صلاة بلا كلمات: حين يتحول الحب إلى عبادة
في مشهد خلاب من رواية زوربا اليوناني، يقف الراوي في حوار عميق مع زوربا، ذاك الرجل البسيط العفوي، فيسأله: 'لا أراك تصلي؟' فيجيبه بهدوء وصدق: 'الذي يصلي لن تراه.' ثم يُكمل قوله: 'أقف وكأن الله يسألني: ماذا فعلت منذ آخر صلاة صليتها لتصنع من لحمك روحًا؟ فأقول: يا رب، أحببت، ومسحت على رأس ضعيف، وابتسمت لعصفور، وحميت امرأة من الوحدة…'
كلمات تمضي أبعد من الأدب، وتتجاوز الرواية لتطرق أبواب الحقيقة الإيمانية: أن الصلاة ليست فقط طقسًا جسديًا، بل تجربة روحية شاملة، تبدأ من أعماق القلب وتنتهي بأثر في الحياة.
وهنا تتقاطع فلسفة زوربا مع جوهر ما جاء به الإسلام، لا سيما في القرآن الكريم والسنة النبوية، حين يتحدثان عن الصلاة كوسيلة لتزكية النفس، وإحياء القلب، وتهذيب السلوك.
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
'اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ' [العنكبوت: 45].
بهذا المعنى، فالصلاة ليست فقط حركة البدن، بل حيوية الروح، وليست نهاية في ذاتها، بل وسيلة لصناعة الإنسان الفاضل الذي يحب، ويُحسن، ويعطي دون مقابل.
زوربا، رغم أنه لا يدين بالإسلام، إلا أن منطقه الروحي ينبض بما يشبه الحديث النبوي الشريف:
'أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم…' [رواه الطبراني وصححه الألباني].
هنا نرى أن الإسلام ربط بين العبادة الحقيقية ونفع الناس، تمامًا كما فعل زوربا حين جعل من حمايته لامرأة من الوحدة، ومسحه على رأس ضعيف، وابتسامته لطائر، صلاةً خفية بينه وبين الله.
وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإيمان ليس مظاهرًا أو كلمات، بل سلوكٌ يعيش في الناس، فقال:
'الإيمان بضع وسبعون – أو بضع وستون – شُعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان' [متفق عليه].
هذا الحديث يضع أمامنا مفهومًا عميقًا: أن من الصلاة والإيمان ما لا يُرى بالعين، ولكنه يُحسّ في الأثر، ويُرى في الفعل.
عندما يقول زوربا: 'أنا لا أطلب شيئًا من الله، هو أكرم من أن يُسأل طالما وجد حبًا أعطى'، يتجلى هنا جوهر التوكل، والإيمان بالمنح الإلهي القائم على اللطف لا الطلب، وهي فكرة يؤيدها قول النبي صلى الله عليه وسلم:
'من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته' [متفق عليه].
فالله، في رحمته، لا ينتظر دعاءنا بقدر ما يفرح برحمتنا ببعضنا، وما يقدمه الإنسان من خيرٍ هو في ذاته دعاء.
إن الصلاة في الإسلام هي عمود الدين، لكنها لا تنفصل عن الأخلاق. فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم قال:
'إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق' [رواه البخاري في الأدب المفرد].
فكيف تُقبل صلاة لا تنعكس خُلقًا؟ وكيف يُحسب ركوع وسجود لا يمنع ظلمًا ولا يُلهم حبًا ولا يُنبت خيرًا؟
إننا أمام دعوة حقيقية لإعادة النظر في مفهوم الصلاة، لا باعتبارها مجرد فرض، بل كعلاقة يومية حية مع الله، تبدأ من المحراب وتمتد إلى الناس والكون. صلاة تتغذى بالحب، وتثمر سلامًا، وتُترجم في كل بسمة، وكل مساعدة، وكل لحظة تأمل في خلق الله.
