logo
ضمائر السرد في »الليل الأزرق« لبهاء رحال.. ثقب كبير في الذاكرة

ضمائر السرد في »الليل الأزرق« لبهاء رحال.. ثقب كبير في الذاكرة

الرأي٠٦-٠٤-٢٠٢٥

قبل أن نتعمق في تتبع ضمائر السرد في رواية بهاء رحال «الليل الأزرق» (مكتبة كل شيء–حيفا، 2023)، والتي نسعى من خلالها إلى إبراز كيف يمكن لهذه الضمائر أن تكون أداةً تعبيرية تكشف عن مدى تسطيح الواقع وتفريغه من عمقه، وكيف يتحول السرد إلى وسيلة لفهم التحولات العميقة في التجربة الفلسطينية، تلفتنا سيميائية العنوان «الليل الأزرق» وتساؤل الراوي: «لماذا ليل فلسطين أزرق؟». «الليل أزرق، يبهرك اللون، وأنت تجلس في عتمة زنزانتك».
يحيل هذا الربط بين الليل والزرقة إلى تساؤلات تشكل عتبة للرواية وترتبط بأسلوب سردها: فهل الليل نقيض العتمة التي تحيط بنا في هذه الزنزانة المسماة «فلسطين»، أم إنه نقيض العتمة التي فينا، نحن الذين لا نصلح إلا للتحول من ضحايا إلى جلادين لأنفسنا؟ أم إنه مثل العزلة الباردة، شفافٌ لا يخفي التناقضات والفضائح السياسية والمعرفية، إذ «ربما نكتب يوماً عن اغتيال الأماني والأحلام في بلادنا، ونكتب كيف تتجول الوعود إلى كوابيس».
من جانبه، يُعتبر الأسلوب السردي أداةً كاشفة حين يلجأ الرواة -بلغة النقد- إلى ضمير المتكلم أو أسلوب الشخص الأول، الذي يسمح للشخصية بأن تحكي، وتشتبك مع الأحداث، وتفكك، وتعيد روايتها من منظورها الخاص، أو حين يستخدمون تعددية وجهات النظر (POV)، وهي تقنية تمنح السرد عمقاً وتحولاً، إذ تتيح للكاتب الغوص في دواخل الشخصيات وتحليل الصراعات والأزمات بمرونة أكبر.
لكن، يذهب رحال في روايته إلى أسلوب الشخص الثالث (third person limited)، فمع تتابع السرد يستمر الكاتب بوصف الأحداث دون تدخل، إنه آلة مراقبة فقط، كاميرا توثيق للأحداث، يكتفي بالحركة السريعة دون أن يتعمق في تحليل نفسي عميق ومسيطر وكاشف ومحاكم، سواءً للعزلة التي تتجاوز حالة أن يكون المنعزل هو «الشخص المبهم»، الغارق أحياناً في الكثير من الصمت، أو لأسئلة الثائر الذي لا يصحو وعيه إلا حين يتقاعد من الوظيفة، والذي تشكل حقيقة أنه «لم يعد يُصدر التعليمات، وبدأ بفقدان حماسه، وهيبته التي كان عليها» نقطة التحول في محاكم? الذات وأزماتها، رغم أن الثائر لا ينبغي أن يكون «موظفاً، ليجد نفسه متقاعداً».
وبالمثل، لا يتسع السرد من خلال تتابع الشخوص والأحداث على لسان الراوي لتحليل عميق لأسئلة الخذلان التي لا تقتصر على الفلسطينيين داخل فلسطين بعد أوسلو، بل على الفلسطينيين الذين تُرِكوا في المنافي حين سُمح لبعضهم بالعودة. يظهر ضمير المتكلم أحياناً ثم يختفي، يظهر كشاهد على الأحداث ثم يغيب في أزماته الذاتية: «خذلناهم يا يوسف، كما خُذلنا»، يقول العائدون الذين لم يموتوا «في أرض المعركة»، بل كـ «البقية»، في واقعٍ صار يُدار من خلال لون البطاقة التي يحملها الفلسطيني «صفراء، وخضراء، وزرقاء وحمراء» و"بطاقة دائمة لوكالة?غوث اللاجئين»، ومن خلال المداهنة والتملق للوصول «كان يترقى في وظيفته حتى وصل سريعاً... رجل متأرجح، متذلل، مداهن، نمَّام، ومنافق لدرجة لا يستوعبها أي عقل».
بدورها، لا تختلف معالجة موضوع الأسر في سجون الاحتلال عن هذا، فالراوي الذي يكتفي بالسرد من الخارج ينتقل مباشرة بين دخول يوسف السجن وإحساسه بالفراغ الذي يختلف عن العزلة، وقتله بالقراءة، ثم خروجه منه وقد تعلم العبرية لتصبح فيما بعد مصدراً للرزق من خلال ترجمة الأخبار.
ورغم اكتفاء الراوي بالإشارة إلى قسوة السجن دون أن نتمكن نحن القراء من أن نعيش التجربة أو أن نفهم أبعاد قسوتها، إذ يكتفي بالحديث غالباً وبشكل مكرر عن «تجربة الاعتقال التي تركت آثارها وترسباتها النفسية» فقط، فقد يشير هذا العرض إلى شكل التعايش القائم سياسياً على البتر بين الاحتلال كعدو والاحتلال كمنفعة، وبين الجذور والتفاصيل وبين الواقع: فكل من هو تحت الاحتلال «أصبح يرتب وقته على نحو يضمن أن يُعبِّئَ اليوم كله ولا يتركه لأية حالة فراغ»، فـ «في السجن يكون الفراغ قاتلاً!»، الفراغ الذي لا ينتج عن عدم انشغال في ا?واقع، بل عن ثقب كبير في الذاكرة والواقع والاتجاه والانتماء وإعادة تعريف المفاهيم والأولويات.
ينطبق هذا العبور على الأحداث لا فيها على الانتقال بين حنين الأمهات وعجزهن عن زيارة أبنائهن الأسرى، إذ ينقل الراوي الثالث مباشرة من رحلة بين زيارات السجن، فقدان البصر والانتظار والموت، كمن يريد أن يقول كل شيء في جملة، خائفاً على ما يبدو من أن تؤدي التفاصيل الكثيرة إلى التسبب بمللٍ يقود إلى النسيان، وحيث «النسيان سقوط ما يرافقنا «على ملل»، كما يقول رحال. إذن، يبدو الأمر أقرب إلى استعادة للسرد خوفاً من النسيان، إلى خوفٍ من الذاكرة، وخوفٍ من الاستمرار الذي يؤدي إلى مساءلةٍ، وهذا ينطبق على واقعنا السياسي والاجت?اعي: العودة إلى البدايات كخيار استراتيجي، العودة التي يرافقها هدمٌ لكل شيء، وهذه سمة الواقع الفلسطيني، فكل مستقبل هو طفولة ماضٍ ما. ومثل التفاصيل الكثيرة، يستمر الحب الذي تسير الرواية على أطرافه خشية إيقاظه، سؤالاً وروتيناً لا اشتباكاً: «هل هو الحب؟»، ثم ينتهي غالباً كما بدأ، صورة فقط؛ وقد لا يبدأ.
السرد هنا على لسان الراوي رغم ما يتخلله من حوارات خاطفة طويل وبطيء الحركة، بلا بداية ولا نهاية، وينطلق من نقطة لها ما قبلها، وينتهي حيث يمكن أن يبدأ الحب والحياة، وبذلك، فهو يعكس المتشابه في تجربتنا رغم قسوة الواقع وتأثيره وسَحقِه المتواصل للروح والجسد والجغرافيا والتاريخ والمختلف، وحتى للحب–الذي يولد على أنقاض واقعٍ يتراوح بين تقاعد الثائر، بينما حياته «أداة باهتة في يد وليِّ النعمة»، وبين الوعيِ الذي يجعلُنا نصل إلى الاكتفاء، المحطة التي نصل إليها جميعاً، و"تجعلنا ندخل إلى هزائمنا بحرية؟».
هذا السرد المنشغل برصف وترتيب المتناقضات والأقرب إلى الإخبار خاصة في الثلث الأول من الرواية، لا يترك لقضايا المعاناة أن تتحول إلى أزمات وجودية، لكنه يضعنا في أزمات حول شكل التناقض الذي يُدار به الواقع، ما يخلق رواية هي حياتنا ذاتها، ووصفاً لواقعٍ يشبه السقف في غرفة مريم، صور وشواهد ومواقف، بعضها قريب وآخر بعيد المنال.
