
"انقلاب عسكري وسقوط إسلام آباد".. انتصارات زائفة في حرب باكستان والهند
أثناء اشتعال الأزمة الأخيرة بين الهند وباكستان، تحديدا في مساء الثامن من مايو/أيار الجاري، أعلن عدد من مذيعي القنوات الهندية سقوط العاصمة الباكستانية إسلام آباد. ادّعى بعضهم -وفقا لتقارير- أن انقلابا قد أطاح برئيس أركان الجيش الباكستاني، فيما أكد آخرون أن البحرية الهندية شنّت ضربة مدمرة أزالت ميناء كراتشي من الخريطة. وعلى إثر تلك الأخبار، اشتعلت منصات التواصل الاجتماعي، وانتشر وسم "#استسلام_باكستان" ليحتل صدارة عدد من المنصات في الهند.
لمدة وجيزة، بدا أن النصر قد تحقق للهند فعلا، لكن الحقيقة كانت بعيدة تماما عمّا راج حينها؛ فيما تكشّف أن هذا الانتصار زائف، وأنه لا يعدو إلا أن يكون جانبا من طبيعة الحرب الحديثة: حرب المعلومات.
وقد وضعت حرب المعلومات المدفوعة بالذكاء الاصطناعي المواجهة الأخيرة بين الهند وباكستان تحت دائرة الضوء، إذ غيّرت هذه التقنيات الجديدة طبيعة النزاعات وأدخلتها إلى العصر الرقمي، بكل حمولاته المراوغة، ومنتجاته شديدة التضليل.
فقد أظهرت تلك الأحداث بوضوح مدى قوة وخطورة تقنيات الذكاء الاصطناعي، وما تسببه من نشر للشائعات على منصات التواصل الاجتماعي، وترويج لمقاطع مزيّفة، ويترافق كل ذلك مع هندسة هجمات سيبرانية تستهدف منصات الخصم الرسمية.
ومع تدفق المعلومات المضلِّلة عبر شبكات التواصل الاجتماعي ومن ثم انتقالها إلى القنوات الإعلامية والصحف والمؤثرين، يصعب للغاية على الجمهور التمييز بين ما هو حقيقة، وما هو خيال.
طبقات من التزييف
يرتبط عادة اندلاع الأزمات والحروب بانتشار الشائعات والأخبار المضللة، لكن ربما ما تغيّر اليوم هو مستوى واقعيتها وسرعة انتشارها؛ إذ يكفي أن ينتشر مقطع واحد مزيف خلال دقائق حتى يؤثر في إدراك جمهور واسع تجاه قضية ما، وبالتالي يؤدي إلى خلق رأي عام يشكل أداة ضغط مؤثرة على صُنّاع القرار.
مثلا، في الثالث من مايو/أيار الجاري، انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو للرئيس الأميركي دونالد ترامب ، يظهر فيه وهو يدلي بتصريحات مسيئة تجاه باكستان، ويهدد بـ"تدميرها" دعما للهند. كما ورد في نسخ أخرى من الفيديو ما يشير إلى دعوته لإزالة باكستان من الخريطة.
وبعد تحقق من صحة الفيديو، تبيّن أنه مُفبرك، لكن هذا التحقق جاء بعد انتشار الفيديو ورواج التصريح على منصات التواصل. وعلى إثر انتشاره، أوضحت تقارير إعلامية في الهند أن إنتاج الفيديو كان بتقنية "التزييف العميق".
ووفقا لإحدى مواقع تدقيق الحقائق الهندية، فإن المقطع الأصلي يعود إلى عام 2016، خلال كلمة ألقاها ترامب حول الاقتصاد في نادي نيويورك الاقتصادي، دون أن يتحدث فيها عن الهند أو باكستان. كما أكدت شركة "هايف" أن الفيديو لم يُعدّل بصريا، لكن الصوت المرفق يبدو أنه من إنتاج تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وبعدها بأيام قليلة، وتحديدا في الثامن من مايو/أيار، انتشر مقطع فيديو آخر يُظهر المتحدث باسم الجيش الباكستاني، الفريق أحمد شريف شودري، وكأنه يعترف بأن الهند نجحت في إسقاط مقاتلتين باكستانيتين من طراز "جي إف-17″، وهو مقطع تبين أيضا أنه معدّل بتقنية "التزييف العميق" بالذكاء الاصطناعي.
حصد هذا المقطع نحو 760 ألف مشاهدة على منصة "إكس"، قبل أن تُضاف إليه ملاحظة تحقق تكشف تزييفه. وقد خدع المقطع بعض وسائل الإعلام الهندية، إذ بثّته بعض القنوات على أنه خبر عاجل، ثم سحبته بصمت من مواقعها الرسمية.
ودَمج مقطع الفيديو بين لقطات حقيقية من مؤتمر صحفي للفريق شودري ومشاهد مفبركة. واستُخدمت لقطة للجمهور لتغطية نقطة الانتقال بين المقطع الأصلي والمُفبرك، وظهرت قفزة صوتية واضحة عند موضع التلاعب بالصوت.
كذلك اجتاحت الصور المزيفة بالذكاء الاصطناعي منصات التواصل الاجتماعي، من مشاهد تفجير طائرات حربية إلى صور دموية من ميادين المعارك لا أساس لها على الأرض. وفي إحدى الحالات، جرى تداول مشاهد من لعبة فيديو عسكرية على أنها لقطات حقيقية، وحققت أكثر من مليوني مشاهدة، ما يكشف حجم الإقبال على المحتوى المضلل في أثناء الحروب والنزاعات، كما أشارت صحيفة واشنطن بوست.
انتصارات زائفة
في هذا السياق، وصف المحلل السياسي المتخصص في شؤون جنوب آسيا، مايكل كوغلمان، هذا المشهد بوجود "كمّ هائل من الأخبار الكاذبة بصورة فجّة" في وسائل الإعلام الهندية الموالية للحكومة، وفقا لما ذكره لصحيفة واشنطن بوست.
وقد زعمت قنوات شهيرة مثل "زي نيوز" و"إيه بي بي" بأن انقلابا عسكريا يجري في باكستان، مدعية أن الجنرال عاصم منير ، قائد الجيش الباكستاني، قد اعتقلته مجموعة من الضباط تحت قيادته. ولم تُقدَّم تلك القنوات والصحف أي دليل يدعم هذه الرواية، ومع ذلك تناولها المذيعون بوصفها أمرا واقعا، بل وصل الأمر إلى حد التكهن باسم القائد العسكري الجديد.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وصلت بعض التقارير إلى تأكيد أن العاصمة الباكستانية إسلام آباد قد سقطت فعلا، فقد أعلنت "زي نيوز" أن القوات الهندية استولت على إسلام آباد، وأن الجيش الباكستاني قد استسلم.
