
لماذا ارتفع عدد المُشخَصين بالتوحد في الوقت الراهن؟
VENESSA SWABY/LUKE NUGENT (LUKE NUGENT STUDIOS)
تم تشخيص فينيسا سوابي وإيلي ميدلتون بالتوحد في سن متقدم
ربما شاهدتَ مقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي توجه رسالة لك: "5 علامات تُشير إلى إصابتك بالتوحد"، وربما سمعتَ عن قوائم الانتظار الطويلة لتشخيص التوحد، وربما تعلم، أو تشعر، بأن أعداد المُشخصين بالتوحد في ازدياد.
بالنسبة للبعض، فإن التوحد هو خوف (ماذا لو حدث هذا لطفلي؟)؛ وبالنسبة لآخرين، هو هوية، وربما حتى قوة خارقة.
فما الحقيقة بشأن عدد الأشخاص المُشخصين بالتوحد، وماذا يعني ذلك؟
تقول جيني راسل، الأستاذة المساعدة في الطب النفسي بكلية لندن الجامعية ومؤلفة كتاب "صعود التوحد"، إنه لتشخيص شخص ما بالتوحد، فيمكن ملاحظة أن يواجه صعوبات مستمرة في الحياة الاجتماعية والتواصل الاجتماعي، ومن الأمثلة على ذلك عدم المشاركة في الحديث مع الآخرين و في بعض الأحيان عدم القدرة على التحدث إطلاقاً.
وتضيف إن الاهتمام المحدود بما يجري حول الشخص وتكرار بعض السلوكيات تُعدّ جزءًا من مجموعة ثانية من السمات المعروفة للتشخيص، مثل "رفرفة أو أرجحة اليدين، وتفضيل الالتزام بروتين معين، مثل تناول ذات الطعام يومياً".
البيانات
ما الأدلة على أن عدد الأشخاص الذين تنطبق عليهم هذه المعايير آخذ في الازدياد؟
قادت راسل دراسةً تناولت التغيرات في معدلات تشخيص التوحد في المملكة المتحدة على مدى 20 عاماً، وقد اعتمدت الدراسة على عينة كبيرة من بيانات حوالي 9 ملايين مريض مسجلين في عيادات الأطباء العموميين.
BBC
وتوصلت الدراسة إلى أن عدد تشخيصات التوحد الجديدة في عام 2018 زاد ثمانية أضعاف مقارنة بعام 1998.
الأمر لا يقتصر على المملكة المتحدة، فرغم نقص البيانات في دول كثيرة، إلا أن البيانات المتوفرة من الدول الناطقة بالانجليزية والدول الأوروبية تشير إلى ارتفاع مماثل كما في المملكة المتحدة في تشخيص التوحد.
وهنا، يجب الانتباه لهذه النقطة، إن الارتفاع في عدد الأشخاص الذين تم تشخيص إصابتهم بالتوحد ليس هو نفسه الارتفاع في عدد الأشخاص الذين يعيشون معه.
هل يُمكن تفسير هذا الارتفاع في التشخيص بتغير تعريف المصابين بالتوحد، وليس بزيادة عددهم؟
لماذا ترتفع معدلات التشخيص؟
تقول فرانشيسكا هابي، أستاذة علم الأعصاب الإدراكي في كلية كينجز كوليدج بلندن، والتي تُجري أبحاثاً حول التوحد منذ عام 1988 إن تعريف التوحد لم يكن ثابتاً، فقد ظهرت أولى الدراسات التي وصفت التوحد في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. "الوصف الأصلي للتوحد كان حول حاجة الأطفال للحصول على دعم أكبر لأداء بعض المهام كالكلام، وبعضهم كان لا يتكلم إطلاقاً".
لكن التعريف وُسِّع بعد ذلك، كما تقول الأستاذة هابي، عندما أُضيفت متلازمة أسبرغر إلى أدلة التشخيص في تسعينيات القرن الماضي. وتُضيف إن المصابين بمتلازمة أسبرغر (اضطراب في النمو العصبي) كانوا يُعتبرون ضمن طيف التوحد بسبب الصعوبات الاجتماعية والسلوكيات المتكررة التي لديهم، لكنهم كانوا يتحدثون بطلاقة ويتمتعون بذكاء جيد.
وكانت هناك مجموعة فرعية أخرى من التوحد التي تمت إضافتها وهي "تشخيص شبكة الأمان" المسمى "اضطراب النمو الشامل غير المحدد " (بي دي دي- إن أو إس) والذي أدى إلى زيادة الأرقام أيضاً.
وتشير الأدلة التشخيصية اليوم ببساطة إلى اضطراب طيف التوحد، أو إيه إس دي، والذي يشمل الأشخاص الذين تم تشخيصهم سابقًا بمتلازمة أسبرغر أو اضطراب النمو الشامل غير المحدد.
هذا يعني أن تعريف تشخيص التوحد أصبح أشمل.
التوحد عند النساء والفتيات
BBC
سارة هندريكس، مشخصة بالتوحد، تقوم بتشخيص الأشخاص بالتوحد منذ أكثر من 15 عامًا
وتشير الدراسات إلى أن الإناث يُشخصن بشكل أسرع من الذكور. تقول سارة هندريكس مؤلفة كتاب "النساء والفتيات على طيف التوحد": "أمارس عملي منذ ما يقارب 15 أو 20 عاماً، وفي البداية، كان معظم من يتقدمون للتشخيص من الذكور، أما الآن فأرى معظم من يتقدمون للتشخيص من الإناث".
وتقول إن الزيادة الكبيرة في عدد الأشخاص الذين تم تشخيص إصابتهم بالتوحد تعود إلى محاولة "أن نعوض التأخر الذي استمر لعقود في تشخيص أشخاص مثلي" - المؤلفة سارة هي كذلك مُشخصة بطيف التوحد.