وهذا الماضي في هذه الرواية لا يدخل ضمن تقنية (الفلاش باك)، بل يبدو شكلاً واعياً من عودة الراوي إلى الوراء لإحداث اختلالات في العرض مثل قصة مريم التي نجد بدايتها في الثلث الأخير من الرواية، وحيث أن ما يبدو ماضياً في قصتنا هو المستقبل ذاته، البداية وتكرارها في كل مكان وزمان، وهذا ما تعمل عليه رمزية الأسماء «مريم» و"يوسف»، تحديداً، وبالتالي، يصبح الزمن في هذه الرواية مرآة لا للوجه فقط، بل للواقع الذي يعاد ويتكرر. هناك انزلاقات في الزمن في هذه الرواية، انزلاقات ليست حادة، بل مستسلمة، وهي بذلك، تعيد تأكيد السرد?الذي يخشى على التفاصيل ويخشاها، السرد الذي يريد أن يحول الرواية إلى رقيم أو شاهد أو دفتر للأحداث التي لا تبدأ ولا تنتهي، لكنها تنعجن بالخوف.
والخوف هنا فعل عنيف، ليس فقط فيما يتعلق بحيوات شخوص الرواية الذين لكل منهم خوفه الخاص مثل يوسف الذي يستخدم اسماً مستعاراً كي يبتعد عن المساءلة: ويبقى «الشخص مفقوداً مطلوباً لأجهزة الأمن»، وسعيد الذي يخاف تقاعد الثائر بعد فقدان هيبة الموظف، بل يمتزج مع خوف الراوي–الذي يبدو كمن يكتب من عزلةٍ تلك المصائر والحيوات التي تشبه حياته مستخدماً تقنية الشخص الثالث. الأيديولوجيا هنا فعلٌ عنيف أيضاً، وصادم وكاسح في الطريقة التي يُحرِّك بها الفعل السياسي والنقابي والوظيفي الواقع والمؤسسات، حتى في حضوره مداولات إنشاء دار?نشر.
كل فلسطيني تقريباً ابنٌ لإيديولوجيةٍ ما، وكل إيديولوجيةٍ رهينةٌ لحالاتٍ من القفز المتواصل بلا عمقٍ حقيقيٍ لإيجاد حلول شخصية لأزمات المحو والسحق والاستهداف، بالظهور الاستعراضي، فالأمر يتجاوز ضيق مساحة التعبير، والعنف المزدوج ضد المخالف والمختلف، و"غياب رأي الوسط، والتشدد... والمغالاة بالموالاة» إلى شكل من أشكال الاستعراض الفارغ والتفريغ الاستعراضي. ربما يضيف هذا بعداً إلى «دهيشة المجانين ودهيشة اللاجئين» كما يسميها الكاتب، فالمدهش فعلاً هو أن الفلسطيني يمتلك قدرة التصنيف على نفسه فقط: مجنون، غريب «رام الله ?لحديثة مدينة كل الأغراب» رغم أنها مدينة مستحدثة على يد أغراب من دولة مجاورة، إلخ؛ لكنه يصمت أمام عدوه. هل يصلح الفلسطيني لشيءٍ آخر! وحده المنفى كزمن متواصل وبارد يصبح أفقاً لا لحرية، بل للعيش الدائم في ماضٍ لا يمكن التحرر منه ولا العودة إليه، ويقود المصائر من خلال نزاعاتٍ عنيفةٍ على الهوية، نزاعاتٌ يصبح بموجبها الصراع على الهوية الجديدة والمكتسبة شكلاً من أشكال إدارة الواقع لا تغييره. ففي باريس، كان على مريم أن «تجاري بنات جيلها في المدرسة، والطريق، والمركز الثقافي، وتتبع في الوقت ذاته تعاليم والدتها، من دون أن تخرج عن قرارات العائلة».
وهنا تحضرنا الجدلية الأهم التي رافقت النكبة عقب الحديث عن تهديد عصابات الهاجاناه باغتصاب النساء، وتحديداً بعد مجزرة دير ياسين الدامية: هل نختار الشرف الجسدي الشخصي أم شرف الوطن، حينها، اخترنا النجاة بأجسادنا، لنصبح في المنافي نهباً لصراعات متواصلة حول الجسد وحمايته مرة أخرى. فـ «في المنفى الباريسي» -وهنا ينزلق الزمن الباريسي في الرواية إلى زمن النكبة حاملاً قدراً كبيراً من السخرية والمساءلة- «كانت وصايا أمها لها كثيرة، أبرزها أن تحفظ جسدها. وهكذا، يمتزج صوت الراوي وشخوص الرواية في المنفى، مُعليَّةً هذه الث?مة أي الشرف كهاجس للفلسطينيين داخًلا وخارجاً وفي كل أزمنة نكباتهم، رغم انتهاك جسد فلسطين اليومي الذي يكتفي المعلقون بالحديث عنه كأن الأمر لا يعدو رواية قصةٍ بلغةٍ خشبيةٍ أو مُخفَفةٍ، فها هي فتاة في زمن لاحق في سوق بيت لحم تُذبح «جاء رجل طويل القامة ونحرها»، وهذا أمر لم يستطع يوسف بطل الرواية أن يتجاوز وحشيته.
من الواضح إذن أن الجسد الفلسطيني، الفردي والجمعي، لم ينجُ مطلقاً من خلال الخيارات الفردية، وأنه بقي هاجساً وسقفاً يسقط علينا بشكلٍ متواصلٍ منذ 75 عاماً. وهنا يتدخل صوت الراوي بقوة ليؤكد أنه وفي ظل هذا الاستبدال الهائل للموضوعات في ظل الاحتلال من خلال استبدال الجسد الجمعي لفلسطين بالجسد الشخصي وبالحفاظ عليه، والذي يتحول بدوره من موضوع استبدالي إلى رمز أيقوني لحالة الخسارة والتقزيم وإدارة الأولويات، يبرز سؤال الضحية التي تتحول إلى قاتل في الواجهة. إذ إن الفلسطينيين لم يتحولوا من ضحايا إلى قتلة لبعضهم فقط، بل?يتمثلون بشكل مقولة درويش حول «دُونيّة المُتعالي، وغطرسة الوضيع!" هذه رواية لا تسير بإيقاع مشابه لحياتنا فقط، بل هي عملية تنضيد لالتقاطاتٍ من الواقع، تعيد رسم صورة البؤس، والخوف، والارتباك، والحيرة. وبالتالي، ربما يكون اكتفاء الراوي/ الكاتب برصف الأحداث وسيلته كي يعبر عن نقص عمق واقع تلغيه السياسات البيو-حيوية التي تستخدم لإدارته كواقع استعماري في مرحلة ما بعد الحداثة، الحداثة التي تقدم في الواقع بشكل مشوَّهٍ على أنها تحديث وعصرنة، وتنعكس في الرواية على لسان أحد أبطالها الذي يقارن بين حياة الجدات والبنات اليوم في ظل رفاهية الآلة والوقت، وبما يقود إلى عدم الالتفات لها كأد?ة مركزة للذات في مواجهة الماضي، وكوسيلةٍ لفصل الحاضر عن المرجعيات التي يتم الحرص على كتابتها بقلم دمٍ جافٍ، وتحويلها إلى ذاكرةٍ شخصية منزوعة من سياقها المؤلم وماضيها، كما لو كانت شيئاً شخصياً وذاتياً جداً، بل ومتحفيّ ووسيلة للحفاظ على هوية مغايرة فقط في المنفى.
ينطبق هذا على معالجة التعايش في المنفى بين الماضي الذي يتحول إلى خيالات ورائحة وهوية تُستخدم فقط لحماية الجسد الشخصيّ، والذي لا يعي الفلسطينيون أنه تلوث تماماً وانتهك مع أول نزوح وأول خذلان، وأول موت طبيعي في سرير، وأول مرة صار فيها الفلسطينيّ موظفاً، وفي اللحظة التي صار فيها الاحتلال طرفاً وشريكاً في حفظ التوازنات الذاتية الاقتصادية والإدارية والعشائرية، أو ما يمكن تسميته: الجسد القبائلي-القبيلة الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية العائلية.. إلخ، والتي تقابل الذات الشخصية التي تنسحق تحت ثقل المصالح والعلاق?ت والارتباطات وقوة المال والفساد، ما ساهم بدوره في ضياع الجسد الجمعي: فلسطين.
الليل في فلسطين أزرق تماماً، ولا يكفي لستر تلك التناقضات والتحولات، كما لا يكفي هو ولا تقنية السرد باستخدام أسلوب الشخص الثالث لتغطية رأس الوعل الفلسطيني المعلق دائماً في مداخل ذاكرتنا كهيكلٍ عظيمٍ فارغ، رغم عينيه المطفأتين والقرون المبريِّة بشكل حداثيٍّ لتناسب الديكور المكتبيّ الجديد لفلسطين.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