وسارت قناة "تايمز ناو" الناطقة بالهندية في نفس التوجّه الخيالي، داعية البحرية الهندية إلى "إحراق كراتشي حرفيا". كانت القناة تروّج لسيناريوهات عن قوات هندية سيطرت على إسلام آباد، فيما ارتفعت الأصوات هناك حول توقيت "الاستسلام الرسمي لباكستان".
في السياق ذاته، بدأت قنوات هندية، باللغات المحلية والإنجليزية، تروّج لانتصار على جبهة بحرية جديدة، معلنة -دون دليل- أن البحرية الهندية قصفت ميناء كراتشي بصواريخ أُطلقت من حاملة الطائرات الهندية " آي إن إس فيكرانت" (INS Vikrant)، ودمرت الميناء بالكامل. إحدى القنوات الهندية أعلنت أن هذه أول ضربة من البحرية على كراتشي منذ عام 1971، بينما زعمت أخرى أن 26 سفينة حربية هندية تحاصر الميناء وأن "باكستان ستنتهي اليوم".
ولإضفاء بعض الطابع التوثيقي المرئي على هذه المزاعم، عرضت قناة ناطقة بالهندية مقطعا لتحطم طائرة في فيلادلفيا عام 2022، وادّعت أنه يُظهر دمار كراتشي بعد القصف.
ولم ترد تقارير ميدانية ولا تأكيدات عسكرية ولا تحقيق صحفي، لكن كان السبق هو المسيطر؛ حتى أن المؤسسات الإعلامية الشهيرة انزلقت إلى ترديد روايات جمعتها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ومن مصادر مجهولة غير موثّقة. ومع حلول صباح اليوم التالي، كانت هذه الروايات المفبركة قد خلقت شعورا عاما باقتراب النصر لدى شرائح واسعة من الجمهور الهندي.
هجمات سيبرانية
بالطبع، لن يكتمل مشهد ساحة المعركة المعلوماتية إلا بالهجمات السيبرانية، وتزامنا مع مزاعم عن قصف كراتشي، بُث من حساب هيئة الميناء على منصة إكس –بعد اختراقه– منشور يؤكد الضربة، ويصف الميناء بأنه في حالة دمار، وأن حالة الطوارئ تسيطر على الأجواء.
ففي التاسع من مايو/أيار، فوجئت هيئة ميناء كراتشي بأن حسابها الرسمي على منصة "إكس" قد تعرّض للاختراق، وبدأ في بث أخبار كاذبة تدّعي أن ضربة صاروخية هندية ألحقت أضرارا جسيمة بالميناء، مما أثار موجة من الشائعات عن كارثة إستراتيجية.
خلال 30 دقيقة، تمكن فريق تكنولوجيا المعلومات الخاص بهيئة ميناء كراتشي من استعادة السيطرة على الحساب، وأصدر بيانا رسميا أعلن فيه عن اختراق الحساب، مؤكدا أن الميناء آمن ويعمل بصورة طبيعية. دُعي الصحفيون لزيارة الموقع مساء اليوم ذاته، حيث كانت العمليات اللوجيستية تسير بسلاسة، دون أي أثر للمزاعم السابقة. ولم يتردد البيان الصحفي للهيئة في اتهام جهات هندية بالمسؤولية عن الاختراق وبث المعلومات المضللة.
وفي حادثة مشابهة في الليلة نفسها، تعرض حساب وزارة الشؤون الاقتصادية الباكستانية للاختراق، حيث استخدم القراصنة الحساب لنشر تغريدة زائفة تزعم أن باكستان تطلب قروضا طارئة بسبب "خسائر فادحة ألحقها بهم العدو". تلك التغريدة الملفقة حققت ملايين المشاهدات قبل حذفها، ما يبرز قدرة الهجمات السيبرانية على اختراق قنوات رسمية ونشر روايات زائفة على نطاق واسع.
هذه الحوادث تكشف بُعدا متقدما من الحرب المعلوماتية، إذ يتسلل المخترق -سواء كان جهة حكومية أو مرتزقة سيبرانيين- إلى حسابات رسمية، ليزرعوا الأكاذيب بغطاء رسمي، فيُطمس الخط الفاصل بين الحقيقة والبروباغندا.
معركة فرض السردية
مع تصاعد موجات الشائعات والأخبار الزائفة، لجأت حكومتا الهند وباكستان إلى أدوات رقمية متطورة -من ضمنها تقنيات رقابة مدعومة بالذكاء الاصطناعي- بهدف كبح السرديات التي تعدّها مُؤذية. في الهند، مارست السلطات ضغوطا أكبر على شركات التواصل الاجتماعي لإجراء عمليات حذف بالجملة للمحتوى، بل وحظر حسابات بالكامل.
بموجب أوامر طارئة، اضطرت منصات مثل إكس وفيسبوك إلى تقييد آلاف المنشورات المرتبطة بالأزمة. ففي الثامن من مايو/أيار، أعلنت إدارة العلاقات الحكومية العالمية، التابعة لمنصة إكس، أنها بدأت بحجب أكثر من 8 آلاف حساب داخل الهند استجابة لطلب حكومي.
حتى وسائل الإعلام المستقلة في الهند لم تسلم من هذه المواجهة مع الحكومة، فموقع "ذا واير" -أحد أبرز المنصات المستقلة- حُجب فجأة لدى عدد من مزوّدي الإنترنت، دون تنبيه أو تفسير. واختفت تقاريره التي تناولت الفوضى من الواجهة لساعات، خاصة تلك التي انتقدت تعامل الحكومة مع الحرب المعلوماتية.
أما على الجانب الباكستاني، فرغم اتباع إسلام أباد لهجة رسمية أكثر تحفظا، تُدار المعركة المعلوماتية بحزم مماثل. فقد أعلن الفريق الوطني للاستجابة السيبرانية (National CERT) حالة "التأهب القصوى"، محذرا من تصاعد التهديدات السيبرانية، وتدفّق الرسائل المُفبركة المُنتجة بالذكاء الاصطناعي على الشبكات الحكومية.
ويُرجّح استخدام الحكومتان لخوارزميات رقابية وآليات ذكاء اصطناعي للكشف عن المحتوى، إذ وُسمت بعض المنشورات الزائفة على منصة إكس بإشعارات تصحيحية، فيما استعانت شركة ميتا بفِرق تحقق مدعومة بأنظمة ذكية تعمل بمختلف اللغات الإقليمية.