وبما أن التوحد كان يُنظر إليه في الأصل على أنه يؤثر بشكل رئيسي على الذكور،فإن الفتيات اللاتي لديهن التوحد كان يتم تشخيصهن بدلاً من ذلك بحالات الصحة العقلية مثل القلق الاجتماعي، واضطراب الوسواس القهري، واضطراب الشخصية الحدية، كما تقول هندريكس.
والآن أصبح لدينا فهم أفضل لكيفية ظهور التوحد لدى الفتيات والنساء، وذلك بفضل زيادة الأبحاث والكتب مثل كتاب هندريكس، الذي نُشر لأول مرة في عام 2014.
وتقول إن أحد الفروق الجندرية المهمة هو أن الفتيات قد يكنَّ أكثر مهارة في "إخفاء" سمات التوحد، أي التكيف اجتماعياً بإخفاء علامات المرض، ربما عن طريق تقليد سلوك الآخرين.
تشخيص المزيد من البالغين
كانت الزيادة في معدلات التشخيص بين البالغين أسرع بكثير منها بين الأطفال. وتوضح السيدة هيندريكس أن هذا يظهر جانباً آخر من توسع نطاق تشخيص التوحد، حيث أصبح يشمل الآن أشخاصاً يحتاجون إلى دعم أقل.
وتقول: "أعتقد أننا نتحدث عن أفراد لا يعانون من إعاقة ذهنية. فالأشخاص الذين يعانون من تأخر في النمو أو الكلام كانوا أكثر عرضة للتشخيص بشكل مبكر جداً لأن العلامات كانت أكثر وضوحاً في سن صغيرة".
تُظهر إحدى الدراسات أنه بين عامي 2000 و2018، زاد تشخيص التوحد بين المصابين بإعاقة ذهنية بنحو 20 بالمئة، بينما قفزت النسبة بين غير المصابين بإعاقة ذهنية إلى 700 بالمئة.
أما "إيلي ميدلتون"، وهي كاتبة وصانعة محتوى مصابة بالتوحد وفرط الحركة ونقص الانتباه، فترى أن هذا تطور إيجابي.
وتقول الشابة البالغة من العمر 27 عاماً "بدلاً من تشكيك البعض في زيادة التشخيص، عليهم أن يتساءلوا: كيف عاش كل هؤلاء الناس كل هذه السنوات دون تشخيص أو دعم، وكيف تم إهمالهم بهذا الشكل؟"
LUKE NUGENT (LUKE NUGENT STUDIO
تعتقد إيلي ميدلتون، التي تعاني من اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة، أن زيادة تشخيصات التوحد أمر إيجابي
وتقول إن حالتها النفسية تدهورت بشكل خطير قبل تشخيصها بالتوحد. "كنت أتناول جرعات كبيرة من مضادات الاكتئاب المسموح بها لشخص في سن السابعة عشرة، لم أكن أستطيع البقاء وحدي، ولا الخروج من المنزل".
وساعدها تشخيص إصابتها بالتوحد قبل ثلاث سنوات على تغيير نمط حياتها والحفاظ على صحتها النفسية في حال أفضل.
ويعبر آخرين عن قلقهم من أن الصورة التي يراها الناس الآن عن التوحد في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي تشوه التصور العام عنه.
وتقول فينيسا سوابي، وهي أيضاً مصابة بالتوحد وتدير مجموعات دعم للأطفال المشخصين بالتوحد وأهاليهم من خلال منظمتها إيه 2 آدفايس (A2ndvoice)، إن التركيز على المشاهير قد يؤدي إلى "تلميع" صورة التوحد. وفي المقابل، تشعر عائلات الأطفال المشخصين بالتوحد غير الناطقين بأنهم "مهملون".
ومع زيادة عدد الأشخاص المشخصين بالتوحد، زاد التوتر حول من يملك حق تعريف المصطلح - وما يعنيه بالضبط.
BBC
تدير فينيسا سوابي مجموعات دعم للأطفال المصابين بالتوحد
الأسباب البيئية
مع زيادة عدد الأشخاص المُشخَّصين بالتوحد، يزداد الوعي بهذه الحالة، مما يعني زيادة أعداد المُعرّفين على أنهم مصابون بالتوحد.
وأدى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في ذلك، فبعض النظريات التي تم دحضها - مثل تلك التي تربط بين لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية (MMR) والإصابة بالتوحد - ما زالت عالقة في الأذهان. بينما يرى آخرون أن هناك شيئاً فيما نأكله أو نشربه أو نستنشقه يتسبب في زيادة حالات التوحد.
لكن كما رأينا، تشير البيانات إلى أن ارتفاع أعداد التشخيص يمكن تفسيره باتساع تعريف التوحد، وليس بسبب زيادة في الحالات الكامنة. كما أن هناك أبحاثاً قوية تثبت أن التوحد قد ينتج عن الجينات الموروثة من الأهل.
فهل هناك أي دليل على أن العوامل البيئية قد تلعب دوراً -ولو محدوداً- في هذا الارتفاع؟
لقد فحصت الأستاذة جيني راسل، الأبحاث المتعلقة بالعوامل البيئية التي من المحتمل أن لها علاقة بالتوحد، ووجدت أن عدداً قليلاً منها فقط يبدو معقولاً لتفسير جزء من هذه الزيادة.
تقول: "هناك ارتباط واضح إلى حد ما بين التوحد وعمر الوالدين. فكلما تقدم الأب أو الأم في العمر، زادت احتمالية إنجاب طفل مصاب بالتوحد، لكن التأثير ليس كبيراً".
وتضيف أن هناك بعض الأدلة حول "الولادة المبكرة، والعدوى أثناء الحمل، وبعض مضاعفات الولادة".
وتؤكد السيدة راسل أن وضع هذه العوامل المحتملة في إطارها الصحيح هو أمر بالغ الأهمية.