صلاة بلا كلمات: حين يتحول الحب إلى عبادة
صلاة بلا كلمات: حين يتحول الحب إلى عبادة

عمون

time١١-٠٤-٢٠٢٥

  • عمون

صلاة بلا كلمات: حين يتحول الحب إلى عبادة

في مشهد خلاب من رواية زوربا اليوناني، يقف الراوي في حوار عميق مع زوربا، ذاك الرجل البسيط العفوي، فيسأله: 'لا أراك تصلي؟' فيجيبه بهدوء وصدق: 'الذي يصلي لن تراه.' ثم يُكمل قوله: 'أقف وكأن الله يسألني: ماذا فعلت منذ آخر صلاة صليتها لتصنع من لحمك روحًا؟ فأقول: يا رب، أحببت، ومسحت على رأس ضعيف، وابتسمت لعصفور، وحميت امرأة من الوحدة…' كلمات تمضي أبعد من الأدب، وتتجاوز الرواية لتطرق أبواب الحقيقة الإيمانية: أن الصلاة ليست فقط طقسًا جسديًا، بل تجربة روحية شاملة، تبدأ من أعماق القلب وتنتهي بأثر في الحياة. وهنا تتقاطع فلسفة زوربا مع جوهر ما جاء به الإسلام، لا سيما في القرآن الكريم والسنة النبوية، حين يتحدثان عن الصلاة كوسيلة لتزكية النفس، وإحياء القلب، وتهذيب السلوك. يقول الله تعالى في محكم كتابه: 'اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ' [العنكبوت: 45]. بهذا المعنى، فالصلاة ليست فقط حركة البدن، بل حيوية الروح، وليست نهاية في ذاتها، بل وسيلة لصناعة الإنسان الفاضل الذي يحب، ويُحسن، ويعطي دون مقابل. زوربا، رغم أنه لا يدين بالإسلام، إلا أن منطقه الروحي ينبض بما يشبه الحديث النبوي الشريف: 'أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم…' [رواه الطبراني وصححه الألباني]. هنا نرى أن الإسلام ربط بين العبادة الحقيقية ونفع الناس، تمامًا كما فعل زوربا حين جعل من حمايته لامرأة من الوحدة، ومسحه على رأس ضعيف، وابتسامته لطائر، صلاةً خفية بينه وبين الله. وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإيمان ليس مظاهرًا أو كلمات، بل سلوكٌ يعيش في الناس، فقال: 'الإيمان بضع وسبعون – أو بضع وستون – شُعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان' [متفق عليه]. هذا الحديث يضع أمامنا مفهومًا عميقًا: أن من الصلاة والإيمان ما لا يُرى بالعين، ولكنه يُحسّ في الأثر، ويُرى في الفعل. عندما يقول زوربا: 'أنا لا أطلب شيئًا من الله، هو أكرم من أن يُسأل طالما وجد حبًا أعطى'، يتجلى هنا جوهر التوكل، والإيمان بالمنح الإلهي القائم على اللطف لا الطلب، وهي فكرة يؤيدها قول النبي صلى الله عليه وسلم: 'من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته' [متفق عليه]. فالله، في رحمته، لا ينتظر دعاءنا بقدر ما يفرح برحمتنا ببعضنا، وما يقدمه الإنسان من خيرٍ هو في ذاته دعاء. إن الصلاة في الإسلام هي عمود الدين، لكنها لا تنفصل عن الأخلاق. فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم قال: 'إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق' [رواه البخاري في الأدب المفرد]. فكيف تُقبل صلاة لا تنعكس خُلقًا؟ وكيف يُحسب ركوع وسجود لا يمنع ظلمًا ولا يُلهم حبًا ولا يُنبت خيرًا؟ إننا أمام دعوة حقيقية لإعادة النظر في مفهوم الصلاة، لا باعتبارها مجرد فرض، بل كعلاقة يومية حية مع الله، تبدأ من المحراب وتمتد إلى الناس والكون. صلاة تتغذى بالحب، وتثمر سلامًا، وتُترجم في كل بسمة، وكل مساعدة، وكل لحظة تأمل في خلق الله. زوربا، وإن لم يكن مسلمًا، فقد التقط بعفويته شيئًا من روح القرآن. فهل نلتقط نحن ما ضاع منا؟ هل نسأل أنفسنا – كما سأل زوربا نفسه – لا عن عدد ركعاتنا، بل: 'ماذا فعلنا منذ آخر صلاة صليناها لنصنع من لحمنا روحا؟.