لم تكن الحكومات وحدها من خاضت تلك المعركة، فقد أظهرت عاصفة المعلومات في الثامن من مايو/أيار كيف يمكن لبيئة التضليل أن تتحول إلى منظومة مكتفية بذاتها، بتحولها إلى حلقة ذاتية التوليد تعيد فيها وسائل الإعلام الموالية للحكومة، والحسابات المجهولة، والمستخدمون العاديون، تدوير الأكاذيب نفسها حتى تترسّخ كحقائق.
على الجانب الهندي، بدأ السيناريو من الجهات المعتادة: مؤثرون قوميون، وحسابات تروّج للجيش، تدفع بـ"معلومات استخباراتية" غير مؤكدة، كطائرات باكستانية أُسقطت، وقوات خاصة تسللت إلى إسلام آباد، أو ضربات بحرية استهدفت كراتشي. النبرة كانت احتفالية، و جاهزة للانتشار، ثم دخلت القنوات الإخبارية الكبرى، فالتقطت هذه المزاعم، وقدّمتها بوسم "عاجل" على الشاشة، ومنحتها طابع الحقيقة.
هكذا أُغلقت الدائرة: من وسائل التواصل إلى شاشات التلفاز، ثم تعود السردية إلى المنصات الرقمية، وتنتقل منها إلى تصريحات المتحدثين الرسميين، الذين كرر بعضهم الادعاءات ذاتها، مما أضفى عليها شرعية من خلال التكرار وحده. لا أدلة؟ لا توجد مشكلة، المهم أن القصة تُباع وتحقق رواجا.
حتى واقعة اختراق حساب هيئة ميناء كراتشي -رغم واقعيتها- تحولت إلى أداة في حرب فرض السردية. في الهند، اعتُبرت العملية برهانا على هشاشة البنية التحتية الباكستانية. بينما في باكستان، كانت دليلا على حملة نفسية سيبرانية تديرها الهند. والنتيجة؟ منظومة رقمية لا تشترط صحة المعلومة، بل اتساقها مع الهوية والانتماء.
بمجرد أن يتبنّى عدد كافٍ من المتابعين خبرا زائفا -أو تضخّمه حسابات لها مظهر موثوق- ينطلق كحقيقة. يلتقطه المذيعون، ويردده السياسيون، ويستقر في وعي الجمهور. وبحلول وقت التصحيح -إن حدث- تكون الرواية قد ترسّخت.
هكذا تعمل ماكينة الأكاذيب بكامل طاقتها: كذبة تولد في تغريدة، ثم تغذيها خوارزمية، بعدها تتوّجها غرفة أخبار، ثم يُعاد ضخّها إلى مجرى الرأي العام، وقد صارت أكثر صلابة، وأصعب في نفيها أو التحقق منها.
في معارك فرض السردية الجديدة، لا تنتصر الحقيقة، بل تسبقها الصورة الأولى بصرف النظر عن مصداقيتها. الرابح هنا هو من يملأ الفراغ الرقمي أولا، لا من يصحح المعلومة لاحقا.
الحقيقة كضحية جانبية
يحذر بعض المحللين من المخاطر المستحدثة التي يفرضها تصاعد الحرب المعلوماتية المدفوعة بالذكاء الاصطناعي. يذكر جويجيت بال، الأستاذ في جامعة ميشيغان ومتخصص في المعلومات المضللة، أن انفلات الخطاب على وسائل التواصل الاجتماعي قد يُرغم الحكومات على اتخاذ قرارات مصيرية؛ الفكرة الجوهرية أن الأكاذيب المتداولة، والخطاب القومي المتشنّج عبر الإنترنت، قد يدفعان القادة إلى اتخاذ خطوات متهورة تحت ضغط جماهيري يسعى إلى ردّ فعل سريع، لا إلى حكمة إستراتيجية، كما أشار لصحيفة واشنطن بوست.
ويخشى بعض الباحثين من سرعة وواقعية المحتوى المُنتَج بالذكاء الاصطناعي. إذ تشير راشيل موران، الباحثة بمركز جامعة واشنطن للرأي العام، إلى أن الأزمات تُربك الجمهور أصلا، وتجعل التمييز بين الشائعة والحقيقة مهمة صعبة. لكن وجود مقاطع مزيفة عالية الجودة داخل هذا المزيج يزيد الأمر تعقيدا، ويُضعف قدرة الجمهور على اتخاذ قرارات مبنية على معلومات موثوقة. ببساطة، يمكن للمحتوى المقنع والمفبرك أن يشتّت الانتباه عن تحذيرات حقيقية، أو يضخم تهديدات وهمية، بما يؤدي إلى حسابات خاطئة قد تكون مكلفة.
لكن ربما يتمثل القلق الأعمق في أن وتيرة إنتاج المعلومات المضللة، عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، باتت تتجاوز قدرتنا على الاستيعاب والرد. فعندما يُكتشف التزييف، تكون الرواية المضللة قد انتشرت وألقت بظلالها، في حين لا تلقى التصحيحات ذات الانتشار أو التأثير. وبهذا ندخل سباق تسلح جديد، ليس بين الدول فحسب، بل بين أدوات صناعة الأكاذيب وتلك التي تسعى إلى كشفها، في مشهد تتآكل فيه الثقة أكثر، ويُصبح التيقن من أي معلومة عملة نادرة.
في هذا المشهد، يجد الجمهور نفسه غارقا في سيل من الادعاءات: الصادق منها والزائف، وذاك الذي يستحيل التحقق منه فورا. الحقيقة الرقمية باتت هشة للغاية، فصورة مصممة بإتقان أو تغريدة مضللة تكفي لتشكيل واقع مواز مؤقت، حتى يأتي النفي إن أتى أصلا. حتى الأخبار الحقيقية لم تعد تُستقبل بثقة، بعد أن أضعف التضليل المُمنهج مصداقية جميع المصادر.
ومع تحوّل الحرب المعلوماتية المعززة بالذكاء الاصطناعي إلى الوضع الطبيعي الجديد، لم يعد ضباب الحرب يخيّم على جبهات القتال فحسب، بل غزا شاشات أجهزتنا، وتوغّل في صفحاتنا على مواقع التواصل الاجتماعي. التحدي الأكبر الآن لا يكمن في كشف الأكاذيب، بل في استعادة الحد الأدنى من الثقة والعقلانية في زمن تتفوّق فيه البروباغندا الفورية، وتُصبح فيه الحقيقة أولى ضحايا الذكاء الاصطناعي.