وتقول: "أعتقد بصدق أن الغالبية العظمى من هذه الزيادة تعود إلى ما أسميه 'الثقافة التشخيصية'. لقد تغير مفهومنا عن هذه الحالة، وهذا أدى إلى ارتفاع الأعداد".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الوسط
منذ 2 أيام
- الوسط
رُصدت حالتان في مصر: قصة مرض نادر في بلدة نائية في البرازيل
Mariana Castiñeiras/Caroline Souza عاشت الأسر المتضررة في سيرينها دوس بينتوس دون تشخيص حتى وصلت عالمة الوراثة سيلفانا سانتوس لا تزال سيلفانا سانتوس تتذكر جيرانها في البلدة الصغيرة التي زارتها لأول مرة قبل 20 عامًا، حيث فقد العديد من الأطفال القدرة على المشي. تتذكر سانتوس بنات لولو اللواتي كنّ يسكُنَّ عند مدخل البلدة.، وريجان في نهاية الطريق، وماركينيوس بعد محطة الوقود، وباولينيا قرب المدرسة. تقع بلدة سيرينها دوس بينتوس النائية في شمال شرق البرازيل، ويقل عدد سكانها عن خمسة آلاف نسمة. في هذه البلدة اكتشفت عالمة الأحياء والوراثة سيلفانا سانتوس حالةً مرضية غير معروفة من قبل، وأطلقت عليها اسم "متلازمة سبوان". وتنتج هذه المتلازمة عن طفرة جينية تؤثر على الجهاز العصبي، فتُضعف الجسم تدريجيا، ولا تظهر إلا عندما يُورّث الجين المُعدّل من كلا الوالدين. وقد مثّل بحث سانتوس أول توصيف علمي لهذا المرض في أي مكان في العالم، وبفضل هذا الإنجاز، إضافة إلى أبحاثها اللاحقة، اختيرت ضمن قائمة أكثر 100 امرأة تأثيرًا في العالم وفق تصنيف بي بي سي لعام 2024. وقبل وصول سانتوس، لم يكن لدى العائلات أي تفسير للمرض الذي يصيب أطفالهم. أما اليوم، فيتحدث السكان بثقة عن "سبوان" وعلم الوراثة. يقول ماركينيوس، أحد المصابين: "لقد أعطتنا تشخيصا لم نكن نعرفه من قبل. وبعد البحث، جاءت المساعدة في صورة أشخاص، وتمويل، وكراسي متحركة". سيرينها دوس بينتوس: عالم قائم بذاته كانت سانتوس تعيش في ساو باولو، أكبر وأغنى مدينة في البرازيل، وكان جيرانها في الشارع الذي كانت تسكن فيه تقريبا من عائلة واحدة من بلدة سيرينها حيث كان العديد منهم أبناء عمومة بدرجات متفاوتة، ومتزوجين من بعضهم البعض. وأخبروا سانتوس عن بلدتهم "هناك الكثير من الناس الذين لا يستطيعون السير، لكن لا أحد يعرف السبب". وكانت إحدى بنات الجيران، زيرلانديا، تعاني من حالة مرضية مُنهكة ففي طفولتها، كانت عيناها تتحركان لا إراديًا، ومع مرور الوقت، فقدت قوة أطرافها واحتاجت إلى كرسي متحرك للتنقل، وكانت تحتاج إلى مساعدة حتى في أبسط المهام. Mariana Castiñeiras/BBC إينيس لديها إبنان مصابان بمتلازمة سبوان قادت سنوات من البحث سانتوس وفريقها البحثي إلى تحديد هذه الأعراض على أنها أعراض اضطراب وراثي لم يُوثّق سابقًا، وهو متلازمة سبوان. وعثروا لاحقًا على 82 حالة أخرى حول العالم. بدعوة من جيرانها، زارت سانتوس سيرينها لقضاء عطلة، وتصف وصولها إلى هناك بأنه دخول "عالم خاص"، ليس فقط للمناظر الطبيعية الخلابة ومناظر الجبال، ولكن أيضًا لما بدا وكأنه مصادفة اجتماعية بارزة. كلما تجولت وتحدثت مع السكان المحليين، ازدادت دهشتها من شيوع زواج الأقارب. لقد أدت عزلة سيرينها وقلة الهجرة الداخلية إلى أن يصبح العديد من سكانها أقارب، مما يزيد من احتمالية الزواج بين أبناء العمومة. Mariana Castiñeiras/BBC مدخل سيرينها دوس بينتوس لم يكن العديد من الأزواج على دراية بوجود صلة قرابة بينهم إلا بعد الزواج، بينما كان آخرون يعلمون بذلك، لكنهم كانوا يعتقدون أن هذه الروابط تستمر لفترة أطول وتوفر دعمًا عائليًا أقوى. ويُعتبر الزواج بين الأقارب أمرًا شائعا نسبيا في أنحاء العالم، حيث يُقدّر بنحو 10% من حالات الزواج، ومعظم الأطفال المولودين من هذه الزيجات يتمتعون بصحة جيدة، حسب الخبراء. مع ذلك، تواجه هذه الزيجات خطرًا أكبر في انتقال طفرات ضارة عبر العائلة. ويشرح عالم الوراثة لوزيفان كوستا ريس من الجامعة الفيدرالية البرازيلية في ريو غراندي دو سول: "إذا لم يكن الزوجان أقرباء، فإن احتمال إنجاب طفل مصاب باضطراب وراثي نادر أو إعاقة يتراوح بين 2 و3 في المئة، أما بالنسبة لأبناء العمومة، فتزيد النسبة إلى ما بين 5 و6 في المئة". وأظهرت دراسات لاحقة أن أكثر من 30% من الأزواج في سيرينها كانوا أقارب، وأن ثلثهم أنجبوا طفلا واحدا على الأقل من ذوي الإعاقة. طريق طويل للتشخيص انطلقت سانتوس للبحث عن تشخيص لسكان سيرينها، وبدأت التخطيط لدراسة جينية مفصلة، الأمر الذي تتطلب رحلات متعددة، ثم انتقلت في