، مما يعني أن المشاهد لم تكن مصطنعة أو معتمدة على تقنيات المؤثرات البصرية "سي جي آي" (CGI)، بل سباقا حقيقيا. كما صرح صناع الفيلم في أكثر من لقاء بأنهم حرصوا على تقديم تجربة بصرية "تجعل المتفرج يشعر وكأنه في قلب الحلبة"، وقد بدا ذلك واضحا في طريقة التصوير، خاصة في اللقطات التي تم التقاطها من داخل سيارات السباق. من العوامل التي زادت من قيمة الفيلم بشكل كبير الموسيقى التصويرية من تأليف هانز زيمر، أحد أبرز مؤلفي الموسيقى التصويرية في هوليود، والذي اشتهر بابتكاراته السمعية التي جمعت بين الأوركسترا الكلاسيكية والتكنولوجيا الحديثة. ويتجلى ذلك بوضوح في موسيقى "فورمولا 1″، حيث لعبت موسيقاه دورا محوريا في تعزيز الأثر الدرامي والإثارة، بالإضافة إلى مجموعة الأغاني المتنوعة في شريط الصوت التي أداها عدد من أهم المغنين المعاصرين. ختاما، فيلم "فورمولا 1″، رغم نهايته المتوقعة وتصاعده الدرامي المألوف في أفلام سباقات السيارات، قدم للمتفرج تجربة سمعية وبصرية مميزة، إلى جانب أداء تمثيلي ممتاز وتشويق متقن. هو بلا شك أحد أبرز أفلام عام 2025 حتى الآن.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store