قد لا نعتبر ما جرى مجرد حلقة جديدة في حروب البروباغندا المعتادة، بل يمكننا اعتباره محاكاة تمهيدية لعالم أصبحت فيه الحقيقة نفسها ضحية جانبية؛ عالم تُفبرك فيه الادّعاءات بأدوات ذكية، ويُصدّقها أغلب الجمهور فورا، ثم تُضخَّم عالميا قبل أن تتاح أي فرصة لأقرب مدقّق معلومات للتثبت من صحتها.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 17 ساعات
- الجزيرة
"انقلاب عسكري وسقوط إسلام آباد".. انتصارات زائفة في حرب باكستان والهند
أثناء اشتعال الأزمة الأخيرة بين الهند وباكستان، تحديدا في مساء الثامن من مايو/أيار الجاري، أعلن عدد من مذيعي القنوات الهندية سقوط العاصمة الباكستانية إسلام آباد. ادّعى بعضهم -وفقا لتقارير- أن انقلابا قد أطاح برئيس أركان الجيش الباكستاني، فيما أكد آخرون أن البحرية الهندية شنّت ضربة مدمرة أزالت ميناء كراتشي من الخريطة. وعلى إثر تلك الأخبار، اشتعلت منصات التواصل الاجتماعي، وانتشر وسم "#استسلام_باكستان" ليحتل صدارة عدد من المنصات في الهند. لمدة وجيزة، بدا أن النصر قد تحقق للهند فعلا، لكن الحقيقة كانت بعيدة تماما عمّا راج حينها؛ فيما تكشّف أن هذا الانتصار زائف، وأنه لا يعدو إلا أن يكون جانبا من طبيعة الحرب الحديثة: حرب المعلومات. وقد وضعت حرب المعلومات المدفوعة بالذكاء الاصطناعي المواجهة الأخيرة بين الهند وباكستان تحت دائرة الضوء، إذ غيّرت هذه التقنيات الجديدة طبيعة النزاعات وأدخلتها إلى العصر الرقمي، بكل حمولاته المراوغة، ومنتجاته شديدة التضليل. فقد أظهرت تلك الأحداث بوضوح مدى قوة وخطورة تقنيات الذكاء الاصطناعي، وما تسببه من نشر للشائعات على منصات التواصل الاجتماعي، وترويج لمقاطع مزيّفة، ويترافق كل ذلك مع هندسة هجمات سيبرانية تستهدف منصات الخصم الرسمية. ومع تدفق المعلومات المضلِّلة عبر شبكات التواصل الاجتماعي ومن ثم انتقالها إلى القنوات الإعلامية والصحف والمؤثرين، يصعب للغاية على الجمهور التمييز بين ما هو حقيقة، وما هو خيال. طبقات من التزييف يرتبط عادة اندلاع الأزمات والحروب بانتشار الشائعات والأخبار المضللة، لكن ربما ما تغيّر اليوم هو مستوى واقعيتها وسرعة انتشارها؛ إذ يكفي أن ينتشر مقطع واحد مزيف خلال دقائق حتى يؤثر في إدراك جمهور واسع تجاه قضية ما، وبالتالي يؤدي إلى خلق رأي عام يشكل أداة ضغط مؤثرة على صُنّاع القرار. مثلا، في الثالث من مايو/أيار الجاري، انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو للرئيس الأميركي دونالد ترامب ، يظهر فيه وهو يدلي بتصريحات مسيئة تجاه باكستان، ويهدد بـ"تدميرها" دعما للهند. كما ورد في نسخ أخرى من الفيديو ما يشير إلى دعوته لإزالة باكستان من الخريطة. وبعد تحقق من صحة الفيديو، تبيّن أنه مُفبرك، لكن هذا التحقق جاء بعد انتشار الفيديو ورواج التصريح على منصات التواصل. وعلى إثر انتشاره، أوضحت تقارير إعلامية في الهند أن إنتاج الفيديو كان بتقنية "التزييف العميق". ووفقا لإحدى مواقع تدقيق الحقائق الهندية، فإن المقطع الأصلي يعود إلى عام 2016، خلال كلمة ألقاها ترامب حول الاقتصاد في نادي نيويورك الاقتصادي، دون أن يتحدث فيها عن الهند أو باكستان. كما أكدت شركة "هايف" أن الفيديو لم يُعدّل بصريا، لكن الصوت المرفق يبدو أنه من إنتاج تقنيات الذكاء الاصطناعي. وبعدها بأيام قليلة، وتحديدا في الثامن من مايو/أيار، انتشر مقطع فيديو آخر يُظهر المتحدث باسم الجيش الباكستاني، الفريق أحمد شريف شودري، وكأنه يعترف بأن الهند نجحت في إسقاط مقاتلتين باكستانيتين من طراز "جي إف-17″، وهو مقطع تبين أيضا أنه معدّل بتقنية "التزييف العميق" بالذكاء الاصطناعي. حصد هذا المقطع نحو 760 ألف مشاهدة على منصة "إكس"، قبل أن تُضاف إليه ملاحظة تحقق تكشف تزييفه. وقد خدع المقطع بعض وسائل الإعلام الهندية، إذ بثّته بعض القنوات على أنه خبر عاجل، ثم سحبته بصمت من مواقعها الرسمية. ودَمج مقطع الفيديو بين لقطات حقيقية من مؤتمر صحفي للفريق شودري ومشاهد مفبركة. واستُخدمت لقطة للجمهور لتغطية نقطة الانتقال بين المقطع الأصلي والمُفبرك، وظهرت قفزة صوتية واضحة عند موضع التلاعب بالصوت. كذلك اجتاحت الصور المزيفة بالذكاء الاصطناعي منصات التواصل الاجتماعي، من مشاهد تفجير طائرات حربية إلى صور دموية من ميادين المعارك لا أساس لها على الأرض. وفي إحدى الحالات، جرى تداول مشاهد من لعبة فيديو عسكرية على أنها لقطات حقيقية، وحققت أكثر من مليوني مشاهدة، ما يكشف حجم الإقبال على المحتوى المضلل في أثناء الحروب والنزاعات، كما أشارت صحيفة واشنطن بوست. انتصارات زائفة في هذا السياق، وصف المحلل السياسي المتخصص في شؤون جنوب آسيا، مايكل كوغلمان، هذا المشهد بوجود "كمّ هائل من الأخبار الكاذبة بصورة فجّة" في وسائل الإعلام الهندية الموالية للحكومة، وفقا لما ذكره لصحيفة واشنطن بوست. وقد زعمت قنوات شهيرة مثل "زي نيوز" و"إيه بي بي" بأن انقلابا عسكريا يجري في باكستان، مدعية أن الجنرال عاصم منير ، قائد الجيش الباكستاني، قد اعتقلته مجموعة من الضباط تحت قيادته. ولم تُقدَّم تلك القنوات والصحف أي دليل يدعم هذه الرواية، ومع ذلك تناولها المذيعون بوصفها أمرا واقعا، بل وصل الأمر إلى حد التكهن باسم القائد العسكري الجديد. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وصلت بعض التقارير إلى تأكيد أن العاصمة الباكستانية إسلام آباد قد سقطت فعلا، فقد أعلنت "زي نيوز" أن القوات الهندية استولت على إسلام آباد، وأن الجيش الباكستاني قد استسلم. وسارت قناة "تايمز ناو" الناطقة بالهندية في نفس التوجّه الخيالي، داعية البحرية الهندية إلى "إحراق كراتشي حرفيا". كانت القناة تروّج لسيناريوهات عن قوات هندية سيطرت على إسلام آباد، فيما ارتفعت الأصوات هناك حول توقيت "الاستسلام الرسمي لباكستان". في السياق ذاته، بدأت قنوات هندية، باللغات المحلية والإنجليزية، تروّج لانتصار على جبهة بحرية جديدة، معلنة -دون دليل- أن البحرية الهندية قصفت ميناء كراتشي بصواريخ أُطلقت من حاملة الطائرات الهندية " آي إن إس فيكرانت" (INS Vikrant)، ودمرت الميناء بالكامل. إحدى القنوات الهندية أعلنت أن هذه أول ضربة من البحرية على كراتشي منذ عام 1971، بينما زعمت أخرى أن 26 سفينة حربية هندية تحاصر الميناء وأن "باكستان ستنتهي اليوم". ولإضفاء بعض الطابع التوثيقي المرئي على هذه المزاعم، عرضت قناة ناطقة بالهندية مقطعا لتحطم طائرة في فيلادلفيا عام 2022، وادّعت أنه يُظهر دمار كراتشي بعد القصف. ولم ترد تقارير ميدانية ولا تأكيدات عسكرية ولا تحقيق صحفي، لكن كان السبق هو المسيطر؛ حتى أن المؤسسات الإعلامية الشهيرة انزلقت إلى ترديد روايات جمعتها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ومن مصادر مجهولة غير موثّقة. ومع حلول صباح اليوم التالي، كانت هذه الروايات المفبركة قد خلقت شعورا عاما باقتراب النصر لدى شرائح واسعة من الجمهور الهندي. هجمات سيبرانية بالطبع، لن يكتمل مشهد ساحة المعركة المعلوماتية إلا بالهجمات السيبرانية، وتزامنا مع مزاعم عن قصف كراتشي، بُث من حساب هيئة الميناء على منصة إكس –بعد اختراقه– منشور يؤكد الضربة، ويصف الميناء بأنه في حالة دمار، وأن حالة الطوارئ تسيطر على الأجواء. ففي التاسع من مايو/أيار، فوجئت هيئة ميناء كراتشي بأن حسابها الرسمي على منصة "إكس" قد تعرّض للاختراق، وبدأ في بث أخبار كاذبة تدّعي أن ضربة صاروخية هندية ألحقت أضرارا جسيمة بالميناء، مما أثار موجة من الشائعات عن كارثة إستراتيجية. خلال 30 دقيقة، تمكن فريق تكنولوجيا المعلومات الخاص بهيئة ميناء كراتشي من استعادة السيطرة على الحساب، وأصدر بيانا رسميا أعلن فيه عن اختراق الحساب، مؤكدا أن الميناء آمن ويعمل بصورة طبيعية. دُعي الصحفيون لزيارة الموقع مساء اليوم ذاته، حيث كانت العمليات اللوجيستية تسير بسلاسة، دون أي أثر للمزاعم السابقة. ولم يتردد البيان الصحفي للهيئة في اتهام جهات هندية بالمسؤولية عن الاختراق وبث المعلومات المضللة. وفي حادثة مشابهة في الليلة نفسها، تعرض حساب وزارة الشؤون الاقتصادية الباكستانية للاختراق، حيث استخدم القراصنة الحساب لنشر تغريدة زائفة تزعم أن باكستان تطلب قروضا طارئة بسبب "خسائر فادحة ألحقها بهم العدو". تلك التغريدة الملفقة حققت ملايين المشاهدات قبل حذفها، ما يبرز قدرة الهجمات السيبرانية على اختراق قنوات رسمية ونشر روايات زائفة على نطاق واسع. هذه الحوادث تكشف بُعدا متقدما من الحرب المعلوماتية، إذ يتسلل المخترق -سواء كان جهة حكومية أو مرتزقة سيبرانيين- إلى حسابات رسمية، ليزرعوا الأكاذيب بغطاء رسمي، فيُطمس الخط الفاصل بين الحقيقة والبروباغندا. معركة فرض السردية مع تصاعد موجات الشائعات والأخبار الزائفة، لجأت حكومتا الهند وباكستان إلى أدوات رقمية متطورة -من ضمنها تقنيات رقابة مدعومة بالذكاء الاصطناعي- بهدف كبح السرديات التي تعدّها مُؤذية. في الهند، مارست السلطات ضغوطا أكبر على شركات التواصل الاجتماعي لإجراء عمليات حذف بالجملة للمحتوى، بل وحظر حسابات بالكامل. بموجب أوامر طارئة، اضطرت منصات مثل إكس وفيسبوك إلى تقييد آلاف المنشورات المرتبطة بالأزمة. ففي الثامن من مايو/أيار، أعلنت إدارة العلاقات الحكومية العالمية، التابعة لمنصة إكس، أنها بدأت بحجب أكثر من 8 آلاف حساب داخل الهند استجابة لطلب حكومي. حتى وسائل الإعلام المستقلة في الهند لم تسلم من هذه المواجهة مع الحكومة، فموقع "ذا واير" -أحد أبرز المنصات المستقلة- حُجب فجأة لدى عدد من مزوّدي الإنترنت، دون تنبيه أو تفسير. واختفت تقاريره التي تناولت الفوضى من الواجهة لساعات، خاصة تلك التي انتقدت تعامل الحكومة مع الحرب المعلوماتية. أما على الجانب الباكستاني، فرغم اتباع إسلام أباد لهجة رسمية أكثر تحفظا، تُدار المعركة المعلوماتية بحزم مماثل. فقد أعلن الفريق الوطني للاستجابة السيبرانية (National CERT) حالة "التأهب القصوى"، محذرا من تصاعد التهديدات السيبرانية، وتدفّق الرسائل المُفبركة المُنتجة بالذكاء الاصطناعي على الشبكات الحكومية. ويُرجّح استخدام الحكومتان لخوارزميات رقابية وآليات ذكاء اصطناعي للكشف عن المحتوى، إذ وُسمت بعض المنشورات الزائفة على منصة إكس بإشعارات تصحيحية، فيما استعانت شركة ميتا بفِرق تحقق مدعومة بأنظمة ذكية تعمل