النهاية إلى المنطقة. لقد سافرت مسافة 2000 كيلومتر من وإلى ساو باولو مرات عديدة في السنوات الأولى من بحثها. وجمعت عينات الحمض النووي من منزل إلى منزل، وتبادلت أطراف الحديث أثناء احتساء القهوة، وجمعت قصصًا عائلية، في محاولة لتحديد الطفرة المسببة للمرض. وما كان من المفترض أن يستغرق 3 أشهر من العمل الميداني تحول إلى سنوات من التفاني. وأدى كل ذلك إلى نشر دراسة في عام 2005، والتي كشفت عن وجود سبوان في المناطق النائية في البرازيل. Mariana Castiñeiras/BBC لمواصلة أبحاثها، عاشت سانتوس لمدة ثلاث سنوات في المناطق الداخلية من ريو غراندي دو نورتي وانتقلت لاحقًا إلى المناطق الداخلية من بارايبا، حيث اكتشفت أمراضًا أخرى وجد فريق سانتوس أن الطفرة تتضمن فقدان جزء صغير من كروموسوم، مما يُسبب زيادة في إنتاج جين لبروتين رئيسي في خلايا الدماغ. ويتذكر المزارع لولو، الذي تحمل ابنته ريجان جين سبوان: "قالوا إنها جاءت من ماكسيميانو، وهو زير نساء في عائلتنا". وتزوج لولو، البالغ من العمر الآن 83 عامًا، ابنة عمه ولم يغادر سيرينها قط، ولا يزال يرعى الماشية ويعتمد على عائلته في رعاية ريجان، التي تُعاني من صعوبات في أداء مهامها اليومية. لكن الطفرة الجينية وراء سبوان أقدم بكثير من أسطورة ماكسيميانو العجوز، فمن المرجح أنها وصلت منذ أكثر من 500 عام مع المستوطنين الأوروبيين الأوائل في شمال شرق البرازيل. وتقول سانتوس: "تُظهر دراسات التسلسل الجيني وجود أصول أوروبية قوية لدى المرضى، مما يدعم سجلات الوجود البرتغالي والهولندي واليهود السفارديم في المنطقة". وازدادت النظرية قوةً بعد اكتشاف حالتين من متلازمة سبوان في مصر، وأظهرت دراساتٌ أخرى أن الحالتان المصريتان تشتركان أيضًا في أصول أوروبية، مما يشير إلى أصلٍ مشترك في شبه الجزيرة الأيبيرية. وتقول سانتوس: "من المرجح أن يكون ذلك قد حدث مع أقارب من اليهود السفارديم أو الموريسكيين الفارين من محاكم التفتيش"، وتعتقد أن هناك حالاتٍ أخرى قد توجد عالميًا، وخاصةً في البرتغال. فهم المخاطر Mariana Castiñeiras/BBC مانويل فيرمينو، المعروف باسم سيو لولو، يعيش مع ابنته ريجان، إحدى مرضى سبوان في البلدة على الرغم من التقدم الطفيف نحو إيجاد علاج، إلا أن متابعة المرضى أحدثت بعض التغيير، وتتذكر ريجان كيف كان الناس يُطلقون عليهم سابقًا "المقعدين"، الآن، يُقال إنهم ببساطة مصابون بمتلازمة سبوان. ولم تُضف الكراسي المتحركة الاستقلالية فحسب، بل ساعدت أيضًا في منع التشوهات، في الماضي، كان الكثير من المصابين بهذه الحالة يُتركون ببساطة مستلقين على السرير أو على الأرض. ومع تقدم حالة سبوان، تزداد القيود الجسدية مع التقدم في السن، وبحلول سن الخمسين، يصبح جميع المرضى تقريبًا معتمدين بشكل كامل على الآخرين. هذا هو حال نجلي إينيس، وهم من بين أكبر المصابين سنًا في سيرينها حيث يبلغ تشيكينيو من العمر 59 عامًا، ولم يعد قادرًا على الكلام، في حيت يبلغ ماركينيوس من العمر 46 عامًا، ولديه قدرات تواصل محدودة. وتقول إينيس، المتزوجة من ابن عم من الدرجة الثانية: "من الصعب يكون لك ابن له ظروف خاصة، نحبهم بنفس القدر، لكننا نعاني من أجلهم". Mariana Castiñeiras/BBC بفضل الأبحاث، حصلت باولا والعديد من المرضى الآخرين بالفعل على كراسي متحركة آلية وتزوجت لاريسا كيروز، ابنة أخ تشيكينيو وماركينيوس، أيضًا من قريب بعيد، لم تكتشف هي وزوجها ساولو جدهما المشترك إلا بعد أشهر من المواعدة. وتقول: "في سيرينها دوس بينتوس، جميعنا أبناء عمومة، وتربطنا صلة قرابة بالجميع". ويُعدّ الأزواج مثل لاريسا وساولو محور مشروع بحثي جديد تشارك فيه سانتوس، فبدعم من وزارة الصحة البرازيلية، سيفحص المشروع 5 آلاف حالة زواج للكشف عن الجينات المرتبطة بأمراض متنحية خطيرة. ولا يهدف المشروع إلى منع زواج الأقارب، بل إلى مساعدة الأزواج على فهم المخاطرالجينية، كما تقول سانتوس. وتعمل سانتوس الآن كأستاذة جامعية، وتدير أيضًا مركزًا لتعليم علم الوراثة، وتعمل على توسيع نطاق الاختبارات في شمال شرق البلاد. وعلى الرغم من أنها لم تعد تعيش في سيرينها دوس بينتوس، إلا أن كل زيارة لها تُشعرها وكأنها عودة إلى الوطن. وكما تقول إينيس:"يبدو الأمر كما لو أن سيلفانا فرد من العائلة". Mariana Castiñeiras/BBC لم تعد سيلفانا سانتوس تعيش في المنطقة، لكنها تستمر في زيارتها


الوسط
١١-٠٥-٢٠٢٥
- الوسط
لماذا ارتفع عدد المُشخَصين بالتوحد في الوقت الراهن؟