ضمائر السرد في »الليل الأزرق« لبهاء رحال.. ثقب كبير في الذاكرة
ضمائر السرد في »الليل الأزرق« لبهاء رحال.. ثقب كبير في الذاكرة

الرأي

time٠٦-٠٤-٢٠٢٥

  • الرأي

ضمائر السرد في »الليل الأزرق« لبهاء رحال.. ثقب كبير في الذاكرة

قبل أن نتعمق في تتبع ضمائر السرد في رواية بهاء رحال «الليل الأزرق» (مكتبة كل شيء–حيفا، 2023)، والتي نسعى من خلالها إلى إبراز كيف يمكن لهذه الضمائر أن تكون أداةً تعبيرية تكشف عن مدى تسطيح الواقع وتفريغه من عمقه، وكيف يتحول السرد إلى وسيلة لفهم التحولات العميقة في التجربة الفلسطينية، تلفتنا سيميائية العنوان «الليل الأزرق» وتساؤل الراوي: «لماذا ليل فلسطين أزرق؟». «الليل أزرق، يبهرك اللون، وأنت تجلس في عتمة زنزانتك». يحيل هذا الربط بين الليل والزرقة إلى تساؤلات تشكل عتبة للرواية وترتبط بأسلوب سردها: فهل الليل نقيض العتمة التي تحيط بنا في هذه الزنزانة المسماة «فلسطين»، أم إنه نقيض العتمة التي فينا، نحن الذين لا نصلح إلا للتحول من ضحايا إلى جلادين لأنفسنا؟ أم إنه مثل العزلة الباردة، شفافٌ لا يخفي التناقضات والفضائح السياسية والمعرفية، إذ «ربما نكتب يوماً عن اغتيال الأماني والأحلام في بلادنا، ونكتب كيف تتجول الوعود إلى كوابيس». من جانبه، يُعتبر الأسلوب السردي أداةً كاشفة حين يلجأ الرواة -بلغة النقد- إلى ضمير المتكلم أو أسلوب الشخص الأول، الذي يسمح للشخصية بأن تحكي، وتشتبك مع الأحداث، وتفكك، وتعيد روايتها من منظورها الخاص، أو حين يستخدمون تعددية وجهات النظر (POV)، وهي تقنية تمنح السرد عمقاً وتحولاً، إذ تتيح للكاتب الغوص في دواخل الشخصيات وتحليل الصراعات والأزمات بمرونة أكبر. لكن، يذهب رحال في روايته إلى أسلوب الشخص الثالث (third person limited)، فمع تتابع السرد يستمر الكاتب بوصف الأحداث دون تدخل، إنه آلة مراقبة فقط، كاميرا توثيق للأحداث، يكتفي بالحركة السريعة دون أن يتعمق في تحليل نفسي عميق ومسيطر وكاشف ومحاكم، سواءً للعزلة التي تتجاوز حالة أن يكون المنعزل هو «الشخص المبهم»، الغارق أحياناً في الكثير من الصمت، أو لأسئلة الثائر الذي لا يصحو وعيه إلا حين يتقاعد من الوظيفة، والذي تشكل حقيقة أنه «لم يعد يُصدر التعليمات، وبدأ بفقدان حماسه، وهيبته التي كان عليها» نقطة التحول في محاكم? الذات وأزماتها، رغم أن الثائر لا ينبغي أن يكون «موظفاً، ليجد نفسه متقاعداً». وبالمثل، لا يتسع السرد من خلال تتابع الشخوص والأحداث على لسان الراوي لتحليل عميق لأسئلة الخذلان التي لا تقتصر على الفلسطينيين داخل فلسطين بعد أوسلو، بل على الفلسطينيين الذين تُرِكوا في المنافي حين سُمح لبعضهم بالعودة. يظهر ضمير المتكلم أحياناً ثم يختفي، يظهر كشاهد على الأحداث ثم يغيب في أزماته الذاتية: «خذلناهم يا يوسف، كما خُذلنا»، يقول العائدون الذين لم يموتوا «في أرض المعركة»، بل كـ «البقية»، في واقعٍ صار يُدار من خلال لون البطاقة التي يحملها الفلسطيني «صفراء، وخضراء، وزرقاء وحمراء» و"بطاقة دائمة لوكالة?غوث اللاجئين»، ومن خلال المداهنة والتملق للوصول «كان يترقى في وظيفته حتى وصل سريعاً... رجل متأرجح، متذلل، مداهن، نمَّام، ومنافق لدرجة لا يستوعبها أي عقل». بدورها، لا تختلف معالجة موضوع الأسر في سجون الاحتلال عن هذا، فالراوي الذي يكتفي بالسرد من الخارج ينتقل مباشرة بين دخول يوسف السجن وإحساسه بالفراغ الذي يختلف عن العزلة، وقتله بالقراءة، ثم خروجه منه وقد تعلم العبرية لتصبح فيما بعد مصدراً للرزق من خلال ترجمة الأخبار. ورغم اكتفاء الراوي بالإشارة إلى قسوة السجن دون أن نتمكن نحن القراء من أن نعيش التجربة أو أن نفهم أبعاد قسوتها، إذ يكتفي بالحديث غالباً وبشكل مكرر عن «تجربة الاعتقال التي تركت آثارها وترسباتها النفسية» فقط، فقد يشير هذا العرض إلى شكل التعايش القائم سياسياً على البتر بين الاحتلال كعدو والاحتلال كمنفعة، وبين الجذور والتفاصيل وبين الواقع: فكل من هو تحت الاحتلال «أصبح يرتب وقته على نحو يضمن أن يُعبِّئَ اليوم كله ولا يتركه لأية حالة فراغ»، فـ «في السجن يكون الفراغ قاتلاً!»، الفراغ الذي لا ينتج عن عدم انشغال في ا?