بمختلف اللغات الإقليمية. لم تكن الحكومات وحدها من خاضت تلك المعركة، فقد أظهرت عاصفة المعلومات في الثامن من مايو/أيار كيف يمكن لبيئة التضليل أن تتحول إلى منظومة مكتفية بذاتها، بتحولها إلى حلقة ذاتية التوليد تعيد فيها وسائل الإعلام الموالية للحكومة، والحسابات المجهولة، والمستخدمون العاديون، تدوير الأكاذيب نفسها حتى تترسّخ كحقائق. على الجانب الهندي، بدأ السيناريو من الجهات المعتادة: مؤثرون قوميون، وحسابات تروّج للجيش، تدفع بـ"معلومات استخباراتية" غير مؤكدة، كطائرات باكستانية أُسقطت، وقوات خاصة تسللت إلى إسلام آباد، أو ضربات بحرية استهدفت كراتشي. النبرة كانت احتفالية، و جاهزة للانتشار، ثم دخلت القنوات الإخبارية الكبرى، فالتقطت هذه المزاعم، وقدّمتها بوسم "عاجل" على الشاشة، ومنحتها طابع الحقيقة. هكذا أُغلقت الدائرة: من وسائل التواصل إلى شاشات التلفاز، ثم تعود السردية إلى المنصات الرقمية، وتنتقل منها إلى تصريحات المتحدثين الرسميين، الذين كرر بعضهم الادعاءات ذاتها، مما أضفى عليها شرعية من خلال التكرار وحده. لا أدلة؟ لا توجد مشكلة، المهم أن القصة تُباع وتحقق رواجا. حتى واقعة اختراق حساب هيئة ميناء كراتشي -رغم واقعيتها- تحولت إلى أداة في حرب فرض السردية. في الهند، اعتُبرت العملية برهانا على هشاشة البنية التحتية الباكستانية. بينما في باكستان، كانت دليلا على حملة نفسية سيبرانية تديرها الهند. والنتيجة؟ منظومة رقمية لا تشترط صحة المعلومة، بل اتساقها مع الهوية والانتماء. بمجرد أن يتبنّى عدد كافٍ من المتابعين خبرا زائفا -أو تضخّمه حسابات لها مظهر موثوق- ينطلق كحقيقة. يلتقطه المذيعون، ويردده السياسيون، ويستقر في وعي الجمهور. وبحلول وقت التصحيح -إن حدث- تكون الرواية قد ترسّخت. هكذا تعمل ماكينة الأكاذيب بكامل طاقتها: كذبة تولد في تغريدة، ثم تغذيها خوارزمية، بعدها تتوّجها غرفة أخبار، ثم يُعاد ضخّها إلى مجرى الرأي العام، وقد صارت أكثر صلابة، وأصعب في نفيها أو التحقق منها. في معارك فرض السردية الجديدة، لا تنتصر الحقيقة، بل تسبقها الصورة الأولى بصرف النظر عن مصداقيتها. الرابح هنا هو من يملأ الفراغ الرقمي أولا، لا من يصحح المعلومة لاحقا. الحقيقة كضحية جانبية يحذر بعض المحللين من المخاطر المستحدثة التي يفرضها تصاعد الحرب المعلوماتية المدفوعة بالذكاء الاصطناعي. يذكر جويجيت بال، الأستاذ في جامعة ميشيغان ومتخصص في المعلومات المضللة، أن انفلات الخطاب على وسائل التواصل الاجتماعي قد يُرغم الحكومات على اتخاذ قرارات مصيرية؛ الفكرة الجوهرية أن الأكاذيب المتداولة، والخطاب القومي المتشنّج عبر الإنترنت، قد يدفعان القادة إلى اتخاذ خطوات متهورة تحت ضغط جماهيري يسعى إلى ردّ فعل سريع، لا إلى حكمة إستراتيجية، كما أشار لصحيفة واشنطن بوست. ويخشى بعض الباحثين من سرعة وواقعية المحتوى المُنتَج بالذكاء الاصطناعي. إذ تشير راشيل موران، الباحثة بمركز جامعة واشنطن للرأي العام، إلى أن الأزمات تُربك الجمهور أصلا، وتجعل التمييز بين الشائعة والحقيقة مهمة صعبة. لكن وجود مقاطع مزيفة عالية الجودة داخل هذا المزيج يزيد الأمر تعقيدا، ويُضعف قدرة الجمهور على اتخاذ قرارات مبنية على معلومات موثوقة. ببساطة، يمكن للمحتوى المقنع والمفبرك أن يشتّت الانتباه عن تحذيرات حقيقية، أو يضخم تهديدات وهمية، بما يؤدي إلى حسابات خاطئة قد تكون مكلفة. لكن ربما يتمثل القلق الأعمق في أن وتيرة إنتاج المعلومات المضللة، عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، باتت تتجاوز قدرتنا على الاستيعاب والرد. فعندما يُكتشف التزييف، تكون الرواية المضللة قد انتشرت وألقت بظلالها، في حين لا تلقى التصحيحات ذات الانتشار أو التأثير. وبهذا ندخل سباق تسلح جديد، ليس بين الدول فحسب، بل بين أدوات صناعة الأكاذيب وتلك التي تسعى إلى كشفها، في مشهد تتآكل فيه الثقة أكثر، ويُصبح التيقن من أي معلومة عملة نادرة. في هذا المشهد، يجد الجمهور نفسه غارقا في سيل من الادعاءات: الصادق منها والزائف، وذاك الذي يستحيل التحقق منه فورا. الحقيقة الرقمية باتت هشة للغاية، فصورة مصممة بإتقان أو تغريدة مضللة تكفي لتشكيل واقع مواز مؤقت، حتى يأتي النفي إن أتى أصلا. حتى الأخبار الحقيقية لم تعد تُستقبل بثقة، بعد أن أضعف التضليل المُمنهج مصداقية جميع المصادر. ومع تحوّل الحرب المعلوماتية المعززة بالذكاء الاصطناعي إلى الوضع الطبيعي الجديد، لم يعد ضباب الحرب يخيّم على جبهات القتال فحسب، بل غزا شاشات أجهزتنا، وتوغّل في صفحاتنا على مواقع التواصل الاجتماعي. التحدي الأكبر الآن لا يكمن في كشف الأكاذيب، بل في استعادة الحد الأدنى من الثقة والعقلانية في زمن تتفوّق فيه البروباغندا الفورية، وتُصبح فيه الحقيقة أولى ضحايا الذكاء الاصطناعي. قد لا نعتبر ما جرى مجرد حلقة جديدة في حروب البروباغندا المعتادة، بل يمكننا اعتباره محاكاة تمهيدية لعالم أصبحت فيه الحقيقة نفسها ضحية جانبية؛ عالم تُفبرك فيه الادّعاءات بأدوات ذكية، ويُصدّقها أغلب الجمهور فورا، ثم تُضخَّم عالميا قبل أن تتاح أي فرصة لأقرب مدقّق معلومات للتثبت من صحتها.