VENESSA SWABY/LUKE NUGENT (LUKE NUGENT STUDIOS) تم تشخيص فينيسا سوابي وإيلي ميدلتون بالتوحد في سن متقدم ربما شاهدتَ مقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي توجه رسالة لك: "5 علامات تُشير إلى إصابتك بالتوحد"، وربما سمعتَ عن قوائم الانتظار الطويلة لتشخيص التوحد، وربما تعلم، أو تشعر، بأن أعداد المُشخصين بالتوحد في ازدياد. بالنسبة للبعض، فإن التوحد هو خوف (ماذا لو حدث هذا لطفلي؟)؛ وبالنسبة لآخرين، هو هوية، وربما حتى قوة خارقة. فما الحقيقة بشأن عدد الأشخاص المُشخصين بالتوحد، وماذا يعني ذلك؟ تقول جيني راسل، الأستاذة المساعدة في الطب النفسي بكلية لندن الجامعية ومؤلفة كتاب "صعود التوحد"، إنه لتشخيص شخص ما بالتوحد، فيمكن ملاحظة أن يواجه صعوبات مستمرة في الحياة الاجتماعية والتواصل الاجتماعي، ومن الأمثلة على ذلك عدم المشاركة في الحديث مع الآخرين و في بعض الأحيان عدم القدرة على التحدث إطلاقاً. وتضيف إن الاهتمام المحدود بما يجري حول الشخص وتكرار بعض السلوكيات تُعدّ جزءًا من مجموعة ثانية من السمات المعروفة للتشخيص، مثل "رفرفة أو أرجحة اليدين، وتفضيل الالتزام بروتين معين، مثل تناول ذات الطعام يومياً". البيانات ما الأدلة على أن عدد الأشخاص الذين تنطبق عليهم هذه المعايير آخذ في الازدياد؟ قادت راسل دراسةً تناولت التغيرات في معدلات تشخيص التوحد في المملكة المتحدة على مدى 20 عاماً، وقد اعتمدت الدراسة على عينة كبيرة من بيانات حوالي 9 ملايين مريض مسجلين في عيادات الأطباء العموميين. BBC وتوصلت الدراسة إلى أن عدد تشخيصات التوحد الجديدة في عام 2018 زاد ثمانية أضعاف مقارنة بعام 1998. الأمر لا يقتصر على المملكة المتحدة، فرغم نقص البيانات في دول كثيرة، إلا أن البيانات المتوفرة من الدول الناطقة بالانجليزية والدول الأوروبية تشير إلى ارتفاع مماثل كما في المملكة المتحدة في تشخيص التوحد. وهنا، يجب الانتباه لهذه النقطة، إن الارتفاع في عدد الأشخاص الذين تم تشخيص إصابتهم بالتوحد ليس هو نفسه الارتفاع في عدد الأشخاص الذين يعيشون معه. هل يُمكن تفسير هذا الارتفاع في التشخيص بتغير تعريف المصابين بالتوحد، وليس بزيادة عددهم؟ لماذا ترتفع معدلات التشخيص؟ تقول فرانشيسكا هابي، أستاذة علم الأعصاب الإدراكي في كلية كينجز كوليدج بلندن، والتي تُجري أبحاثاً حول التوحد منذ عام 1988 إن تعريف التوحد لم يكن ثابتاً، فقد ظهرت أولى الدراسات التي وصفت التوحد في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. "الوصف الأصلي للتوحد كان حول حاجة الأطفال للحصول على دعم أكبر لأداء بعض المهام كالكلام، وبعضهم كان لا يتكلم إطلاقاً". لكن التعريف وُسِّع بعد ذلك، كما تقول الأستاذة هابي، عندما أُضيفت متلازمة أسبرغر إلى أدلة التشخيص في تسعينيات القرن الماضي. وتُضيف إن المصابين بمتلازمة أسبرغر (اضطراب في النمو العصبي) كانوا يُعتبرون ضمن طيف التوحد بسبب الصعوبات الاجتماعية والسلوكيات المتكررة التي لديهم، لكنهم كانوا يتحدثون بطلاقة ويتمتعون بذكاء جيد. وكانت هناك مجموعة فرعية أخرى من التوحد التي تمت إضافتها وهي "تشخيص شبكة الأمان" المسمى "اضطراب النمو الشامل غير المحدد " (بي دي دي- إن أو إس) والذي أدى إلى زيادة الأرقام أيضاً. وتشير الأدلة التشخيصية اليوم ببساطة إلى اضطراب طيف التوحد، أو إيه إس دي، والذي يشمل الأشخاص الذين تم تشخيصهم سابقًا بمتلازمة أسبرغر أو اضطراب النمو الشامل غير المحدد. هذا يعني أن تعريف تشخيص التوحد أصبح أشمل. التوحد عند النساء والفتيات BBC سارة هندريكس، مشخصة بالتوحد، تقوم بتشخيص الأشخاص بالتوحد منذ أكثر من 15 عامًا وتشير الدراسات إلى أن الإناث يُشخصن بشكل أسرع من الذكور. تقول سارة هندريكس مؤلفة كتاب "النساء والفتيات على طيف التوحد": "أمارس عملي منذ ما يقارب 15 أو 20 عاماً، وفي البداية، كان معظم من يتقدمون للتشخيص من الذكور، أما الآن فأرى معظم من يتقدمون للتشخيص من الإناث". وتقول إن الزيادة الكبيرة في عدد الأشخاص الذين تم تشخيص إصابتهم بالتوحد تعود إلى محاولة "أن نعوض التأخر الذي استمر لعقود في تشخيص أشخاص مثلي" - المؤلفة سارة هي كذلك مُشخصة بطيف التوحد. وبما أن التوحد كان يُنظر إليه في الأصل على أنه يؤثر بشكل رئيسي على الذكور،فإن الفتيات اللاتي لديهن التوحد كان يتم تشخيصهن بدلاً من ذلك بحالات الصحة العقلية مثل القلق الاجتماعي، واضطراب