زوربا، وإن لم يكن مسلمًا، فقد التقط بعفويته شيئًا من روح القرآن. فهل نلتقط نحن ما ضاع منا؟
هل نسأل أنفسنا – كما سأل زوربا نفسه – لا عن عدد ركعاتنا، بل:
'ماذا فعلنا منذ آخر صلاة صليناها لنصنع من لحمنا روحا؟.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


سواليف احمد الزعبي
منذ ساعة واحدة
- سواليف احمد الزعبي
وفاة القارئ المصري السيد سعيد (سلطان القراء) عن 82 عامًا
#سواليف #غيّب_الموت، ظهر اليوم السبت، #القارئ_المصري #السيد_سعيد، المعروف بلقب 'سلطان القرّاء'، عن عمر ناهز 82 عاماً، بعد رحلة عامرة بخدمة كتاب الله وتلاوته، حيث وافته المنية بمستشفى معهد ناصر متأثراً بصراعه الطويل مع المرض. ومن المقرر أن يُشيّع جثمانه غداً الأحد من محافظة الدقهلية، حيث ولد وعاش وبزغ نجم تلاوته الأولى. وتأتي وفاته بعد سنوات طويلة من الصراع مع أمراض القلب والكلى، التي لازمته منذ العام 2014، والتي دفعت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للتوجيه بعلاجه على نفقة الدولة منذ ذلك الحين، وأُرسلت إليه سيارات طبية مجهّزة من وزارة الصحة بشكل دوري طوال تلك السنوات لنقله إلى معهد ناصر لتلقّي الرعاية اللازمة. من جهتها، نعت نقابة قراء القرآن الكريم في مصر الشيخ الراحل في بيان رسمي، قالت فيه: 'ببالغ الحزن والأسى، وبقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، تنعي نقابة القراء فضيلة الشيخ السيد سعيد، الذي وافته المنية اليوم السبت.. نسأل الله أن يتغمّده برحمته، ويسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان'. من هو الشيخ السيد سعيد؟ وُلد الشيخ السيد سعيد في 7 مارس (أذار) عام 1943، ونشأ في بيئة قرآنية خالصة، حيث أتم حفظ القرآن الكريم كاملًا وهو لم يتجاوز السابعة من عمره، على يد الشيخ عبده المحمودي عثمان بكتّاب قريته. ورغم أن بداياته كانت متواضعة في الدقهلية، إلا أن اسمه لمع لاحقاً في محافظة دمياط، وتحديداً في قرية كفر سليمان، التي طالما قال عنها: 'هي التي أضافت لقب الشيخ لاسمي، فاشتهرت بها قبل أن يعرفني أهل بلدي'. والتحق الشيخ السيد سعيد بركب الكبار من قرّاء مصر، وشاركهم المنصات والمساجد، وقرأ إلى جانب عمالقة التلاوة مثل الشيخ محمد صديق المنشاوي، ومصطفى إسماعيل، وعبدالفتاح الشعشاعي، ومحمود علي البنا، وأبو العينين شعيشع، وغيرهم من عمالقة مدرسة الصوت المصري. وكان يُلقّب عن جدارة بـ'سلطان القراء'، نظراً لتفرّده في الأداء، وخصوصاً عند تلاوته المؤثرة لسورة 'يوسف'، التي اعتبرها كثيرون الأفضل على الإطلاق في تاريخ تسجيلات هذه السورة، واجتاحت الأسواق في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وحققت مبيعات واسعة آنذاك، لدرجة أنها أصبحت حديث الناس في البيوت والمحال وحتى في المواصلات العامة. ويرى كثيرون أن هذا التسجيل لسورة 'يوسف' كان نقطة التحوّل الحقيقية في مسيرة الشيخ، إذ شكّل انطلاقته الكبرى نحو الشهرة، ومنحه عن جدارة لقب 'سلطان القراء' الذي لا يزال يُطلق عليه حتى اليوم. ولم تقتصر مسيرته على مصر وحدها، بل رفع صوت القرآن في دول عدة حول العالم، منها الإمارات، ولبنان، والعراق، وإيران، وسويسرا، وجنوب إفريقيا، وأذربيجان، وحظي بالتكريم من رؤساء وملوك دول إسلامية، من بينهم رؤساء باكستان، ولبنان، وإيران. وبجانب شهرته الصوتية، شغل الشيخ السيد سعيد منصب نقيب قرّاء محافظة الدقهلية ثم دمياط، وكان له تأثير تربوي واضح، حيث تخرّج على يديه عدد من قراء الجيل الجديد الذين ساروا على دربه، من أبرزهم الشيخ سعيد الخراشي، وعصام الأمير، والسعيد حمادة.