الجزيرة
منذ 18 ساعات
- الجزيرة
بوتين: نسعى لزيادة صادرات الأسلحة الروسية
قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم الجمعة إن بلاده يتعين عليها تعزيز مكانتها في سوق السلاح العالمية من خلال زيادة صادراتها من الأسلحة. وأضاف في تصريحات أذاعها التلفزيون أن المجمع العسكري في البلاد يحتاج إلى مزيد من الدعم الحكومي لتطوير إمكاناته، مشيرا إلى أن "محفظة طلبيات المنتجات العسكرية الروسية أصبحت الآن ضخمة وتقدر بعشرات المليارات من الدولارات. من الضروري زيادة حجم شحنات التصدير بشكل فعال". ولفت بوتين إلى الأسلحة التي تستخدم الذكاء الاصطناعي قائلا "مستقبل سوق الأسلحة العالمية يكمن في هذه التكنولوجيا. ستبرز هنا منافسة شرسة تتضح معالمها بالفعل، وعلينا أن نكون مستعدين لها". واعتبر أن تطوير التعاون العسكري التكنولوجي أداة مهمة للتطوير التكنولوجي للجيش والبحرية في روسيا، مشيرا إلى أن المهمة الأساسية لصناعة الدفاع في روسيا تكمن في توفير المعدات اللازمة للمشاركين بالعملية العسكرية الخاصة. ومنذ أن أرسلت موسكو آلاف الجنود إلى أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، انصب تركيز صناعة الدفاع على الإنتاج المحلي لدعم العمليات العسكرية هناك. ويقول معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام إن صادرات الأسلحة الروسية انخفضت إلى 7.8% من السوق العالمية بين عامي 2020 و2024 مقارنة مع 21% في السنوات الأربع السابقة. وعزا المعهد هذا الانخفاض إلى العقوبات الدولية المفروضة على روسيا بسبب الصراع في أوكرانيا وزيادة الطلب المحلي على الأسلحة. وتُعد الهند والصين ومصر من بين أكبر مشتري الأسلحة الروسية.


الجزيرة
منذ 19 ساعات
- الجزيرة
المشير وعودة الاعتبار للجيش.. معركة خاطفة تعيد لباكستان هويتها
أن يعلَّق على صدر ضابط رفيع نيشان جديد ليس أمرًا مثيرًا، لكن أن ترافق الترقية زفّة قومية فإنها لا شك رسالة بحد ذاتها.. أقصد هنا ترقية قائد الجيش الباكستاني إلى رتبة مشير، والاحتفاء بها شعبيًا وسياسيًا، ما يعكس إعادة الاعتبار للجيش الذي واجه على مدى عقدين ونصفٍ أزمة ثقة مع شعبه. ولعل المفارقة تكمن في أن من أوصى بترقية الجنرال عاصم منير هو رئيس الوزراء شهباز شريف، وهو شقيق رئيس الوزراء السابق نواز شريف، الذي أهانه الجيش وعائلتَه بانقلاب الجنرال برويز مشرّف عام 1999، ولم تنتهِ محنة العائلة في السجن والإبعاد إلا بعد رحيل الجنرال مشرّف. ولا شك أن مشرّف لم يكن بإمكانه الانقلاب على حكومة منتخبة لولا تراجع شعبية شريف بعد معركة كارغيل مع الهند؛ التي ظهر فيها أن باكستان خسرت على طاولة المفاوضات ما ربحته في المعركة، وذلك بفعل الدور الأميركي الذي أجبر باكستان على الانسحاب من المناطق التي استولت عليها بأعالي كشمير في صيف ساخن. انخرط الجيش في بداية حكم مشرف بأعمال مدنية أثارت حنق الشارع الباكستاني، مثل فرض ضريبة المبيعات البغيضة على الشعب والتجار، لكنها لم تكن كافية للإطاحة به من البرج الذي يعتليه، باعتباره حامي البلاد وقلعتها الحصينة، بل إن قلة قليلة من الشعب الباكستاني كانت قادرة على تحدي دور الجيش في الحياة السياسية، وتحالفه المتين مع الولايات المتحدة، حتى إن ساسةً وكتابًا مقربين من الجيش دأبوا على الترويج لقناعاتهم بأن حياة باكستان مرهونة بثلاث قوى؛ الله والجيش وأميركا، ويختصرونها بالإنجليزية بـ"AAA" (Pakistan survived by triple As: Allah, Army and America). الحرب على الإرهاب إعلان انحدار شعبية الجيش بدأت مع إعلان الجنرال مشرف انضمامه للحرب على "الإرهاب" في أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن، متحديًا المشاعر الشعبية الرافضة للدخول في حرب لا ناقة لباكستان فيها ولا جمل. ولعل مشرف كان يدرك جيدًا محرمات الشارع الباكستاني الثلاث، وهي المساس بالجيش والسلاح النووي وكشمير، والتي استند إليها في التضحية بطالبان ونظامها، وما كان يصفه مفكّرون باكستانيون بالعمق الإستراتيجي لبلادهم في صراعها مع الهند، واستند إلى ثلاثة أسباب لانضمامه للتحالف الأميركي الغربي الجديد، هي وعود أميركية غربية بحل جذري لقضية كشمير، والحفاظ على السلاح النووي، وإنقاذ الاقتصاد. لكن الحرب على "الإرهاب" سرعان ما ارتدّت على الداخل الباكستاني، ووجد الجيش نفسه يخوض حروبًا عبثية، لا سيما في مناطق القبائل المحاذية لأفغانستان، وأصبحت حكومة مشرف تروّج بأن التهديد الذي تتعرض له باكستان داخلي وليس خارجيًا، وعليها تطهير البلاد من المنظمات الإرهابية. وتبين لكثير من الباكستانيين أن ادعاءات التهديد الداخلي لم تكن إلا ذريعة للانحناء أمام العاصفة، وعلى حساب مكانة الجيش ودوره؛ فلم تُحلّ قضية كشمير، ولم يتحسن الاقتصاد، وبقي تهديد