واقع، بل عن ثقب كبير في الذاكرة والواقع والاتجاه والانتماء وإعادة تعريف المفاهيم والأولويات. ينطبق هذا العبور على الأحداث لا فيها على الانتقال بين حنين الأمهات وعجزهن عن زيارة أبنائهن الأسرى، إذ ينقل الراوي الثالث مباشرة من رحلة بين زيارات السجن، فقدان البصر والانتظار والموت، كمن يريد أن يقول كل شيء في جملة، خائفاً على ما يبدو من أن تؤدي التفاصيل الكثيرة إلى التسبب بمللٍ يقود إلى النسيان، وحيث «النسيان سقوط ما يرافقنا «على ملل»، كما يقول رحال. إذن، يبدو الأمر أقرب إلى استعادة للسرد خوفاً من النسيان، إلى خوفٍ من الذاكرة، وخوفٍ من الاستمرار الذي يؤدي إلى مساءلةٍ، وهذا ينطبق على واقعنا السياسي والاجت?اعي: العودة إلى البدايات كخيار استراتيجي، العودة التي يرافقها هدمٌ لكل شيء، وهذه سمة الواقع الفلسطيني، فكل مستقبل هو طفولة ماضٍ ما. ومثل التفاصيل الكثيرة، يستمر الحب الذي تسير الرواية على أطرافه خشية إيقاظه، سؤالاً وروتيناً لا اشتباكاً: «هل هو الحب؟»، ثم ينتهي غالباً كما بدأ، صورة فقط؛ وقد لا يبدأ. السرد هنا على لسان الراوي رغم ما يتخلله من حوارات خاطفة طويل وبطيء الحركة، بلا بداية ولا نهاية، وينطلق من نقطة لها ما قبلها، وينتهي حيث يمكن أن يبدأ الحب والحياة، وبذلك، فهو يعكس المتشابه في تجربتنا رغم قسوة الواقع وتأثيره وسَحقِه المتواصل للروح والجسد والجغرافيا والتاريخ والمختلف، وحتى للحب–الذي يولد على أنقاض واقعٍ يتراوح بين تقاعد الثائر، بينما حياته «أداة باهتة في يد وليِّ النعمة»، وبين الوعيِ الذي يجعلُنا نصل إلى الاكتفاء، المحطة التي نصل إليها جميعاً، و"تجعلنا ندخل إلى هزائمنا بحرية؟». هذا السرد المنشغل برصف وترتيب المتناقضات والأقرب إلى الإخبار خاصة في الثلث الأول من الرواية، لا يترك لقضايا المعاناة أن تتحول إلى أزمات وجودية، لكنه يضعنا في أزمات حول شكل التناقض الذي يُدار به الواقع، ما يخلق رواية هي حياتنا ذاتها، ووصفاً لواقعٍ يشبه السقف في غرفة مريم، صور وشواهد ومواقف، بعضها قريب وآخر بعيد المنال. وهذا الماضي في هذه الرواية لا يدخل ضمن تقنية (الفلاش باك)، بل يبدو شكلاً واعياً من عودة الراوي إلى الوراء لإحداث اختلالات في العرض مثل قصة مريم التي نجد بدايتها في الثلث الأخير من الرواية، وحيث أن ما يبدو ماضياً في قصتنا هو المستقبل ذاته، البداية وتكرارها في كل مكان وزمان، وهذا ما تعمل عليه رمزية الأسماء «مريم» و"يوسف»، تحديداً، وبالتالي، يصبح الزمن في هذه الرواية مرآة لا للوجه فقط، بل للواقع الذي يعاد ويتكرر. هناك انزلاقات في الزمن في هذه الرواية، انزلاقات ليست حادة، بل مستسلمة، وهي بذلك، تعيد تأكيد السرد?الذي يخشى على التفاصيل ويخشاها، السرد الذي يريد أن يحول الرواية إلى رقيم أو شاهد أو دفتر للأحداث التي لا تبدأ ولا تنتهي، لكنها تنعجن بالخوف. والخوف هنا فعل عنيف، ليس فقط فيما يتعلق بحيوات شخوص الرواية الذين لكل منهم خوفه الخاص مثل يوسف الذي يستخدم اسماً مستعاراً كي يبتعد عن المساءلة: ويبقى «الشخص مفقوداً مطلوباً لأجهزة الأمن»، وسعيد الذي يخاف تقاعد الثائر بعد فقدان هيبة الموظف، بل يمتزج مع خوف الراوي–الذي يبدو كمن يكتب من عزلةٍ تلك المصائر والحيوات التي تشبه حياته مستخدماً تقنية الشخص الثالث. الأيديولوجيا هنا فعلٌ عنيف أيضاً، وصادم وكاسح في الطريقة التي يُحرِّك بها الفعل السياسي والنقابي والوظيفي الواقع والمؤسسات، حتى في حضوره مداولات إنشاء دار?نشر. كل فلسطيني تقريباً ابنٌ لإيديولوجيةٍ ما، وكل إيديولوجيةٍ رهينةٌ لحالاتٍ من القفز المتواصل بلا عمقٍ حقيقيٍ لإيجاد حلول شخصية لأزمات المحو والسحق والاستهداف، بالظهور الاستعراضي، فالأمر يتجاوز ضيق مساحة التعبير، والعنف المزدوج ضد المخالف والمختلف، و"غياب رأي الوسط، والتشدد... والمغالاة بالموالاة» إلى شكل من أشكال الاستعراض الفارغ والتفريغ الاستعراضي. ربما يضيف هذا بعداً إلى «دهيشة المجانين ودهيشة اللاجئين» كما يسميها الكاتب، فالمدهش فعلاً هو أن الفلسطيني يمتلك قدرة التصنيف على نفسه فقط: مجنون، غريب «رام الله ?