الدستور
منذ 2 ساعات
- الدستور
الحج بين المقاصد الربانية والممارسات المعاصرة: حين يتجمّل الطقس وتتوارى الروح
اقتراب موسم الحج، تتجدد المشاهد السنوية التي تجمع ملايين المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها. تفيض الشوارع البيضاء بالأجساد، وتصدح الألسنة بالتلبية، وتعلو الكاميرات فوق الأكتاف. في الصورة، يبدو كل شيء على ما يرام؛ أمة موحّدة في الحركة، متناسقة في الزي، متراصّة في الطريق إلى الله. لكن، حين نحفر تحت السطح قليلًا، يبرز سؤال حارق: هل هذه الجموع حجّت فعلًا، أم فقط أدّت شعائر؟ هل تلبّينا من القلب؟ الحج، كما أراده الله، كان رحلة في الاتجاهين: إلى البيت الحرام، وإلى الداخل. كان المراد أن يغتسل القلب كما يغتسل الجسد، وأن يعود الحاج كما وُلدته أمه، لا من حيث الخطايا فقط، بل من حيث الصفاء، والبساطة، والخضوع. غير أن ما نراه اليوم يقول غير ذلك. المقاصد السامية تاهت وسط الزحام. كأن شيئًا من روعة المناسك قد تسرّب من بين الأصابع، وكأنّ أرواحًا كثيرة حجّت، لكنها لم تتحرّك. فريضة الحج شُرعت لتزرع في المسلم التوحيد الخالص، لتذكّره بهشاشته، لتسوّي بينه وبين سائر الخلق. هناك، في الإحرام، تتساوى الألقاب وتذوب الفوارق، فلا يبقى سوى إنسان مجرّد يقف أمام الله في عرفة، بكل ما يحمله من ضعف، وذنب، وأمل في الغفران. لكن ماذا ترى اليوم؟ الحج الذي يُفترض أن يكون مؤتمرًا للوحدة، بات أحيانًا ساحة للفرقة. تنقسم المجموعات وفق الجنسيات، وتُرفع الأعلام، ويصبح النداء الذي كان: «أمة واحدة» مجرّد لافتة معلّقة على جدار، خلفه قلوب لا تزال متعصبة، متنافرة، متباعدة. ثم إن الجهل بالمقاصد جعل كثيرًا من الحجاج يُمارسون الحج كمهمة روحية سريعة. يُطوف، يسعى، يرمي الجمار، لكن لا يتوقف ليسأل: ماذا يعني أن أطوف؟ لمَ أسعى؟ ما الذي أرجم؟ الفعل يُؤدى بإتقان جسدي، لكن الوعي غائب، والنية مشوشة، والتأمل ضائع في زحمة الواجبات الميكانيكية. هكذا، يتحول الحج من فرصة للتغيير، إلى محطة لا تترك أثرًا، من عبادة بحجم السماء إلى طقس بحجم التقويم، يُمارَس ثم يُنسى. وهذا هو مكمن الخطر: أن نفقد روح الشعيرة بينما نحافظ على شكلها. أن نعود من مكة دون أن نغادر أنفسنا، أن نقف بعرفة دون أن نعرف أنفسنا، أن نرجم الجمرات دون أن نرجم ما هو أحقّ بالهدم في داخلنا. إن الحج، حين يُفرغ من مقاصده، يصبح مرآة لواقع الأمة نفسها. أمة تتقن الطقوس وتضيّع المعنى، تجتمع على الصلاة وتتنازع في الأرض، تحجّ إلى الله ثم تعود إلى شهواتها كما هي، دون تحوّل أو مراجعة. فهل نحن بحاجة إلى تطوير الخدمات؟ نعم. لكننا بحاجة قبل ذلك إلى تجديد النية، وإعادة وصل الحاج بالله. نحتاج إلى خطاب لا يكتفي بشرح عدد الأشواط، بل يفسّر لماذا نسير أصلًا. نحتاج إلى أنسنة المناسك، وإعادة ضخ الحياة في شعائر اختنقت تحت طبقات من العادة، والترف، والاستعراض. الحج الحقيقي لا يُقاس بعدد الصور، بل بمدى التحول. لا يُحتفل به عند العودة، بل يُثبت فيك عندما تعود فلا تعود كما كنت. في النهاية، يبقى الحج، كما الإسلام كله، دعوة لا لأداء العبادة فحسب، بل للعيش بها وبعدها. فمن لم يتغير في الحج، لم يحج. ومن لم يلقَ الله بقلب سليم، فقد سار طويلًا، لكنه لم يصل. فهل نعيد للحج روحه؟