التجريد من السلاح النووي قائمًا. لقد اعترف الجنرال مشرف في مذكراته "على خط النار" بأن الحرب على الإرهاب والاقتصاد أطاحتا بشعبيته، وجسدهما في اقتحام الجيش للمسجد الأحمر في إسلام آباد وانهيار قطاع الكهرباء، ما تسبب بهروب المستثمرين المحليين والأجانب، وقال إنهما حولاه من بطل إلى لا شيء (From Hero to Zero). وتبدد ادعاء المصلحة الوطنية العليا في الانضمام للحرب على الإرهاب، وثبت أن الانضمام للحرب لم يكن خيارًا، وإنما بسبب تهديدات أميركية صريحة بإعادة باكستان إلى العصر الحجري، وفقًا لم ذكره مشرف في كتاب "على خط النار". كشمير واختبارات بالنار تراجعت المناوشات عبر خط المراقبة الفاصل بين شقي كشمير، وخمدت جذوة حراك الحرية في القسم الذي تسيطر عليه الهند، لكن المواجهات تحولت من الأرض إلى الجو بدءًا من عام 2019، حيث هاجمت مقاتلات هندية في فبراير/ شباط ما وصفته بمعاقل المنظمات الإرهابية، بحسب تصنيفها للمنظمات الكشميرية، بينما قالت باكستان إن سلاح الجو تعقب طائرات هندية وأجبرها على الفرار، وفي يونيو/ حزيران أسقطت المقاتلات الباكستانية طائرة هندية وأسرت قائدها. يبدو أن نيودلهي نجحت في اختبار مدى ردة الفعل الباكستانية، فقررت إلغاء الوضع الخاص بكشمير في 5 أغسطس/ آب، وشطب المادة 73 من الدستور، وفرض إجراءات عززت قبضتها على القسم الذي تسيطر عليه من كشمير وشعبها. وبعد 6 سنوات، كان جيش باكستان على موعد مع مواجهة جديدة في سماء كشمير، قلبت المعادلة وأعادت له مجده الشعبي، كيف لا وقد حسم المعركة بتوجيه ضربة قاضية لسلاح الجو الهندي في 8 مايو/ أيار، إذ قال إنه أسقط خلال ساعة احدة 5 من أحدث الطائرات المقاتلة من صناعة فرنسية وروسية، إضافة إلى تدمير عشرات الطائرات المسيرة من صناعة إسرائيلية. توقفت الحرب بتدخل أميركي، اعتبره الباكستانيون إنقاذًا للهند من هزيمة محققة، وإنقاذًا لسمعة السلاح الفرنسي والإسرائيلي التي أطاحت بها الصناعة الصينية.. واستعاد الجيش هيبته. لا شك أن جزءًا من صراع الساسة والجيش هو انقسام على الهوية، لا سيما أن الجماعات الإسلامية واسعة النفوذ الشعبي تكافح من أجل تحقيق أهداف مبدئية، مرتبطة بفكرة تأسيس باكستان على العقيدة الإسلامية وفق نظرية الأمتين سياسة ودين يبدو أن حسم الجولة الأخيرة مع سلاح الجو الهندي لصالح باكستان جمّد الصراع العلني بين السياسيين والجيش أو أجّله، لا سيما بعد انقسام واسع في المجتمع الباكستاني، خلّفه صراع حركة الإنصاف (حزب عمران خان) مع الجيش والقوى السياسية المتوافقة معه، وانتهى بزج خان في السجن، وتوافق الخصوم السابقين في حكومة واحدة ممثلين بعائلتي شريف وبوتو مع الجيش. ولا شك أن جزءًا من صراع الساسة والجيش هو انقسام على الهوية، لا سيما أن الجماعات الإسلامية واسعة النفوذ الشعبي تكافح من أجل تحقيق أهداف مبدئية، مرتبطة بفكرة تأسيس باكستان على العقيدة الإسلامية وفق نظرية الأمتين، التي ترى أن الأمة الإسلامية في شبه القارة الهندية لا يمكنها القبول بالحياة تحت ثقافة وعقيدة هندوسية، وقد استعاد الجنرال منير نظرية الأمتين في تجييشه للمواجهة الأخيرة. وخلافًا لعهد "الحرب على الإرهاب"، الذي حاول طمس الهوية الإسلامية لأول جمهورية أطلقت على نفسها وصف "الإسلامية"، ظهر مؤخرًا خطاب ديني في السياسة الباكستانية، ابتداءً بتفاخر الجيش بقائده الذي يحفظ القرآن وأنه ابن عالم دين، وتطعيم الجنرال خطاباته بتلاوة قرآنية سليمة، وانتهاءً بتسمية العملية "البنيان المرصوص" في مواجهة عملية "سندور" الهندية. يعود هذا الخطاب الديني بالذاكرة إلى عهد مغازلة قيادة باكستان للولايات المتحدة؛ فقد دشنت حكومة الرئيس مشرف فعاليات واسعة، تشجع النساء على التبرج لإظهار انفتاح المجتمع الباكستاني، وغيرها من البرامج والأنشطة الرياضية والاجتماعية التي تتوافق مع تلك المرحلة. وفي مقابل خطابات قادة باكستانيين (عسكريين ومدنيين) في المواجهة الأخيرة، جسدها ما وُصف بخطاب النصر لشهباز شريف والقول إن بلاده دافعت عن "لا إله إلا الله"، يجدر التذكير بتسجيل فيديو سُرّب من اجتماع للحكومة ترأسه رحمان ملك، وزير الداخلية في حكومة مشرف، وظهر فيه يتلعثم ويخطئ مرات عدة في قراءة سورة الإخلاص، وعندما سألتُ من يعرفون الوزير من قرب أكدوا أنه من أسرة معروفة بتدينها، ويستحيل أن يخطئ بسورة "قل هو الله أحد"، إحدى أقصر السور في القرآن الكريم. قد تكون السياسة اقتضت تضليل القوى الغربية -خاصة الأميركيين- في نفق، كان لا بد لباكستان أن تسلكه في ظل قوة مهيمنة على العالم، وكلفت باكستان وجيشها الكثير.. أما في المواجهة مع الهند، فإن أي قيادة لا يسعها إلا أن تستدعي السياسة التي قامت عليها باكستان في قرار تأسيسها، الذي اتُّخذ باجتماع لاهور في 23 مارس/ آذار 1940.