لحديثة مدينة كل الأغراب» رغم أنها مدينة مستحدثة على يد أغراب من دولة مجاورة، إلخ؛ لكنه يصمت أمام عدوه. هل يصلح الفلسطيني لشيءٍ آخر! وحده المنفى كزمن متواصل وبارد يصبح أفقاً لا لحرية، بل للعيش الدائم في ماضٍ لا يمكن التحرر منه ولا العودة إليه، ويقود المصائر من خلال نزاعاتٍ عنيفةٍ على الهوية، نزاعاتٌ يصبح بموجبها الصراع على الهوية الجديدة والمكتسبة شكلاً من أشكال إدارة الواقع لا تغييره. ففي باريس، كان على مريم أن «تجاري بنات جيلها في المدرسة، والطريق، والمركز الثقافي، وتتبع في الوقت ذاته تعاليم والدتها، من دون أن تخرج عن قرارات العائلة». وهنا تحضرنا الجدلية الأهم التي رافقت النكبة عقب الحديث عن تهديد عصابات الهاجاناه باغتصاب النساء، وتحديداً بعد مجزرة دير ياسين الدامية: هل نختار الشرف الجسدي الشخصي أم شرف الوطن، حينها، اخترنا النجاة بأجسادنا، لنصبح في المنافي نهباً لصراعات متواصلة حول الجسد وحمايته مرة أخرى. فـ «في المنفى الباريسي» -وهنا ينزلق الزمن الباريسي في الرواية إلى زمن النكبة حاملاً قدراً كبيراً من السخرية والمساءلة- «كانت وصايا أمها لها كثيرة، أبرزها أن تحفظ جسدها. وهكذا، يمتزج صوت الراوي وشخوص الرواية في المنفى، مُعليَّةً هذه الث?مة أي الشرف كهاجس للفلسطينيين داخًلا وخارجاً وفي كل أزمنة نكباتهم، رغم انتهاك جسد فلسطين اليومي الذي يكتفي المعلقون بالحديث عنه كأن الأمر لا يعدو رواية قصةٍ بلغةٍ خشبيةٍ أو مُخفَفةٍ، فها هي فتاة في زمن لاحق في سوق بيت لحم تُذبح «جاء رجل طويل القامة ونحرها»، وهذا أمر لم يستطع يوسف بطل الرواية أن يتجاوز وحشيته. من الواضح إذن أن الجسد الفلسطيني، الفردي والجمعي، لم ينجُ مطلقاً من خلال الخيارات الفردية، وأنه بقي هاجساً وسقفاً يسقط علينا بشكلٍ متواصلٍ منذ 75 عاماً. وهنا يتدخل صوت الراوي بقوة ليؤكد أنه وفي ظل هذا الاستبدال الهائل للموضوعات في ظل الاحتلال من خلال استبدال الجسد الجمعي لفلسطين بالجسد الشخصي وبالحفاظ عليه، والذي يتحول بدوره من موضوع استبدالي إلى رمز أيقوني لحالة الخسارة والتقزيم وإدارة الأولويات، يبرز سؤال الضحية التي تتحول إلى قاتل في الواجهة. إذ إن الفلسطينيين لم يتحولوا من ضحايا إلى قتلة لبعضهم فقط، بل?يتمثلون بشكل مقولة درويش حول «دُونيّة المُتعالي، وغطرسة الوضيع!" هذه رواية لا تسير بإيقاع مشابه لحياتنا فقط، بل هي عملية تنضيد لالتقاطاتٍ من الواقع، تعيد رسم صورة البؤس، والخوف، والارتباك، والحيرة. وبالتالي، ربما يكون اكتفاء الراوي/ الكاتب برصف الأحداث وسيلته كي يعبر عن نقص عمق واقع تلغيه السياسات البيو-حيوية التي تستخدم لإدارته كواقع استعماري في مرحلة ما بعد الحداثة، الحداثة التي تقدم في الواقع بشكل مشوَّهٍ على أنها تحديث وعصرنة، وتنعكس في الرواية على لسان أحد أبطالها الذي يقارن بين حياة الجدات والبنات اليوم في ظل رفاهية الآلة والوقت، وبما يقود إلى عدم الالتفات لها كأد?ة مركزة للذات في مواجهة الماضي، وكوسيلةٍ لفصل الحاضر عن المرجعيات التي يتم الحرص على كتابتها بقلم دمٍ جافٍ، وتحويلها إلى ذاكرةٍ شخصية منزوعة من سياقها المؤلم وماضيها، كما لو كانت شيئاً شخصياً وذاتياً جداً، بل ومتحفيّ ووسيلة للحفاظ على هوية مغايرة فقط في المنفى. ينطبق هذا على معالجة التعايش في المنفى بين الماضي الذي يتحول إلى خيالات ورائحة وهوية تُستخدم فقط لحماية الجسد الشخصيّ، والذي لا يعي الفلسطينيون أنه تلوث تماماً وانتهك مع أول نزوح وأول خذلان، وأول موت طبيعي في سرير، وأول مرة صار فيها الفلسطينيّ موظفاً، وفي اللحظة التي صار فيها الاحتلال طرفاً وشريكاً في حفظ التوازنات الذاتية الاقتصادية والإدارية والعشائرية، أو ما يمكن تسميته: الجسد القبائلي-القبيلة الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية العائلية.. إلخ، والتي تقابل الذات الشخصية التي تنسحق تحت ثقل المصالح والعلاق?ت والارتباطات وقوة المال والفساد، ما ساهم بدوره في ضياع الجسد الجمعي: فلسطين. الليل في فلسطين أزرق تماماً، ولا يكفي لستر تلك التناقضات والتحولات، كما لا يكفي هو ولا تقنية السرد باستخدام أسلوب الشخص الثالث لتغطية رأس الوعل الفلسطيني المعلق دائماً في مداخل ذاكرتنا كهيكلٍ عظيمٍ فارغ، رغم عينيه المطفأتين والقرون المبريِّة بشكل حداثيٍّ لتناسب الديكور المكتبيّ الجديد لفلسطين.