خبرني
منذ 4 ساعات
- خبرني
وفاة القارئ المصري السيد سعيد (سلطان القراء) عن 82 عامًا
خبرني - غيّب الموت، ظهر اليوم السبت، القارئ المصري السيد سعيد، المعروف بلقب "سلطان القرّاء"، عن عمر ناهز 82 عاماً، بعد رحلة عامرة بخدمة كتاب الله وتلاوته، حيث وافته المنية بمستشفى معهد ناصر متأثراً بصراعه الطويل مع المرض. ومن المقرر أن يُشيّع جثمانه غداً الأحد من محافظة الدقهلية، حيث ولد وعاش وبزغ نجم تلاوته الأولى. وتأتي وفاته بعد سنوات طويلة من الصراع مع أمراض القلب والكلى، التي لازمته منذ العام 2014، والتي دفعت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للتوجيه بعلاجه على نفقة الدولة منذ ذلك الحين، وأُرسلت إليه سيارات طبية مجهّزة من وزارة الصحة بشكل دوري طوال تلك السنوات لنقله إلى معهد ناصر لتلقّي الرعاية اللازمة. من جهتها، نعت نقابة قراء القرآن الكريم في مصر الشيخ الراحل في بيان رسمي، قالت فيه: "ببالغ الحزن والأسى، وبقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، تنعي نقابة القراء فضيلة الشيخ السيد سعيد، الذي وافته المنية اليوم السبت.. نسأل الله أن يتغمّده برحمته، ويسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان". من هو الشيخ السيد سعيد؟ وُلد الشيخ السيد سعيد في 7 مارس (أذار) عام 1943، ونشأ في بيئة قرآنية خالصة، حيث أتم حفظ القرآن الكريم كاملًا وهو لم يتجاوز السابعة من عمره، على يد الشيخ عبده المحمودي عثمان بكتّاب قريته. ورغم أن بداياته كانت متواضعة في الدقهلية، إلا أن اسمه لمع لاحقاً في محافظة دمياط، وتحديداً في قرية كفر سليمان، التي طالما قال عنها: "هي التي أضافت لقب الشيخ لاسمي، فاشتهرت بها قبل أن يعرفني أهل بلدي". والتحق الشيخ السيد سعيد بركب الكبار من قرّاء مصر، وشاركهم المنصات والمساجد، وقرأ إلى جانب عمالقة التلاوة مثل الشيخ محمد صديق المنشاوي، ومصطفى إسماعيل، وعبدالفتاح الشعشاعي، ومحمود علي البنا، وأبو العينين شعيشع، وغيرهم من عمالقة مدرسة الصوت المصري. وكان يُلقّب عن جدارة بـ"سلطان القراء"، نظراً لتفرّده في الأداء، وخصوصاً عند تلاوته المؤثرة لسورة "يوسف"، التي اعتبرها كثيرون الأفضل على الإطلاق في تاريخ تسجيلات هذه السورة، واجتاحت الأسواق في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وحققت مبيعات واسعة آنذاك، لدرجة أنها أصبحت حديث الناس في البيوت والمحال وحتى في المواصلات العامة. ويرى كثيرون أن هذا التسجيل لسورة "يوسف" كان نقطة التحوّل الحقيقية في مسيرة الشيخ، إذ شكّل انطلاقته الكبرى نحو الشهرة، ومنحه عن جدارة لقب "سلطان القراء" الذي لا يزال يُطلق عليه حتى اليوم. ولم تقتصر مسيرته على مصر وحدها، بل رفع صوت القرآن في دول عدة حول العالم، منها الإمارات، ولبنان، والعراق، وإيران، وسويسرا، وجنوب إفريقيا، وأذربيجان، وحظي بالتكريم من رؤساء وملوك دول إسلامية، من بينهم رؤساء باكستان، ولبنان، وإيران. وبجانب شهرته الصوتية، شغل الشيخ السيد سعيد منصب نقيب قرّاء محافظة الدقهلية ثم دمياط، وكان له تأثير تربوي واضح، حيث تخرّج على يديه عدد من قراء الجيل الجديد الذين ساروا على دربه، من أبرزهم الشيخ سعيد الخراشي، وعصام الأمير، والسعيد حمادة.