الوسواس القهري، واضطراب الشخصية الحدية، كما تقول هندريكس. والآن أصبح لدينا فهم أفضل لكيفية ظهور التوحد لدى الفتيات والنساء، وذلك بفضل زيادة الأبحاث والكتب مثل كتاب هندريكس، الذي نُشر لأول مرة في عام 2014. وتقول إن أحد الفروق الجندرية المهمة هو أن الفتيات قد يكنَّ أكثر مهارة في "إخفاء" سمات التوحد، أي التكيف اجتماعياً بإخفاء علامات المرض، ربما عن طريق تقليد سلوك الآخرين. تشخيص المزيد من البالغين كانت الزيادة في معدلات التشخيص بين البالغين أسرع بكثير منها بين الأطفال. وتوضح السيدة هيندريكس أن هذا يظهر جانباً آخر من توسع نطاق تشخيص التوحد، حيث أصبح يشمل الآن أشخاصاً يحتاجون إلى دعم أقل. وتقول: "أعتقد أننا نتحدث عن أفراد لا يعانون من إعاقة ذهنية. فالأشخاص الذين يعانون من تأخر في النمو أو الكلام كانوا أكثر عرضة للتشخيص بشكل مبكر جداً لأن العلامات كانت أكثر وضوحاً في سن صغيرة". تُظهر إحدى الدراسات أنه بين عامي 2000 و2018، زاد تشخيص التوحد بين المصابين بإعاقة ذهنية بنحو 20 بالمئة، بينما قفزت النسبة بين غير المصابين بإعاقة ذهنية إلى 700 بالمئة. أما "إيلي ميدلتون"، وهي كاتبة وصانعة محتوى مصابة بالتوحد وفرط الحركة ونقص الانتباه، فترى أن هذا تطور إيجابي. وتقول الشابة البالغة من العمر 27 عاماً "بدلاً من تشكيك البعض في زيادة التشخيص، عليهم أن يتساءلوا: كيف عاش كل هؤلاء الناس كل هذه السنوات دون تشخيص أو دعم، وكيف تم إهمالهم بهذا الشكل؟" LUKE NUGENT (LUKE NUGENT STUDIO تعتقد إيلي ميدلتون، التي تعاني من اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة، أن زيادة تشخيصات التوحد أمر إيجابي وتقول إن حالتها النفسية تدهورت بشكل خطير قبل تشخيصها بالتوحد. "كنت أتناول جرعات كبيرة من مضادات الاكتئاب المسموح بها لشخص في سن السابعة عشرة، لم أكن أستطيع البقاء وحدي، ولا الخروج من المنزل". وساعدها تشخيص إصابتها بالتوحد قبل ثلاث سنوات على تغيير نمط حياتها والحفاظ على صحتها النفسية في حال أفضل. ويعبر آخرين عن قلقهم من أن الصورة التي يراها الناس الآن عن التوحد في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي تشوه التصور العام عنه. وتقول فينيسا سوابي، وهي أيضاً مصابة بالتوحد وتدير مجموعات دعم للأطفال المشخصين بالتوحد وأهاليهم من خلال منظمتها إيه 2 آدفايس (A2ndvoice)، إن التركيز على المشاهير قد يؤدي إلى "تلميع" صورة التوحد. وفي المقابل، تشعر عائلات الأطفال المشخصين بالتوحد غير الناطقين بأنهم "مهملون". ومع زيادة عدد الأشخاص المشخصين بالتوحد، زاد التوتر حول من يملك حق تعريف المصطلح - وما يعنيه بالضبط. BBC تدير فينيسا سوابي مجموعات دعم للأطفال المصابين بالتوحد الأسباب البيئية مع زيادة عدد الأشخاص المُشخَّصين بالتوحد، يزداد الوعي بهذه الحالة، مما يعني زيادة أعداد المُعرّفين على أنهم مصابون بالتوحد. وأدى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في ذلك، فبعض النظريات التي تم دحضها - مثل تلك التي تربط بين لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية (MMR) والإصابة بالتوحد - ما زالت عالقة في الأذهان. بينما يرى آخرون أن هناك شيئاً فيما نأكله أو نشربه أو نستنشقه يتسبب في زيادة حالات التوحد. لكن كما رأينا، تشير البيانات إلى أن ارتفاع أعداد التشخيص يمكن تفسيره باتساع تعريف التوحد، وليس بسبب زيادة في الحالات الكامنة. كما أن هناك أبحاثاً قوية تثبت أن التوحد قد ينتج عن الجينات الموروثة من الأهل. فهل هناك أي دليل على أن العوامل البيئية قد تلعب دوراً -ولو محدوداً- في هذا الارتفاع؟ لقد فحصت الأستاذة جيني راسل، الأبحاث المتعلقة بالعوامل البيئية التي من المحتمل أن لها علاقة بالتوحد، ووجدت أن عدداً قليلاً منها فقط يبدو معقولاً لتفسير جزء من هذه الزيادة. تقول: "هناك ارتباط واضح إلى حد ما بين التوحد وعمر الوالدين. فكلما تقدم الأب أو الأم في العمر، زادت احتمالية إنجاب طفل مصاب بالتوحد، لكن التأثير ليس كبيراً". وتضيف أن هناك بعض الأدلة حول "الولادة المبكرة، والعدوى أثناء الحمل، وبعض مضاعفات الولادة". وتؤكد السيدة راسل أن وضع هذه العوامل المحتملة في إطارها الصحيح هو أمر بالغ الأهمية. وتقول: "أعتقد بصدق أن الغالبية العظمى من هذه الزيادة تعود إلى ما أسميه 'الثقافة التشخيصية'. لقد تغير مفهومنا عن هذه الحالة، وهذا أدى إلى ارتفاع الأعداد".