ظل الغراب بطل الرواية
ظل الغراب بطل الرواية

جهينة نيوز

time٢٧-١١-٢٠٢٤

  • جهينة نيوز

ظل الغراب بطل الرواية

تاريخ النشر : 2024-11-27 - 01:54 pm الرواية توازن بين الشكل والمضمون انتشار الرواية لايعني أن الثقافة العربية بخير بل دلالة على أنها تحولت لسلعة الراوي خالق لعالم أراد هندسته كما يشاء الرواية العربية في عصرنا الحالي أصبحت موضة حاورته لطيفة حسيب القاضي مددت يدين مرتعشتين إلى الحائط، بعد أن جففت بهما قلقي وسكن داخلي، فأخرجت أوراق الأسئلة التي أرسلتها للروائي سعيد الصالحي. كانت رطوبة خفيفة، أخذت تسري في عروق الورق، وعروق الإجابات التي كتبها الصالحي، فقلت يجب نشرها. إلى أن التقطت عيناي، عبارة كأنما ارادها سعيد عنوانا لروايته الأولى " ظل الغراب" وتابعت تحت هذا العنوان اللافت: (توثقت علاقتي مع الوسادة، وتحولت الهدنة التي بيننا إلى معاهدة سلام دائمة). وتساءلت ما هو الظل؟ تُرى هو ذات الذي قال عنه ابن عربي: أن النهار ظل الليل فتشبت بمقولته ومن هو القائل، أن الليل شمعة النهار؟ فتشبت بها هي الأخرى. على ما بينهما ، أجاب الروائي سعيد الصالحي، وقبل أن أغادر مقدمة اللقاء لا بد من القول وليس هناك في الليل إلاّ الظلال المتطاولة على الكلمات داخل النفس التي تبحث عن مخرج ما، لعل إجابات كاتب ظل الغراب انعكاسات لنفسي المرتعشة. 1- ما هو الخطاب الروائي؟ الخطاب الروائي هو الوسيلة التي تُنقل بها الأفكار والأحداث من الروائي إلى القارئ. يتجاوز الخطاب الروائي كونه مجرد تسلسل سردي للأحداث ليصبح إطارًا يعبر عن رؤية الراوي لموضوع الرواية، وكذلك عن الصراعات البشرية في الحياة، وعن العلاقات بين الشخصيات وتفاعلها في زمان ومكان الرواية. الخطاب الروائي في المقام الأول هو فن يوازن بين الذاتية والموضوعية، ويتيح للقارئ الدخول في عوالم جديدة تثير التفكير، وأحيانا تتلاعب بالمشاعر، وتسعى نحو التغيير. 2 ما رأيك بالواقع الان في الرواية، هل الرواية طغت على الشعر؟ في الواقع لم تطغ الرواية بالقدر الذي خبى به الشعر في العقدين الأخيرين، فالشعر في العالم العربي يعاني ولن أقول يحتضر، فمنذ رحيل أساطين الشعراء لم يبرز من الشعراء إلا عدد محدود أستطيع أن أعدهم على أصابع يدي اليسرى، والأسباب كثيرة في رأيي ولكن أهم سبب هو تحول المجتمعات العربية نحو الثقافة الاستهلاكية حتى في مواضيع الأدب والشعر، وهذه الثقافة الاستهلاكية أيضا أسهمت في انتشار الرواية بوصفها موضة جديدة ومستحدثة في العالم العربي، وأنا ممن يجزمون أن انتشار الأعداد الهائلة من الروايات العربية لا يعني بالضرورة أن الثقافة العربية تعيش عصرا مزدهرا، بل هي على النقيض تماما تعيش حالة من الفوضى والتخبط، كما هو حال الانسان العربي الذي بات كمن يرقص في العتمة تارة من الألم وفي احيان كثيرة يرقص خائفا مترددا مرتعشا وقد تفرقت به السبل، وأصبحت مواقع التواصل الاجتماعي بوصلته ودليله، وللأسف فإن واقع الشعر وحال الرواية هما امتداد لصورة هذا الانسان العربي الذي يمتلك كل المقومات للنجاح ولكنه لا يمتلك نفسه، فهو غير مؤمن بذاته ولم يعد مصدقا بأن الجغرافيا التي تضمه اليوم لم تعد أمه، ولم تحمل هذه الأم يوما بالمتنبي وجرير أو محمد شكري وتوفيق زياد. 3- هل الراوي في الرواية مجرد شاهد؟ الراوي ليس مجرد شاهد، بل هو عنصر ديناميكي يملك دورًا معقدًا يتراوح بين السرد، التوجيه، والتفسير. قد يكون الشاهد في بعض الأحيان، ولكنه غالبًا ما يكون خالقًا للعالم الروائي، وصانعًا لزوايا الرؤية. في روايتي "ظل الغراب"، لم يكن الراوي مجرد ناقل، بل كان جزءا من النسيج السردي الذي يشارك القارئ أفكاره، هواجسه، وأحيانا تطرفه حول بعض المسائل. 4- هل يمكن أن تُركِّز الرواية على الجوانب الشكلية (التقنية والأسلوبية) لدرجة أنها تتجاهل أو تُهمِّش القضايا الثقافية؟ لا ينبغي أن تطغى الجوانب الشكلية على مضمون الرواية الثقافي والاجتماعي. الشكل أو الأسلوب في الرواية هو أداة تساعد على إيصال الرسالة الثقافية بطريقة ممتعة ومبتكرة. إذا ركز الكاتب بشكل مفرط على الحيل الفنية والتقنيات دون أن يمنح المضمون الثقافي والاجتماعي الاهتمام الكافي، ستفقد الرواية جزءًا من أهميتها. الرواية الناجحة هي تلك التي توازن بين الشكل والمضمون؛ حيث يخدم الشكل فكرة الرواية ولا يطغى عليها. في "ظل الغراب"، على سبيل المثال، الشكل السردي ساعد في إيصال قصة تحمل بعدًا إنسانيًا وثقافيًا وفكريا وبيئيا، ولم يكن مجرد عرض للتقنيات الأدبية واستعراض بها. 5- روايتك الأولى (ظل الغراب) ،بعض الشخصيات في روايتك ذات بُعد رمزي. كيف تختار الرموز التي تستخدمها،ماذا يمكن أن تقول عن هذه التجربة، وما رسالتك التي تود إيصالها للقراء من خلال الرواية؟ عديدة هي تلك الأفكار التي وددت مشاركتها مع القارئ من خلال الرواية، وانا لا أحبذ كلمة رسالة في العمل الأدبي، فالعمل الادبي وخصوصا في الرواية هو عالم افتراضي يصنعه الراوي ويدخله القارئ بمحض إرادته ويغادره بحركة من يده وقت يشاء، لذلك يجب أن يكون هذا العالم مغريا للقارئ حتى يعيش فيه لساعات وأيام، وأنا كانسان بسيط لا يخرجني من عالمي إلا الرسائل لذلك اتجنبها دائما عندما أكتب، واستعيض عنها بالأفكار التي تنتج عن تفاعل الشخصيات مع بعضها أو من خلال حركاتها وسكناتها في فضاء المكان، في رواية ظل الغراب كان لكل شخصية صندوقا صغيرا يحمل الكثير من الاسرار، وقد حرص كل أشخاص الرواية على عدم كشف صناديقهم وعلى عدم البوح بأسرارهم لأحد، كان التوجس من النفس جليا أكثر من التوجس والقلق من الآخرين، وكان ينتج عنه ردات فعل ومواقف أضافت للرواية بعدها الواقعي والقريب جدا من تصديقه باعتباره حقيقة، ولكن وفي لحظة ما أفشت معظم الشخصيات جزءا من اسرارها للحصول على سر من الآخرين، لم تكن الشخصيات الآدمية ذات طابع رمزي بقدر ما كانت تحمل من صفات الإنسان وأخلاقياته، أما الرموز فكان سيدها الغراب، ولم تخل الأماكن والأشياء من الرمزية هي الأخرى، في رواية ظل الغراب تبدو الأمور واضحة ثم يغشاها الضباب، وتكون الأحداث هادئة ثم يأتي الضجيج على غير موعد، في رواية ظل الغراب احتجت لسترة نجاة أكثر من مرة وأنا أكتب في سطورها. 