الوسط
٠٩-٠٥-٢٠٢٥
- الوسط
المقابر الجماعية في سوريا: "سنحتاج سنوات لتحديد هوية الضحايا"
BBC قُتل مئات الآلاف من السوريين خلال 13 عاماً من الحرب الأهلية "هذه الرفات من مقبرة جماعية مختلطة"، هكذا يقول الدكتور أنس الحوراني. يقف رئيس مركز تحديد الهوية السوري، الذي افتُتح حديثاً، بجوار طاولتين مغطاتين برفات بشري من عظام الفخذ. فوق كل طاولة توجد 32 عظمة فخذ بشرية. وقد رُتبت ورُقمت بدقة. الفرز هو المهمة الأولى لهذه الحلقة الجديدة، في السلسلة الطويلة من الإجراءات الرامية إلى تقديم مرتكبي الجرائم إلى العدالة في سوريا. تعني "المقبرة الجماعية المختلطة" أن الجثث رُميت واحدة فوق الأخرى. من المرجح أن هذه العظام تعود إلى أشخاص ضمن مئات الآلاف، الذين يُعتقد أنهم قُتلوا على يد نظامي الرئيس السابق بشار الأسد ووالده حافظ، اللذين حكما سوريا لأكثر من خمسة عقود. إذا كان الأمر كذلك، يقول الدكتور الحوراني، فإنهم من بين الضحايا الأحدث عهداً: لقد ماتوا منذ ما لا يزيد عن عام. الدكتور الحوراني طبيب أسنان شرعي: يقول إن الأسنان يمكن أن تخبرك بالكثير عن الجثة، على الأقل عندما يتعلق الأمر بتحديد هوية الشخص. ولكن مع عظم الفخذ، يمكن لعمال المختبر في الطابق السفلي من هذا المبنى المكتبي في دمشق بدء المهمة: يمكنهم معرفة الطول والجنس والعمر، ونوع العمل الذي كان يمارسه أصحاب تلك الرفات، وقد يتمكنون أيضاً من معرفة ما إذا كان الضحية قد تعرض للتعذيب. المعيار الرئيسي في تحديد الهوية هو بالطبع تحليل الحمض النووي. لكنه يقول إنه لا يوجد سوى مركز واحد لفحص الحمض النووي في سوريا. "قد دُمرت العديد من هذه المراكز خلال الحرب في البلاد. وبسبب العقوبات، فإن الكثير من المواد الكيميائية الأولية التي نحتاجها لإجراء الاختبارات غير متوفرة حالياً". كما أُبلغوا بأن "أجزاء من الأجهزة (اللازمة لإجراء ذلك التحليل) قد تُستخدم في الطيران، وبالتالي لأغراض عسكرية". بمعنى آخر، قد تُعتبر "مزدوجة الاستخدام"، وبالتالي يُحظر تصديرها إلى سوريا من قِبل العديد من الدول الغربية. يُضاف إلى ذلك التكلفة: 250 دولاراً أمريكياً لإجراء اختبار واحد. ويقول الدكتور الحوراني: "في مقبرة جماعية مختلطة، يتعين إجراء حوالي 20 اختباراً لجمع كل أجزاء جسد واحد". يعتمد المختبر كلياً على تمويل اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وتقول الحكومة الانتقالية في سوريا إن "العدالة الانتقالية" من أولوياتها. وقال العديد من السوريين الذين فقدوا أقاربهم، ولم يعثروا على جثثهم، لبي بي سي إنهم ما زالوا غير راضين ومحبطين: إنهم يريدون رؤية المزيد من الجهود من قِبل الثوريين الذين أطاحوا أخيراً بحكم بشار الأسد، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد 14 عاماً من الحرب. خلال تلك السنوات الطويلة من الحرب، قُتل مئات الآلاف، وشُرّد الملايين. ووفقاً لبعض التقديرات، اختفى قسراً أكثر من 130 ألف شخص. بالوتيرة الحالية، قد يستغرق الأمر وقتاً طويلاً لتحديد هوية ضحية واحدة فقط من مقبرة جماعية مختلطة. يقول الدكتور الحوراني: "هذا عمل يستغرق سنوات طويلة". جثث "مشوّهة ومعذّبة" إحدى عشرة مقبرة من تلك "المقابر الجماعية المختلطة" متناثرة حول قمة تل قاحل خارج دمشق. بي بي سي هي أول وسيلة إعلام دولية ترى هذا الموقع. القبور ظاهرةٌ للعيان الآن. خلال السنوات التي انقضت منذ حفرها، كان سطحها قد انضحل في الأرض الجافة الصخرية. يرافقنا حسين علوي المنفي، أو "أبو علي"، كما يُطلق على نفسه. كان أبو علي سائقاً يعمل مع الجيش السوري. يقول: " كانت حمولتي عبارة عن جثث بشرية". BBC يعتقد أبو علي أنه نقل شاحنات محملة بجثث مدنيين في ظل نظام الأسد تمّ العثور على هذا الرجل - أبو علي - بفضل العمل الاستقصائي الدؤوب لمعاذ مصطفى، المدير التنفيذي السوري الأمريكي لقوة الطوارئ السورية، وهي مجموعة من النشطاء مقرها الولايات المتحدة. لقد أقنع مصطفى، أبو علي، بالانضمام إلينا، ليشهد على ما يسميه معاذ "أسوأ جرائم القرن الحادي والعشرين". نقل أبو علي شاحنات محملة بجثث إلى مواقع متعددة، لأكثر من عشر سنوات. في هذا الموقع كان يأتي، في المتوسط، مرتين أسبوعياً لمدة عامين تقريباً في بداية المظاهرات، ثم الحرب، بين عامي 2011 و2013 . كان الإجراء دائماً هو نفسه. كان يتوجه إلى منشأة عسكرية أو أمنية. يقول: "كان لديّ مقطورة بطول 16 متراً. لم تكن تمتلئ دائماً بالكامل. لكنني كنتُ أحمل، على ما أظن، ما معدله 150 إلى 200 جثة في كل حمولة". يقول