6- بعض الروائيين العرب يمارسون تقنية الأدلجة مع التخيل في نصوصهم، كيف تعلق على هذه المقولة؟ إن كنت تعنين بالأدلجة استخدام كلمات الرواية وعناصرها المختلفة لتوضيح فكر معين من خلال حركة الشخوص في إطار زمني ومكاني محدد، فالرواية في الأساس خلقت من أجل ذلك، لأنها وليدة الفكر الغربي وصنيعته، هذا الفكر الذي تبلور وما زال يتبلور جراء تفاعل المجتمع الغربي مع مختلف الأفكار والمعتقدات، والروائي العربي قد تأثر هو الآخر بالرواية الغربية ونهل منها، وقام بدوره بإدخال الايدولوجيات المختلفة إلى روايته تارة كمحايد وتارة مؤيد أو معارض، والشواهد كثيرة وغنية في الرواية العربية، أما إن كنت تقصد بالأدلجة التبشير والترويج لفكر معين من خلال الرواية، فأنا كقارئ لن أقوى على قراءة هذا النوع من الروايات لأنني اعتبرها بيان أيدولوجي خائب يستهدف محدودي الثقافة لبث الوهم أو التعاطف مع هذه الايدولوجيا عن طريق التلاعب بالشخصيات أو الأماكن والأزمنة فنتعاطف مع هذه الايدولوجيا لاننا احببنا الشخص أو المكان ونعزف عن ايدولوجية أخرى لاننا لم نستسغ شخصا ما أو حدث ما في مكان ما في الرواية، فشتان من بين أدلجة النص والتبشير من خلاله. 7- هل صحيح أن المؤرخ الجيد هو الروائي؟ إلى حد ما، نعم. الرواية تعيد بناء التاريخ بلمسة إنسانية، تكشف التفاصيل التي يغفلها المؤرخون التقليديون. فالرواية تكتب تاريخ من لا يعنى التاريخ بكتابة اسمائهم في سجلاته، لكن الروائي يختلف عن المؤرخ في أنه لا يلتزم بالحقائق فقط إن كان هناك حقائق في التاريخ؛ بل يستخدم الأحداث التاريخية كأرضية لخلق عالم سردي حي، وأغلب الأعمال التلفزيونية الناجحة في الفترة الأخيرة تعتمد على أحداث تاريخية موثقة وتدور الأحداث في فلكها من قبل شخصيات جديدة لم نسمع عنها من قبل وبحبكة جديدة تتماشى مع الأحداث الموثقة والمعروفة. 8- هل كانت روايتك ظل الغراب تعليقا أو سناريو فقط عن الحياة التي عشتها في بنغلادش؟ بالطبع لم تكن كذلك، فلو أردتها تأريخا لتلك التجربة لكتبتها في دفتر مذكرات، بل هي كانت تمردا على تلك الأيام والساعات التي قضيتها غريبا في أكثر أيام العالم غرابة وإن شئت سخرية، فرواية ظل الغراب بالنسبة لي كانت تنبش الماضي لتخرج منه نظريات ومعتقدات ما زالت تتواتر عبر قرون ويا ليتنا تواترناها وحسب بل ما زلنا نطورها وننقلها نحو المستقبل مغلفة بكفن القداسة والتعظيم، في رواية ظل الغراب لكل كائن مسؤولية ودور في هذه الحياة، من الانسان الى الشجر والطير والحجر، جميع هذه الكائنات تتفاعل في المكان والزمان الذي قدر لها، وكاننا نعيش جميعا في رواية كبيرة لكل كائن فيها حكايته الخاصة ولكل حكاية نهاية، في رواية ظل الغراب تقفز الاحلام من خلف الوسائد لتزاحم الواقع الذي قرر أن يكون صعبا دائما، فالأحلام الصغيرة التي كانت تتناثر في الرواية لم تكن حكرا على الانسان فلكل كائن حلم صغير يشبه الروح، فلولا احلامنا الصغيرة لأصبحت الحياة كالهواء الصلب، في رواية ظل الغراب لم يتوقف البحث ولم تنته المطاردة ولم ينتصر اليأس، رواية ظل الغراب لم تكن إلا ظلا لكل مخاوفنا التي علينا أن نتحلى بالشجاعة والمحبة حتى تصبح هي ظلا لنا. 9- هل حاولت رواية (ظل الغراب )التحرر من الرواي ذي الصوت الأحادي؟. في رواية ظل الغراب كان الراوي هو بطل الرواية، ولكن صوته لم يكن الأعلى في الرواية، كان صوته منسجما مع الحدث، ففي بداية الرواية كان الزمن هو السيد المتحكم، هذا الزمن الجديد الغريب، زمن الكورونا بكل مستجداته، وبعد أن يتقبل القارئ الزمن وأحكامه تطل عليه شرفة الراوي وغرابها فيعلو صوتهما فوق صوت الراوي ويتصدرا المشهد، وعندما تتدافع الأحدات لا صوت في الرواية يعلو فوق صوت بدر الخير وابن الداسم، والراوي كان حاضرا دائما لم يغب إلا في مشاهد بسيطة، ولكن في النهاية فتح الراوي ذراعيه وحلق في سماء الراوية ونعب كما تنعب الغربان عندما فاز وانتصر، في رواية ظل الغراب لم يكن الراوي بطلا مطلقا منذ اللحظة الأولى، بل أصبح بطلا عندما صعد وهبط وهاجم ودافع وعندما عرج فوق أسوار اليأس ونزع من داخله كل تلك الأشياء التي لا تنتمي لعالمه. 10- هل لديك مشاريع أدبية قادمة؟ وما الذي تنوي تقديمه للقارئ من أفكار وأساليب جديدة؟ بالتأكيد هناك مشروع جديد أعمل عليه منذ مدة ليست بالقصيرة، فأنا متعلق بحركة التاريخ وأهوى البحث في خلفيات المذاهب الدينية والفكرية وتفاصيلها وكذلك أرتبط حد التطرف بكل ما هو عربي فالرواية جديدة مزيج من كل هذه الأشياء ولكن بطريقة لا تخلو من التشويق والحركة المتواصلة من خلال شخصيات تشبهنا ولا نفهمها وأماكن نراها كل يوم ولا نعرفها وأحداث تمر أمامنا لنكتشف فيما بعد أننا كنا نرى ما يقوله الآخرون لا ما حدث بالفعل. أتمنى أن أتمكن من طرح هذا المشروع خلال النصف الأول من العام القادم. تابعو جهينة نيوز على

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store