إنه مقتنعٌ بأن حمولته كانت لمدنيين. "كانت جثثهم مشوّهة ومعذّبة". لم يكن بإمكانه تمييز هوياتهم إلا بأرقام مكتوبة على الجثث، أو مُلصقة على الصدر أو الجبهة. هذه الأرقام تُشير إلى مكان وفاتهم. فقال إن هناك الكثير من الجثث جاءت من "الفرع 215" - وهو مركز اعتقال "سيء السمعة" تابع للمخابرات العسكرية في دمشق يُعرف بهذا الاسم، وهو مكان سنعود إليه لاحقاً في هذا التقرير. لم تكن مقطورة أبو علي مزودة برافعة هيدروليكية لقلب حمولته وتفريغها. عندما كان يتراجع إلى الخلف باتجاه الحفرة، كان الجنود يسحبون الجثث إلى الحفرة واحدة تلو الأخرى. ثم تقوم جرافة صغيرة بـ"تسويتها وضغطها وردم القبر". وصل إلى موقعنا ثلاثة رجال ذوي وجوهٍ شاحبة من قرية مجاورة. يؤكدون قصة الزيارات المنتظمة للشاحنات العسكرية إلى هذه البقعة النائية. أما الرجل الذي يقود السيارة: كيف له أن يفعل هذا أسبوعاً تلو الآخر، عاماً تلو الآخر؟ ماذا كان يقول لنفسه كلما صعد إلى مقصورة سيارته؟ يقول أبو علي إنه تعلّم أن يكون "خادماً صامتاً" للدولة. "بينما كان الجنود يلقون بالجثث في الحفر، كنت أبتعد وأنظر إلى النجوم، أو أنظر نحو دمشق". "كسروا ذراعيه وضربوه على ظهره" دمشق - المكان الذي عادت إليه السورية ملك عودة مؤخراً، بعد سنوات قضتها لاجئة في تركيا. ربما تكون سوريا قد تحررت من قبضة عائلة الأسد، لكن لا يزال هناك حكم بالسجن المؤبد بحق ملك. على مدى الثلاثة عشر عاماً الماضية، ظلت حبيسة روتين يومي من الألم والشوق. في عام 2012، بعد عام من تجرؤ بعض السوريين على الاحتجاج ضد الأسد، اختفى ابناها. BBC اختفى ابنا ملك عودة في ظل حكم الأسد كان محمد لا يزال مراهقاً عندما جُنّد في جيش الأسد، مع انتشار المظاهرات وإشعال النظام لحملات قمع تحولت لحرب شاملة. تقول والدته إنه كان يكره ما يراه. بدأ محمد بالفرار من الجيش، حتى أنه شارك في المظاهرات بنفسه. لكن تم تعقّبه. تقول والدته: "كسروا ذراعيه وضربوه على ظهره. قضى ثلاثة أيام فاقداً للوعي في المستشفى". تغيب محمد عن الجيش بدون إذن مرة أخرى. تقول ملك: "أبلغت عن اختفائه، لكنني أنا التي كنت أخفيه". في مايو/ أيار 2012، نفد حظ محمد، البالغ حينها من العمر 19 عاماً. أُلقي القبض عليه مع مجموعة من أصدقائه، وأُطلق عليهم النار. تقول ملك إنه لم يكن هناك أي إخطار رسمي. لكنها لطالما توقعت أنه قد قُتل. بعد ستة أشهر، اقتاد الضباط ماهر، شقيق محمد الأصغر، من المدرسة. كان هذا ثاني اعتقال لماهر. شارك في الاحتجاجات عام 2011، وعمره 14 عاماً. أدى ذلك إلى اعتقاله الأول. عندما أُطلق سراحه بعد شهر، كان يرتدي ملابسه الداخلية، وجسده مغطى، كما تقول والدته، بحروق سجائر وجروح وقمل. "كان مرتعباً". تعتقد ملك أن ماهر اختفى من المدرسة عام 2012، لأن السلطات اكتشفت أنها كانت تخفي شقيقه الأكبر. الآن، ولأول مرة منذ 13 عاماً، تعود ملك إلى تلك المدرسة، متلهفة لمعرفة ما حدث لماهر. أخرج مدير المدرسة الجديد دفترين أحمرين ممزقين. تتبعت ملك صفوف الأسماء بإصبعها، ثم وجدت اسم ابنها. في ديسمبر/ كانون الأول 2012، ورد في السجل بشكل قاطع: طُرد ماهر من المدرسة لتغيبه عن الدروس لمدة أسبوعين. لا يوجد تفسيرٌ لإخفاء الدولة له. مع ذلك، ثمة أمرٌ آخر: عُثر على ملفٍّ يحتوي على سجلات ماهر المدرسية. غلافه مُزيّن بصورةٍ لبشار الأسد، وهو ينظر إلى الأفق البعيد بتأمل. التقطت ملك قلماً من على مكتب مدير المدرسة وخربشت فوق الصورة. لو فعلت هذا التصرف قبل ستة أشهر من الآن، لكاد أن يودي بحياتها. لسنوات، لم يكن لدى ملك أي أثر لماهر تتشبث به، سوى رجلين يقولان إنهما شاهدا ماهر في "الفرع 2015" – وهذا هو مركز الاعتقال العسكري نفسه، الذي خرج منه هذا العدد الكبير من الجثث لينقلها أبو علي في شاحنته. حكى أحد الرجلين لملك أن ابنها أخبره شيئاً عن والديه؛ تقول أمه إن ماهر وحده من كان يعلم ذلك الشيء. إنه هو بالتأكيد. "لقد طلب من هذا الرجل أن يخبرني أنه بخير". تنهدت ملك وانهمرت دموعها، ووضعت منديلاً ممزقاً على عينيها. بالنسبة لملك، كغيرها من السوريين، لم يكن سقوط الأسد مجرد يوم فرح، بل يوم أمل. "كنت أعتقد بنسبة 90 في المئة أن ماهر سيخرج من السجن. كنت أنتظره". لكنها لم تتمكن حتى من العثور على اسم ابنها في قوائم السجناء. وهكذا يستمر نبض الألم يسري في جسدها. "أشعر بالضياع والارتباك"، كما تقول. لقد قُتل شقيقها الأصغر، محمود، بنيران دبابة أطلقت النار على المدنيين عام 2013. لكن "على الأقل عثروا على جثته وشُيّعت في جنازة".